رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يلعب الإعلام العربي دوراً محورياً في إثراء الفضاء العام من خلال تعزيز الهوية الثقافية والمشاركة السياسية في المجتمعات العربية، كما أنه لا يمكن البحث عن إطار واضح المعالم لإعلام عربي بهوية متماسكة دون التأسيس لنظرية اجتماعية وسياسية تقوم على النسيج القيمي العربي الإسلامي والتقاليد المعاصرة في المشاركة السياسية والاجتماعية في إطار مجتمع مدني فعال وديناميكي، لأن الإعلام لا يعمل في فراغ، بل يجسد دائماً الرؤى الفكرية والثقافية السائدة في المجتمع في إطار منظومة واضحة ومتكاملة تقوم على منهج متناسق ومتكامل يجمع ما بين الأصالة ممثلة في قيم الإسلام العظيمة، والمعاصرة ممثلة في ممارسات العمل السياسي الحديث. فبعد مرور أكثر من مائتي عام على حملة نابليون بونابرت على مصر، ما زال العالم العربي يبحث عن رؤية توفيقية تجمع بشكل متناغم بين القيم والتقاليد العربية الإسلامية وبين الممارسات الغربية المعاصرة في شتى جوانب الحياة، البحث ما زال قائما حتى الساعة بل زاد حدة مع بداية التسعينيات من القرن الماضي في ظل أفول الشيوعية ونهاية الحرب الباردة وهيمنة العولمة على مختلف جوانب الحياة في العالم العربي.
الفضاء العام حسب هابر ماس ظاهرة إنسانية التداعيات رغم ارتباطها التاريخي بالمجتمعات الأوروبية في عصر النهضة، تجدر الإشارة هنا إلى أن ثورة الاتصال والمعلومات قد شكلت بعداً جديداً في مفهوم الفضاء العام وأحدثت ثورة كبيرة في عالم العلاقات الاتصالية المؤسساتية والإنسانية، كما أنها وسعت من الفضاء العام وأسهمت بدرجة كبيرة في إثرائه وتنوعه مما عزز قيم المشاركة والتفاعل في المجتمع. وإذا كان الفضاء العام يكتسب قيمته وديمومته من مستوى النقاشات والمشاركات التي ينتجها المجتمع في قضايا الفئات والشرائح المختلفة من المجتمع، فإن التراث العربي الإسلامي يزخر بمقومات النقاش والمشاركات الفكرية التي تهدف إلى الحفاظ على هوية المجتمع وتماسكه الثقافي، إنه من الصعب الحديث عن منظومة عربية للفضاء العام بمعزل عن فضاء العولمة، كما أنه من الطبيعي أن تتم مقاربة القضايا الرئيسية المطروحة في إطار عالمي واسع بدلا من حصرها في سياقات جغرافية ضيقة. فإذا كانت الممارسات الديمقراطية الحديثة التي تمكن الشعوب من تطوير قدراتها على المشاركة تحمل سمات عالمية، فإن القيم المعنوية الإسلامية هي أيضا ذات طبيعة إنسانية شاملة، ولا تتقيد بحدود الزمان والمكان، إن الصيغ التي اُستوردت من الخارج لإصلاح العالم العربي ستنتهي بالفشل لأنها ببساطة لا تستند إلى الواقع التاريخي والنسيج القيمي والأخلاقي للشعب العربي الذي يرى في تلك المبادرات غطاءً للهيمنة وتحقيق مصالح الدول الغربية دون مراعاة الخصوصية الثقافية للمجتمعات العربية.
