رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سوريا.. اختبار مشاريع

تراجع المشروع الصهيوني في سوريا من سعيه لتفتيت وتمزيق الدولة السورية، إلى السعي لإضعافها عبر تدخلات إسرائيلية في محافظة السويداء ولدى مليشيات قسد في الشمال الشرقي السوري، وغيرهما، وبرز التدخل الإسرائيلي خلال الفترة الماضية بشكل واضح وفج ووقح بعد الدعوة التي وجهها حكمت الهجري أحد قادة الرئاسة الروحية للطائفة الدرزية لنتنياهو بحمايته، وهي الدعوة الأولى التي تتم من شخصية عربية إلى مجرم حرب للقيام بحماية من دولته، فكانت الحماية بقصف ساحة الأمويين، حين استهدف القصف مبنى الأركان، بالإضافة إلى محيط القصر الرئاسي، وبكل تأكيد فإن أي عاقل يعلم تماماً أن مثل هذا القصف لا علاقة له بحماية الهجري، إذ إن لإسرائيل مصالحها وأبعادها الخاصة به يتمثل أساساً بإضعاف الدولة السورية الجديدة، التي حظيت بدعم عربي وغربي كبيرين، منذ وصولها إلى السلطة في الثامن من ديسمبر الماضي. لم يخطر على بال الهجري ولا على بال نتنياهو، ولا أعتقد خطر على بال مراكز الدراسات والأبحاث المهتمة والمعنية بالمنطقة، ما جرى أخيراً للمارد العشائري الذي تحرّك فجأة، ليكسر كل قواعد الحدود والدول الوطنية، ويعلن تأييده لعشائر البدو الذين استفردت بهم مليشيات الهجري بعد ضغط الأصدقاء على الحكومة الجديدة في سحب قواتها المقاتلة، فارتكبت مليشيات الهجري على أثرها فظائع لم تصل إليها حتى عصابات داعش، إذ رأينا رؤوساً مقطعة، وأجساداً معلقة كما تعلق الخراف، مما يؤكد ما تقوله أوساط عدة بأن فلول النظام السوري السابق هي من تحركهم، وتقودهم، خصوصاً وأن بصمات الإجرام والتقتيل تشير إلى بصمات النظام السوري، التي عرفها الشعب السوري على مدى عقود. تحرك العامل العشائري من سوريا إلى الأردن سيحسب له نتنياهو والقوى التي تقف خلفه ألف حساب، فهو العامل الذي كسر كل قيود وحدود سايكس بيكو، مما عنى أن القوى الرسمية عاجزة عن التعاطي مع العامل القبلي، الأمر الذي جعل نتنياهو يعدل عن رأيه ويسمح بنشر القوات الأمنية السورية في السويداء وذلك بعد 24 ساعة، من رفضه السابق، هذا الموقف على الرغم من أنه أليم بالنسبة لنا كسوريين، لأنه تدخل وقح وفج للعدو الصهيوني، لكنه يشير بكل تأكيد كما قرأه غير باحث إسرائيلي على أنه ضعف في القراءة الإسرائيلية للواقع السوري، وربما إعادة إنتاج أخطاء 1982 حين تدخلت إسرائيل، واليوم كذلك تسعى للتدخل في سوريا، وهو ما سندفع ثمنه لاحقاً. موفق طريف الزعيم الدرزي المقيم في الكيان الإسرائيلي هو عرّاب حكمت الهجري، وهو الذي حصل له على الدعم الإسرائيلي، وطريف بات يقدم نفسه على أنه زعيم إقليمي درزي، وليس زعيماً درزياً في الكيان الإسرائيلي، ويمتد نفوذ طريف إلى الأردن وسوريا ولبنان، وقد تعاطف بعض الدروز في لبنان، مع الهجري، بالإضافة إلى محاولة المئات من الدروز الإسرائيليين العبور من فلسطين باتجاه الأراضي السورية لدعم ومساندة إخوانهم الدروز في مواجهة الحكومة. مثل هذا سيعد خطراً على المنطقة كلها، وبالتالي ربما سيتحتم على القوى الدولية والمنطقوية الدفع باتجاه التهدئة، لأن إعادة رسم الخرائط بهذه الطريقة التي يطمح لها بعض اللاعبين المحليين غير ممكنة، فرسم الخرائط عادة ما يكون من قبل القوى الكبرى، بالإضافة إلى أن العبث الاسرائيلي بالمنطقة سيضرّ بالمصلحة الأمريكية الاستراتيجية، وتحديداً ترامب الذي عبر عن إعجابه بشخصية الرئيس السوري أحمد الشرع، ولذا دعا إلى وقف الضربات الإسرائيلية على دمشق، والتي لم تكن لها أي مبرر. ينبغي التأكيد على أن استراتيجية الكيان الإسرائيلي في سوريا هي بمنع قيام الدولة السورية، إذ إن قيامها يعني باختصار نسف السردية والحكاية الإسرائيلية في استغلال الأقليات والمكونات الأخرى لمصالحها الجيوسياسية، وستكون بذلك مقدمة لاستيعاب أقليات الكرد وغيرهم، وهنا ستفتقر إسرائيل الأدوات الدخلية، التي تتمكن من خلالها ابتزاز الدولة السورية، ولذا فالتوصل إلى تفاهمات وطنية، نستطيع من خلالها نزع الألغام التي يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى زرعها، لنسف المشروع الذي طالما حلم به السوريون، وضحوا بمليون شهيد من أجله، هو الانطلاقة الحقيقية لإجهاض المشروع الصهيوني، الذي ساءه التغيير في سوريا.

546

| 29 يوليو 2025

سوريا الموحدة.. لا مكان فيها للانفصاليين

لسبعة أشهر والعهد السوري الجديد يمارس أقصى سياسة ضبط النفس، واستيعاب الآخر، على الرغم من أن الآخر هنا لم يترك وصمة سيئة وسلبية، إلاّ ونعت بها الحكم الجديد، هذا الحكم الذي أتى بشرعية مليون شهيد و14 مليون مشرد وعذابات غدت معروفة للقاصي والداني، ولكن الآخر هنا للأسف لا يزال يظن بمقدوره إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، على الرغم من أن الكتابة الشعبية الداخلية، والدولية على الجدران واضحة لمن أراد أن يقرأ، حيث الكل داعمٌ للعهد الجديد، ويرسل الرسائل تلو الرسائل على أن سوريا موحدة، والعنوان دمشق، تجلى ذلك بتصريحات توماس باراك المبعوث الأمريكي إلى سوريا، ومعه تحركات عربية وإسلامية وغربية باتجاه دمشق، لكن على ما يبدو هذا الآخر لا يُتقن القراءة، أو لا يريد أن يقرأ، وربما يظن أنه ما يزال بمقدوره التعويل على أوهام وتخرصات العهد الأسدي لعقود. العجيب أن مليشيات الهجري المناكفة والمعارضة، لا تمثل إلاّ شرذمة من أهلنا في السويداء، حيث النخب السويدائية ومنظمات المجتمع المدني فيها، أعلنت غير مرة رغبتها في ضرورة وواجب انتشار قوات الأمن السورية، وإعادة مؤسسات الدولة للسويداء، من أجل خدمة المواطن في المحافظة، الذي بدأ يئن تحت وطأة رفض مليشيات الهجري من استبعاد انتشار الدولة السورية هناك، فلا الأمن متحقق، ولا الخدمات الأساسية متوفرة فيها. أمريكا التي لم يكن يعتقد أحدٌ ربما أن تتخلى عن مليشيات قسد، وهي التي دعمتها وساندتها، بل وناكفت فيها دولة محورية أساسية حليفة لها بحجم تركيا، ها هي اليوم تدفع بمليشيات قسد إلى الاندماج بالدولة السورية الجديدة، وتؤكد لها أن الطريق إلى سوريا يمر من دمشق، وهو ما أصاب مليشيات قسد في مقتل، فإن كان وضع الأخيرة بهذا الشكل فعلى ماذا يراهن أمثال الهجري، وهو الذي رأى تخلي القوى الدولية والإقليمية عن أذرعها تحت وطأة المصالح والأولويات، وخرائط مستقبلية. كنا نعتقد أن الدرس الأفغاني والسوري سيكون عبرة وعظة لكل من يعوّل على الخارج، منفصلاً عن حاضنته وشعبه، ظاناً أن ملاحف وشراشف وأغطية الخارج قادرة على تدفئته، لكن يبدو أن البعض لا يريد أن يتعظ ولا يريد أن يتعلم، بل ويصر على ارتكاب الأخطاء والخطايا التي شهدها بعينه... العهد الجديد أعطى فرصة كبيرة وكافية لكل من سوّلت له نفسه الاستقواء بالخارج والتعويل عليه، وربما تنفيذاً لأجندات خارجية غير وطنية، لكن لم يعد بالإمكان منح مزيد من الوقت لأمثال هؤلاء، الذين لديهم مشروع واحد، وهو مشروع عدمي، أساسه وجوهره الإضرار بمصلحة أهلنا في السويداء أولاً وأخيراً، ومعهم أهلنا في مناطق الشرقية السورية، ولذا كان على الدولة لزاماً، أن تتخذ موقفها لبسط سلطانها وإعادة الخدمات الأساسية إلى أهلنا في السويداء والشرق السوري. ليس من المعقول ونحن في مرحلة ما بعد الاستبداد الأسدي، وفي القرن الحادي والعشرين أن تكون هناك بؤرٌ خارجة عن قانون الدولة، فقلة قليلة اليوم، تختطف المجتمع كله من أجل مصالحها، ونزواتها، في الوقت الذي تعارضها الأغلبية الغالبة من أهلنا في السويداء والشرقية السورية، ومعهم بالطبع مجتمعنا السوري الكبير، ولذا فإن البيان الذي صدّرته النخب المثقفة ومؤسسات المجتمع المدني في السويداء أصاب كبد الحقيقة، وعرّى بدوره المليشيات الخارجة عن القانون، وبل وبرأ نفسه وأهلنا هناك من الممارسات المشينة والمؤسفة التي قامت بها عناصر خارجة عن القانون وهي تقتل وتمثل بجثث رجال الجيش العربي السوري، الذين يواصلون سهر الليل بالنهار من أجل سوريا آمنة ومستقرة للجميع، لكن على ما يبدو لا يزال هناك من يأمل أن يصحو صباحاً على عهد الذل والاستبداد الذي طبع سوريا لنصف قرن.

