رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في 17 من ديسمبر 2010 أضرم الشاب التونسي، محمد البوعزيزي، النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد، احتجاجًا على مصادرة شرطية عربته التي كان يبيع عليها الفاكهة والخضراوات، هذه الحادثة كانت شرارة انطلاق ثورات "الربيع العربي" التي اجتاحت خمس دول عربية. البوعزيزي كان المحرك الرئيسي لاندلاع الثورة في تونس، التي أتت نجاحاتها السياسية متمثلة في الحريات وفي انتخابات 2011 التي أفرزت دستور 2014 الذي يعتبر قد نال رضا الشعب التونسي. ونجحت تونس الثورة في كسب معركة الحريات وضمنت بدستورها وقوانينها حريات تمثل نموذجا في المنطقة. كما نالت عبر نقل السلطة بانتخابات نزيهة وشفافة، استحسان المتابعين. هذه النجاحات والإنجازات لم توازيها مع الاسف الشديد نجاحات على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي مما دفع بالشباب التونسي في ذكرى ثورة الياسمين للخروج في احتجاجات في مناطق عديدة من البلد تطالب بتوفير فرص العمل والقضاء على الفساد والاقتصاد الموازي والمحسوبية والجهوية وتهميش المناطق المعزولة.
نجحت تونس بعد الثورة في تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية رغم محدودية الإقبال عليها، وقد قبل الشعب التونسي بنتائجها وهو ما حقق للبلاد نوعا من الاستقرار مقارنة ببقية الأقطار العربية في هذه المرحلة من تاريخ الأمة. في المقابل يلاحظ المختصون خيبات أمل كثيرة في أوساط الشباب والفئات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة، الذين كانوا وراء المد الثوري الذي أطاح بنظام بن علي لاعتبار أن المطالب الثورية التي رفعت بحناجر شباب الثورة من أجل الحصول على منصب شغل ومعيشة كريمة. وحسب المختصين فإن الأوضاع الاجتماعية لدى الفئات المتوسطة تراجعت فلم تعد هناك طبقة متوسطة كما اتسعت طبقة الفقراء، ومستوى التوظيف تراجع، إذ زاد عدد المعطلين عن العمل، الشيء الذي أدى إلى عزوف الشباب عن العمل السياسي بل العزوف عن المشاركة في الشأن العام عموما، وأعلن المعهد الوطني للإحصاء في تونس، عن نسب البطالة حسب الولايات بالنسبة للثلث الثاني لسنة 2017. واِحتلت ولاية تطاوين المرتبة الأولى من حيث زيادة البطالة بـ 32.4 %، تليها ولاية قفصة بـ 27.3 %، ثم قابس بـ 25.8 %، أما ولاية المنستير، فقد احتلت المرتبة الأخيرة بـ 6.1 %. ومن جهة أخرى فقد بلغ عدد العاطلين عن العمل من حاملي الشهادات العليا حوالي 2506 في الثلث الثاني من سنة 2017 مقابل 259،6 ألف في الثلث الأول لسنة 2017، وبذلك تقدر نسبة البطالة على التوالي بـ%30.3 و%31.2.
من أهم التحديات التي واجهتها تونس في فترة ما بعد الثورة وتواجهها إلى حد الساعة هي الملف الاقتصادي، أدى التفاعل بين النخب التونسية والجهات المانحة الدولية إلى توجيه البلاد نحو برنامج إصلاح اقتصادي يدِّعي معالجة آثار انتشار الدولة الاستبدادية — المحسوبية والفساد وعدم الكفاءة — لكنَّه لا يعالج بشكلٍ كافٍ الآثار التي ترتَّبت على اهمالها. وهذا يترك الحكومة التونسية عالقة بين أجندةٍ اقتصادية تُركِّز على تنفيذ تعليمات صندوق النقد الولي ومطالب محلية بالعدالة الاجتماعية. لكن الأهم أنَّه ترك الدولة التونسية غير قادرة، هيكلياً أو سياسياً، على إصلاح تلك المشكلات في اقتصادها التي تسبَّبت فيها سياسة الانقسام والاهمال المتعمد. وهذا ما أدى إلى انتشار ونمو الاقتصاد الموازي انتشاراً مطرداً في السنوات الأخيرة؛ لأنَّ فرص العمل الرسمية لم تكن قادرة على مواكبة زيادة طالبي العمل. ويُنتج هذا الاقتصاد الموازي أكثر من ثلث الناتج