رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يلعب الإعلام العربي دوراً محورياً في إثراء الفضاء العام من خلال تعزيز الهوية الثقافية والمشاركة السياسية في المجتمعات العربية، كما أنه لا يمكن البحث عن إطار واضح المعالم لإعلام عربي بهوية متماسكة دون التأسيس لنظرية اجتماعية وسياسية تقوم على النسيج القيمي العربي الإسلامي والتقاليد المعاصرة في المشاركة السياسية والاجتماعية في إطار مجتمع مدني فعال وديناميكي، لأن الإعلام لا يعمل في فراغ، بل يجسد دائماً الرؤى الفكرية والثقافية السائدة في المجتمع في إطار منظومة واضحة ومتكاملة تقوم على منهج متناسق ومتكامل يجمع ما بين الأصالة ممثلة في قيم الإسلام العظيمة، والمعاصرة ممثلة في ممارسات العمل السياسي الحديث. فبعد مرور أكثر من مائتي عام على حملة نابليون بونابرت على مصر، ما زال العالم العربي يبحث عن رؤية توفيقية تجمع بشكل متناغم بين القيم والتقاليد العربية الإسلامية وبين الممارسات الغربية المعاصرة في شتى جوانب الحياة، البحث ما زال قائما حتى الساعة بل زاد حدة مع بداية التسعينيات من القرن الماضي في ظل أفول الشيوعية ونهاية الحرب الباردة وهيمنة العولمة على مختلف جوانب الحياة في العالم العربي. الفضاء العام حسب هابر ماس ظاهرة إنسانية التداعيات رغم ارتباطها التاريخي بالمجتمعات الأوروبية في عصر النهضة، تجدر الإشارة هنا إلى أن ثورة الاتصال والمعلومات قد شكلت بعداً جديداً في مفهوم الفضاء العام وأحدثت ثورة كبيرة في عالم العلاقات الاتصالية المؤسساتية والإنسانية، كما أنها وسعت من الفضاء العام وأسهمت بدرجة كبيرة في إثرائه وتنوعه مما عزز قيم المشاركة والتفاعل في المجتمع. وإذا كان الفضاء العام يكتسب قيمته وديمومته من مستوى النقاشات والمشاركات التي ينتجها المجتمع في قضايا الفئات والشرائح المختلفة من المجتمع، فإن التراث العربي الإسلامي يزخر بمقومات النقاش والمشاركات الفكرية التي تهدف إلى الحفاظ على هوية المجتمع وتماسكه الثقافي، إنه من الصعب الحديث عن منظومة عربية للفضاء العام بمعزل عن فضاء العولمة، كما أنه من الطبيعي أن تتم مقاربة القضايا الرئيسية المطروحة في إطار عالمي واسع بدلا من حصرها في سياقات جغرافية ضيقة. فإذا كانت الممارسات الديمقراطية الحديثة التي تمكن الشعوب من تطوير قدراتها على المشاركة تحمل سمات عالمية، فإن القيم المعنوية الإسلامية هي أيضا ذات طبيعة إنسانية شاملة، ولا تتقيد بحدود الزمان والمكان، إن الصيغ التي اُستوردت من الخارج لإصلاح العالم العربي ستنتهي بالفشل لأنها ببساطة لا تستند إلى الواقع التاريخي والنسيج القيمي والأخلاقي للشعب العربي الذي يرى في تلك المبادرات غطاءً للهيمنة وتحقيق مصالح الدول الغربية دون مراعاة الخصوصية الثقافية للمجتمعات العربية. كانت لحقبة التنوير انعكاسات وتداعيات كبيرة على العالم العربي في القرن التاسع عشر، حيث كانت لها تأثيرات على المفكرين العرب أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي، حيث قاموا بمبادرات التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، كما أنهم كانوا أكثر شفافية في التعاطي مع واقع الحياة في ظل حضور غربي متنام في المنطقة العربية استمر عقودا من الزمن من خلال تواجد استعماري قاس امتد لأكثر من قرن من الزمان، وبموازاة التطور في الفكر السياسي سواء القومي أو الديني في المنطقة العربية، ظل الإعلام العربي حبيس حالة عدم اليقين الناجمة عن إخفاق النخبة المثقفة والنخب السياسية والاجتماعية الحاكمة في الوصول إلى صيغة مشتركة تحفظ الأمة من خلالها هويتها وديمومتها. إن "دمقرطة" المجتمعات العربية وفق النموذج الغربي كسبيل وحيد للتطور والرقي وكذلك أطروحات الإصلاح لم تكن سوى شعارات مهذبة لتحقيق أهداف مبيتة تمتد مرجعياتها خارج المنطقة العربية، كما تركت حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر الباب مفتوحا على مصراعيه أمام فوضى إعلامية في المنطقة العربية بسبب غياب المهنية والحرفية وغياب رؤية ثقافية وسياسية واضحة لوسائل الإعلام التي أصبحت في ظل ثورة الاتصال والمعلومات مجرد هياكل مبهرة في مظهرها وخاوية في جوهرها. وسائل ذابت في معظمها في ثقافة الاستهلاك والتسطيح والتهميش والتقليد والتبعية التي أصبحت من مظاهر وسمات العولمة، لكن رغم ما يقال عن سلبية النظام الإعلامي العربي فإن هناك أمامه إمكانات جمة لتدارك الوضع والتحول من السلبية إلى الإيجابية ومن رد الفعل إلى الفعل. فالإعلام العربي قادر على التطور والازدهار سواء على مستوى الأداء التكنولوجي أو الخطاب الثقافي والسياسي أو التأثير في الجماهير طالما أن هناك إرادة لاستدراك الوضع والنهوض بعزيمة أكثر خاصة إذا أقبل المثقفون العرب على تقديم قراءة مستنيرة للتراث العربي الإسلامي الأصيل وقيمه العظيمة، قراءة تستمد أسباب قوتها من قدرة الفكر الإسلامي على استيعاب معطيات العصر والتفاعل معها وإفراز نماذج فعالة في الممارسات السياسية والثقافية، كما أنها تجسد روح وهوية التراث الأصيل وفي نفس الوقت تستجيب لمتطلبات العصر. وهنا يجب التأكيد على مستويات التناغم بين الحكم الديمقراطي الرشيد والفكر السياسي الإسلامي السديد حيث يؤكد كل منهما على الحرية والمساواة والأخوة والكرامة الإنسانية ومحاربة التمييز والظلم والقهر وعلى التعايش السلمي واحترام الأديان والأعراق. ومن خلال التأكيد على هذه الأرضيات القيمية المشتركة، يمكن للإعلام العربي أن يؤسس لفضاء عام مبني على الحفاظ على الهوية باعتباره حقا مشروعا للمجتمع، وفي نفس الوقت يعمل على مد جسور التآلف مع النظم الاجتماعية والثقافية الأخرى في العالم. ففي عصر العولمة، ستبقى الهوية الثقافية، وليس السياسية، للإعلام هي التي تنير معالم الطريق نحو مستقبل تتحقق فيه رؤية المجتمع حول ذاته الثقافية في إطار من الوسطية والتسامح وفي نفس الوقت تمّكن المجتمع من أن يكون عنصراً فاعلاً في الساحة الدولية استناداً إلى القيم الانسانية المشتركة التي يجسدها النهج الديمقراطي الرشيد والفكر الإسلامي السديد.
3775
| 17 فبراير 2018
التناقض الصارخ الذي نلاحظه في عصر التناقضات والتضليل والتزييف والكيل بمكيالين، هو أن فرنسا تسعى إلى دعم وتطوير علاقات التعاون والتبادل الاقتصادي والتجاري والثقافي والعلمي مع دول القارة السمراء، وتمارس ضغوطاً كبيرة على إيران بشأن ملفها النووي، وترفض في نفس الوقت الاعتراف بجرائمها في مستعمراتها السابقة. المسؤولون الفرنسيون يصرحون بأن التجارب النووية في الصحراء الجزائرية "نظيفة" ولم تعرّض السكان والبيئة للإشعاعات ولأي نوع من الأمراض والانعكاسات السلبية. هذا الموقف من قبل بلد "الحرية والمساواة والأخوة" يذكرنا بقانون فرنسي يّمجد الاستعمار ويثني على الإيجابيات التي قدمها للمستعمرات، ألم ينّظر جول فيري ويقول إن الله خلق نوعين من البشر، نوع يوجد في الشمال خُلق ليسيطر ويقود النوع الثاني من البشر الذي يوجد في الجنوب، وحسب نظرية المنظر الفرنسي للاستعمار، الأوروبيون خُلقوا ليستعمروا الشعوب الأخرى حتى يعلموها الحضارة والتمدن والتطور. في 13 فبراير من سنة 1960 نفذت فرنسا تفجيراً نووياً "اليربوع الأزرق" في منطقة رقان في أقصى جنوب غرب الصحراء الجزائرية، بلغت قوته 60 كيلو طن أي ما يعادل ثلاثة أضعاف قوة القنبلة التي ألقت بها الولايات المتحدة الأمريكية على هيروشيما في عام 1945، هذه القنبلة تلتها قنبلة "اليربوع الأبيض"، ثم "اليربوع الأحمر" حسب ترتيب الألوان الثلاثة للعلم الفرنسي، وفي الأخير اختتمت فرنسا جرائمها بالقنبلة الرابعة والأخيرة التي سميت بـ "اليربوع الأخضر"، تتلخص حصيلة الجرائم النووية الفرنسية في الجزائر في 57 تجربة نووية نفذتها فرنسا في ثلاث مناطق بجنوب الصحراء الجزائرية، منها أربع تجارب سطحية و13 تجربة في أنفاق باطنية و35 تجربة على مستوى الآبار و5 تجارب أخرى اُستعملت فيها مواد فتاكة محظورة دوليا، مسؤولية فرنسا في هذه الجريمة كاملة لا غبار عليها، ولا تحتاج إلى قرار إدانة، تجارب فرنسا النووية أدت إلى تلوث المنطقة برمتها في محيط 150 كيلومترا من موقع الانفجار، نفذت فرنسا بين سنة 1960 و1966 أكثر من 20 تفجيراً نووياً على الأراضي الجزائرية، وما يزيد على 40 تجربة نووية وهذا حسب تصريح العسكريين والخبراء الفرنسيين أنفسهم، هذه الجرائم تسببت في تلويث الغلاف الجوي والموارد الطبيعية وتفشي الأمراض كالسرطان والتشوهات الخلقية وغير ذلك. والجريمة الأكبر أن السلطات الفرنسية لا تريد الاعتراف بجرائمها كعادتها، ورفضت وترفض تسليم كل المعلومات إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وحتى الساعة ما زالت ملفات التفجيرات النووية الفرنسية سرية وغير متاوفرة للإطلاع عليها، حتى للمنظمات الدولية التي تشرف على المراقبة، وتجدر الإشارة هنا إلى أنه من الناحية القانونية تعتبر التفجيرات النووية الفرنسية في الجزائر جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. هل ستكفي التعويضات التي ستدفعها فرنسا لضحايا تجاربها النووية في منطقة رقان بجنوب الصحراء الجزائرية؟ وهل ستشمل كل الضحايا الحاليين والمرتقبين مستقبلا؟ ولماذا هذا التأخر الذي فاق خمسة عقود من الزمن؟ وأين وسائل الإعلام من هذه الفضائح؟ وأين هي منظمات وجمعيات حقوق الإنسان وهيئات حماية البيئة؟ أين هو الطرف الجزائري للمطالبة بحقوق الضحايا بملفات وإحصائيات ودراسات قانونية؟ أين هي خريطة التجارب وتفاصيلها؟ وأين هي الهيئة الدولية للطاقة للوقوف على ما حدث؟ أسئلة كثيرة وتناقضات عديدة عشية الكلام عن مشروع قانون فرنسي لتعويض ضحايا رقان، مشروع جاء في الساس لتعويض أفراد الجيش الفرنسي المتضررين من التجارب. ما زالت تداعيات وآثار الاستعمار الفرنسي في مستعمراتها السابقة حاضرة حتى الساعة، وما زالت مشكلات الحدود وأزمة الهوية والخلل الاقتصادي والتبعية الثقافية تحاصر العديد من الدول التي عانت من مآسي الاستعمار والظلم والعبودبة. فرنسا تخلت عن مستعمراتها وتركتها في دوامة من التبعية ومن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، كما فشلت فرنسا في وضع إستراتيجية جديدة للتعامل مع مستعمراتها وخطة عمل تتماشى مع المعطيات الجديدة في العالم. هذا الوضع فتح المجال أمام قوى فاعلة في النظام الدولي كالولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا للاستفادة من الفراغ الفرنسي في القارة السمراء. الغريب والعجيب في الأمر أن فرنسا وبعد مرور ما يزيد على أربعة عقود من جرائمها في مستعمراتها السابقة ما زالت مصممة على عدم الاعتراف بما فعلته وعلى عدم الاعتذار، ومن جهة أخرى تصر على المحافظة على نفوذها في مستعمراتها والاستفادة من الامتيازات والتسهيلات والمجاملات في التعامل. للتذكير فقط، قصة فرنسا مع الجرائم النووية لم تخص الجزائر فقط وإنما بولينيزيا الفرنسية عاشت نفس الويلات والتجارب، المنظومة الدولية اليوم بحاجة إلى دراسة مشاكل التجارب النووية بهدف الوصول إلى آليات عملية من شأنها أن تضع المجتمع الدولي أمام مسؤوليات لمعالجة التداعيات والانعكاسات الخطيرة التي عانت وتعاني منها المناطق التي شهدت وعاشت تلك الجرائم النووية. فالعالم بحاجة لمعرفة هذه الجرائم ومن واجب القانون الدولي معاقبة المجرمين وإرغامهم على دفع التعويضات والقيام باللازم من أجل التخلص من الترسبات والملفات الناجمة عن تلك التجارب وكذلك الأوبئة والأمراض والتلوث البيئي. تمثل التجارب النووية في العالم إشكالا مهما جدا، لكن لكونه يهم المغلوب على أمرهم ويحرج الدولة المستعمرة سابقا والقوى الفاعلة في النظام الدولي حاليا ويضعها أمام مسؤولياتها وأمام الجرائم التي ارتكبتها، فإنه لم يحظ بالاهتمام اللازم سواء من قبل وسائل الإعلام العالمية أو المنظات الدولية، فمن حق الجزائر ومن واجب الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن تفرض على فرنسا تقديم خريطة التفجيرات بالتفصيل ومساعدة الجزائر تقنيا ولوجستيا وماديا لمعالجة الأضرار ومواجهة الموقف و تذليل مخاطر الإشعاعات، على فرنسا كذلك دفع تعويضات للجزائر وللمتضررين من الجرائم النووية التي ارتكبتها، المنطقة التي شهدت التجارب النووية بحاجة إلى دراسة للوقوف على الأضرار وتحديد السبل والوسائل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. مشكلة التجارب النووية في العالم وخاصة تلك التي أُجريت من قبل القوى الاستعمارية الغاشمة تحتاج إلى شبكة دولية تضم هيئات ومنظمات وجمعيات تهتم بالآثار السلبية والانعكاسات المختلفة على الإنسان والبيئة والمحيط. على المجتمع الدولي، كذلك الاهتمام بالموضوع والعمل على إدارة هذه المناطق التي تعاني من التلوث الإشعاعي النووي بكل مخاطره على الإنسان والحيوان والمكان ولآلاف السنين. أين الضمير الإنساني ومنظمات حقوق الإنسان وحماية البيئة؟
2185
| 03 فبراير 2018
في 17 من ديسمبر 2010 أضرم الشاب التونسي، محمد البوعزيزي، النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد، احتجاجًا على مصادرة شرطية عربته التي كان يبيع عليها الفاكهة والخضراوات، هذه الحادثة كانت شرارة انطلاق ثورات "الربيع العربي" التي اجتاحت خمس دول عربية. البوعزيزي كان المحرك الرئيسي لاندلاع الثورة في تونس، التي أتت نجاحاتها السياسية متمثلة في الحريات وفي انتخابات 2011 التي أفرزت دستور 2014 الذي يعتبر قد نال رضا الشعب التونسي. ونجحت تونس الثورة في كسب معركة الحريات وضمنت بدستورها وقوانينها حريات تمثل نموذجا في المنطقة. كما نالت عبر نقل السلطة بانتخابات نزيهة وشفافة، استحسان المتابعين. هذه النجاحات والإنجازات لم توازيها مع الاسف الشديد نجاحات على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي مما دفع بالشباب التونسي في ذكرى ثورة الياسمين للخروج في احتجاجات في مناطق عديدة من البلد تطالب بتوفير فرص العمل والقضاء على الفساد والاقتصاد الموازي والمحسوبية والجهوية وتهميش المناطق المعزولة. نجحت تونس بعد الثورة في تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية رغم محدودية الإقبال عليها، وقد قبل الشعب التونسي بنتائجها وهو ما حقق للبلاد نوعا من الاستقرار مقارنة ببقية الأقطار العربية في هذه المرحلة من تاريخ الأمة. في المقابل يلاحظ المختصون خيبات أمل كثيرة في أوساط الشباب والفئات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة، الذين كانوا وراء المد الثوري الذي أطاح بنظام بن علي لاعتبار أن المطالب الثورية التي رفعت بحناجر شباب الثورة من أجل الحصول على منصب شغل ومعيشة كريمة. وحسب المختصين فإن الأوضاع الاجتماعية لدى الفئات المتوسطة تراجعت فلم تعد هناك طبقة متوسطة كما اتسعت طبقة الفقراء، ومستوى التوظيف تراجع، إذ زاد عدد المعطلين عن العمل، الشيء الذي أدى إلى عزوف الشباب عن العمل السياسي بل العزوف عن المشاركة في الشأن العام عموما، وأعلن المعهد الوطني للإحصاء في تونس، عن نسب البطالة حسب الولايات بالنسبة للثلث الثاني لسنة 2017. واِحتلت ولاية تطاوين المرتبة الأولى من حيث زيادة البطالة بـ 32.4 %، تليها ولاية قفصة بـ 27.3 %، ثم قابس بـ 25.8 %، أما ولاية المنستير، فقد احتلت المرتبة الأخيرة بـ 6.1 %. ومن جهة أخرى فقد بلغ عدد العاطلين عن العمل من حاملي الشهادات العليا حوالي 2506 في الثلث الثاني من سنة 2017 مقابل 259،6 ألف في الثلث الأول لسنة 2017، وبذلك تقدر نسبة البطالة على التوالي بـ%30.3 و%31.2. من أهم التحديات التي واجهتها تونس في فترة ما بعد الثورة وتواجهها إلى حد الساعة هي الملف الاقتصادي، أدى التفاعل بين النخب التونسية والجهات المانحة الدولية إلى توجيه البلاد نحو برنامج إصلاح اقتصادي يدِّعي معالجة آثار انتشار الدولة الاستبدادية — المحسوبية والفساد وعدم الكفاءة — لكنَّه لا يعالج بشكلٍ كافٍ الآثار التي ترتَّبت على اهمالها. وهذا يترك الحكومة التونسية عالقة بين أجندةٍ اقتصادية تُركِّز على تنفيذ تعليمات صندوق النقد الولي ومطالب محلية بالعدالة الاجتماعية. لكن الأهم أنَّه ترك الدولة التونسية غير قادرة، هيكلياً أو سياسياً، على إصلاح تلك المشكلات في اقتصادها التي تسبَّبت فيها سياسة الانقسام والاهمال المتعمد. وهذا ما أدى إلى انتشار ونمو الاقتصاد الموازي انتشاراً مطرداً في السنوات الأخيرة؛ لأنَّ فرص العمل الرسمية لم تكن قادرة على مواكبة زيادة طالبي العمل. ويُنتج هذا الاقتصاد الموازي أكثر من ثلث الناتج المحلي الاجمالي بتونس، إضافةً إلى أنَّه المصدر الرئيسي الذي يوفر فرص العمل للشباب التونسي. في الواقع، يُوظِّف الاقتصاد الموازي نحو 60 % من الرجال العاملين و83 % من النساء العاملات دون سن الأربعين. وفي حين تبرز وظائف الاقتصاد الموازي، بصورةٍ غير متناسبة، في كلٍ من المناطق الجنوبية والداخلية، فإنَّها منتشرة بجميع أنحاء البلاد. وتتخذ هذه الوظائف أشكالاً متنوعة، من الباعة الذين يشغلون جوانب الطرقات أو الأسواق الأسبوعية، ومن مهربي البضائع عبر الحدود مع ليبيا والجزائر، ومقدمي الدروس الخصوصية أو المترجمين، إلى من توظفهم شركاتٌ رسمية دون توقيع عقود عمل. ومع أنَّ العاملين في الاقتصاد الموازي يمتنعون غالباً عن دفع ضرائب الدخل أو الحصول على سجلٍ تجاري، فإنَّهم غالباً أيضاً ما یدفعون رسوماً رسمیة (كرسوم السوق، وهي التكلفة الاجمالية المرتبطة بتسليم البضائع أو الخدمات إلى الزبائن) أو رسوماً غیر رسمیة (كالرشى) إلی وکلاء الدولة. بالنظر إلى هذا السياق، فإنَّه من الغريب ألا يكون هناك في الفترة التي تلت الثورة التونسية سوى جهود ضئيلة تهدف إلى وضع برنامج إصلاحي يساعد أولئك الذين يعملون في القطاع غير الرسمي. لا توجد استراتيجية وطنية متماسكة بشأن هذه المسألة، ومعظم السياسيين غير واعين لما يحدث على نحوٍ مثير للصدمة، ويحصرون هذه المشكلة في التهرب الضريبي. وقد يكون ذلك بسبب عدم وجود حل سريع للمشكلة كما تبيَّن من تجارب بلدانٍ أخرى، فإصلاح الاقتصادات الموازية يتطلب نهجاً متعدد الأبعاد، يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من إصلاحات سوق العمل والضرائب الأوسع نطاقاً. بين يناير 2011 و2018، 7 سنوات انقضت على اندلاع الثورة التونسية، وما بين التاريخين، تتأرجح مشاهد الاحتجاجات والمواجهات العنيفة بمختلف الشوارع والمدن، غير أن القاسم المشترك بين الزمنين؛ يظل استمرار الفقر والبطالة في المناطق الداخلية المعزولة، رغم محاولة الحكومات المتعاقبة تطبيق "التمييز الإيجابي" لصالح هذه المناطق. ويمكن تلخيص أهم ما أخفقت تونس في تحقيقه بعد 7 سنوات من «ثورة الياسمين" الفقر ونقص البرامج التنموية والبطالة وعدم القدرة على محاربة الاقتصاد الموازي. فتونس اليوم تتخبط في أزمة اقتصادية خانقة رغم محاولتها بعد الثورة الخروج منها، إلا أن الوضع تأزم أكثر بسبب الاحتقان السياسي والضربات التي وجهها الإرهاب لقطاعها السياحي، الذي يمثل احدى ركائز اقتصادها، قبل أن ينتعش نسبيا في 2017. كما أن الاحتجاجات أضرت كثيرا بالقطاعات الرئيسية لاقتصاد البلاد، من جهة أخرى يلاحظ المختصون استمرار تفشي الفساد فبعد 7 سنوات، ورغم إعلان الحكومة بقيادة يوسف الشاهد، الحرب على الفساد، إلا أن قناعة راسخة تتملك التونسيين حتى اليوم بأن مشكلة الفساد لم تعالج بطريقة منهجية وعلمية وصارمة.