336

| 15 يوليو 2025

رسائل حرائق الساحل السوري

يبدو أن القوى المتربصة بالعهد السوري الجديد لن تتوقف عن نسج وحياكة مؤامراتها للنيل منه، فقد اندلعت حرائق ضخمة لم يسبق لها مثيل في الساحل السوري، إذ تجاوزت مقرات هذه الحرائق الـ 28 موقعاً، وعلى الرغم من تجنيد الدولة السورية لكل مقدراتها من أجل إطفاء هذه الحرائق، لكنها لم تتمكن من إخمادها، على الرغم من دخول تركيا بطائراتها، وكذلك الأردن لاحقاً عبر الدفاع المدني الأردني، لكن لا تزال الحرائق تأتي على مئات الآلاف من الأشجار، لتحيل عشرة آلاف هكتار إلى رماد.. اللافت أن ما ساعد انتشار الحرائق، الرياح الشديدة في المنطقة، بالإضافة إلى نشر النظام السابق للألغام في تلك المنطقة، وهو ما أعاق تحرك فرق الإطفاء، بالإضافة إلى وعورة المنطقة بشكل عام، مما ضاعف ذلك من مسؤوليات الفرق الإنقاذية. وزارة الطوارئ السورية برئاسة الوزير رائد الصالح والذي يأتي من خلفية رئيس للدفاع المدني السوري طيلة فترة الثورة السورية، كان مقيماً دائماً في منطقة الحرائق وبلباسه الميداني، ومصمماً على البقاء في المنطقة حتى إخماد النيران، ويتمتع الدفاع المدني السوري بتجارب وخبرات مهمة في هذا السياق، نظراً لدوره المميز طوال فترة الثورة السورية، من التعاطي مع الكيماوي، إلى البراميل المتفجرة وهدمها للبيوت فوق ساكنيها، بالإضافة إلى التعاطي مع كارثة الزلزال التي ضربت سوريا قبل ثلاث سنوات، مثل هذه الخبرات فرض من خلالها نفسه على المجتمع الدولي، حيث كان الكل يتعامل معه بشكل محترم. تنظيمان مجهولان ادعيا مسؤوليتهما عن حرائق الداخل، أولهما أنصار السنة، وقد شكك البعض بالتنظيم، وبتبعيته لتنظيم الدولة (داعش)، أما الفصيل الثاني فهو لواء درع الساحل والذي تبنى مسؤولية الحرائق، ويعتقد أنهم من فلول النظام السابق، ومما جاء في بيانه (إن الحرائق التي التهمت أراضي وممتلكات ومراكز الجولاني وعصابته من التركمان والعرب السنة هي نتيجة غضب امتد لأشهر من الوعود الكاذبة التي لم تمنح الأمان للعلويين). على أرض الواقع فإن غالبية المناطق التي تعرضت للحرائق تتبع للعرب السنة، باستثناء بضع قرى تتبع للمسيحيين، وهو ما منح تبني تنظيم درع الساحل مصداقية أكثر، ويبدو أن حالة من الإحباط تنتاب كل قوى الفلول نتيجة التعاون الدولي غير المسبوق مع العهد الجديد، بالإضافة إلى النجاحات المتعددة التي حققها العهد الجديد بالقبض على رؤوس الفلول إن كان ممثلاً بوسيم الأسد أو بضباط كبار عسكريين وأمنيين، فضلاً عن تفكيك خلايا في مدن عدة سعت للإضرار بالأمن والسلم الداخلي. ولعل أكثر ما أقلق الفلول هو عدم انجرار قوات الحكومة السورية إلى مربعات طائفية يسعى الفلول إلى جر الجميع إليها، إذ ظلت هذه القوات تتعامل بشكل مسؤول، وتساوي بين السوريين جميعاً، بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية والعشائرية والمناطقية، وهو ما انعكس ذلك في الإشادات الدولية، والزيارات الأجنبية المتواصلة والمستمرة إلى دمشق، مما أحبط الفلول وأفقدهم صوابهم، بإمكانية التعويل على تحركاتهم في زعزعة الأمن والاستقرار في سوريا الجديدة. زيادة الرواتب التي أعلن عنها الرئيس السوري أحمد الشرع والتي بلغت ضعفي راتب الموظف أيام النظام السوري، شكَّلت رافعة حقيقية للعهد الجديد، وزادت من شعبيته، وجعلت الشعب السوري يعول على مستقبل أفضل، بينما بالمقابل شكلت خافضة لقوى الفلول الذين فقدوا الأمل في تحشيد وتعبئة الشارع السوري ضد العهد الجديد، خصوصاً بعد أن تم مساندتها ودعمها بتوقيع الاتفاقيات الاستثمارية الضخمة للوزارات السورية مع الجهات الاستثمارية العربية والدولية، وهو الأمر الذي لم يحصل بهذا الحجم في تاريخ حكم الأسدين. بقي أن نقول إن تعويل الفلول ومن وراءهم على زعزعة الأمن والاستقرار في سوريا وهمٌ لن يتحقق، وعقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، حتى يعود الحليب إلى ضرعه، وسوريا العهد الجديد ماضية بجهود أبنائها ودعم إخوانها العرب وكل محب للإنسانية، أما أيتام الأسد وداعموه فليس لهم أي مستقبل في سوريا الجديدة، خصوصاً، في ظل تعاطف ودعم السوريين بكل شرائحهم مع هذه الحكومة، التي أتت بعد تضحيات عظيمة، ليس من السهل على السوريين التفريط بها.

1152

| 08 يوليو 2025

تحرير دمشق والنظريات التآمرية التي لا تنتهي

أتفهم حالات التشكيك بأي انتصار للأمة المستضعفة، فقد عاشت الأمة منذ وقت طويل حياة الانكسارات والهزائم والخيبات، حتى ظن البعض أن ذلك قدر مقدور عليها، ونهاية مكتوبة لكل تحركاتها، وحين انتصرت ثورة الشام ودخل أهلها فاتحين في يوم الثامن من ديسمبر الماضي، تعالت أصوات البعض مشككة بهذا النصر الذي تم في أحد عشر يوماً، ولم يكلّف هؤلاء أنفسهم عناء العودة إلى الوراء قليلاً، ليدركوا حجم الفاتورة التي دفعها الشعب السوري في سنواته الـ 13 الماضية، فضلاً عن مقاومته بطريقة أو بأخرى لهذا النظام على مدى أكثر من نصف قرن، ومعه أيضاً فاتورة ضخمة دفعتها المنطقة بشرياً ومادياً. أصحاب هذه النظرية التآمرية هم أنفسهم الذين شككوا يوم حدث دخول كابول، فطفقوا للترويج لنظريتهم التآمرية، وأغمضوا أعينهم عن الفاتورة التي دفعها الشعب الأفغاني على مدى عشرين عاماً. المسألة باختصار أن البعض يحلو له أن يقرأ السطر الأخير من الرواية، أو يشاهد الحلقة الأخيرة من مسلسل المعاناة والتعب والنصب والتضحية، فلا يكلف نفسه عناء قراءة المشهد كاملاً، أو مشاهدة الحلقات كاملة، مصراً على القول لماذا حصل هذا؟ وكيف تم ذلك؟ فهو يصر على عدم فهم حجم ما قدمته الشعوب على مذبح الحرية والمساواة والعدالة، تحقيقاً لطموحاتها وأحلامها وآمالها. أخيراً أدلى السفير الأمريكي في أنقرة والمبعوث الأمريكي إلى سوريا توماس باراك نافياً أن يكون لأمريكا أي دور في تغيير النظام السوري، ولا أدري إن كان أصحاب نفس النظرية قد اقتنعوا بكلام الوزير؟! وهم الذين تحدثوا من قبل عن دور تركي كبير في الفتح، في الوقت الذي كان مسؤولون أتراك ينفون علاقتهم بالعمليات العسكرية التي أثمرت تحرير دمشق. ومع هذه النظرية يحرص المتصيدون على تتبع كل ما هو إعلام إسرائيلي، الباحث في الحقيقة والواقع عن غيمة من السماء من أجل التغطية عن فشله وتخبطه في غزة على مدى عامين تقريباً، فالنصر السياسي اليوم في غاية الأهمية بالنسبة لتل أبيب، وهذا النصر السياسي يكمن اليوم في التسويق لسلام مع سوريا وتطبيع معها، لترتفع معه بورصة المؤامراتيين المشككين في العهد السوري الجديد. سوريا اليوم جريحة، أو في غرفة الإنعاش كما وصفها السيد الرئيس أحمد الشرع، وهي بحاجة إلى لملمة جراحاتها الغائرة لأكثر من نصف قرن، وهذه الجراح متعددة الأوجه والاتجاهات، جراحات اجتماعية واقتصادية وسياسية، وأولاً وأخيراً جراحات حقيقية، إذ لا يزال هناك عشرات الآلاف من المفقودين، الذين فجعوا أحباءهم وأقاربهم، ولا يزالون ينتظرون معرفة مصيرهم، ناهيك عن كون البلاد منقوصة السيادة في ظل تحكم مليشيات قسد في جزء مهم من وطننا العزيز. ويأتيك في آخر المطاف من يريدك أن تجلس على مدار الساعة أمام الإعلام، نافياً هذا التصريح وتثبيتاً لذلك التصريح، لتقنعه بما وطّن نفسه عليه، ولست بمقنعه، ولعل الأغرب من هذا أن ترى بعض النخب منساقة إلى هذه الجوقة، فتُفسد على نفسها وتُفسد على كل من فرح بهذا النصر السوري، الذي هو نصر لكل من تضرر من نظام الأسد على مدى أكثر من نصف قرن. قوة سوريا اليوم من قوة المنطقة، وهذه القوة تستدعي حين العمل وفق اشتراطاتها وإكراهاتها، حكمة وذكاء في عملية الإبحار بمناطق مليئة بالألغام والأشراك، والأفخاخ، ومن قاد أمته إلى تحرير دمشق المحتلة لأكثر من نصف قرن، جدير بالثقة والتقدير، وخليق بأن يواصل عملية الإبحار، أما أن نُطالب بتوضيح كل موقف وكل تحليل وخبر ورأي فهذا أبعد ما يكون عن السياسة ودهاليزها وعملها. أخيراً نصيحة من القلب أن ثقوا بأن الهزائم ليست قدرنا، وأن السجون ليست حتمية بالنسبة لنا، فهذه الأمة لديها من الإمكانيات والقدرات بإذن الله ما تستطيع أن تحقق طموحات وآمال شعوبها، إن هي أحسنت استخدام تلك الإمكانيات، ولعل الشعار الذي رفعته النخب في القرن العشرين بأن المسلمين بخير ولكن الضعف في القيادة، نسفته عمليات ردع العدوان، وأثبتت أن الشعب اليوم بخير والقيادة قوية وبخير أيضاً.