كانت لحقبة التنوير انعكاسات وتداعيات كبيرة على العالم العربي في القرن التاسع عشر، حيث كانت لها تأثيرات على المفكرين العرب أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي، حيث قاموا بمبادرات التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، كما أنهم كانوا أكثر شفافية في التعاطي مع واقع الحياة في ظل حضور غربي متنام في المنطقة العربية استمر عقودا من الزمن من خلال تواجد استعماري قاس امتد لأكثر من قرن من الزمان، وبموازاة التطور في الفكر السياسي سواء القومي أو الديني في المنطقة العربية، ظل الإعلام العربي حبيس حالة عدم اليقين الناجمة عن إخفاق النخبة المثقفة والنخب السياسية والاجتماعية الحاكمة في الوصول إلى صيغة مشتركة تحفظ الأمة من خلالها هويتها وديمومتها. إن "دمقرطة" المجتمعات العربية وفق النموذج الغربي كسبيل وحيد للتطور والرقي وكذلك أطروحات الإصلاح لم تكن سوى شعارات مهذبة لتحقيق أهداف مبيتة تمتد مرجعياتها خارج المنطقة العربية، كما تركت حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر الباب مفتوحا على مصراعيه أمام فوضى إعلامية في المنطقة العربية بسبب غياب المهنية والحرفية وغياب رؤية ثقافية وسياسية واضحة لوسائل الإعلام التي أصبحت في ظل ثورة الاتصال والمعلومات مجرد هياكل مبهرة في مظهرها وخاوية في جوهرها.
وسائل ذابت في معظمها في ثقافة الاستهلاك والتسطيح والتهميش والتقليد والتبعية التي أصبحت من مظاهر وسمات العولمة، لكن رغم ما يقال عن سلبية النظام الإعلامي العربي فإن هناك أمامه إمكانات جمة لتدارك الوضع والتحول من السلبية إلى الإيجابية ومن رد الفعل إلى الفعل. فالإعلام العربي قادر على التطور والازدهار سواء على مستوى الأداء التكنولوجي أو الخطاب الثقافي والسياسي أو التأثير في الجماهير طالما أن هناك إرادة لاستدراك الوضع والنهوض بعزيمة أكثر خاصة إذا أقبل المثقفون العرب على تقديم قراءة مستنيرة للتراث العربي الإسلامي الأصيل وقيمه العظيمة، قراءة تستمد أسباب قوتها من قدرة الفكر الإسلامي على استيعاب معطيات العصر والتفاعل معها وإفراز نماذج فعالة في الممارسات السياسية والثقافية، كما أنها تجسد روح وهوية التراث الأصيل وفي نفس الوقت تستجيب لمتطلبات العصر. وهنا يجب التأكيد على مستويات التناغم بين الحكم الديمقراطي الرشيد والفكر السياسي الإسلامي السديد حيث يؤكد كل منهما على الحرية والمساواة والأخوة والكرامة الإنسانية ومحاربة التمييز والظلم والقهر وعلى التعايش السلمي واحترام الأديان والأعراق. ومن خلال التأكيد على هذه الأرضيات القيمية المشتركة، يمكن للإعلام العربي أن يؤسس لفضاء عام مبني على الحفاظ على الهوية باعتباره حقا مشروعا للمجتمع، وفي نفس الوقت يعمل على مد جسور التآلف مع النظم الاجتماعية والثقافية الأخرى في العالم. ففي عصر العولمة، ستبقى الهوية الثقافية، وليس السياسية، للإعلام هي التي تنير معالم الطريق نحو مستقبل تتحقق فيه رؤية المجتمع حول ذاته الثقافية في إطار من الوسطية والتسامح وفي نفس الوقت تمّكن المجتمع من أن يكون عنصراً فاعلاً في الساحة الدولية استناداً إلى القيم الانسانية المشتركة التي يجسدها النهج الديمقراطي الرشيد والفكر الإسلامي السديد.
الدجاجة التي أسعدت أطفال غزة
دخل على أولاده بدجاجة فهللوا وسجدوا لله شاكرين! هذا كان حال عائلة غزاوية من قطاع غزة حينما أقدم... اقرأ المزيد
231
| 28 أكتوبر 2025
كم تبلغ ثروتك؟
أصبحنا نعيش في عالم تملأه الماديات، نظرة بسيطة على مواقع التواصل الاجتماعي تجعلنا نرى أثر الحياة السريعة المادية... اقرأ المزيد
237
| 28 أكتوبر 2025
التواصل الذي يفرقنا
جلست بالسيارةِ وحتى البحر عبرتُ وخلال مجلسي في الاستراحةِ نظرتُ لكل من يجلس حولي حتى ذلك الطفل الصغير... اقرأ المزيد
195
| 28 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6540
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6423
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3915
| 21 أكتوبر 2025