1563
| 20 يناير 2018
تثير ممارسات الإعلام العربي هذه الأيام الكثير من التساؤلات والملاحظات حول القيم والمبادئ والأخلاق المتعارف عليها في مهنة المتاعب سواء محليا أو دوليا. فهل هذا الإعلام وُجد لتبرير الأخطاء وتشريع الفساد والاستبداد والظلم وشيطنة الأخر والتشويه والتضليل والتعتيم؟ أم أن لديه مسؤوليات ومهام أشرف وأنبل. من دون أدنى شك العالم العربي بحاجة إلى إعلام حر قوي وفعال وبحاجة إلى إعلاميين أكفاء ومؤهلين للقيام بدورهم الاستراتيجي في المجتمع على أحسن وجه. هذا يعني أن المؤسسة الإعلامية والصحافي بحاجة إلى مناخ ديمقراطي وإلى قوانين شفافة وواضحة تحمي المهنة والصحفيين من أصحاب النفوذ السياسي والمالي والانتهازيين والمستبدين، الذين يستعملون المنابر الإعلامية لفرض أجندتهم وأفكارهم ضاربين عرض الحائط مقومات الإعلام النزيه والمسؤول والملتزم. فلماذا لا تكون المؤسسة الإعلامية في الوطن العربي مؤسسة مسؤولة وحرة وفاعلة تساهم في البناء من خلال الكشف عن الحقائق وتوفير منابر للرأي والرأي الآخر. لماذا لا تُعطي المؤسسة الإعلامية الإمكانيات اللازمة حتى تلعب دورها الاستراتيجي والفعال في المجتمع، لماذا يُنظر دائما للمؤسسة الإعلامية على أنها خطر ومصدر مشاكل عديدة ومتنوعة للسلطة؟ لماذا لا يحظى الصحافي بالثقة ولا يعطى الوسائل والظروف اللازمة حتى يؤدي رسالته على أحسن ما يرام ويقوم بمهمة الإعلام والإخبار والتحقيق والكشف عن النقائص والتجاوزات والسلبيات والأمراض الاجتماعية بمختلف أنواعها وأشكالها ومهما كان صاحبها ومصدرها بكل حرية ومسؤولية وشجاعة. والغريب في الأمر أن في الكثير من الدول العربية نجد القادة وكبار السياسيين وأصحاب السلطة والنفوذ يتغنون بحرية الصحافة ويطالبون بالحاجة الماسة إليها ودورها الاستراتيجي في المجتمع وهم من الأوائل الذين يعملون على تكميم وتقييد المؤسسات الإعلامية والسيطرة عليها بمختلف الطرق والوسائل والأساليب والآليات.. تعتبر حرية الصحافة والديمقراطية وجهين لعملة واحدة، فلا نظام ديمقراطي بدون منظومة إعلامية قوية وفاعلة ومشاركة في الحياة السياسية وعملية اتخاذ القرار. وأهم العراقيل التي تقف حاجزا أمام حرية الصحافة في معظم الدول العربية و الدول النامية القوانين الجائرة و الصارمة التي تحد من إبداع الصحافي ومن عطائه، أضف إلى ذلك أن معظم قوانين النشر و المطبوعات و تشريعات الصحافة تفرض على القائم بالاتصال ممارسة الرقابة الذاتية أو الحذف الذاتي و هكذا تصبح الآلة الإعلامية عالة على المجتمع بدلا من أن تكون عنصرا فعالا تسهم في محاربة الآفات الاجتماعية و تشارك في تنوير الرأي العام و إشراكه في الحسم في القضايا المهمة و العديدة في المجتمع و هكذا تصبح المؤسسة الإعلامية حبيسة مكبلة في يد القلة الحاكمة التي تجعل منها المنظر لشرعيتها ولقراراتها و سياساتها سواء كانت صائبة أم مخطئة و المشرع لبقائها و استمرارها. . حرية الصحافة ترتبط كذلك بالكثير من المعطيات والمستلزمات التي يجب أن تتوافر في المجتمع ومن هذه المستلزمات فلسفة ونظرة السلطة والمجتمع لوسائل الإعلام، كذلك النضج السياسي والممارسة السياسية لدى الشعب، وكذلك وجود الجمعيات السياسية القوية وجماعات الضغط والمجتمع المدني والجمعيات بمختلف أنواعها وأشكالها. تكمن جدلية حرية الصحافة والديمقراطية أساسا في أن الأخيرة تقوم أساسا على الاتصال السياسي وحرية التعبير والفكر وصناعة الرأي العام التي تقوم على التدفق الحر للآراء والمعلومات والمعطيات، الأمر الذي لا يتحقق إلا بوجود إعلام يراقب وينتقد ويكشف ويحقق. فالأطراف الفاعلة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بحاجة إلى وسائط إعلامية ومنابر للمعارضة والاختلاف في الرأي، والتعبير عن وجهات النظر المختلفة...الخ. إن أي تراجع في حرية الصحافة يعني تراجع في الديمقراطية وتاريخ حرية الصحافة في العالم يؤكد فكرة التأثير المتبادل بين الديمقراطية والصحافة. فالأنظمة السياسية الدكتاتورية أو السلطوية لا يمكنها أن تفرز إلا صحافة بدون طعم ولا ذوق ولا هوية، صحافة تكون بعيدة كل البعد عن الشارع وعن واقع الجماهير العريضة في المجتمع. ونفس الشيء يمكن قوله عن تلك الأنظمة التي لا تؤمن بالتعددية الحزبية وبحرية الرأي والتعبير. فصحافة هذه الأنظمة تكون دائما أحادية الاتجاه تخدم من يشرف عليها ويمولها ويسيطر عليها. إلى متى تبقى قوانين النشر والمطبوعات وقوانين الإعلام في الوطن العربي جائرة ومستبدة؟ إلى متى تبقى هذه القوانين والتشريعات قوانين عقوبات وإجراءات تعسفية ضد الصحافي الذي لا حول ولا قوة له؟ فهذه القوانين كان من المفروض أن تنظر في الجهات التي تحتكر الكلمة والصوت والصورة للاستغلال والتزييف والتملق والتهميش وتعاقبها، هذه القوانين كان من المفروض أن تضع الخطوط الحمراء التي لا يجب أن تتجاوزها السلطة السياسية والمالية في التحكم والتلاعب في المؤسسات الإعلامية كما تشاء ووفق مصالحها وأهدافها. ما زالت السلطة في الدول العربية تنظر إلى المنظومة الإعلامية والمؤسسة الإعلامية على أنها أداة لتثبيت شرعيتها وبسط نفوذها وتمرير خطابها السياسي بعيدا عن طموحات الجماهير ومطالبهم. السلطة في الوطن العربي ما زالت بعد لم تستطع بناء المؤسسات اللازمة لضمان المشاركة السياسية الفاعلة ولضمان رأي عام قوي وفعّال. وكنتيجة حتمية لكل هذا فإنها فشلت كذلك في بناء نظام إعلامي إيجابي وفعال وليس سلبيا ومفعولا به، نظام إعلامي يؤمن بالاتصال الأفقي ويعمل على إشراك مختلف الشرائح الاجتماعية في العملية السياسية وفي اتخاذ القرار، نظام إعلامي همّه الوحيد هو كشف الأخطاء والعيوب وتقديم الحقيقة للرأي العام وليس التلميع والتملق والتنظير للسلطة السياسية والمالية. وما دام أن ثقافة الرقابة والرقابة الذاتية ما زالت سائدة ومنتشرة في ربوع الوطن العربي فلا مجال للكلام عن حرية الصحافة وعن السلطة الرابعة. الوطن العربي بحاجة إلى إعلام يكون وسيلة للحرية والعلم والمعرفة والتفكير والإبداع والاختلاف في الرأي ومنبر للسوق الحرة للأفكار؛ إعلام لا يكون وسيلة للسيطرة والتحكم والتلميع والتملق والتنظير والتلاعب والتضليل والتعتيم والتشويه. تحديات الألفية الثالثة كبيرة وجسيمة وتتطلب إعلاما قويا وصناعات إعلامية وثقافية قوية وفاعلة سواء على المستوى المحلي أو الدولي فحرية الصحافة هي أساس كل الحريات في المجتمع، وهي حجر الأساس لأي بناء ديمقراطي في المجتمع.
1540
| 13 يناير 2018
المتأمل هذه الأيام فيما يجري في المنطقة، يدرك أن هناك خطأ قاتلاً في عملية صناعة القرار واتخاذ إجراءات مصيرية بدون دراسة وبدون مشاورة، والنتيجة في نهاية المطاف تكون كارثية وآثارها في الكثير من الأحيان تبقى وصمة عار على الأمة بأسرها. فالاستبداد والتسلط والتفرد بالقرار يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. الثمن يكون غالياً والندم لا ينفع. تاريخيا القرار الذي نجم عن الحاكم المستبد المتسلط أدى إلى حروب وأزمات وصراعات خلفت وراءها ملايين الأرواح وخسائر مادية تقدر بالمليارات. الخاسر في نهاية المطاف هو الشعوب المغلوبة على أمرها، والتي في حقيقة الأمر لا تمثل سوى أرقام جوفاء لهؤلاء الطغاة. في أيامنا هذه نسبة كبيرة من القادة العرب يتعاملون مع قضايا البلاد والعباد والثروات والخيرات وكأنها ملكيتهم الخاصة، يفعلون بالشعوب ما يشاؤون ويتصرفون في ثروات البلاد كما يريدون. كيف يصنع القرار في الدول المتقدمة والمتطورة والديمقراطية، وكيف يصنع في الدول العربية ودول العالم الثالث؟ وهذا هو السؤال الذي يجب أن يطرح لمعرفة فشل القرار ونجاحه. القرار الرشيد هو الذي يبنى على أساس علمي وتوفير المعلومة ووجهات النظر المختلفة والآراء المتضاربة والبدائل والسيناريوهات المختلفة …الخ. القرار إذا كان يهم الأمة يجب أن يرجع إلى هذه الأمة لمعرفة رأيها في الموضوع "وليكن الأمر شورى بينكم"، وهكذا نرى ونلاحظ في الدول المتقدمة استعمال مراكز بحث وخبراء وفنيين وفرق من الباحثين لتوفير كل المعلومات والمعطيات والإحصاءات، حتى تقدم كل السيناريوهات المحتملة والحلول الناجعة، حتى يتخذ فيما بعد القرار السليم. ونستنتج من هذا أن الرأي العام وبطريقة غير مباشرة يساهم في صناعة القرار، وكلما أشركناه كلما نجحنا في إرضائه أو الاقتراب من إرضائه واتخاذ القرار الرشيد والأمثل. وهنا نلاحظ أن صناعة القرار في الدول الديمقراطية هي علم وفن واستراتيجية تطبق بتقنياتها ومناهجها المختلفة لتفادي الأخطاء والهفوات التي قد تكون في الكثير من الأحيان قاتلة وانعكاساتها فادحة ووخيمة. فالأمر إذا لا يتعلق بمزاج معين أو بنشوة عابرة، وإنما يتطلب دراسة وتحليلا واستراتيجية تقوم على أسس ومبادئ. وكلما ابتعدت صناعة القرار عن هذه المقومات، كلما كان القرار فاشلا لا يستجيب إلا لمن اتخذه، في وطننا العربي عادة ما يعتمد صانع القرار على بعض التقارير والمعلومات التي شكلت وصنعت وتمت “فبركتها" خصيصا لإرضاء السلطة وتلميع الأمور أمامها، وهذا يعني أنها تقارير ومعطيات خاطئة ومزيّفة، وهذا يعني أن القرار الذي يعتمد عليها سيكون بعيداً كل البعد عن الواقع. قد يتساءل المواطن العربي من المحيط إلى الخليج، هل من وجود للرأي العام في الدول العربية؟ وكيف يصنع ويشكل هذا الرأي العام إذا كان موجودا، وهل يقاس ويؤخذ بعين الاعتبار في اتخاذ القرارات التي تهم الأمة والمجتمع. الكلام عن الرأي العام يتطلب عنصرين هامين، وهما الديمقراطية وحرية الصحافة، وفي غياب هذين العنصرين يصبح الكلام عن الرأي العام بمعناه الجوهري والحقيقي، أي الرأي العام الفعال و الصحيح والناضج والقوي بدون جدوى ولا فائدة. فبدون أخبار ومعلومات ومعطيات معتبرة من الناحية النوعية والناحية الكيفية لا يستطيع الجمهور أن يتخذ موقفا واضحا ومبنيا على أسس سليمة بشأن القضايا التي تطرح يوميا على أفراد المجتمع وفي مختلف الشؤون والمجالات. و في الكثير من الأحيان تطرح قضايا جوهرية في المجتمع ويبقى الشعب المسكين تائها في اتخاذ موقف من القضية، لا لشيء إلا لأنه يفتقد للمعلومات ومكونات القضية وعناصرها، وهذا ينجم عادة عن انعدام التدفق الحر للمعلومات وللأخبار في ظل غياب حرية الصحافة. ومن جهة أخرى ولأسباب عديدة ومتداخلة نجد غياب وجهات نظر وأفكار جهات هامة ورئيسية في المجتمع حول القضية المطروحة، وهذا بسبب انعدام القنوات الحرة للتعبير عن الرأي. وهنا نستنتج أن القنوات السليمة والصحيحة التي تكوّن وتشّكل وتصنع الرأي العام مغيبّة تماما في معظم مجتمعاتنا العربية، وهذا يعني أن فاقد الشيء لا يعطيه. الدرس الذي نستخلصه من عقم الرأي العام العربي هذه الأيام، هو أن الشارع العربي مهمّش ومغيّب في الكثير من القرارات المصيرية والجوهرية التي تتخذ بشأنه، وفي الكثير من الأحيان يكون هو آخر من يعلم بها. وفي ظل هذه الآليات المتخلفة وغير المنهجية في صناعة القرار وغياب التفاعل الديناميكي والحركي والإيجابي مع الشارع يتعذر مهما اجتهد صانع القرار ومهما عمل على النجاح والاستجابة المثلى لمتطلبات المجتمع وتبقى عملية الاستغلال الأمثل للثروات البشرية والثروات المادية أمراً صعب المنال. فقنوات الاتصال بين السلطة والشعب وبين السلطة والهياكل السياسية المختلفة ضرورية جدا لإيجاد بيئة صحية يسود فيها الحوار والنقاش من أجل تفاهم أكثر ومن أجل اتصال فعّال يقضي على كل مواطن الالتباس والمغالطة والتهميش والإقصاء. إشراك الشارع في العملية السياسية والممارسة السياسية، وبذلك إشراكه في صناعة القرار هو السبيل الأمثل للقضاء على الفجوة القاتلة بين طموحات الشارع وقرارات السلطة. متى سيحدث التناغم والتناسق بين الطرفين؟ ومتى سيتخطى الشارع العربي مرحلة الفلكلور ويصل إلى مستوى التأثير والفعل؟