561

| 01 يوليو 2025

تفجير كنيسة مار إلياس.. لا عودة إلى الوراء

التفجير الإرهابي الإجرامي الذي استهدف يوم «الأحد الأسود» كنيسة مار إلياس في منطقة الدويلعة بالعاصمة دمشق، والذي راح ضحيته عشرات المدنيين بين قتيل وجريح، استهدف في الحقيقة، سوريا الحاضر والمستقبل. لم يغبْ عن الفاعل المنفذ والمخطط أن هدفه وطموحه كان نسف سوريا الجديدة التي نسعى إلى رسمها بدماء مليون شهيد وعذابات 14 مليون مهجر مشرد، وذلك بدعم عربي وإسلامي وإنساني غير مسبوق، وبكل تأكيد ساء هذا المشهد الجديد لسوريا المستقبل أعداءها الذين لن يُعدموا أدوات رخيصة لتحقيق أوهام أجندات جيوسياسية وجيو اقتصادية على حساب دماء الأبرياء من كافة الملل والنحل، ولكن تكاتف السوريين والعرب والمسلمين خلف المشروع الجديد كفيل بإذن الله لإحباط كل المخططات الشريرة التي تريد النيل من سوريا الحالية، وتسعى إلى جرّنا إلى سوريا الكيماوي والكبتاغون والتهجير والإرهاب الذي طال سوريا لأكثر من نصف قرن ماض. العمل الإجرامي كان رسالة للغرب تحديداً، مفادها أن الطائفة المسيحية ليست في مأمن، وأن الحكم الجديد غير قادر على حمايتها، ولكن خاب وخسر الفاعل المنفذ والمخطط، فالكل لم ينسَ حتى الآن جرائم النظام السابق في استهداف كنائس لبنانية وحتى مخططه عبر ميشال سماحة في استهداف البطريرك ذاته، ويكفي الثورة السورية شرفاً وهي التي أفرزت العهد الجديد أنها لم تتعرض للطوائف، ولم تتعرض لأماكن عباداتهم أو أرزاقهم، وسيظل العالم كله يتذكر موقف أناضول الثورة في إدلب، وحكومة الانقاذ فيها، تجاه المسيحيين والدروز، من حيث الحماية والمساندة، كما لن ننسى المواقف الوطنية المشرفة لكلا الطائفتين خلال فترة الثورة في تلك المنطقة من سوريا، ولذا لن يُفلح غرابيب السود الداخليين والخارجيين في دقّ أسافين بين الشعب السوري، الذي صمم على انتزاع حقوقه من أنياب الضباع والذئاب، وصمم معها على العبور بسوريا إلى مستقبل مشرف يستحقه السوريون. الموقف الذي أبدته الحكومة السورية، ومعها كل أطياف الشعب السوري، وبكافة شرائحه الطائفية دعماً للمغدورين في الكنيسة، أحبط مشروع المنفذ والمخطط للفعل الإجرامي، وسحب منه ورقته القوية التي طالما هجس بها، وهو ضرب الوحدة الوطنية السورية، ولعل توافد الوزراء والمسؤولين إلى مكان الحادث، وإعلان كل مؤسسات الدولة، ومعها القوى الثورية والوطنية السورية وقوفها صفاً واحداً بوجه الإجرام القادم من سواد القلوب، كل هذا شكل حالة مطمئنة لحاضر سوريا ومستقبلها، خصوصاً وأن الشعب السوري قد وقف صفاً واحداً خلف الضحايا، إن كان بتبرعه بالدم لضحايا الانفجار، أو بالمواقف الوطنية المشرفة والواضحة على مواقع التواصل الاجتماعي، مما شكل هزيمة ساحقة وماحقة لأصحاب المشروع الإجرامي الذين خالوا بقتلهم الأبرياء سينالون من حرية واستقلال وكرامة السوريين، المصممين على نيل استقلالهم الثاني والحقيقي رغم كل العصي الذي يحاول أن يضعها أعداء الداخل والخارج في عجلة التنمية والبناء. المعلومات المتوافرة تشير إلى أن جهاز الأمن العام، ومن خلفه وزارة الداخلية، كانوا على علم بوجود عمليات إرهابية قادمة ولكن لم تكن التفاصيل موجودة، وإن كانت أجهزة الأمن قد اتخذت بعض الإجراءات الوقائية، لكن المفاجأة كانت بالهدف الرخو في كنيسة بمنطقة شعبية في الدويلعة بدمشق، هذا الأمر بقدر ما يُحزن في إفلات القتلة بتنفيذ جريمتهم، بقدر ما يعطي إشارات إلى أن جهاز الأمن العام لديه بعض المعلومات التي سيبني عليها بإذن الله من أجل الوصول إلى الحقيقة في القبض على الفاعل الحقيقي، ونحن هنا لن نستبق الأحداث والتحقيقيات ولكن بكل تأكيد فإن بصمات الإجرام موجودة، وستظهر التحقيقات كل الأيادي الخبيثة التي لا تزال تصر على النيل من سوريا الجديدة، والتي هي ركن أساسي من استقرار المنطقة، ونحن نرى هذا التضامن الإنساني الواسع والعميق مع السوريين، ومع العذابات التي تكشفت بعد رحيل العصابة التي أُبتليت بها الشام لأكثر من نصف قرن. اليوم واجب الوقت على السوريين ومؤيديهم وداعميهم هو إحباط المخطط الشرير الذي يستهدفهم ويستهدف مشروع الاستقرار في بلدهم والمنطقة، ولا يتأتى ذلك إلاّ من خلال التكاتف والتضامن، والوقوف صفاً واحداً، عبر التبليغ على كل من يشك بأمر لقوى الأمن الداخلي، مع التعبير عن وحدتنا وتضامننا بوجه القوى الظلامية الداخلية والخارجية، يحدونا الدعم الواسع والعميق الذي عبرت عنه الدول ومؤسساتها في العالم مع جريمة الأحد الأسود.

618

| 24 يونيو 2025

سوريا.. الجمهورية الثانية

في الثامن من ديسمبر/ كانون أول من العام الماضي، كانت سوريا والعالم العربي والإنساني على موعد جديد في دمشق، عنوانه العريض «سوريا... الجمهورية الثانية»، ففي ذلك اليوم تنفّس السوريون والعرب والإنسانية جميعاً الصعداء، بعد أن كبت أنفاسهم جميعاً، ولعقود نظام سلطوي استبدادي، استقْوى بكل ما راكمه من إجرام داخلي وخارجي على مدى تاريخ حكمه، ومعه مليشيات طائفية، واحتلال خارجي، كل ذلك من أجل إلحاق الهزيمة بشعب صمم على الإطاحة به سلمياً، ثم دُفع دفعاً للرد على الحل العسكري والأمني للنظام، وعلى الرغم من فداحة فاتورة التضحيات التي دفعها الشعب السوري على مدى 14 عاماً إلاّ أنه أفلح أخيراً في الإطاحة به، وبحلفائه، لكنها إطاحة لم تكن للسوريين فقط، بعد أن ظهرت انعكاساتها وتداعياتها على المنطقة وما بعد المنطقة. لا يزال السوريون يعيشون أجواء الفرح والسرور والبهجة، بدءاً من حالات الاستقبال التي تتم على مدار اليوم للمغتربين العائدين إلى مطار دمشق، بعد أن حُرموا دخول بلادهم لعقود مديدة، إذ إنه مع كل يوم تسمع عن قصص أغرب من الخيال تحكي من حرم العودة لخمسين عاماً أو أقل أو أكثر، ولكن مع هذا نشاهد الدبكات السورية والرقصات الشعبية والأهازيج وبوكيهات الورود التي تُسلم للعائدين الذين حرموا من زيارة بلدهم لعقود، ومثل هذه الاحتفالات تتكرر في ساحات المدن الكبيرة بشكل يومي، إذ إنه قلما يخلو يوم دون أفراح في ساحة السيف الدمشقي، ولعل مشاهد سائق الباص الحلبي الذي قفز من باصه الذي كان يقوده، منضماً إلى الفرقة الموسيقية التي كانت تغني وتعزف في الشارع تختصر ما يعيشه الشعب السوري من فرح وسرور بسقوط العصابة الأسدية، فلا أعتقد شخصياً مرّت علينا كسوريين فرحة طوال تاريخ سوريا القديم والحديث كهذه الفرحة. في الجمهورية الثانية عاد الغرباء إلى أوطانهم، وخرج من كُتبت له الحياة من السجون إلى حريتهم، بعد أن قضى مئات الآلاف في سجون النظام، وعاد المهجرون في الخيام إلى بيوتهم، وإن كان معظمهم قد وجدها مدمرة خربة، ولكن مع هذا، فنصب الخيمة على أنقاض المنزل أكرم وأشرف من نصبها في أراض مستأجرة أو بعيدة عن الوطن الصغير. في الجمهورية الثانية عادت سوريا إلى المجتمع الدولي، وعاد المجتمع الدولي إلى سوريا، برفع العقوبات التي تراكمت عليها منذ السبعينيات، مما حرم السوري أبسط حقوقه المالية في تحويل أمواله، فضلاً عن عقوبات كبلت كل سوريا اقتصادياً ومالياً وصناعياً وطبياً وإعلامياً وتجارياً وووو، ولذلك دفع الشعب السوري ثمناً باهظاً لجثم عصابة مجرمة على صدره طوال هذه العقود. لقد ودّع السوريون ومعهم العرب الجمهورية الأسدية التي أرادت أن يكون أساس بقائها في الحكم، هو زرع الفتن والتوتر والقلق، فتنفذ من خلالهما إلى التأثير على الساحات العربية والإسلامية والدولية، فساعة يستخدم النظام البائد الابتزاز بحق الدول العربية، وساعة يستخدم الإرهاب كما حصل مع عصابات بي كي كي ضد تركيا، وساعة يستخدم إرهاب التهجير من أجل إغراق تركيا والدول العربية، وحتى الغربية، بدفع الملايين إلى ترك بيوتهم، وإلاّ فالمصير القتل والبراميل المتفجرة والكيماوي، وساعة أخرى يستخدم الكبتاغون، مما جعل من دمشق عاصمة الكبتاغون في العالم، وأخيراً لجوؤه إلى استخدام الاحتلالات كحالة زعزعة للأمن العربي والإقليمي والدولي. عاش العرب طوال تلك الفترة حالة ابتزاز مع عصابة تحكم في دمشق، فوجدوه مرضاً لا بد من التعايش معه، وهو ما حصل لعقود، حتى تمكن ثوار سوريا من اقتلاع سرطان، لطالما فتك بالشعب السوري وبالشعوب العربية والإنسانية، ليتعافى العالم كله من ذلك السرطان الذي لطالما دفع الكل ثمن وجوده، واليوم ونحن نعيش عهد الجمهورية الثانية، والتي تدعو العرب والمسلمين والعالم إلى الاستثمار في سوريا الجديدة، فتُشبك مع الجميع من أجل صالح السوريين والصالح العام، بعيداً عن لغة التسول والابتزاز التي كانت سمة النظام البائد، هذه الجمهورية الثانية هي التي تليق بالسوريين، وتليق بإخوانهم العرب، الذين يتقاطرون عليها يومياً، لدعمها والمساعدة في تعافيها. سوريا الجمهورية الثانية هي سوريا التي طمح إليها المؤسسون، وهي سوريا التي استشهد من أجلها شهداء سوريا، منذ أول شهيد سقط على أيدي عصابات البعث في انقلاب الثامن من آذار المشؤوم من عام 1963، وحتى الثامن من ديسمبر الماضي، وسوريا اليوم في العهد الجديد هي سوريا الحقيقية التي ستظل ملاذاً حقيقياً للعرب، ومسانداً لهم في قضاياهم، وستكون مصدر دعم وتأييد ومساندة لا مصدر توتير وفتنة كما كان عليه الأمر في العهد البائد.