المحلي الاجمالي بتونس، إضافةً إلى أنَّه المصدر الرئيسي الذي يوفر فرص العمل للشباب التونسي. في الواقع، يُوظِّف الاقتصاد الموازي نحو 60 % من الرجال العاملين و83 % من النساء العاملات دون سن الأربعين. وفي حين تبرز وظائف الاقتصاد الموازي، بصورةٍ غير متناسبة، في كلٍ من المناطق الجنوبية والداخلية، فإنَّها منتشرة بجميع أنحاء البلاد. وتتخذ هذه الوظائف أشكالاً متنوعة، من الباعة الذين يشغلون جوانب الطرقات أو الأسواق الأسبوعية، ومن مهربي البضائع عبر الحدود مع ليبيا والجزائر، ومقدمي الدروس الخصوصية أو المترجمين، إلى من توظفهم شركاتٌ رسمية دون توقيع عقود عمل. ومع أنَّ العاملين في الاقتصاد الموازي يمتنعون غالباً عن دفع ضرائب الدخل أو الحصول على سجلٍ تجاري، فإنَّهم غالباً أيضاً ما یدفعون رسوماً رسمیة (كرسوم السوق، وهي التكلفة الاجمالية المرتبطة بتسليم البضائع أو الخدمات إلى الزبائن) أو رسوماً غیر رسمیة (كالرشى) إلی وکلاء الدولة. بالنظر إلى هذا السياق، فإنَّه من الغريب ألا يكون هناك في الفترة التي تلت الثورة التونسية سوى جهود ضئيلة تهدف إلى وضع برنامج إصلاحي يساعد أولئك الذين يعملون في القطاع غير الرسمي. لا توجد استراتيجية وطنية متماسكة بشأن هذه المسألة، ومعظم السياسيين غير واعين لما يحدث على نحوٍ مثير للصدمة، ويحصرون هذه المشكلة في التهرب الضريبي. وقد يكون ذلك بسبب عدم وجود حل سريع للمشكلة كما تبيَّن من تجارب بلدانٍ أخرى، فإصلاح الاقتصادات الموازية يتطلب نهجاً متعدد الأبعاد، يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من إصلاحات سوق العمل والضرائب الأوسع نطاقاً. بين يناير 2011 و2018، 7 سنوات انقضت على اندلاع الثورة التونسية، وما بين التاريخين، تتأرجح مشاهد الاحتجاجات والمواجهات العنيفة بمختلف الشوارع والمدن، غير أن القاسم المشترك بين الزمنين؛ يظل استمرار الفقر والبطالة في المناطق الداخلية المعزولة، رغم محاولة الحكومات المتعاقبة تطبيق "التمييز الإيجابي" لصالح هذه المناطق. ويمكن تلخيص أهم ما أخفقت تونس في تحقيقه بعد 7 سنوات من «ثورة الياسمين" الفقر ونقص البرامج التنموية والبطالة وعدم القدرة على محاربة الاقتصاد الموازي. فتونس اليوم تتخبط في أزمة اقتصادية خانقة رغم محاولتها بعد الثورة الخروج منها، إلا أن الوضع تأزم أكثر بسبب الاحتقان السياسي والضربات التي وجهها الإرهاب لقطاعها السياحي، الذي يمثل احدى ركائز اقتصادها، قبل أن ينتعش نسبيا في 2017. كما أن الاحتجاجات أضرت كثيرا بالقطاعات الرئيسية لاقتصاد البلاد، من جهة أخرى يلاحظ المختصون استمرار تفشي الفساد فبعد 7 سنوات، ورغم إعلان الحكومة بقيادة يوسف الشاهد، الحرب على الفساد، إلا أن قناعة راسخة تتملك التونسيين حتى اليوم بأن مشكلة الفساد لم تعالج بطريقة منهجية وعلمية وصارمة.
الدجاجة التي أسعدت أطفال غزة
دخل على أولاده بدجاجة فهللوا وسجدوا لله شاكرين! هذا كان حال عائلة غزاوية من قطاع غزة حينما أقدم... اقرأ المزيد
213
| 28 أكتوبر 2025
كم تبلغ ثروتك؟
أصبحنا نعيش في عالم تملأه الماديات، نظرة بسيطة على مواقع التواصل الاجتماعي تجعلنا نرى أثر الحياة السريعة المادية... اقرأ المزيد
204
| 28 أكتوبر 2025
التواصل الذي يفرقنا
جلست بالسيارةِ وحتى البحر عبرتُ وخلال مجلسي في الاستراحةِ نظرتُ لكل من يجلس حولي حتى ذلك الطفل الصغير... اقرأ المزيد
156
| 28 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6528
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6405
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3900
| 21 أكتوبر 2025