1124
| 06 يناير 2018
المتأمل هذه الأيام فيما يجري في المنطقة يدرك أن هناك خطأ قاتلا في عملية صناعة القرار واتخاذ إجراءات مصيرية بدون دراسة وبدون مشاورة والنتيجة في نهاية المطاف تكون كارثية وأثارها في الكثير من الأحيان تبقى وصمة عار على الأمة بأسرها. فالاستبداد والتسلط والتفرد بالقرار يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، الثمن يكون غاليا والندم لا ينفع. تاريخيا القرار الذي نجم عن الحاكم المستبد المتسلط أدى إلى حروب وأزمات وصراعات خلفت وراءها ملايين الأرواح وخسائر مادية تقدر بالمليارات. الخاسر في نهاية المطاف هي الشعوب المغلوب على أمرها والتي في حقيقة الأمر لا تمثل سوى أرقام جوفاء لهؤلاء الطغاة. في أيامنا هذه هناك نسبة كبيرة من القادة العرب يتعاملون مع قضايا البلاد والعباد والثروات والخيرات وكأنها ملكيتهم الخاصة يفعلون بالشعوب ما يشاؤون ويتصرفون في ثروات البلاد كما يريدون. يا ترى ما هي علاقة الشارع العربي بصناعة القرار السياسي؟ وهل هناك رأي عام عربي؟ وإلى أي مدى يستطيع الشارع العربي أن ينتقل من مرحلة المظاهرات والمسيرات إلى مرحلة الفعل والتنفيذ. قبل سنوات استطاع الشارع الفنزويلي أن يرجع الرئيس هوغو شافيز إلى الحكم واستطاع هذا الشارع أن يُفشل خطة المرتزقة ومن ورائهم دول معروفة في مهارتها في تدبير الانقلابات والإطاحة بالدول التي تختلف معها أيديولوجيا وسياسيا. وقبل سنوات استطاع الشارع الفلبيني أن يرغم الرئيس جوزيف استرادا على التخلي عن الحكم وأن يقدم للعدالة بسبب تورطه في عمليات رشوة وفساد مالي وسوء إدارة لشؤون البلاد والعباد في الفلبين، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو متى يصبح الشارع العربي قوة تنجب الأفعال ومتى يقضي هذا الشارع على تلك الفجوة القاتلة بينه وبين الحكام حيث نلاحظ أن الشارع في صوب والسلطة في صوب معاكس تماما. وفي بعض الأحيان نلاحظ أن الشارع ما هو إلا عبارة عن فلكلور شعبي يخترق ويستخدم من القوى الفاعلة في المجتمع لتحقيق مصالح هذه الحفنة المسيطرة على الشؤون السياسية والمالية في البلاد، وفي أحيان أخرى يستعمل للترفيه والتسلية ولأحلام اليقظة، وتارة يستعمل انطلاقا من مبدأ أن "الكلاب التي تنبح لا تعض". فالشارع العربي لم يرق بعد إلى درجة القوى المضادة التي تراقب وتعارض وتفرض إرادتها على السلطة، فالملاحظ أن هذا الشارع ورغم أنه يمثل الرأي العام ويمثل عفوية الجماهير والفئات العريضة من المجتمع والإرادة البريئة الطاهرة النقية لملايين البشر إلا أن تجسيد هذه الإرادة في الفعل السياسي وفي القرار السياسي يقع في خانة المستحيل والعقم. فقبل أن نتطلع إلى رأي عام عربي فاعل يجب أن نستفسر عن متطلبات ومستلزمات فاعلية الرأي العام في المجتمع. ما هي يا ترى مكانة الفرد في العملية السياسية؟ هل من مؤسسات سياسية فاعلة في الوطن العربي؟ كيف يصنع القرار في الدول العربية؟ ماذا عن الحريات الفردية وحرية الفكر والرأي وحرية الصحافة والتعبير والتجمع…إلخ. وبالإجابة على هذه الأسئلة نستنتج أن الفرد في العالم العربي هو مجرد رقم وأن معظم المؤسسات التي تمثله نجدها تفتقد لمفهوم المؤسسة ولمفهوم المجتمع المدني. ومن هنا نجد أن السلطات المضادة Les Contras Boudoirs تنعدم تماما في المجتمع وبذلك يصبح الفعل السياسي يسير في اتجاه واحد تنعدم فيه السوق الحرة للأفكار ويغيب عنه الرأي الآخر وتقمع فيه الحريات وبذلك يتدهور الأداء السياسي وينحط القرار السياسي إلى أدنى مستوى. نتساءل هنا كذلك على الطريقة التي وصلت بها الأنظمة العربية إلى الحكم؟ ونتساءل كذلك عن شرعية هذه الأنظمة؟ وفي غالب الأحيان نجد أن هذه الأنظمة فرضت نفسها على الواقع السياسي وجاءت بدون الرجوع إلى الإرادة الجماعية في المجتمع إلا نادرا وبذلك لا شرعية توجد ولا مرجعية جماهيرية تربط الحاكم بالمحكوم. فالرأي العام يمثل أساس السلطة في عصر ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال وعصر الصراع المحتدم على من يملك المعلومة والمعرفة، والرأي العام يلعب دورا إستراتيجيا في المجتمعات الديمقراطية، وتزايدت أهميته في عصرنا هذا حيث إنه أصبح يمثل المرجعية الأساسية في صناعة القرار وفي الفصل في الكثير من القضايا الحساسة والمصيرية. فالرأي العام هو السلطة الحقيقية التي تعتمد عليها الدولة في تجسيد شرعيتها وتثبيت وجودها سواء على الصعيد المحلي أو الدولي. وكلما اعتمدت السلطة على الرأي العام ورجعت إليه في معالجة القضايا المطروحة في المجتمع كلما نجحت في تدبير أمورها وفي كسب رضا الشارع. فالرأي العام إذن هو الوجه الآخر للديمقراطية وحرية الصحافة حيث إنه يتفاعل ويتأثر ويؤثر في كل منهما. فالديمقراطية التي لا تعتمد على الرأي العام لا تستطيع أن تكون كذلك، والصحافة الحرة التي لا تشكل وتكوّن الرأي العام وتؤثر فيه وتتأثر به لا نستطيع أن نسميها صحافة حرة وفاعلة. وفي كل ما تقدم نسأل ما هي العلاقة الموجودة بين السلطة العربية والشعب العربي "الرأي العام" في التعامل مع القضايا المصيرية والهامة خاصة القضايا التي تمس مشاعر وأحاسيس ومصالح الشعب مباشرة؟ وهنا نلاحظ أن الرأي العام العربي مهمش تهميشا كبيرا في الكثير من القضايا التي تهّمه من قريب أو بعيد. وإذا أخذنا ما يجري هذه الأيام في الأراضي الفلسطينية المحتلة وما نجم عنه من مسيرات ومظاهرات شعبية حاشدة من الخليج إلى المحيط كمثال على علاقة السلطة بالرأي العام نلاحظ الفجوة القاتلة ما بين الشارع والسلطة ونلاحظ عقما مأساويا وعدم فاعلية الإرادة الشعبية والمرجعية الأساسية في المجتمع. وهذا ما يؤدي إلى فقدان الثقة والمصداقية وإلى القطيعة ما بين الشارع والسلطة.
853
| 30 ديسمبر 2017
في مقال سابق، تكلمنا عن اغتراب وتهميش وإقصاء المثقف العربي الذي أصبح دوره مشلولا في المجتمع، وأصبح ينظر ويبرر للفساد والاستبداد والاستعباد. غياب المثقف أدى إلى غياب الشارع ما يعني غياب المواطن العربي عن الفضاء السياسي وتقرير مصيره والمساهمة في صناعة القرار. فما تقوم به بعض الدول العربية هذه الأيام من غطرسة وتدخل سافر في الشؤون الداخلية لدول أخرى رغم رفض شعوبها لهذه التصرفات، ما هو إلا دليل قاطع على الهوة الكبيرة بين صانع القرار والشعب. غياب الرأي العام يعني غياب الآليات السليمة والصحيحة والصحية والرشيدة للماكينة السياسية الديمقراطية. وإذا غاب الرأي العام غاب الرأي الآخر وغاب الحوار وغابت السوق الحرة للأفكار. ما نلاحظه مع الأسف الشديد هو وجود فجوة كبيرة بين السلطة والشارع العربي، بين الحاكم والمحكوم، بين صانع القرار وآليات ومكانيات صناعة القرار في الوطن العربي. قرارات هامة ومصيرية وإستراتيجية تؤخذ باسم الشعب العربي وهو آخر من يعلم. وفي غالب الأحيان نلاحظ أن الشارع العربي - إذا كانت لديه الشجاعة أن يكشف عن موقفه – في اتجاه والسلطة في الاتجاه المعاكس تماما. وأخطر من هذا نلاحظ أن بعض القادة والحكام العرب يصرحون علنا ومن خلال وسائل الإعلام بشيء ويتفقون مع قادة دول عظمى في الكواليس على أشياء مختلفة تماما، فهناك خطاب للاستهلاك الإعلامي وللتمويه والتضليل، وهناك خطاب آخر لإرضاء القوى التي تدير العالم أمثال الرئيس ترامب وعصابته. هذا الخطاب المزدوج يؤدي إلى ثقافة سلبية في المجتمع تقوم على النفاق والسلبية وتفرز سلوك الاستسلام والهروب من المسؤولية. النتيجة في النهاية هي انعدام السلطات المضادة في المجتمع وانعدام المجتمع المدني وانعدام المؤسسات والكيانات التي تراقب السلطة وأجهزتها، وتراقب القوى التي تقود وتدير المجتمع. هذه القوى قد تحكم وتدير لخدمة مصالح فئة ضيقة جدا من المجتمع على حساب مصالح الأمة بكاملها ومصالح الفئات العريضة من المجتمع. أسئلة عديدة تفرض نفسها في العالم العربي تتمحور أساسا حول موقع المواطن العربي في المعادلة السياسية، وهل من دور لهذا المواطن في اللعبة السياسية وفي صناعة القرار. هذه الإشكالية تتطلب الغوص في مسائل أخرى ترتبط بآليات الرأي العام في المجتمع وبوجود الرأي العام كمتغير من متغيرات المعادلة السياسية في أي دولة. وهنا يجب أن نحدد آليات اللعبة السياسية وتوزيع السلطة وصناعة القرار. وإذا عدنا إلى التاريخ وحاولنا استقراءه والغوص في خباياه نجد أن الشارع العربي لم يكن في أي يوم من الأيام موافقا على عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني. فالشعب المصري على سبيل المثال، وبعد ما يزيد على ما يقارب الأربعين سنة من إقامة مصر علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني ما زال يرفض أي نوع من التعاون مع الكيان الصهيوني، وما يقال عن مصر يقال عن الأنواع والأشكال المختلفة من العلاقات والاتصالات وحتى المصافحات التي تمت بين القيادات العربية والصهاينة. لكن رغم هذا حدث ما حدث ولم يقرأ ويدرس ويحلل الشارع العربي كما ينبغي لمعرفة الواقع كما هو والرجوع إلى الشارع في عملية صناعة القرار. وفي كل ما تقدم نسأل: ما هو التقارب الموجود ما بين السلطة العربية والشارع العربي - الرأي العام - في التعامل مع القضايا المصيرية والهامة، خاصة القضايا التي تمس مشاعر وأحاسيس ومصالح الشعب مباشرة..؟ ومع الأسف الشديد وللوهلة الأولى نلاحظ أن الرأي العام العربي مغيب بطريقة منهجية ومنتظمة في الكثير من القضايا التي تهمه من قريب أو بعيد. وإذا أخذنا قضية غزو العراق كمثال على علاقة السلطة بالرأي العام في صناعة القرار نلاحظ أن الشارع العربي والرأي العام العربي في اتجاه والسلطة العربية في اتجاه آخر، ونلاحظ هنا عدم تناسق الشارع مع صانع القرار وإلا أين رد فعل السلطة، وما هي الإجراءات التي اتخذت حتى تتساوى الدبلوماسية العربية والسياسة العربية مع الشارع العربي. السلطة في الوطن العربي ذهبت إلى أبعد من أنها تتجاهل الرأي العام، إنها قامت بقمعه وإسكاته وفي الكثير من الأحيان بصناعته وتشكيله وفبركته حتى يتناغم ويتوافق مع سياستها وإرادتها. ففي أحيان عدة نلاحظ التناقضات الصارخة بين الشارع وصاحب القرار، وعادة ما نجد الرأي العام يتخذ موقفا ضد قرار السلطة والسلطة تتباهى وتتفنن في تطبيق القرار، وفي بعض الأحيان تتفنن في قمع الرأي العام وإسكاته وتكميمه وسجنه وينتهي الأمر في بعض الأحيان إلى منع أي هيكل أو مؤسسة تنظيمية أو سياسية أو اجتماعية تختلف في الرأي مع السلطة. الظاهرة الخطيرة التي تتفشى في العالم العربي هي ظاهرة الرأي العام "المفبرك" أو المنافق، حيث إنه لا يعبر عن حقيقة وواقع الرأي العام، ويصبح رجل الشارع يدلي بآراء وأفكار ووجهات نظر غير مقتنع بها أساسا، وإنما يقولها لإرضاء السلطة لا غير، وفي هذه الحالة نكون قد وصلنا إلى مرحلة خطيرة جدا وهي الانتحار الذاتي أو أننا أدركنا مجتمعا لا يؤمن بما يقول، ومجتمعا مبنيا على النفاق. وسواء في غياب الرأي العام الحقيقي الواقعي أو في ظل وجود رأي عام منافق فإن السلطة لا تستطيع أن تتفاعل مع المجتمع ومع الشعب "السلطة الحقيقية"، وهنا تقل آليات التفاهم والاتصال الحقيقي الذي يؤدي إلى التفاعل الفعال بين السلطة والشعب والاستغلال الأمثل للموارد البشرية والمادية المتوفرة في المجتمع. ونختم بالقول "إن الأنظمة العربية لا تجرؤ على إنشاء مراكز سبر آراء أو تسمح بإنشاء مثل هذه المراكز، لأنها بكل بساطة تخاف من نتائجها وتنكشف الحقائق التي تغّيب بطرق وسبل لا يعرفها إلا صانعو الرأي العام المزيف".