1188

| 17 يونيو 2025

لماذا فشلت ثورة 1857 ضد البريطانيين في شبه القارة الهندية؟ 6/6

حجم التجريف والتدمير الذي لحق بمدينة دلهي غير مسبوق في ذلك الزمان، لم يبق سوى خُمس مساحات القصر، وتم انتزاع كل القبب الذهبية ونقلها إلى لندن، أما الرخام النادر الذي كان يُزين بوابات دلهي، فقد تم تحويله إلى مناضد للجيش البريطاني، وتحوّلت كل قصور ظفر، الذي كان في قمة الروعة والفخامة بين قصور العالم يومها، إلى ثكنات ومعسكرات للجيش البريطاني، أما المسلمون فقد حُرموا من دخول المدينة كعقوبة لهم، ويذكر الشاعر غالب الذي سُمح له بالبقاء لتعاونه مع الجيش البريطاني، أنه لم يتعدّ عدد سكان المسلمين في دلهي كلها الألف، بعد أن كانوا نصف عدد سكانها في الماضي. على الرغم من أن تقرير لجنة التحقيق البريطانية سوندرز قد برأ الثوار، مما اتهمهم به الجيش البريطاني من اغتصاب بريطانيات، إلا أن السردية ظلت رائجة ووثقت اللجنة اغتصاب 300 سيدة من القصر الملكي، بعيداً عن اغتصاب المحظيات للملك. لم تعد المدينة هي نفسها كما دوّن غالب، فقد بيعت كل الممتلكات الإسلامية من مساجد وأسواق، وحتى المدرسة الرحيمية اشتراها المرابون الهندوس لتتحول إلى محل تجاري. لم تعد المدينة كما عهدها العالم، فقد نهبت المكتبات، وفقدت المخطوطات وأغلقت المدارس، واختفت المطابع والصحف الأوردية من المدينة. وقال غالب يومها إنه لم يتبق سوى شاعرين في المدينة وهما: أزوردا الغارق في صمته، وأنا المصاب بالصدمة، ولكن لم نكتب حتى يُتذوق الشعر، فلم يعد أحد هنا. كانت دلهي أخرى بلا هوية مغولية أوردية تظهر من جديد، وهكذا أرادها المحتلون الجدد. بدت مرحلة جديدة مختلفة لما بعد سقوط دلهي، حيث انقطع حاضرها بماضيها، مع رحيل حكامها، فلا الشعر المغولي بات يسيطر على ذوق من أتوا، ولا التعايش السلمي غدا هو الرائج بعد أن دعم البريطانيون الهندوس في مواجهة المسلمين، أما العمارة المغولية التي غلب عليها المنمنمات السائدة فقد اختفت منها، بعد أن فرضت عليها العمارة القوطية الاستعمارية، وأشكال من الفن الفيكتوري، وكالعادة تبنى مفتخراً من تبقى من السكان كل ما يخص المحتل الجديد من ثياب وعمارة ومشية ولغة. لقد بات من الطبيعي والعادي، لكل زائر ولو بشكل سريع إلى مدينة أكرا لرؤية تاج محل أعظم إنجازات العهد المغولي المعماري، فسيجد تماثيل لهندوس بعد ثورة 1857، ولن يجد بالمقابل تمثالاً لأي مغولي، بعد أن ركزت الدعاية التعليمية البريطانية طوال تلك الفترة على أن المغول غزاة متعصبون منحطون يقومون بتدمير المعابد الهندوسية، وهو ما نجحوا في مسح الذاكرة المغولية، وفصل الهند عن تاريخها، حتى لا تتجدد ثورة 1857. كان جيش المجاهدين بقيادة الجنرال بخت خان وسرفراز قد رفضا الاستسلام، ولجآ إلى لكنهو لمواصلة المقاومة، واستمرت المقاومة لفترة، بينما تمكن البعض من مقربي الملك، من أمثال ظهير دهلوي، وهو الذي كان المخلص للملك، من الهرب والتخفي حتى عام 1911، حيث مات دون أن يتمكن منه الجيش البريطاني، كما تمكن من ملكه وزوجته وأبنائه، وفي أواخر 1858 استعدت بريطانيا في الهند لمحاكمة الملك ظفر بتهمة الخيانة والتمرد على بريطانيا. كتب راسل الصحفي البريطاني للتايمز الذي التقى الملك في سجنه محملاً البريطانيين مسؤولية ما آلت إليه أوضاع دلهي والإمبراطورية والإمبراطور فقال «لم أستطع الامتناع عن التفكير، وأنا أنظر إلى الرجل الشيخ، أن حكامنا كانوا مسؤولين إلى حد ما عن الجرائم التي ارتكبتها في رأيي، كان منصب الملك من أكثر المناصب التي لا تطاق قبل اندلاع الثورة، قصره كان في الواقع منزلاً قائماً على العبودية، كان يعلم أن الامتيازات القليلة اليائسة التي تركت له، تركت له كاستهزاء من القوة التي كانت لديه، وأنه سيتم سلبها من خلفائه، وسيتم حرمانهم حتى من الحق في العيش في قصرهم، ونفيهم إلى مكان ما خارج جدرانها. رفضنا السماح لأقاربه من العائلة المالكة بالالتحاق بشركة الهند الشرقية، حكمنا عليهم بالعيش المهين، في الفقر والديون داخل حدود قصرهم. الأفضل للمرء أن يموت ألف مرة، عن أن يحيا في مثل هذه الحياة المهينة. ولو أنهم ماتوا وهم يدافعون عن بلادهم لكنت شعرت بالتعاطف مع مصيرهم». مثُل الملك للمحاكمة الهزلية في الثامن والعشرين من يناير 1858، وكان ابنه جوان حاضراً، قبل أن يحظر دخوله جلسات المحاكمة لوقاحته، وضحكه مع مرافق والده، أما الملك فكان مشتتاً وكئيباً وأقرب إلى حلة النوم منه للصحو. لكنه كان يرفض كل الاتهامات له بالتمرد والثورة. وبعد شهرين من المحاكمات، حكمت المحكمة بأن ظفر مذنب بالخيانة العظمى، وأن العقوبة هي الإعدام، ولكن نظراً لضمان هودسون له حين قبض عليه، فإن الملك يُنفى إلى المنطقة التي يراها الحاكم العام في دلهي، فكان الخيار أن يتم نفيه إلى رايجون عاصمة بورما اليوم، ليقضي بقية حياته مع المقربين منه، ومن بينهم زوجته وابنها التي لطالما حلمت بأن يكون وريثه، لكن تبدد ذلك كله. مات الملك ظفر بعد سنوات في مكان احتجازه، أما بيته فقد تحول إلى أشلاء بيت، كما يصفه سجانه الكابتن ديفيز في رايجون، حين تمزق إلى شيع وأحزاب ثلاثة: فزينت كانت حزباً في نفسها، وجيوان بخت وزوجته حزب ثانٍ، وأما شاه عباس وأمه وجدته فيمثلون الحزب الثالث. كان الجميع منفصلاً عن الجميع، فلا تواصل بينهم، أما زينت محل فقد طلبت من السلطات البريطانية العودة إلى دلهي لتقضي بقية حياتها، حيث إن ابنها التي كانت تحلم بالعرش له يضطهدها. كانت تجد راحتها فقط في تعاطي الأفيون، وازداد إدمانها له حتى قضت عام 1882، أما ابنها جيوان فقد قضى بعد عامين من وفاتها بجلطة دماغية وهو في عامه الـ 42، وهكذا أُسدل الستار عن أعظم امبراطورية حكمت المنطقة لقرون.

600

| 03 يونيو 2025

لماذا فشلت ثورة 1857 ضد البريطانيين في شبه القارة الهندية؟ 5/6

في ليلة العشرين من سبتمبر، وصل الجنرال بخت خان إلى قبر همايون، وعرض على الملك ظفر الهائم على وجهه، مرافقته إلى لكنو لمواصلة المقاومة. مرة أخرى يتدخل العميل المستشار إحسان الله، فيحذر الملك من إقدامه على هذا الفعل، وبالفعل نجح ثانية بثنيه عن الهروب مع بخت، كما نجح من قبل في ثنيه عن قيادة المعركة. فشل بخت في إقناع الملك بإنقاذه من مصير لا يليق بسليل إمبراطورية مغولية عظيمة، ليظهر بعدها أن ضريبة العز أرخص وأقل ثمناً من ضريبة الذل، حيث ظهرت بالنهايتين لكل من ظفر وبخت. وصلت كل هذه التفاصيل، إلى القائد البريطاني هودسون، فتحرك للقبض على الملك، وتوجه مع بعض قواته إلى ضريح همايون، وبدأت مفاوضات شكلية مع الملك، الذي حسم أمره بالاستسلام، بعد أن فقد كل أوراقه، حاسماً الاستسلام، لضمان حياته، ومعه زوجته وابنه جوان. عاد الجميع إلى دلهي، وأنزل هودسون الملك في بيت زوجته زينت التي كانت تتواصل معهم، ووضع عليه حارساً عدوانياً يدعى كيندال كوجيل، الذي كان يهينه ويذله علناً فيصرخ عليه بالخنزير ويشتمه الشتائم المماثلة حسب ما كتب، ويضيف كنت على استعداد أن أطلق عليه النار فوراً إذا فكر في النظر لأعلى. لم يكتف هودسون بالقبض على الملك، وإنما سعى إلى القبض على الأمراء الثلاثة الذين قادوا الانتفاضة، والذين تحصنوا بدورهم في ضريح همايون. اتجه برفقه ستة من قواته، على أمل كسب صيد جديد، ليحسم معركة إلى الأبد بنظره، ليواجهوا ثلاثة آلاف متمرد متحصنين في داخل الضريح، وبعد مفاوضات شكلية طويلة، قبل الأمراء الثلاثة الاستسلام دون قيد أو شرط، وحال استسلامهم، بدأ يخلّ باتفاقاته، فجردهم في الطريق من أسلحتهم وثيابهم، وأطلق هودسون النار عليهم، أما الملك الذي كان حبيس السجن والإهانة والذل فقد ازداد حزناً وكمداً بعد ورود هذه الأنباء إليه، ودخل في نوبات اكتئاب، ووصف حالته أحد حراسه الإنجليز (وحش في قفص) أما زوجته زينت فقد فرحت المسكينة المخدوعة في البداية بموت الأمراء الثلاثة ظناً منها أن منافسي ابنها جوان على العرش، قد تم التخلص منهم. الأعجب أنه حتى هذه اللحظة وفي ظل هذه الظروف المهينة على المستوى الشخصي العائلي للمغول، وعلى مستوى الإمبراطورية المنهارة، لا تزال تحلم بالعرش لابنها. كانت الكارثة الأكبر التي حلّت بها يوم رأت الوريث الشرعي التي كانت تحلم به وهو ابنها جوان، يخونها أمام أسياده البريطانيين، ليكشف كذبها لسجانها، وكشف لهم عن كنزها من المجوهرات، وعن دور والده بالثورة، ليصفه سجانه أمامها وأمام والده، بأنه ولد نذل جبان، ليس لديه أي مودة لإخوته وأمه وأبيه. كانت المشانق المنصوبة في ساحات دلهي التي غدت كئيبة حزينة، إذ لم يسبق عليها أيام حزن وكمد وخوف وقتل كهذه، شبهها من كتب عن هذه المشانق بأنها قريبة من حالة نصب المشانق أيام الثورة الفرنسية. وهو ما عكسه خوف بعض المسؤولين البريطانيين، خوف على الإنجليز وليس على الضحايا، فعبر اللورد كانينج في كلكتا عن خشيته وخوفه وقلقه من حجم العنف والغضب الذي تختزنه الشخصية البريطانية ضد الهنود فكتب للملكة في لندن يقول لها: (هناك انتقام مسعور وعشوائي يحدث، حتى من جانب كثيرين ممن يجب عليهم أن يكونوا قدوة أفضل لمن حولهم، فلم يظهر أي منهم أن شنق وإطلاق النار على 40 أو 50 ألفاً من المتمردين يمكن أن يكون تصرفاً خاطئاً! كما لم يُشنق كل السجناء في دلهي بل أُعدم كثير منهم رمياً بالرصاص). النائب البريطاني السابق هنري لايارد عن بلدة آيلسبري كتب بعد زيارته الملك السجين منتقداً: (رأيت ذلك الشيخ المحطم... ليس في غرفة، وإنما في جُبّ حقير في قصره مستلق على فراش قذر، بلا شيء يغطيه سوى غطاء يائس ممزق. بينما أنا أنظر إليه، يبدو أنه تذكر عظمة مكانته السابقة.. نهض بصعوبة من على فراشه، أظهر لي ذراعيه التي نهشها المرض والذباب، كما نهشها نقص المياه، وقال بصوت آسف إنه ليس لديه ما يكفي ليأكل). حملات الإذلال التي رافقت سجن الملك، لا تُوصف، هذه الحالة التي استباحت الملك انسحبت على استباحة المدينة كلها، فدعت الصحف البريطانية في شبه القارة إلى تسوية دلهي بالأرض، كتب هيو تشتشيستر من القوات البريطانية إلى والده يقول له: (هناك عدة مساجد جميلة في المدينة، وهي ممتعة وجميلة المنظر، لكنني أفضل أن أراها كلها مدمرة! فلقد دنس أولئك المتوحشون الأوغاد كنائسنا ومقابرنا ولا أعتقد أننا بحاجة أن نولي أي اعتبار لدينهم). ودعا آخرون من أمثال تشتشيستر إلى (تحويل المسجد الجامع في البلدة إلى كنيسة وتسمية كل حجر فيه باسم شهيد مسيحي). امتدّ هذا الحقد على دلهي وعقيدتها، إلى الكبار من الموظفين البريطانيين، فكتب اللورد بالمرستون يقول: (يجب حذف دلهي من على الخريطة، ويجب أن تتم تسوية كل مبنى مدني مرتبط بالتقاليد الإسلامية بالأرض، بغض النظر عن قيمته الأثرية والفنية). مشاهد دلهي التي تعرض لها أهلها، لم يتوقعها أشد المتشائمين بهكذا مصير لمدينة، كانت حتى لفترة قريبة وجهة وقبلة الكثيرين من حيث العمارة والسطوة والملك والرخاء والثراء والبذخ. صورة أخرى من الصور التي تعرض لها دلهي، كان استهداف المتعاملين مع الجيش البريطاني وجواسيسه، ومنهم نسيب الملك نفسه ميرزا إله بخش، ومعه حفيد الملك ميرزا أبو بكر، حيث تم نهب بيوتهما وسلبها، ولم يسلم عالم الرياضيات الهندوسي رامشاندر من الإهانة وهو المتحول أصلاً للمسيحية، بل والمتعاون مع القوات البريطانية، إذ هاجمت الأخيرة بيته وسلبته. كتب الشاعر غالب الذي ذاع صيته يومها وبعدها، وهو المتعاون مع البريطانيين وأحد الناجين القلائل من مذبحة دلهي: (بوسع كل جندي بريطاني... فعل ما يشاء... يتجول داخل المنازل والأسواق... يُرعب القلوب ويزلزل الأرواح... يُحوّل الأسواق لمذبحة.. والبيوت لسجون.. حتى كل حبة غبار في دلهي... صارت متعطشة للدماء.. حتى إن لم أكن الناجي الوحيد... فليس بوسعي أنا ومن نجى معي.. سوى البكاء لأننا عشنا.. لقد انطفأت شرارة الحياة من الهند... تعرّت الأرض فجأة... مات الآلاف ومن نجى ارتمى في السجن). الكاتبة البريطانية هارييت تايتلر كتبت في مذكراتها تقول: (لقد صارت دلهي الآن حقاً مدينة الموتى، يلفها صمت القبور من كل جهة، لا ترى فيها إلا المنازل الفارغة، ولا تسمع إلا السكون المطلق، مشهد حزين لدرجة لا توصف، بدا كما لو أننا فقدنا شيئاً ما بين ليلة وضحاها.. شيئاً سنفتقده).