3893
| 23 ديسمبر 2017
ظهرت في بداية التسعينيات اتجاهات فكرية غربية تبشر بتغيرات إيجابية في الاتصال السياسي في العالم العربي كنتيجة لانتشار التكنولوجيات الحديثة للاتصال والإعلام والمعلومات التي أفرزت فضاء عاما أكثر ديمقراطية وأكثر مشاركة ومساهمة في مناقشة قضايا الشعب والمجتمع والشأن العام. تميزت هذه الأطروحات في مجملها بانحيازها للجهود التي تقوم بها الدول الغربية لإحداث التغيير والإصلاحات الديمقراطية في منطقة تحكمها منذ زمن بعيد أنظمة سلطوية. يستحيل الكلام عن فضاء عام عربي خارج إطار حدود التنمية المستدامة والمشاركة السياسية الديمقراطية والعادلة في المجتمعات العربية. يرى بعض المحللين أن "الإسلاموقراطية" كمبدأ وكمفهوم هو السبيل الأمثل لتحقيق الفضاء العام العربي الجديد والذي يقوم على القيم الأخلاقية الإسلامية والممارسات السياسية المعاصرة. المبدأ الجديد يحقق الاتصال البيني بين الدول العربية نفسها ويجسد الحوار بينها وبين الثقافات المختلفة في العالم. يلعب الإعلام العربي دورا محوريا في إثراء الفضاء العام من خلال تعزيز الهوية الثقافية والمشاركة السياسية في المجتمعات العربية، كما أنه لا يمكن البحث عن إطار واضح المعالم لإعلام عربي بهوية متماسكة دون التأسيس لنظرية اجتماعية وسياسية تقوم على النسيج القيمي العربي الإسلامي والتقاليد المعاصرة في المشاركة السياسية والاجتماعية في إطار مجتمع مدني فعال وديناميكي، لأن الإعلام لا يعمل في فراغ، بل يجسد دائما الرؤى الفكرية والثقافية السائدة في المجتمع في إطار منظومة واضحة ومتكاملة تقوم على منهج متناسق ومتكامل يجمع ما بين الأصالة ممثلة في قيم الإسلام العظيمة، والمعاصرة ممثلة في ممارسات العمل السياسي الحديث. فبعد مرور أكثر من مائتين عام على حملة نابليون بونابرت على مصر، مازال العالم العربي يبحث عن رؤية توفيقية تجمع بشكل متناغم بين القيم والتقاليد العربية الإسلامية وبين الممارسات الغربية المعاصرة في شتى جوانب الحياة. البحث مازال قائما حتى الساعة بل زاد حدة مع بداية التسعينيات من القرن الماضي في ظل أفول الشيوعية ونهاية الحرب الباردة وهيمنة العولمة على مختلف جوانب الحياة في العالم العربي. الفضاء العام حسب هابر ماس ظاهرة إنسانية التداعيات رغم ارتباطها التاريخي بالمجتمعات الأوروبية في عصر النهضة. تجدر الإشارة هنا أن ثورة الاتصال والمعلومات قد شكلت بعدا جديدا في مفهوم الفضاء العام وأحدث ثورة كبيرة في عالم العلاقات الاتصالية المؤسساتية والإنسانية، كما أنها وسعت من الفضاء العام وأسهمت بدرجة كبيرة في إثرائه وتنوعه مما عزز قيم المشاركة والتفاعل في المجتمع. وإذا كان الفضاء العام يكتسب قيمته وديمومته من مستوى النقاشات والمشاركات التي ينتجها المجتمع في قضايا الفئات والشرائح المختلفة من المجتمع، فإن التراث العربي الإسلامي يزخر بمقومات النقاش والمشاركات الفكرية التي تهدف إلى الحفاظ على هوية المجتمع وتماسكه الثقافي. إنه من الصعب الحديث عن منظومة عربية للفضاء العام بمعزل عن فضاء العولمة، كما أنه من الطبيعي أن تتم مقاربة القضايا الرئيسية المطروحة في إطار عالمي واسع بدلا من حصرها في سياقات جغرافية ضيقة. فإذا كانت الممارسات الديمقراطية الحديثة التي تمكن الشعوب من تطوير قدراتها على المشاركة تحمل سمات عالمية، فإن القيم المعنوية الإسلامية هي أيضا ذات طبيعة إنسانية شاملة، ولا تتقيد بحدود الزمان والمكان. إن الصيغ التي استوردت من الخارج لإصلاح العالم العربي ستنتهي بالفشل لأنها ببساطة لا تستند إلى الواقع التاريخي والنسيج القيمي والأخلاقي للشعب العربي الذي يرى في تلك المبادرات غطاء للهيمنة وتحقيق مصالح الدول الغربية دون مراعاة الخصوصية الثقافية للمجتمعات العربية. كانت لحقبة التنوير انعكاسات وتداعيات كبيرة على العالم العربي في القرن التاسع عشر حيث كانت لها تأثيرات على المفكرين العرب أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي حيث قاموا بمبادرات التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، كما أنهم كانوا أكثر شفافية في التعاطي مع واقع الحياة في ظل حضور غربي متنامي في المنطقة العربية استمر عقودا من الزمن من خلال تواجد استعماري قاس امتد لأكثر من قرن من الزمان. وبموازاة التطور في الفكر السياسي سواء القومي أو الديني في المنطقة العربية، ظل الإعلام العربي حبيس حالة عدم اليقين الناجمة عن إخفاق النخبة المثقفة والنخب السياسية والاجتماعية الحاكمة في الوصول إلى صيغة مشتركة تحفظ الأمة من خلالها هويتها وديمومتها. إن "دمقرطة" المجتمعات العربية وفق النموذج الغربي كسبيل وحيد للتطور والرقي وكذلك أطروحات الإصلاح لم تكن سوى شعارات مهذبة لتحقيق أهداف مبيتة تمتد مرجعياتها خارج المنطقة العربية. كما تركت حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر الباب مفتوحا على مصراعيه أمام فوضى إعلامية في المنطقة العربية بسبب غياب المهنية والحرفية وغياب رؤية ثقافية وسياسية واضحة لوسائل الإعلام التي أصبحت في ظل ثورة الاتصال والمعلومات مجرد هياكل مبهرة في مظهرها وخاوية في جوهرها، وسائل ذابت في معظمها في ثقافة الاستهلاك والتسطيح والتهميش والتقليد والتبعية التي أصبحت من مظاهر وسمات العولمة، لكن رغم ما يقال عن سلبية النظام الإعلامي العربي فإن هناك أمامه إمكانات جمة لتدارك الوضع والتحول من السلبية إلى الإيجابية ومن رد الفعل إلى الفعل. فالإعلام العربي قادر على التطور والازدهار سواء على مستوى الأداء التكنولوجي أو الخطاب الثقافي والسياسي أو التأثير في الجماهير طالما أن هناك إرادة لاستدراك الوضع والنهوض بعزيمة أكثر خاصة إذا أقبل المثقفون العرب على تقديم قراءة مستنيرة للتراث العربي الإسلامي الأصيل وقيمه العظيمة، قراءة تستمد أسباب قوتها من قدرة الفكر الإسلامي على استيعاب معطيات العصر والتفاعل معها وإفراز نماذج فعالة في الممارسات السياسية والثقافية، كما أنها تجسد روح وهوية التراث الأصيل وفي الوقت نفسه تستجيب لمتطلبات العصر. وهنا يجب التأكيد على مستويات التناغم بين الحكم الديمقراطي الرشيد والفكر السياسي الإسلامي السديد حيث يؤكد كل منهما على الحرية والمساواة والأخوة والكرامة الإنسانية ومحاربة التمييز والظلم والقهر وعلى التعايش السلمي واحترام الأديان والأعراق. ومن خلال التأكيد على هذه الأرضيات القيمية المشتركة، يمكن للإعلام العربي أن يؤسس لفضاء عام مبني على الحفاظ على الهوية باعتباره حقا مشروعا للمجتمع، وفي الوقت نفسه يعمل على مد جسور التآلف مع النظم الاجتماعية والثقافية الأخرى في العالم. ففي عصر العولمة، ستبقى الهوية الثقافية للإعلام هي التي تنير معالم الطريق نحو مستقبل تتحقق فيه رؤية المجتمع حول ذاته الثقافية في إطار من الوسطية والتسامح وفي الوقت نفسه تمّكن المجتمع من أن يكون عنصرا فاعلا في الساحة الدولية استنادا إلى القيم الإنسانية المشتركة التي يجسدها النهج الديمقراطي الرشيد والفكر الإسلامي السديد.