453

| 27 مايو 2025

لماذا فشلت ثورة 1857 ضد البريطانيين في شبه القارة الهندية؟ 4/6

كان تحرك القائد العسكري الشرس نيكلسون على رأس قواته من بيشاور عشية انطلاق الثورة، قد استغرق شهرين تقريباً ليصل إلى دلهي. ارتبط اسم نيكلسون بالشراسة والبطش، وحين وصلت قواته، كانت الثورة في نفسها الأخير، لاسيما بعد أن نفد المال والسلاح عنها، ولم تُجدِ محاولات صرف المرابين والأغنياء عن التوقف عن دعمها. بدأ الانتقام الوحشي للقوات البريطانية من دلهي، ووثقته كثير من مذكرات الضباط البريطانيين، فطالت الشهادات قتل النساء والأطفال والحيوانات، بشكل وحشي. وصلت حالات القتل إلى ما يربو على عشرة آلاف شخص. وكتب أحد البريطانيين الذين عاصروا تلك المرحلة في مذكراته: «ببساطة لا أستطيع اعتبار هؤلاء السيبويين من البشر، إنهم مجرد زواحف تستحق القتل» وأشارت إلى هذه الحقائق مجلة نيودلهي جازيت إكسترا في افتتاحيتها الصادرة من لاهور: «جيشنا غاضب إلى درجة الجنون تقريباً، مما رأوه من وحشية المتمردين.) كان المجاهدون وقوات السيبويين تتحصن في دلهي، بانتظار معركة شوارع تخوضها ضد القوات البريطانية، وحين بدأ الهجوم على المدينة، حقق البريطانيون في البداية، بعض النجاح، ليفاجأوا بتكتيكات المجاهدين داخل المدينة التي باتت محاصرة. تميزت التكتيكات بقوة نيران المتحصنين، وإنزالهم خسائر مخيفة في صفوف القوات البريطانية، والتي فقدت قائد الهجوم المتغطرس نيكلسون، والذي تُرك في أرض المعركة ينزف، ليموت لاحقاً دون أن يُسعفه أحد إلى المشفى الميداني، على الرغم من مناشداته المتكررة، وكتب أحد ضباط المعركة وهو هودسون لزوجته يصف المشهد: ( لأول مرة في حياتي أرى جنود الانجليز يرفضون الانصياع لأوامر ضباطهم، وقد اعتلت أرواحهم حالة من الإحباط التام، بسبب العمل الشاق، وكثرة ما احتسوه من الخمور.)، ووصف هودسون نائب قائد المعركة ويلسون بالقول: ( ويلسون محطم إلى حد ما، بسبب الإرهاق والقلق، حتى قدماه لا تقويان على حمله.) ويصف أحد المحاصرين البريطانيين في داخل دلهي قوات المجاهدين التي كانت تقاتل ببسالة ورجولة بأن ( هؤلاء المجاهدين من نسل الشياطين والمتعصبين.) لكن سرعان ما انقلبت الآية، حيث بدا الجوع واليأس يخيمان على القوات البريطانية، ساعد ذلك ارتباك قائد القوات الجديدة نيلسون بعد أن فقد قائده نيكلسون، إلاّ أن مخطط الهجوم الذي أعلنه ريتشارد بيرد سميث بدأ ينقذ الموقف المتهالك. كان نيكلسون على فراش الموت قبل وفاته، يخبر من حوله بأن يرسلوا نصيحته إلى القائد في لاهور بإقالة ويلسون، لأن الإبقاء عليه في منصب القيادة تهاون بحق وطننا. رتبت القوات البريطانية نفسها، واستعادت قوتها، وشنت هجومها الجديد على المدينة، فتمكنت في البداية من دخول حيّها الشمالي، فأعملت فيه القتل والنهب، فلم يسلم منهم عملاؤهم ومخبروهم وجواسيسهم، وكتب معين الدين حسين خان عن ذلك اليوم المشؤوم 15 سبتمبر يقول: ( لم تكن حياة أحد في المدينة آمنة. قبضوا على جميع من يرونه أمامهم، بتهمة انتمائهم للمتمردين ثم قتلهم. ويضيف: انتقم المنتصرون العائدون بغضب من كل من قابلهم في الشوارع. كان دخولهم مروعاً، قتلوا الضعفاء، وأحرقوا منازلهم، وانتشرت المجازر وامتلأت الشوارع بالرعب من تلك الفظائع، التي ربما دائماً ما تعقب الفتوحات.) أما إداور كامبل الشخصية اللطيفة بمعايير ذلك الوقت، غير المتشددة، فقد وصف الهجوم على دلهي بأنه ( معركة إخلاص وعبادة) واعتبر نفسه ( جندي المسيح الصالح) وكتب عنها تشارلز جريفيث وهو ممن شهدها يقول: ( لقد كانت حرب إبادة بدون أسرى، ودون إظهار أدنى قدر من الشفقة والرحمة. باختصار، كانت واحدة من أشد الحروب التي شهدها العالم قسوة وانتقاماً.. تراكمت جثث الموتى في الشوارع والأماكن المكشوفة، وقتل كثيرون في منازلهم، حتى الأبرياء منهم، لأن رجالنا كانوا يقاتلون بجنون دون تمييز.. ولا يوجد مشهد مرعب أكثر من مشهد المدينة التي اجتاحتها عاصفة كتلك.) لم يستسلم جيشا السيبويين والمجاهدين للواقع الجديد، وظل الأمل يراودهما ويحدوهما بالانتصار. كان ميرزا مغول ومعه سرفرزا وبخت يعدون المقاتلين بالنصر، حيث تجمع أكثر من 70 ألفاً من المقاتلين معهم، يستعدون للدفاع عن المدينة المحاصرة، والقتال دونها، طالبين من الإمبراطور بهادور ظفر أن يقود المعركة بنفسه ولو رمزياً، وبعد أن أقنعوه بالأمر، نجح مستشاره إحسان الله الذي كان عميلاً للبريطانيين في ثنيه عن قراره، فلعب على مخاوفه، وأعاده إلى قصره، بحجة أنه سيتم التخلي عنه، ليؤسر بأيدي البريطانيين ثم يُعدم. استجاب الملك لما نصحه به إحسان وعاد أدراجه من أرض المعركة، وهو ما أحبط آخر آمال المجاهدين والمقاتلين، الذين كانوا يبحثون عن رمزية لمعركتهم في مواجهة عدو شرس. كان من نتائج هذا انفضاض الناس من حول المجاهدين والثوار. يوم السادس عشر من سبتمبر الذي بلغته الثورة في دلهي، كانت لحظة فارقة للثورة، التي كادت تطيح بالاحتلال البريطاني يومها، فمعنويات الجيش البريطاني منهارة تماماً، عكستها ما دونه قائد القوات البريطانية ويلسون في مذكراته يقول: ( رجالنا يكرهون قتال الشوارع المقيت هذا بشدة، ومصابون بالذعر، ولن يتقدموا، أنا لا أستطيع إيجاد حل على الإطلاق.) لكن أهالي دلهي الذين بدوا لا يعرفون ما يجري في صفوف القوات البريطانية والمعتصمين بدأوا بالبحث عن الملاذات، فكان الهروب الكبير، وفرغت المدينة من أهلها خشية من الانتقام الكبير الذي ينتظرهم، إن تمكنت القوات البريطانية من هزيمة المعتصمين، بينما كان الملك ظفر بحسب ما أوردته ابنته كلثوم، معتكفاً في غرفة التسبيح والصلاة، كعادته حين يُصاب بهزيمته النفسية، وتقول ابنته: «طلبني وأبلغني بأن أغادر مع زوجي، فلا يريدني قريبة منه في هذه الظروف، حتى لا ينالني أذى، وسلمني بعض الجواهر الثمينة، ثم خرجنا من عنده، وفي طريق الهروب اعترضتنا عصابات من الغجر وجردتنا من كل ما نملك حتى ملابسنا التي علينا» أما المدينة فبحسب توصيف مؤرخي ذلك الزمان فقد تحولت إلى مدينة موتى، بعد أن أقفرت تماماً من 150 ألفا من ساكنيها. في ظل هذه الظروف التي تنتظر موقفاً حاسماً من سلطة رفيعة كالملك، قرر ظفر خلسة أن يغادر قصره في دلهي ولأول مرة، مغادرة كانت إلى الأبد، ليركن إلى ما طمح إليه دائماً بأن يعيش عند قبر أحد أولياء الصوفية، ظاناً أن ذلك سيسعفه من غضبة البريطانيين، أو سينجيه مما يحيق به، وسريعاً ما لجأ بعد القبر إلى قبر جده همايون، وكأنه يطلب منه الدفاع عن عرش بات مهدداً، لكن أخباره كانت تصل إلى البريطانيين بالتفاصيل، عبر زوجته ومستشاره وطبيبه الخاص إحسان الله المخترقين لكل أسراره وتفاصيل تحركاته.

462

| 20 مايو 2025

لماذا فشلت ثورة 1857 ضد البريطانيين في شبه القارة الهندية؟ 3/6

فكّر سرفراز والقائد بخت بطريقة لكسب شرعية مواجهة الإمبراطورية البريطانية، فلم يجدوا أفضل من أن يذهبا سوية إلى الإمبراطور بهادور، لإقناعه بالانضمام للثورة، وإنقاذ تاجه وامبراطوريته وكرامته المهدورة، لكن الأخير كان في البداية متردداً، نتيجة صحته، إذ بلغ يومها الواحد والثمانين عاماً، وهي حالة صحية لا تتيح له التحرك والعمل والنشاط، فضلاً عن الدافعية والحماس للعمل، وبين زوجته المحبوبة بالنسبة له زينة محل والتي نأت بنفسها وابنها وريث العرش ميرزا جيوان بخت عن الانتفاضة، لقناعتها أنها رهان خاسر، ولا يمكن التعويل عليها، لاسيما وأن هذه الخسارة ستفقدها حلمها الذي طالما داعبها بوصول ابنها المحبوب إلى العرش. آثرت زينة المحل الخروج من القصر، والابتعاد عن الواجهة، أما الإمبراطور فبعد لقائه سرفراز وبخت خان في القصر، وافق معهما على الدخول في اللعبة، لكن بتردد، ومع هذا منح الدعم والبركة للانتفاضة على مضض، وهو يرى ممارسات خان في القصر المتنافية مع احترام الامبراطور. علم كل من حول الإمبراطور عن حسم أمره في الانحياز إلى الثورة، واستعداء الانجليز، أما بخت خان وهو العسكري المتمرس، فقد وضع خططه العسكرية لإنهاء الوجود البريطاني ليس في دلهي فقط وإنما من البلد كله، فسعى إلى التنسيق مع السيبويين، وكل القوى المتمردة حينها، لكن واجهته عدة مشاكل، كان على رأسها أجندات مختلفة ومتباينة للتمرد، لاسيما بعد أن لمس استباحة بعض عناصر التمرد البلد، وتسببوا في حالة من الفوضى، انعكس في حالة غضب شعبي محلي ضد الثورة، وهو ما أضرّ سلباً الثورة والانتفاضة بشكل عام. كانت القوات البريطانية تعتمد في ثلثها على قوات مسلمة من البنجابيين والبشتون الذين أتت بهم من باكستان وأفغانستان، لكن هجوم بخت خان وجيشه في التاسع من مايو/ أيار كاد يحسم الحرب، لو أنه عرف بالنتائج التي توصل إليها، فقد أدى ضعفه الاستخباراتي، لوقف الحرب، عند الحد الذي كاد أن يقضي على الانجليز في المنطقة وللأبد، وهنا ظهر للجنود أن بخت لم يفِ بوعده في النصر، فظهرت علامات التذمر وسط السيبويين، الذين يتلقون أوامرهم من جيش يختلف عنهم، وزاد من حالة التذمر امتعاض قائد الجيش السابق للسيبويين ميرزا مغول الذي سلبه هذا المنصب يوم عين الامبراطور بهادور القائد بخت قائداً للثورة. استمر التذمر حتى التاسع والعشرين من الشهر نفسه، الذي تسلل إلى الامبراطور نفسه، وأقدم على خطوة متسرعة بخت الذي لم يأته بالنصر سريعاً، فكانت الكارثة على المغول، والنجاة للبريطانيين، حيث يسجل أحد قادة البريطانيين تلك اللحظة مشاهداته وانطباعاته فيقول: (عندما كنا بالكاد قادرين على الصمود، توقفت الهجمات، كما لو كان ذلك بفضل العناية الإلهية، ومنح الرب قواتنا الراحة التي هم في أمس الحاجة إليها.) كانت الثغرة الكبيرة في صفوف الثوار يومها، الضعف الاستخباراتي والأمني، حيث لا معلومات لديهم عن عدوهم، بل وافتقروا حتى لجاسوس واحد، وسط القوات البريطانية، بخلاف ماهو عليه الحال في الجيش البريطاني الذي كان مخترقاً للعظم قوات الثورة، حتى أن زوجة الامبراطور ونجله، كانا يقدمان التقارير السرية لرئيس الاستخبارات في دلهي هدسون، الذي كان ينقل التطورات بانتظام إلى السير روبرت مونتجمري رئيس مكتب الاستخبارات في لاهور مخبراً إياه أن زينت محل كانت: ( من أفضل الجواسيس البريطانيين، وأنها موالية لبريطانيا بشدة، وعرضت مساعدتها في الاستيلاء على المدينة، بنسف جسر القوارب حتى.) ولعل وثيقة أحد الثوار يومها تعكس ذلك حين روى كيف أن قوات الثوار التي أتت إلى القصر لمقابلة الإمبراطور وطلبت منه توفير الطعام لهم، بعد أن مرّ عليهم ثلاثة أيام دون أن يدخل جوفهم شيء من الطعام: ( لم يترك لنا الجوع أي خيار غير أن نتحرر من ارتباطنا بجلالتك، ونعود من حيث جئنا.. يا صاحب الجلالة.. باستثنائك أنت يا صاحب الجلالة، كل شخص في مدينة دلهي، بما في ذلك موظفو القصر، متحالفون مع الانجليز.) مما ضاعف تحديات الثورة، عجز الثوار عن تقديم أنموذج حوكمي، يجبي الجبايات ويوفر الخدمات، أولاً لتمويل الثورة، وثانياً لكسب ثقة المتعاطفين فضلاً عن المحايدين والخصوم، فانهارت بعد أيام، وفقدت الثورة حاضنتها، بعد تعرض المقاتلين للجوع والفقر، يضاف إليها حالة الفوضى التي اتسم بها تحرك جيش السيبويين. بالتوازي بدت فتنة دينية تلوح في الأفق علّق عليها المحتل البريطاني آمالاً عريضة في أن تُودي بالجبهة الهندوسية ـ المسلمة التي تشكلت لمقاومة المحتل البريطاني، يوم أصرّ المسلمون على ذبح البقر، وهو معبود الهندوس، فذبحت أربعة أبقار، وهو ما رد عليه الهندوس المتطرفون في جيش السيبويين بشنق الجزارين المسلمين الذين ذبحوا الأبقار. طلب الامبراطور بهادور من المفتي أزوارد الذي كان شيخاً للعالم سرفراز، نزع فتيل التوتر، وتدخل المفتى، وتوقف المسلمون عن ذبح البقر في العيد الذي كان يصادف الأول من آب، وأرسل أحد قادة البريطانيين يومها رسالة لزوجته معلقاً على ما حدث: « ما حدث يعتبر إهانة للمسلمين، الذين يقاتلون من أجل إيمانهم، ففي هذا العيد، تحت قيادة ملكهم المسلم، لم يُسمح لأحد بالتضحية ولو ببقرة!» ما خلفته حادثة البقر، شكك الكثيرون من الهندوس والمسلمين بإمكانية التعايش المشترك، فضلاً عن المضي قدماً في ثورة ضد عدو بدا مشتركاً، الأمر الذي بدا جلياً وعملياً، وإن كان متأخراً حوالي قرنين يوم وقع الانفصال بين الهند وباكستان على خلفيات أساسها ديني، فبينما يعبد الهندوس البقر، يأكل المسلمون معبود الأخيرين. انعكس هذا على حالة ظفر بهادور، الذي غدا انعزالياً، حيث تخلت عنه زوجته، وهي ترى سياساته الكارثية بالنسبة لها ولابنها، أما هو فقد بدا متخوفاً من تداعيات هذه الخلافات البينية بين المسلمين والهندوس، لاسيما وأن حسم الثورة لصالح الثوار على نيودلهي غدا صعباً، وباتت دلهي مهددة بالدمار والخراب إن اندلع الصراع البيني بين الثوار أنفسهم. أما حالته النفسية، فكانت بين انفصال عن الواقع، وأحلام لم يحلم بها حتى بخت خان وسرفراز نفسيهما، حين كتب في شعر له: ( أيا ظفر سنسيطر على لندن قريباً) في حين كان يُسرُّ لجلسائه في نفس الأيام بأنه يائس ويود أن يتوجه إلى مكة ليقضي ما تبقى له من عمر فيها، ومع عجزه عن ترتيب السفر إلى مكة، ثم تخلي السيبويين عنه، كتب يعكس حالة الكآبة التي تنتابه يقول: (هوت السماء فوقنا... لم يعد بإمكاني الراحة أو النوم... الآن رحيلي الأخير هو الشيء الوحيد المؤكد.... سواء أكان ذلك في الصباح أم في الليل..) أما خادمه المخلص حتى النفس الأخير ظهير دهلوي والذي كان قريباً منه فكتب يصف حالته: (كان دائماً في مزاج كئيب وحزين، وكانت عيناه دائماً ممتلئة بالدموع... في المساء كان يذهب ويجلس في التسبيح خانة، وحده، ويلعن الثوار.)