1686
| 25 نوفمبر 2017
تثير الصورة في وسائل الإعلام إشكالية التثبيت والإقصاء، حيث إن الأشياء التي تركز عليها الكاميرا تبقى عالقة في أذهان الجمهور وإدراكهم ومخيالهم والأشياء التي تهمشها وتتجاهلها وتتخلى عنها وسائل الإعلام، فإنها تزول للأبد من إدراك الجمهور. فالصورة تستخلف الواقع في الكثير من الأحيان بل تصبح هي الواقع نفسه. وهذا يعني أن الصورة تستحضر الغائب وتُغّيب الحاضر. الصورة أصبحت سلعة في الصناعة الإعلامية، لكنها بدلا من السعي من أجل تقديم الواقع وإثراء الحوار والنقاش وتبادل الآراء والأفكار من أجل خلق مناخ ديمقراطي أصبحت وسيلة للتلاعب والفبركة وبناء الواقع حسب ما يريده أصحاب الإمبراطوريات الإعلامية، ومن ورائهم أباطرة المال والسياسة.. ومن هنا نلاحظ أن في العديد من الأحيان يتم التلاعب بالصور وإعادة تركيبها وإخراجها وإضافة أشياء وتعديلات عليها حتى تعكس إيماءات وإيحاءات معينة لا تعكس الواقع بالضرورة كما هو وإنما تعكس واقعا مختلفا تماما وفق معايير تحددها الأبعاد الأيديولوجية والسياسية لصاحب المؤسسة الإعلامية. يحدث هذا في الحروب والأزمات والأعمال الإجرامية والإرهابية للتأثير والتلاعب بمشاعر الناس ولتشكيل وعي ينسجم مع أيديولوجية ومصالح القوى التي تتحكم في الاقتصاد والسياسة والإعلام. يتساءل الكثيرون عن واقعية وموضوعية مخرجات وسائل الإعلام وإلى أي مدى تعكس هذه الرسائل الواقع كما هو، وإلى أي مدى تشكله وتبنيه و"تفبركه" وفق أطر ومرجعيات واتفاقيات محددة. ففي بعض الأحيان يُقدم الحدث من زوايا مختلفة وبرؤى متناقضة وكأن الأمر يتعلق بحدثين مختلفين تماما. تعامل وسائل الإعلام مع الكثير من القضايا والأحداث يثير عدة تساؤلات وملاحظات من أهمها أن الإعلام بصفة عامة والصورة بصفة خاصة، أصبحا جزءا لا يتجزأ من بعض القضايا والأزمات والحروب. ما قدمته وسائل الإعلام أثناء الاعتداء الصهيوني على لبنان، وحرب أمريكا على العراق وممارسات الكيان الصهيوني في فلسطين لا يخرج عن هذه القاعدة. شهدت الساحة العربية والعالمية خلال السنوات القليلة الماضية أحداثا مهمة تفاعلت معها وسائل الإعلام من مختلف أنحاء العالم بطرق مختلفة وفي بعض الأحيان يتبادر للقارئ أو المشاهد أن الأمر يتعلق بأحداث مختلفة وليس بنفس الحدث، لكن عملية النظر إلى الحدث ومعالجته وتحليله وتقديمه للجمهور هي التي اختلفت وبذلك يكاد الحدث نفسه يختلف رغم أنه واحد. أصبحت وسائل الإعلام في القرن الحادي والعشرين "تفبرك" الواقع أكثر مما تقدمه وتنقله للجمهور كما هو. الكلام عن الموضوعية والبراءة وتقديم الأشياء والأحداث والحروب والأزمات كما هي في الصناعة الإعلامية يعتبر ضربا من الخيال. وسائل الإعلام وبفضل المكانة الإستراتيجية التي تحتلها في المجتمع وبفضل قوتها ونفوذها في عملية تشكيل وصناعة الرأي العام وفي إعلام وإخبار الجماهير بما يحدث ويجري من حولهم وفي العالم بأسره أصبحت تستقطب اهتمام القوى الفاعلة – السياسية، الاقتصادية، الدينية، جماعات الضغط، المجتمع المدني - في المجتمع سواء محليا أو دوليا.. هذه القوى تعمل جاهدة على تشكيل الوعي وفق معايير ومقاييس تخدم وجهة نظرها ورؤيتها للأحداث وبذلك مصالحها. لا يحرك وسائل الإعلام في أي مجتمع المال فحسب، بل هناك قوى أخرى تتنافس فيما بينها للاستحواذ والسيطرة عليها من أجل إعلاء كلمتها ووجهة نظرها وإيصالها للرأي العام. لأن في نهاية المطاف السلطة الحقيقية في أي مجتمع يؤمن بالديمقراطية والشفافية هي سلطة الشعب أي الرأي العام. والقوى الإستراتيجية التي تشكل الرأي العام في أي مجتمع هي وسائل الإعلام. حسب ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، أصبحت الثقافة في القرن الحادي والعشرين صناعة مثلها مثل الصناعات الأخرى تخضع لقوانين العرض والطلب وبذلك قوانين السوق. فالمنتجات الثقافية أصبحت منتجات معلبة تُصنع وفق معايير الإنتاج المتسلسل ووفق أنماط معينة تؤدي في النهاية إلى أحادية الأسلوب والمحتوى. وبذلك اُختصرت الثقافة في التسلية والاستهلاك العابر - الذي يعمر لفترة زمنية محدودة ثم يزول للأبد. فالصناعات الثقافية أصبحت مرادفة للتلاعب بأذواق الأفراد وحسهم، كما أصبحت نموذجا للتعليب والتنميط والتسطيح وإفراغ الثقافة من محتواها الحقيقي ومن بعدها الجمالي والإنساني. أثرت العولمة الليبرالية في المؤسسات الإعلامية في جميع أنحاء العالم وأفرغتها من دور الرقابة والسلطة الرابعة والدفاع عن مصالح المحرومين والضعفاء والمساكين في المجتمع من خلال إبراز الحقيقة والبحث عنها من دون كلل أو ملل. فالسلطة الحقيقة في المجتمع أصبحت في أيدي حفنة من المجموعات الاقتصادية العالمية وهذه الشركات الكونية يزيد حجمها الاقتصادي أحيانا عن ميزانيات بعض الدول والحكومات، بل مجموعة من الدول والحكومات. فالتطور الجيواقتصادي الذي شهده العالم خلال العقود الأخيرة أدى إلى تغييرات وتطورات حاسمة في الصناعات الإعلامية والثقافية على المستوى العالمي.. وبذلك أصبحت المؤسسات الإعلامية العملاقة وذائعة الانتشار محليا ودوليا من صحف ومجلات ومحطات إذاعية وشبكات تلفزيونية وغيرها من الصناعات الإعلامية والثقافية تتمركز أكثر فأكثر في شركات عملاقة مثل "فياكوم" و"نيوزكورب" و"مايكروسوفت" و"فودافون" و"برتلسمان" و"يونايتد غلوبال كوم" و"ديزني" و"تلفونيكا" و"آ أو أل تايم وارنر" وجنيرال إليكتريك".. وغيرها. هذه الشركات العملاقة أصبحت تملك، وبفضل التوسع الهائل والسريع في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات والمعرفة إمكانات وقدرات هائلة في جمع المعلومة ونقلها وتداولها في جميع أنحاء العالم وبسرعة فائقة. فالثورة الرقمية قضت على الحدود الكلاسيكية لأشكال الاتصال التقليدية – الكتابة، - الصوت - الصورة وفتحت المجال أمام الإنترنيت والوسائط المتعددة والثورة الرقمية التي جسدت مفهوم القرية العالمية في أرض الواقع. وبهذا أصبحت الاحتكارات الإعلامية العملاقة أو المجموعات الإعلامية تهتم بمختلف أشكال المكتوب والمرئي والمسموع، ومستعملة لبث ونشر ذلك، قنوات متعددة ومتنوعة من صحف ومجلات وإذاعات وقنوات تلفزيونية وكوابل وبث فضائي وشبكات البث الرقمي عبر الألياف البصرية والإنترنيت. كما تتميز هذه المجموعات ببعدها الكوني العالمي حيث إنها تتخطى الحدود والدول والجنسيات والثقافات، فهي كونية وعالمية الطابع. وبذلك أصبحت هذه الشركات العملاقة ومن خلال آليات الهيمنة والتمركز تسيطر على مختلف القطاعات الإعلامية في العديد من الدول والقارات وأصبحت بذلك الرافد الفكري والأيديولوجي للعولمة الليبرالية. فلا عولمة من دون عولمة وسائل الإعلام الجماهيرية وعولمة الصناعات الإعلامية والثقافية. وحسب رأي إغناسيو راموني، رئيس تحرير "لو موند ديبلوماتيك" فإن العولمة هي أيضا وسائل الإعلام الجماهيرية ووسائل الاتصال والأخبار. وفي سياق اهتمامها بتضخيم حجمها واضطرارها لمغازلة السلطات الأخرى فإن هذه الشركات الكبيرة لا تضع نصب أعينها هدفا مدنيا يجعل منها "السلطة الرابعة" المعنية بتصحيح التجاوزات على القانون، واختلال العمل بالنظام الديمقراطي سعيا إلى تحسين النظام السياسي وتلميعه. فلا رغبة لهذه الشركات في التحول إلى "سلطة رابعة" أو التصرف كسلطة مضادة. وهي لا تخوض فقط في سلطتها الإعلامية بل تمثل الذراع الأيديولوجية للعولمة ووظيفتها هي احتواء المطالب الشعبية وصولا إلى محاولة الاستيلاء على السلطة السياسية (كما توصل إلى ذلك ديمقراطيا في إيطاليا السيد سيلفيو برلوسكوني، صاحب أكبر مجموعة إعلامية ما وراء جبال الألب).. هكذا تضاف السلطات الإعلامية إلى السلطات الأوليجارشية التقليدية والرجعية الكلاسيكية. وتقوم معا، وباسم حرية التعبير، بمهاجمة البرامج التي تدافع عن حقوق الأكثرية من السكان. تلك هي الواجهة الإعلامية للعولمة وهي تكشف بأكثر الصور وضوحا وبداهة وكاريكاتورية عن أيديولوجية العولمة الليبرالية. تفاءل الكثيرون خيرا وظنوا أن ثورة المعلومات وتكنولوجية الاتصال ستردم الهوة بين الشمال والجنوب وبين الأغنياء والفقراء وستؤدي إلى الديمقراطية وانتشار حرية التعبير وحرية الصحافة وبذلك مشاركة الجماهير في السوق الحرة للأفكار وفي الممارسة السياسية وفي صناعة القرار، لكن الواقع يفند ذلك تماما حيث إن ظاهرة الاغتراب والتهميش وانتشار ثقافة الاستلاب والاستهلاك أصبحت من مميزات الألفية الثالثة سواء في الشمال أو الجنوب.
7717
| 11 نوفمبر 2017
لقد ساهمت العولمة والثورة المعلوماتية والاتصالية والمجتمع الرقمي وانتشار الإنترنت وانتشار التعليم وتوفر المعلومة والوصول إليها بسهولة في بلورة ونضج فكرة المجتمع المدني في العالم العربي. ومن هنا يتمثل دور المجتمع المدني في خلق توازن بين القوى الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية وبين الطبقات الاجتماعية. كما يعمل المجتمع المدني على خلق فضاء مستقل يفرز قيم العدالة والمساواة والحرية. فالمجتمع المدني هو فضاء للحرية، يتكون من شبكة العلاقات التي تقوم على الاختيار والاقتناع والحرية، حيث أنه يمنح الأفراد قدرة على النشاط الطوعي الحر. إذ يعمل المجتمع المدني على تنظيم العلاقات داخل تنظيمات مدنية تحقق استقلالا نسبيا عن الدولة من ناحية، وعن قوى السوق من ناحية أخرى. فالحياة المدنية هي الفضاء الطبيعي للعمل الحر الذي تنمو فيه قدرات البشر وإمكانياتهم على حب الاستقلال ونبذ التسلط والقمع. يستمد المجتمع المدني قوته من الثقافة المدنية التي تتمحور حول الحرية والمساواة والمواطنة، وهي في أساسها قيم عامة تتفرع عنها قيم تؤمن بالتفكير الحر الخلاق والفعل الحر المسئول والحرية التي تستمد قيمتها من مبدأ الفرد الأخلاقي الذي يؤمن بأن حريته تعني حرية الآخرين. وأن حرية الفرد لا تسمح له بالانسلاخ من محيطه ومجتمعه وفضائه السياسي والاجتماعي والثقافي، ولا تسمح له بالاغتراب عن مبادئه وقيمه، حيث إن حريته مستمدة من حرية الآخرين والحرية الفردية هنا هي قيمة مثالية تنتهي إلى قيمة اجتماعية لا تقل عنها أهمية، وهي قيمة الترابط الجمعي التي تجعل الأفراد يتصرفون في إطار بيئة تضامنية عضوية تعبر عن روح الجماعة.فأدوات الاتصال الجماهيري في المجتمع هي التي تنقل ثقافة المجتمع المدني من مستوى الوعي الفردي والجماعي إلى مستوى الوعي العام. وبهذا تصبح الثقافة المدنية جزءا لا يتجزأ من وعي الأمة. هنا يتوجب على وسائل الاتصال الجماهيري أن تقدم خطابا إعلاميا هادفا يحمل في طياته قيما اجتماعية راقية تنبع من المجتمع وقيمه ومبادئه. فالمؤسسات الإعلامية إذن، مطالبة عبر البرامج الحوارية والدراما والأفلام والتحقيقات والأخبار، بطرح ومناقشة هموم وشجون المجتمع المدني ونشر ثقافته. وهذا يعني نشر مادة إعلامية هادفة من أجل التوعية الأمنية وللحد من الجريمة والسرقة وظاهرة إدمان المخدرات وغيرها بدلا من نشر المادة المعلبة المستوردة التي تنشر ثقافة العنف والجريمة والانجراف الأخلاقي والأمني. ما يُنشر في وسائل الاتصال الجماهيري هذه الأيام هو منتجات إعلامية معلبة مستوردة من الخارج تفرز انفصاما في شخصية الفرد العربي الذي يعيش واقعا مختلفا تماما عما يشاهده أو يستهلكه في المؤسسات الإعلامية العربية. فنشر ثقافة المجتمع المدني بحاجة إلى مؤسسات إعلامية ووسائل اتصال تؤمن بالمجتمع المدني وتؤمن بالمثقف العضوي وبالقيم المجتمعية الأصيلة. فالمشرف على المؤسسة الإعلامية والقائم بالاتصال يجب أن يؤمنا بالمجتمع المدني وبالثقافة المدنية وبرسالة يعملان من أجل تحقيقها لصالح المجتمع بأسره، وليس الركض وراء الإعلانات والربح السريع، أو العمل لمصلحة أصحاب النفوذ السياسي والمالي في المجتمع.فوسائل الاتصال الجماهيري هي التي تنتج الوعي الاجتماعي وهي التي تكرس القيم والعادات والتقاليد والنسق القيمي والأخلاقي في المجتمع، ومن ثم فهي مطالبة بنشر ثقافة المجتمع المدني وثقافة الوعي الاجتماعي بالقضايا الأمنية. المؤسسات الإعلامية هي الأدوات التي تنمي الثقافة المدنية وتعمل على نشرها وتقويتها والتصدي لثقافة العنف والتطرف والإقصاء والفردية والمادية ورفض الأخر والسلوك المنحرف والجريمة والسرقة والإرهاب ومختلف الآفات الاجتماعية الأخرى. فوسائل الاتصال الجماهيري هي الحليف الإستراتيجي للمجتمع المدني وهي الوسيلة الفعالة والأداة اللازمة لتحقيق مبادئه وقيمه في المجتمع. فمضمون وسائل الاتصال الجماهيري هو الغذاء الروحي والفكري والعقلي للثقافة المدنية وأداء هذه المؤسسات في المجتمع يعتبر سلوكا مدنيا يدعم المجتمع المدني والثقافة المدنية. فالمجتمع المدني هو وعي وثقافة وقيم ومبادئ تٌترجم إلى سلوك وعمل يومي يؤمن بروح الجماعة والمصلحة العامة. ما هي القيم والوعي والأفكار التي تقدمها الفضائيات العربية للمواطن العربي؟ ما هي الإضافات الفكرية والثقافية التي تقدمها هذه الفضائيات للمشاهد العربي؟ أم أن هناك فجوة خطيرة جدا بين الواقع الذي يعيشه المواطن العربي وما يُنقل له ويشاهده عبر القنوات الفضائية المختلفة.يرى عدد من النقاد والباحثين أن ضعف أداء وسائل الإعلام في المجتمع يعود بالدرجة الأولى إلى ضعف المجتمع المدني انطلاقا من مبدأ أن الإعلام هو مرآة عاكسة للوسط الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي الذي يوجد فيه ويتفاعل معه. فإذا كان المجتمع المدني ضعيفا فهذا ينعكس سلبا على أداء المؤسسات الإعلامية في المجتمع، فالإعلام القوي والفعال لا ينمو ولا يتطور ويزدهر إلا في مناخ الديمقراطية والحرية والرأي والرأي الآخر ووجود القوى المضادة والفاعلة في المجتمع، التي تراقب وتنتقد وتعمل من أجل مشاركة الجميع في تحقيق المساواة والعدالة في المجتمع وفي جعل كل فرد في المجتمع مسئولا وواعيا وحرا. ما زال العالم العربي يعاني من فجوة كبيرة بين الشارع والوسيلة الإعلامية كما أنه يعاني من ضعف المجتمع المدني الذي ما زال عاجزا عن التفاعل مع الشارع العربي والمؤسسات الإعلامية العربية بطريقة إيجابية وفعالة. فالكلام عن التوعية الأمنية يتطلب التفكير في مجتمع مدني فعال ونشط وفي صحافة المجتمع المدني التي تكون بديلة ومختلفة عما هو موجود حاليا في المجتمع.
2009
| 28 أكتوبر 2017
يتغنى الكثير من المختصين والباحثين والمنظرين في شؤون الإعلام أن الصحافة هي السلطة الرابعة التي تراقب السلطات الثلاث في المجتمع: السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية. ومنهم من رأى أن الصحافة هي بارومتر الديمقراطية وهي منبر الفقراء والمساكين والضعفاء ومن لا حول ولا قوة لهم، وهي الوسيلة الاستراتيجية للكشف عن الحقيقة واستقصاء الواقع حتى سماها الأمريكيون ب “كلب الحراسة"، لكن واقع القرن الحادي والعشرين وواقع الحرب على الإرهاب يقولان إن الصحافة تحوّلت من السلطة الرابعة إلى سلطة تزييف الواقع و تضليل الوعي وفبركة الأحداث والوقائع وفق ما تمليه عليها قوى المال والأعمال والسياسة. فوسائل الإعلام اليوم، في عصر الفضائيات والإنترنيت والمجتمع الرقمي، أصبحت تكيّف الأحداث والوقائع وفق القوى التي تتحكم في النظام، سواء كان ذلك النظام محليا أو عالميا. لقد كشفت الحرب على العراق الأخطاء والهفوات والتجاوزات الخطيرة التي وقعت فيها وسائل الإعلام في مختلف أنحاء العالم حيث أنها انساقت وراء أقوال وآراء أباطرة السياسة وتجار الأسلحة والحروب بدون أن تستقصي الواقع وتحاول أن تكشف عن الأساطير و الأكاذيب و غيرها من آليات التضليل والتزييف التي تستعملها كبريات وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية. يظن الكثيرون أن العلاقات العامة بإمكانها أن تفعل كل شيء وأن تغير المواقف والآراء والصور. وأن الأمر يتعلق بمجرد استعمال استراتيجيات اتصالية وحملات إعلامية . هذا الاعتقاد في حقيقة الأمر ناجم عن فهم خاطئ للعلاقات العامة، حيث أن هذه المهنة، مع الأسف الشديد، هي من أكثر المهن في العالم معاناة من سوء الفهم وسوء الاستعمال. فالعلاقات العامة التي تقوم على المهنية والتميز والالتزام والأخلاق تعتمد في فلسفتها على الأفعال وليس الأقوال، كما أنها تعتمد على الصدق وعلى احترام الجمهور والرأي العام كما أنها تتجنب الوعود الكاذبة و الصور الفضفاضة والكلمات الرنانة التي قد تكون أكبر بكثير من حجم المنظمة أو المؤسسة التي تحاول تقديمها وتسويقها للجمهور. كما أنه يوجد اعتقاد سائد في العديد من دول العالم أن العلاقات العامة هي "دعاية" وأنشطة اتصالية تؤمن بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة. وهذا الاعتقاد خاطئ ولا أساس له من الصحة لأن الوظيفتين الرئيستين للعلاقات العامة هما بناء الصورة وإدارة السمعة. فمنطقيا العلاقات العامة لا تستطيع بناء الصورة بالاعتماد على الدعاية وبتضخيم الأحداث والمعلومات وغير ذلك لأن الرأي العام لا يقتنع إلا بالحقائق والوقائع والإحصائيات والأدلة والحجج والبراهين. مارست الإدارة الأمريكية ما تسميه ب “الدبلوماسية العامة" لتجميل صورة الولايات المتحدة في العالم بعد ما اكتشفت بعد 11 سبتمبر أن صورتها سلبية جدا ومعظم شعوب العالم لديها فكرة سيئة عن ممارسات الولايات المتحدة في العالم. الأمر الذي أدى بالإدارة الأمريكية إلى استئجار أقلام في دول عديدة من العالم لإبراز دور أمريكا في محاربة الإرهاب والتخلص من الدكتاتوريين أمثال الرئيس صدام حسين وغيره. أما داخل الولايات المتحدة الأمريكية فلقد استعملت مختلف أساليب القمع وكبت الحريات العامة بحجة الحرب على الإرهاب وشملت هذه الطرق والسبل حتى من يتظاهر للدفاع ومناصرة قضايا كالبيئة وحقوق الإنسان والحريات الفردية وحرية الصحافة والتعبير. إدارة الرئيس بوش على سبيل المثال استعملت طرقا ووسائل مختلفة وعديدة للوصول إلى الرأي العام من أهمها إخفاء الحقائق والتركيز على ما يدعم سياستها وقراراتها. ومن أهم الوسائل التي استعملتها إدارة بوش حملات علاقات عامة سرية لكسب ولاء وسائل الإعلام الأمريكية والأجنبية للترويج لسياساتها. فإدارة بوش كانت تبذل قصارى جهودها لإقناع الشعب العراقي والرأي العام الأمريكي والعالمي أن الأوضاع في العراق أحسن بكثير عما كانت عليه في عهد صدام. والواقع بطبيعة الحال غير ذلك تماما. فكل وسائل الإعلام المأجورة والموالية للبيت الأبيض أصبحت تتغاضى عن الواقع اليومي المر الذي يعيشه الشعب العراقي حيث تدني مستوى الخدمات بمختلف أنواعها ناهيك عن انعدام الأمن وغلاء المعيشة والجرائم ...الخ. و بدلا من كل هذا ركزت وسائل الإعلام على الأخبار الإيجابية و التي تزخرف وتلون صورة أمريكا محليا و عالميا وخاصة في الوطن العربي وهذا بإنشائها راديو "سوى" وتلفزيون "الحرة". كما لجأت إدارة بوش إلى إنشاء ما يسمى بإدارة "العمليات الإعلامية" لإنتاج مقالات وتقارير صحفية تكتب باسم كتاب عراقيين لتضليل الرأي العام. هذه الإدارة والتي تنشط تحت مظلة البنتاجون خصص لها مئات الملايين من الدولارات من أجل نشر الدعاية السياسية والخطاب الإعلامي الإيجابي والموالي لأمريكا من أجل إخفاء السلبيات والتركيز على الإيجابيات. في حربها على الإرهاب وغزوها لأفغانستان و العراق جندت إدارة بوش إمكانيات كبيرة لتجميل صورتها في العالم كما جندت عددا كبيرا من الصحفيين و استخدمت وسائل الإعلام كوسائط دعائية للحكومة. وبذلك جندت وكالة المخابرات المركزية عددا لا يستهان به من الصحافيين في عملية التضليل والتبرير والتلاعب الإعلامي من أجل كسب الرأي العام ومن جهة أخرى ومقابل التقرب وكسب ود الصحافيين، استعملت إدارة بوش إجراءات أخرى للتخلص وإبعاد الصحافيين الجادين المعروفين بالتزامهم بقضايا الجماهير، وكانت هذه الطريقة تستخدم في المؤتمرات الصحفية للرئيس بوش حتى لا يتم إحراجه بأسئلة جدية ومبنية على معطيات وحقائق من الميدان. ففشل أمريكا في حربها على الإرهاب عملت المؤسسات الإعلامية الكبيرة على تبريره وتقديمه للرأي العام سواء في أمريكا أو في العالم على أنه نجاح. اشتهرت أمريكا بانتقادها الموجه للدول السلطوية وللاتحاد السوفيتي سابقا بسبب سيطرتها على وسائل الاعلام والتحكم فيها كما تشاء، وأكثر من ذلك تسخيرها لتقديم الواقع كما تريده السلطة وليس كما هو. المتتبع لحرب أمريكا على الإرهاب يلاحظ أن إدارة بوش أصبحت تتعامل مع وسائل الإعلام كالدول الشمولية وأصبحت تتعامل مع السلطة الرابعة وحرية الصحافة وحرية التعبير وكأنها الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية. ففي ظل إدارة بوش أصبح الصحفيون الأمريكيون عملاء لحكومتهم، بدلا من مراقبتها والوقوف عند تجاوزاتها واستقصاء الحقيقة والمساءلة حول كل التصريحات والتقارير، أصبحوا يهللون ويصدقون كل التقارير وكل ما يصرح به السياسيون والجنرالات. فوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية استطاعت ومن أجل كسب الحرب الإعلامية الموازية للحرب على الإرهاب تجنيد العديد من الصحفيين واستكتابهم لتزييف الحقائق وتضليل الرأي العام وتقديم ما يخدم سياسات إدارة بوش وتوجهاتها حتى وإن كانت على خطأ. قالت صحيفة نيويورك تايمز في هذه الفصيلة من الصحافيين ما يلي: "تكفي ضغطة واحدة على الزر لتعزف تلك الأبواق ولتصبح أداة لأوركسترا الدعاية بأية لغة وفي أي بلد من بلاد العالم طالما أن مزاج السي آي أيه يتقبل الاستماع إليها. ويدعم تلك الأبواق أوركسترا كبيرة من الصحافيين". فإدارة بوش لم تقتصر على "شراء" الصحافيين الأمريكيين بل تخطت ذلك إلى أنحاء العالم حيث أشترت الأصوات والعملاء من الصحافيين والمؤسسات الإعلامية لإسماع صوتها وإسكات أي صوت من شأته أن ينتقد الولايات المتحدة الأمريكية. فهل نجحت أمريكا في تحسين صورتها في العالم، طبعا لا لأن تحسين الصورة لا يتحقق عن طريق شراء الأقلام والذمم والتضليل والتشويه وتأجير وكالات العلاقات العامة. فهل شراء الذمم والأقلام المأجورة سيحقق لبعض الدول ما تصبو إلى تحقيقه بغير حق ولا منطق ولا قانون؟ التاريخ يقول لا ، مع الأسف الشديد الممارسات ما زالت تتوالى وتتكرر وما حدث مؤخرا في المنطقة يشير إلى أن البعض لم يستفد من دروس الآخرين ومن التجارب المخزية.