549

| 13 مايو 2025

لماذا فشلت ثورة 1857 ضد البريطانيين في شبه القارة الهندية؟ 2/6

اللافت أنه في عزّ فترات الوجود البريطاني بالهند، لم يكن فيها سوى 70 ألف جندي أوروبي يحكمون 25 مليون هندي يومها، وهو ما علّق عليه ستالين أنه "من السخف أن يحكم بضعة مئات من الإنجليز الهند كلها". لكن ربما ما ساعدهم، تعزيز تقسيم الطبقية الهندية، والتي كانت حتى مجيئهم تُدار من قبل المغول المسلمين، لتأتي ثورة 1857 لتؤطر القومية الهندية وربما لأول مرة، حيث كانت الثورة مزيجاً من الهندوس والمسلمين، ويعتقد بعض المؤرخين أن حرص البريطانيين على استبعاد المسلمين من السرد القومي الأساسي، ساعد التفسير الاستعماري البريطاني للتاريخ الهندي في القرن التاسع عشر على ولادة نظرية الدولتين في تقسيم البلاد، ويرى باحثٌ هنديٌ معروفٌ، يدعى جيانيندرا باندي أن الطائفية الهندية كانت في جزء كبير منها بناء استعمارياً. كان الصحفي البريطاني اليساري ريتشارد جوت قاسياً في إدانته لإمبريالية بلاده حين قال: (كانت الإمبراطورية البريطانية في الأساس مشروعاً هتلرياً على نطاق واسع، يتضمن الغزو العسكري والديكتاتورية والإبادة الجماعية والأحكام العرفية والمحاكم الخاصة والعبودية والعمل الجبري، وبالطبع معسكرات الاعتقال وتهجير الناس عبر المخحطات). الظاهر أن هذ الجشع المالي الاستعماري، استحوذ على البريطانيين أكثر من غيرهم، فالمسيحية الصليبية لدى الإسبان أو الفرنسيين طغى عليه الحماس الثقافي والحضاري، أما البريطانيون في الهند فكان الباعث مالياً أكثر من غيره. نتج عن حكم الراج البريطاني استنزافه لخيرات الهند، موت أكثر من 35 مليون هندي نتيجة المجاعات التي تسبب بها حكم الراج، أو لسوء إدارته لها، كما يقول المؤرخون، وهو ما يذكر بـ 25 مليونا ماتوا في حملة ستالين الجماعية والتطهير السياسي، وبـ 45 مليون ماتوا خلال ثورة ماو الثقافية.. السخرية الأشد هو منع نائب الملك لورد ليتون عبر قرارات مشهورة تماشياً مع سياسة بلاده أي تخفيض في أسعار الغذاء أثناء المجاعة المشهورة، وأضاف النائب حينها أنه لن يكون هناك أي تدخل من أي نوع من جانب الحكومة، بهدف خفض أسعار المواد الغذائية، وأصدر تعليماته إلى مسؤولي المنطقة بعدم تشجيع أعمال الإغاثة بأي طريقة ممكنة، فمجرد الضيق ليس سبباً كافياً لإنشاء أعمال الإغاثة، والأعجب من هذا كله هو اتهامه لمنتقديه البريطانيين بالانغماس في نوبات هيستيرية إنسانية. الأعجب كذلك هو أنه حين استورد السير ريتشارد تمبل الأرز من بورما عام 1866 لمواجهة مجاعة أوريسا هاجمته مجلة مثل الإيكونوميست لأنه سمح للهنود بالتفكير أن " من واجب الحكومة إبقاؤهم على قيد الحياة". لكن لم تكن الإيكونوميست شاذة في ذلك، إذ كتبت الديلي ميل عام 1897: (يقع على عاتقنا الدفاع عن إمبراطوريتنا من جيوش الأشباح الجائعة، سلاحنا هو أموال بريطانية جيدة ونظيفة). ومع هذا لم تعدم البلاد من أصوات في البرية حين أسفت صحيفة التايمز البريطانية وبشدة لتدخل نائب الملك وقمع دوافع الأعمال الخيرية الخاصة، وندد كتابها بسياسته القائمة على الإغاثة من المجاعة بدوافع اقتصادية فحسب. فبينما "كانت لندن تأكل خبز الهند، كانت الأخيرة تموت جوعاً" بحسب تعبير الأستاذ مايك ديفيس وهو كاتب ومؤرخ أمريكي وناشط سياسي عاش في منتصف القرن الماضي. رضخ ليتون أخيراً للصندوق الذي جمعه الأفراد والمدارس والكنائس في العالم البريطاني، وسعى إلى تنظيم التوزيع من خلال إدارته، مرغماً نتيجة الضغوط الإعلامية والمجتمعية البريطانية، وهو الذي وصف الصندوق، بأنه مصدر إزعاج كامل. اختصر رئيس تحرير مجلة كلكتا عام 1906 المشهد قبل وصول البريطانيين بقوله: (عندما جاء الإنجليز إلى الهند، كان هذا البلد زعيم الحضارة الآسيوية، ومركز الضوء بلا منازع في العالم الآسيوي. لم تكن لليابان أي مكانة. والآن بعد خمسين عاماً، أحدثت اليابان ثورة في تاريخها بمساعدة الفنون الحديثة المتقدمة، ولا تزال الهند، بعد 150 عاماً من الحكم الإنجليزي محكوماً عليها بالوصاية). كانت الإيرادات السنوية للإمبراطور المغولي أورنجزيب (1707- 1618) قبل الحكم البريطاني هائلة، وذلك بعيداً عن عائدات الضرائب الضخمة. لقد بلغ إجمالي دخل مملكته 450 مليون دولار أي أكثر بعشرة أضعاف من دخل لويس الرابع عشر المعاصر له. كانت أجواء الغضب الشعبي متلبدة، ليس وسط المسلمين، وإنما حتى وسط الهندوس، بعد أن تعرّض الطرفان لاستهداف دينهم من قبل البريطانيين، فدهن المحتل خراطيم الخرطوش والتسليح بدهن الخنزير والبقر، مما شكل لحظة فارقة في اجتماع السيبويين، الذين يشكلون أساس جيش الشركة البريطانية الشرقية، فأعلنوا تمردهم في الأول من مايو/ أيار، وشنوا هجوماً على دلهي مركز قيادة القوات البريطانية، ونائب الملكة، كان قوما 20 ألفاً من قوات السيبويين، ومعهم أربعة آلاف من قوات المجاهدين الذين عُرفوا بـ الوهابيين بزعامة المرشد الروحي سرفراز خان علي، ومعه القائد العسكري المعروف بخت خان. أمضى العالم سرفراز خان المعروف بإمام المجاهدين في حينه، سنوات عدة في دلهي، وكان على اتصال جيد بالبلاط المغولي، فأعلن الجهاد ضد القوات البريطانية، وقد سبق تحريضه هذا ثورة 1857، وينقل عنه كل من عاصر خطبته الشهيرة في الأول من مايو/ بمنطقة شاه دهان بور والتي خاطب فيها جمهوره المحتشد أمامه: (لقد أصبح ديننا في خطر، بعد أن فقدنا سيادة الأرض، وانحنينا خاضعين للغرب الكافر النجس، لكن الآن، هل سنتنازل عن الامتيازات التي نلناها عن النبي عليه السلام). تلقى سرفراز تعليمه في مدرسة المفتي صدر الدين أزوردا، والمسماة بـ "دار البقعة" وبفضل تعلمه الجبر والهندسة، أصبح من أبرز علماء دلهي، وقد أثنى عليه العلامة أحمد خان كواحد من ألمع جواهر التاج الفكري في دلهي، وتتحدث الروايات التاريخية بأن سرفراز هو من أقنع بخت بالانضمام للثورة، ليتحول الأخير لاحقاً إلى تابع له، ويدين له بالسمع والطاعة. كانت القوة العسكرية والمعنوية لجيش المجاهدين ضخمة في العدد والعدة وعلى مستوى الجانب الأخلاقي المعنوي، يتحدث عنهم مراسل صحيفة التايمز البريطانية المعروف يومها ويليام هوارد راسل: (كان الغزاة في الغالب رجالاً حسني السلوك، وكبار السن، ذوي لحى خالطها الشيب، يرتدون العمائم الخضراء، وكان كل واحد منهم لديه ختم فضي منقوش عليه نص طويل من القرآن. جاؤوا ورؤوسهم تحت دروعهم، وسيوفهم تومض، وهم يلوحون بها فوق رؤوسهم ويصرخون الدين! الدين! ويرقصون مثل المجانين. ظهر من بينهم رجل شجاع، أخذ يقترب صارخاً فينا بصوت جهوري، وتقدم وسط وابل من الرصاص بشجاعة، ثم خرج جندي شاب من بين أفراد قواتنا، مطلقاً النيران من بندقية بين عيني الرجل، وتبعه بدفعه من خنجره في وجه الرجل المسكين، مما قضى عليه).

1293

| 06 مايو 2025

لماذا فشلت ثورة 1857 ضد البريطانيين في شبه القارة الهندية؟ 1/6

التاريخ كنز لا تنضب خزائنه، ولا تنتهي دروسه، وعظاته وعبره، ولذا فالعودة إلى الماضي، هو في الحقيقة الذهاب إلى المستقبل، فبفهم دروسه نتجنب مطبّات وأخطاء، ونستقي دروساً وعبراً، تحدونا إلى النجاح والانتصار. إن أفضل الطرق لاستشراف المستقبل هو النظر إلى الخلف، ومع الذكرى السنوية لثورة 1857 التي تصادف الأول من مايو/‏ أيار من كل عام، يعود الخبراء والباحثون المختصون إليها، لكونها أولى الثورات الآسيوية، الساعية إلى اقتلاع مستعمر، جثم طويلاً على صدر المنطقة، تحت لافتة الشركة الهندية الشرقية، والتي أسست لاحقاً جيشاً خاصاً بها، وصل تعداده إلى أكثر من 260 ألف مقاتل، ومن كافة العرقيات والأديان، وذلك لحماية مصالحها الاقتصادية، المبنية على مصّ خيرات المنطقة من على ضفاف نهر الغانج الهندي، ونهر كابول في باكستان وأفغانستان، وعصْرها على ضفاف نهر التايمز. كانت الشركة الهندية الشرقية، يوماً بعد يوم تقتات على سلطات الإمبراطورية المغولية، إلى أن جرّدتها من كل صلاحياتها ومسؤولياتها، ليصل الأمر بالإمبراطور بهادور شاه ظفر الثاني، والذي وقعت الثورة في عهده، إلى أن يستجدي نائب الملكة تشارلز ميتكالف ومساعديه لضمان مجرد حياة كريمة لمن بعده، ومع هذا رفضوا التعهد له بذلك.لطالما فكّرت وأنا الذي قضيت شطراً من حياتي في باكستان، قارئاً لتاريخها وتاريخ المنطقة، ومغطياً لأحداثها كصحفي، من أين أبداً إذا ما تيسرت لي الكتابة عن المنطقة، لأجد اليوم أن المحطة الحقيقية للانطلاق بالكتابة ربما من ثورة 1857، فهي تحكي قصة ذروة تجرّد المنطقة سياسياً واقتصادياً وحتى أخلاقياً لصالح البريطانيين، مما أرغم الجميع، مسلمين وهندوسا، بالثورة على محتلهم، وبحسب المؤرخ البريطاني أنجوس ماديسون فقد بلغ نصيب الهند، - وهي التي كانت تضم (الهند الحالية وباكستان وبنغلاديش وبورما) - من الاقتصاد العالمي 23%، أي ما يعادل نصيب كل الدول الأوروبية مجتمعة. كانت النسبة 27 % في عام 1700 عندما جمعت خزانة الإمبراطور المغولي أورنجزيب 100 مليون جنيه إسترليني من عائدات الضرائب وحدها، لكن مع الانسحاب البريطاني من الهند انخفض ذلك إلى 3 % من الاقصاد العالمي، والتفسير كان واضحاً فقد موّلت بريطانيا نهضة ثورتها الصناعية من خلال نهبها للهند. ما تنبأ به جيل السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بتحكم الشركات المتعددة الجنسيات، كان قد سبقته إليه بريطانيا من خلال الشركة الهندية الشرقية، علماً بأن هذا النهب، سبقه نهب آخر لدلهي، على يد الملك الفارسي نادر شاه عام 1739 يوم نهب جميع كنوزها، وقدّر مؤرخو ذلك الزمان حجم ما سرق بأنه يكفي لإلغاء ضرائب فارس عن السنوات الثلاث المقبلة، وخلّفوا وراءهم 50 ألف جثة في شوارع دلهي. قامت الثورة الصناعية البريطانية على تدمير الصناعات المزدهرة في الهند، فإن القربان الأول صناعة المنسوجات، وصادراتها، فقد لجأت الشركة الهندية الشرقية إلى تحطيم أنوال المنسوجات في البنغال، وكسروا أصابع أصحابها ليحرموهم من العمل، فيغدو البديل، نقل المواد الخام الهندية إلى بريطانيا، وإمعاناً في تصحير حياة النسيج فقد حرمت الهند من تصدير بضائعها إلى أسواق العالم، وبالتوازاي فقد تلقت صناعة الحرير والموسلين الراقية للمنسوجات البنغالية ضربة كبيرة، وهو ما انسحب كذلك على صناعات كثيرة في المنطقة، بعد أن باتت مدن بريطانيا معملاً بديلاً للصناعة الهندية. صوّر ويل ديورانت صاحب كتاب قصة الحضارة الذي زار الهند في تلك الفترة الوضع قائلاً: (إن المتخلفين عن دفع الضرائب حُبسوا في أقفاص، وتعرضوا لأشعة الشمس الحارقة، وباع الآباء أطفالهم، لمواجهة ارتفاع الضرائب، فعدم تسديد الضرائب كان يعني التعرض للتعذيب حتى الدفع، ومصادرة أرض الضحية البائسة من قبل البريطانيين. لقد خلقت شركة الهند الشرقية، لأول مرة في التاريخ الهندي، فلاحاً بلا أرض، محروماً من مصدر رزقه الطبيعي). ولكم أن تتخيلوا منافسة تجار جشعين لإمبراطورية عريقة حينها بحجم المغول، وهو ما عبر عنه ويليا بولتس، وهو تاجر هولندي عمل لسنوات في شركة الهند الشرقية عام 1772 يقول: «الشركة لم تكن أقل من حكم الأقلية الاستبدادية للتجار، الذين اغتصبوا مكانة الملوك. وعلى الرغم من تأكيدات الملوك البريطانيين بعد ثورة الاستقلال الهندية 1857 بأنهم سيفسحون المجال للهنود بالمشاركة في الحكم إلا أنه ووفقاً لـ ديورانت الذي زار المنطقة فقد توصل في سِفره (قصة الحضارة) بأنه حتى عام 1930 لم يكن يشغل سوى 4% من الهنود وظائف التكليف في الخدمة المدنية الهندية، التي نعتها لاحقاً نهرو بأنها لم تكن هندية ولا مدنية ولا خدمة. طوال فترة الاحتلال البريطاني للمنطقة، لم يكن الإنجليز ينظرون إلى الهنود بأفضل مما كان ينعتهم به تشرشل: «أنا أكره الهنود، إنهم شعب وحشي على دين وحشي»، وأسهب بوريس جونسون في كتابه الشهير عن حياة تشرشل فتحدث عن حياة الإنجليز في الهند: (لقد وضع نفسه على رأس حركة الرومانتيكيين المدافعين باستماتة عن راج وعن الحق الإلهي الذي أُنعم به كل كل خنزير إنجليزي يجلس في شرفته ويتنعم بثروات الهند). كانت الهند بتعبير مؤلفي كتاب لماذا تفشل الأمم أسيموغلو وروبنسون، عبارة عن مستعمرة استخراجية، على مستوى الأخشاب التي أنهت غابات ضخمة في الهند، لتصدر إلى بريطانياً لاحقاً، كما تم قلع الأشجار من أجل زراعة الشاي والخشخاش، وحتى أن المياه الجوفية لم تسلم من العبث البريطاني، حين زرعوا أشجار الكينا، مما أضرّ بالمياه الجوفية الهندية.

630

| 29 أبريل 2025

alsharq
TOT... السلعة الرائجة

كثير من المراكز التدريبية اليوم وجدت سلعة سهلة...

5316

| 06 أكتوبر 2025

alsharq
استيراد المعرفة المعلبة... ضبط البوصلة المحلية على عاتق من؟

في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة يمكن وصفها بـ...

4368

| 02 أكتوبر 2025

alsharq
الإقامة الدائمة: مفتاح قطر لتحقيق نمو مستدام

تجاذبت أطراف الحديث مؤخرًا مع أحد المستثمرين في...

3771

| 05 أكتوبر 2025

alsharq
الذاكرة الرقمية القطرية.. بين الأرشفة والذكاء الاصطناعي

في زمن تتسابق فيه الأمم على رقمنة ذاكرتها...

1671

| 07 أكتوبر 2025

alsharq
بكم نكون.. ولا نكون إلا بكم

لم يكن الإنسان يوماً عنصراً مكمّلاً في معادلة...

1119

| 08 أكتوبر 2025

alsharq
حماس ونتنياهو.. معركة الفِخاخ

في الوقت الذي كان العالم يترقب رد حركة...

975

| 05 أكتوبر 2025

alsharq
الوضع ما يطمن

لسنا متشائمين ولا سلبيين في أفكارنا وتوقعاتنا ولكن...

900

| 03 أكتوبر 2025

864

| 08 أكتوبر 2025

alsharq
تعلّم كيف تقول لا دون أن تفقد نفسك

كم مرة قلت «نعم» في العمل بينما في...

774

| 02 أكتوبر 2025

alsharq
هل قوانين العمل الخاصة بالقطريين في القطاعين العام والخاص متوافقة؟

التوطين بحاجة لمراجعة القوانين في القطــــاع الخـــــاص.. هل...

759

| 05 أكتوبر 2025

alsharq
لا يستحق منك دقيقة واحدة

المحاولات التي تتكرر؛ بحثا عن نتيجة مُرضية تُسعد...

729

| 07 أكتوبر 2025

alsharq
بين دفء الاجتماع ووحشة الوحدة

الإنسان لم يُخلق ليعيش وحيداً. فمنذ فجر التاريخ،...

720

| 06 أكتوبر 2025

أخبار محلية