5623
| 02 يونيو 2017
شهدت الساحة الإعلامية في منطقة الخليج في اليومين الأخيرين نقاشا وجدالا كبيرين حول التعامل غير المهني وغير المسؤول وغير الموضوعي من قبل فضائيات عربية كشفت من دون ما تدري عن انعدام المهنية والحرفية لممارستها لمهنة نبيلة اسمها الصحافة. والغريب في الأمر ورغم تكذيب الخبر بطريقة رسمية من قبل مسؤولين قطريين إلا أن الفضائيات تجاهلت الموضوع نهائيا واستمرت في التعامل مع تصريح سمو أمير قطر وكأنه تصريح صحيح وسليم وأنه ليس من فبركة القراصنة الذين اخترقوا موقع وكالة الأنباء القطرية. وعندما تكون النية غير سليمة والهدف هو النيل من دولة أخرى فالموضوع لا يختلف حوله اثنان. في أبجديات أخلاقيات الصحافة، على الصحفي أن يتبين ويتأكد من الخبر قبل أن ينشره ومن أبجديات الصحافة كذلك ضرورة التريث والتعقل والاحتكام إلى المنطق قبل كتابة أي شيء خاصة إذا تعلق الأمر بأمير دولة وبسمعة وشرف وسيادة دولة بكاملها. لو تريث الصحفيون في قنوات الفتنة والعار قليلا وتساءلوا أيعقل أن يشرف سمو أمير دولة على حفل تخرج الدفعة الثامنة من خريجي الخدمة الوطنية في الفترة الصباحية ولا تنشر وكالة الأنباء الرسمية التصريح إلا في صبيحة اليوم الموالي؟! أين المنطق هنا وأين العقل؟ الأمر الثاني يتعلق بتفنيد الخبر جملة وتفصيلا من قبل الجهات الرسمية في دولة قطر، وهنا تشير أخلاقيات المهنة إلى أن القناة الفضائية التي نشرت الخبر يجب أن تعتذر لمشاهديها وجمهورها وتعلن أن الخبر مفبرك وصادر عن قراصنة اخترقوا موقع وكالة الأنباء القطرية، والغريب في الأمر أن عددا من الفضائيات العربية تعامل مع الخبر وكأنه خبر صحيح وصادر عن وكالة الأنباء القطرية واستمر في التعامل معه بل عالج الخبر في برامج حوارية باستضافة رؤساء تحرير وسياسيين وإعلاميين للتفنن في توجيه الانتقادات المختلفة لدولة قطر. فالأمر بكل بساطة هو استغلال الخبر المفبرك لـ "تأطيره" و"بروزته" ووضعه في قالب يخدم سياسة وأيديولوجية وأهداف القناة والذين يشرفون عليها سواء كأشخاص أو دول. ما شهدناه يشبه تماما ما تقوم به قناة "فوكس نيوز" وأمثالها عندما تقوم بتغطية الأعمال الإرهابية وتنسبها للعرب والمسلمين بطريقة آلية وأوتوماتيكية وفور حدوث العمل الإرهابي وحتى عندما يتبين لاحقا أن العرب والمسلمين لا علاقة لهم بالموضوع نلاحظ تجاهل هذه الفضائيات للموضوع ولا تقوم بالاعتذار وتصحيح التحيز والتضليل الذي تمارسه. ما قامت به بعض الفضائيات العربية في تعاملها مع الخبر المفبرك لسمو أمير قطر هو عملية "تأطير" framing الخبر بهدف النيل من دولة القطر وكأن هذه الفضائيات كانت تنتظر هذه المناسبة لتفريغ جعبة الحقد والكراهية وإثارة الفتنة ضاربة عرض الحائط بالمبادئ الأساسية لأخلاقيات العمل الصحفي النزيه والمسؤول. تقوم نظرية تحديد الأجندة أساسا على عملية "التأطير" framing حيث إن التركيز على قضايا وإهمال قضايا أخرى يعني وضع هذه الأحداث وهذه القضايا في سياق معين وخلفية محددة وفق أطر يراها صانع الرسالة الإعلامية - الصحفي - والمؤسسة الإعلامية والبيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ملائمة لفهم الحدث والقضية. فالتأطير هو انتقاء وتسليط الضوء على جوانب معينة من الأحداث والقضايا وإبراز الترابط بينها بهدف خلق وتطوير تفسير وتقييم وتقديم حل للقضايا المطروحة، فالأخبار ليست بريئة وليست سلعة مجردة وإنما هي منتج فكري ومعنوي تُقدم للجمهور من الزاوية التي يراها الصحفي صحيحة وملائمة وتفي بالغرض. وعلى حد قول الصحفي الأمريكي دون شابمان "الأخبار هي ما أقرر أنا أنها أخبار". فبالنسبة لغوفمان عملية التأطير هي عملية بناء محدد للتوقعات التي تراها المؤسسة الإعلامية ضرورية ليدرك الجمهور الحدث، فهي عملية مقصودة وجزء من عملية صناعة الخبر يقوم بها القائم بالاتصال من أجل تقديم الحدث وفق إدراكات وأحاسيس الناس وفهمهم لما يحيط بها محليا ودوليا. وعلى هذا الأساس تجاهلت بعض الفضائيات العربية تكذيب تصريح سمو أمير قطر وتفنيده من قبل مسؤولين قطريين كبار والذين أشاروا إلى عملية قرصنة وكالة الأنباء القطرية من قبل مجهولين فبركوا تصريح سمو الأمير. بعض الفضائيات استمرت في استغلال التصريح متجاهلة تماما تكذيب الخبر مما يعني أن هذه الفضائيات استغلت الخبر رغم أنه كاذب لتحقيق أجندتها والتي تتعارض جملة وتفصيلا مع أخلاقيات العمل الإعلامي. تمر عملية التأطير بعدة مراحل لتقديم المنتج الإعلامي النهائي للجمهور. فالخطوة الأولى تتمثل في حكم الصحفي وتقييمه للحدث حيث إنه يصدر أحكاما واعية أو غير واعية، إرادية أو غير إرادية انطلاقا من البناءات الإدراكية والمعرفية وإطاره المرجعي ومعتقداته وقناعاته التي تراكمت لديه من خلال عقود من الزمن من الممارسة الإعلامية ومن خلال تفاعله مع البيئة التي يعيش فيها. أما المرحلة الثانية فتتمثل في وضع الحدث وفق الأطر المهنية والقيم الخبرية والخط الافتتاحي للمؤسسة الإعلامية ونظمها الظاهرة والخفية. أما المرحلة الثالثة فهي قراءة في الأطر الخاصة بالجمهور حيث يأخذها القائم بالاتصال بعين الاعتبار في تأطير الحدث. أما المرحلة الأخيرة فهي حوصلة تشابك وتداخل السياسات والممارسات المهنية وخلفية القائم بالاتصال ونوعية الحدث وخلفياته الثقافية والسياسية والأيديولوجية وموقعه في اهتمامات الجمهور. فحسب إنتان تتكون عملية التأطير من القائم بالاتصال والنص والمتلقي والثقافة. هذا ما تجسد في تعامل بعض الفضائيات العربية مع خبر مفبرك صنعه قراصنة ونسبوه لوكالة الأنباء القطرية. وبكل بساطة ووضوح ظهرت النوايا الخبيثة وغير الصحية لأناس ادعوا أنهم إعلاميون وصحفيون ينقلون الحقائق والمعلومات للرأي العام حتى يعي ماذا يحدث من حوله وفي العالم، لكن الأمر مع الأسف الشديد غير ذلك تماما، فهؤلاء الصحفيون وهاته الفضائيات تفبرك الواقع ولا تقدمه كما هو للرأي العام. المؤسسات الإعلامية في عصرنا الحالي أصبحت مؤسسات تصنع الوعي الاجتماعي وفق آليات وطرق منهجية ومنظمة لخدمة النظام والقوى التي تحدد معالم هذا النظام وتسيره. فصانع الرسالة الإعلامية عادة ما يقوم بـ"تأطير" المنتج الإعلامي - وضع الخبر في إطار - وهذا يعني أن ما هو خبر لمؤسسة إعلامية معينة قد لا يعتبر خبرا لوسيلة أخرى. فالتأطير هو تلك العملية التي من خلالها يتم توظيف النص الصحفي للربط بين مختلف المعاني في عقل القارئ اعتمادا على العناصر المختلفة لهذا النص وذلك باستثارة معانٍ ودلالات وأنساق وأبنية معينة ومخزنة في ذاكرته تشكل إدراكه واستجاباته للمحتوى الإعلامي. فالتأطير هو الطريقة التي يُقدم بها النص الإعلامي من طرف الصحفيين من خلفيات ثقافية وأيديولوجية وثقافية واجتماعية ويحدد طريقة فهم وإدراك المتلقي للنص الإعلامي انطلاقا مما يخزنه من مفاهيم ومعانٍ حول هذا الموضوع أو ذاك. الإعلامي يقدم النص بطريقة "مبروزة" انطلاقا من خلفياته الثقافية والسياسية والدينية والقيمية وبطريقة تجعل المتلقي يتقبلها كما يريد المرسل وليس حسب مرجعيات المتلقي؛ فالذي يحدد طريقة الفهم لدى المتلقي هو المرسل من خلال التأطير الذي يحدده ويختاره للنص الإعلامي. فالتأطير هو التركيز على عناصر معينة من الخبر وإهمال عناصر أخرى. فعملية التأطير هي وضع الحدث في إطار محدد يتماشى مع قناعات الصحفي وفق سياسة المؤسسة الإعلامية والتجارية والاقتصادية وعوامل أخرى اجتماعية سياسية ثقافية أيديولوجية دينية...إلخ، وكذلك الأخذ بعين الاعتبار ما يروق ويتوافق مع الذاكرة الجماعية والثقافة السائدة في المجتمع. فالإطار هنا لا يسمح بالخروج عن المتفق عليه في المجتمع. فهناك على سبيل المثال قضايا وحوادث تقصى وتلغى من أجندة المؤسسة الإعلامية لأنها لا تتناغم ولا تتناسق مع الإطار العام للمؤسسة. مع الأسف الشديد بعض الفضائيات العربية انحازت للتضليل والتشويه والتلاعب وتجاهلت تكذيبا رسميا للتصريح بهدف إثارة الفتنة والمساس بسمعة وكرامة دولة.
721
| 26 مايو 2017
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...
4791
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...
3477
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....
2865
| 16 أكتوبر 2025
في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...
2670
| 16 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...
2595
| 21 أكتوبر 2025
واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...
1428
| 21 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...
1407
| 16 أكتوبر 2025
لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...
1038
| 20 أكتوبر 2025
1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...
954
| 21 أكتوبر 2025
القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...
831
| 20 أكتوبر 2025
في قلب كل معلم مبدع، شعلة لا تهدأ،...
807
| 17 أكتوبر 2025
في ليلة كروية خالدة، صنع المنتخب القطري "العنابي"...
765
| 17 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية