رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لي بريق لا ينضب، ولمعان ناصع كاللؤلؤ الصافي يشد نحوي غالبية من لا يقاوم جمالي ونعومة سطح ملمسي، يتدفقون نحوي في جو من الحرية الإيجابية بود، يتأملونّي باعجاب المنبهر.. يكشفون تفاصيلهم أمامي دون استحياء أو تردد، يصارحوني بخباياهم ومشاعرهم الدفينة، يتحدثون بالساعات مُستبيحين خيباتهم دون إخفاء للمشاعر التي تعتريهم وتفضح انكسارهم.. تنهمر دموعهم وكأنهم بلغوا حافة الانهيار التي ليس بعدها حياة وسقطوا في هاوية المصير التي لا يليها وقوف. يتذللون توسلاً لعلي أجيب على أحد تساؤلاتهم وأخفف من وطء صدماتهم... إلا ان صمتي نادراً ما يؤرقهم لثقتهم بأني لن أبخل عليهم بحناني أو اتجاهل وجودهم، كما لا يمكنهم الاستغناء عن قناعتهم بعملي المتفاني ودوري المحوري في تهوين مصاعبهم الحياتية وتهدئة توتراتهم النفسية من خلال بذل قصارى جهدي في ارشادهم لصواب أفعالهم ومحاولاتي المتكررة لتقويم اعوجاجهم واكتمال نواقصهم... كلي يقين بأن هناك خطأ ما قد احاط بهم بمجرد مثولهم أمامي... أعلم أنهم بحاجة لدعمي في تلك اللحظة، لذا استقبلهم بين احضاني واطمئنهم بأنهم أجمل مما يتخيلون وأفضل مما يعتقدون عن أنفسهم، بتصغير أكبر همومهم وتضخيم أبسط لحظات المتعة التي خالجتهم بغتة، لتهدآ سرائرهم ويطمئن فؤادهم. وبعد كل ذلك ومع الوقت ظننت بأني ملكت جوارحهم وتربعت على عروش قلوبهم وبت أقرب صديق وآمن شريك يشاطرونه أرواحهم. إلا ان الشك بدأ يساورني، فليس ثمّة ما هو أسوأ من الغموض والريبة. فالذهن يتشبث بهم وعبثا يحاول البحث عن الإجابات الناقصة بينهم. أعدت ترتيب أوراقي وتمعنت بتفاصيلها فوجدت أني لم أكن صديقا عابرا يسترجعون ذكراه بين دفاترهم القديمة التي قد يُقلبون صفحاتها أو يضطرون لتمزيقها واحراق بعضها أو جزء منها لتخطي مرحلة قاسية من أجل دفن تلك الصدمة أو ذاك الألم... بل أنا الأنا الخفية التي يتجاهلها الجميع ويخشى ظهورها ظناً منهم بأنها تُعيبهم وتستنقص من كمالهم الزائف.. أنا نصفهم الأقوى الذي يجهلونه ويخشون تمرده، يسدلون ستائرهم عليه كل مساء ويهدهدون مهده لينام كي لا يُنّقص نومهم ويُعكر صفوهم ورغم كل نظرات الاستصغار التي كانوا يخفونها نحوي إلا أنني أجذبهم رغم انوفهم، ففي حضرتي يتجمدون ويصمتون احتراما لانعكاساتي الفاضحة، مُتعطشين لأدق التفاصيل، أليس الصمت في حرم الجمال جمالا. ولكن رغم كل ذلك لم تشفع لي سنوات الاحتواء ولا شمولية العطاء فبعد ان اصابوني بجرح عميق آثار ألمي ولكنه ما استطاع كسري فبدا جليا ولم يتوارَ عن انظارهم التي أزعجها هذا الشرخ وشوه صورهم التي كُنت أُكملُها واجمع ذراتها فتبدو سليمة... لم يتقبلوا حقيقتهم ورفضوا مواجهتي خوفاً من بشاعة الواقع المُستنكر والتناقضات الفاضحة، نسبوا لي بشاعتهم وانكروا انعكاساتي الواضحة لنواياهم ومحاكاتي المجردة من أي تصنع أو خداع لبواطنهم. ابتعدوا عني وراحوا يبحثون عن بديل مُتجاهلين وجودي ومتناسين شفافيتي التي كانوا يتغزلون بصلابتها ولكن بعد إن لامست بواطنهم وكشفت نواياهم باتت تلك الشفافية غير محببة ومبتذلة.. وجهوا لي أصابع الاتهام ولو نظروا الى عيني لوجدوا ان الصورة المتكونة أمامهم تشير إليهم. أتساءل أحياناً هل نظروا لنا وتقربوا منا لأنه قد صدف وجودنا في مجال نظرهم فحسب أم ان أداءنا تأثر بعدم براعة استخدامهم؟... هل غابوا عنا لعدم اهتمامهم بإصلاح عيوبهم أم سيجبرهم ذلك على رؤية ما وراء اشكالهم السطحية؟... هل يعلمون بأن للمرايا ذاكرة قوية أم راهنوا على تجاهلنا المستمر؟ أو يعود الأمر لأسطحنا المستوية التي جعلتهم لا يخشون شظايانا الحادة الجارحة؟ ألا يعلمون بأن كسرنا لا يمكن ترميمه ابداً؟ أم انهم مدركون لكل ذلك ورغم ذلك تمردوا علينا؟ وها أنا ما زلت واقفة بلا مبالاة لم تتغير صفاتي ولم يشوهني جرحهم، غير آبهة بتلصصهم عليّ بعد ان أبدلتهم بآخرين وتركتهم يبحثون عن اشباهي العابرين. فمتى ستستوعبون بأننا ليس إلا مرايا تعكس للخارج صوركم الدفينة وما تُبدونه لنا سنريكم إياه وستتلقون رد فعله ويوماً ما ستلتفتون وتدركون بأننا كنا أنفسكم التي رافقتكم على الدوام وانعكست عليها اسقاطات توقعاتكم وصفاتكم، وما نبرزه لكم ما هو إلا حقيقة تتطلب منكم الشجاعة فقط لقبولها.
1080
| 16 يوليو 2025
ينطقُ قَلمي حبراً بما لا أبرعُ في التعبير عنه أحياناً، فهو لساني الصامت ومترجم خواطري... حضني الدافئ في الليالي الشتوية ومظلة أشواقي الصيفية... يستعبدني ويفضح أسراري... يجعلني أعيش صراع أسئلة بلا إجابات وأستجدي حكمة شاقة على الكثير من العقول العاقة... لست أول من تضرع له ولن أكون أفضلهم، فمجال الكتابة فسيح لكل قلم يفيض بثمرات الألفاظ وبحاره شاسعة للسباحة في فضاء الحروف والعبارات، لذا فمنا من سقط بمستنقعاتها وصارعته فقراتها أو هزمته حركاتها ليتوه بين المفردات وتغلبه المصطلحات كما كذلك هناك من سن قلمه وتعارك مع ذاته وهذب أفكاره ليحتل مكانته بين الجحافل الثائرة. إلا أنه بنهاية المطاف هناك من اجتهد وأصاب وهناك من تهافت وخاب ويا ليت من سقط استوعب خيباته ولملمها بل كابر وعافر وسط تصفيق من هم على شاكلته، ليرتفع صوت التطبيل ويزداد الهتاف والتبجيل في جوقة الفساد الأدبي. كل ذلك لم يمنع أقلاماً عديدة من محاولة تجربة هذا المسار الذي خُيل لهم بأنه سيتوجهم بشرف المهنة لمجرد أن أقلامهم سال لعابها على حفنة أوراق وتصدرت الصفحات أسماؤهم. ليصبح بالنهاية القلم هو المتهم الوحيد الذي يتلاعب به المحلفون (وما أكثرهم)، ينزهونه تارةً ويجرمونه تارةً أخرى، نزيفه عار ومداده مُستهجن حتى كاد تنفسه فساداً، يصدرون الأحكام قبل تداولها ويصفقون لحبال المقاصل ثم يتوارون عن الأنظار كي لا تشملهم عقوبة موت قلم ما على صفحاتهم. ورغم ذلك ما زال هناك من يُحارب فلا يتوقف ولا ينحني، صامداً بوجه كل الخيبات، يسير بأقدام عارية وسط القيعان ليصل لنقطة التقاء تُرضي غروره قبل أن تلاقي استحسان جمهور يُصفق لكل من اعتلى خشبة مسرح أو تاجر بقضايا مصيرية وعبث بجراح يعجز التعبير المُصطنع عن مداواتها. لعلهم دون قصد أحيوا أقلاماً قبل أن تموت - شكر الله سعيهم- ولكنهم في ذات الوقت أغفلوا بجهالة عن قسم الله بهذا القلم وبما يَسطُرُون فضاعت بوصلتهم وسط زحام الأفكار واختفى من طرحهم بريق الإدراك، استخدامهم لهذه الأداة تشتت بين الهدم والبناء، حتى بات إصلاح الابتذال في حد ذاته ابتذالاً وإن كان عليك القضاء عليه فأفضل طريقة هي ألا تشاركهم فيه. وبما أنها ليست معركتي فلم أود أن أسقط جريحاً وينزف حبري هدراً أو أكون قاتلاً مع سبق الإصرار والتحرير، كما لن يغفر لي الأدباء أن أكون شاهداً على هذه الجريمة الثقافية. لذا اعتزل قلمي ولم ينعزل... قرر أن يُحصن مناعته ويُحيط روحه بهالة لا تُخترق، يصوب فيها مساراته ويحدد فيها خياراته، فأعلن إضرابه بعد أن اختلط الحابل بالنابل وساد جهل بعض الكُتاب بتخلفهم، راح ينتفض... يصرخ... يُكابر ويتبجح بالعصيان والتمرد على صاحبه، توسلت له مراراً وحاولت إغواءه بشتى الطرق لكنه في كل مرة يثور غاضباً لتموت الكلمات بين أصابعي قبل أن تولَد. غَيّرت مواقعي الجغرافية من أجله... تنصلت من مسؤولياتي... أحرقت أوراقي... أشعلت حطب أشجاري... اعتزلت المخلوقات وأفرغت الطاقات التي كبلتني لأشهر.. تجاوزت الظروف التي حالت دون لقائنا المعهود وحاولت أن أزرع فيه الطمأنينة التي فقدها بين أناملي بعد أن أربكتها الحقائق المؤلمة واستفزها اعوجاج أقلام انحنت دون رقاب لرقاب بلا رؤوس باتت تنهش واقعنا الثقافي وتسيء له أكثر مما تُضيف. لعل استجدائي المُتكرر له يفلح ويبكي على أوراقي لتنتعش أوعية عقلي بعد أن جف واستُبِيح مداده، لكنه تمادى في عناده، فلم يدع لي خيارا غير تجاهله والانشغال عنه لينتقي هو تاريخ عودته التي أواسي فيها بنات أفكاري المتلاحقة بأنه يوماً ما سيعود راكعاً طالباً الصفح والغفران، ليخرج من ظلماته ويلفظ نوراً. بعيداً عن التعميم والتصنيف فلا أزكي قلمي الذي عاد مجدداً يتسلل بين أوراقي دون استئذان مُطلقا عنانه ليجادل كل قلم أصم لا يسمع النجوى أو أخرس لا يفصح الدعوى أو كان جاهلا لا يعلم الفحوى. وإن كنت لم أتسلح في هذه المواجهة بحبال تلجم الجمال الهائجة ولا نبال تصوب سهامها وقت اشتداد الوطيس، إلا أنني أمتلك قلما سئم الاصطفاف مع المُصفقين وكره الانحياز للمُطبلين.
1632
| 29 ديسمبر 2024
تلوثت الأيادي وساد الفساد في صندوق التفاح، الذي راهنتُ علية، انتشر العفن وتمدد بعد أن دُس الدود فيه، فقد زمننا طهارته وصار يتبجح بانتصاراته وفرض هيمنته، وهوم ن أباح دمي وشرد أبنائي، فقدت عذريتي الأولى أمام أعينهم، تراجعوا شيئاً فشيئاً عني حتى استحال وجودي ذكرى جميلة يتشدق بها الأطفال ويبكيها من لامس أناملي وأشتم عطري، هذا إن لم أكن أطلالاً لمن تذوقوا حلاوة السلام بهجرتهم وافلتوا من فرص الموت بين يدي، فكل ما كان بأحضاني طمعوا فيه وقاتلوني عليه حتى سلبوني إياه، ليغدو الفراق مصير أم لم تنفك اشتياقاً لأبنائها الذين تاهوا فاقدين بوصلتهم وهويتهم، زحفوا بحثاً عن أم بديلة يبحثون فيها عن أشباهي أو أنفسهم التي لن يجدونها أبداً. لم أفهم كل هذا الإجحاف في حق مفاتني التي أُهدرت، وأصولي التي تشوهت بأيدي من ظننتهم لي حماة تارة وبيد جار عدو تارة أخرى، هل أنا أم افتراضية لم تجد رجلا يصونها كعمر بن الخطاب وجيوشا كجحافل صلاح الدين الأيوبي تستعيد وتحفظ لها كرامتها، أم بات الرجال يرتعبون من شموخي وصمودي الذي أقلقهم على مر العصور بأيدي أطفالي الذين قطعوا عهوداً بالثأر لي، قدموا أجسادهم قرباناً وهدروا دماءهم لإنعاشي، قُتلوا بوحشية بعد أن استُباحت أعراضهم وهُجروا من مساكنهم، تجمعوا حولي لا يملكون سلاحاً بل يملكون الحق بين أيديهم ويعتصمون بالشجاعة أمام عدوهم المستبد الذي لا تعنيه إنسانيتهم ولا يرق قلبه لأطفالهم وشيوخهم، يجول دون رقيب أو حسيب وسط منازلهم ومقدساتهم ليكيل بهم ويقوض ما بقي من بطولاتهم، يلاحقهم من مدينة إلى أخري ليملأ بهم السجون وينتزع من قلوبهم حبي ولكن هيهات له مبتغاه. رقص الآباء خلف جثمان فلذات أكبادهم وزغردت الأمهات التي جفت دموعهن بخياطة الأكفان، يحيط بهم شباب تعلموا من جرائم الاستعمار الشراسة ومن تخاذل الشعوب الصمود والغضب مرابطين بالداخل يتوعدون بالانتقام ويعدون بالنصر. لن تكون حيوات هؤلاء مهدورة، ترص صورهم على الجدران ومغلفات الكتب وصفحات الصحف اليومية، ولن تضيع سنوات الأسر والتنكيل الطويلة من عمر الأرواح العظيمة التي حملت على أكتافها الجنائز ومشت حافية فوق أسلاك المخيمات وتحت قصف أبناء صهيون والمتصهينين. أين الغيرة على مستقبل أطفالي الذي بات يتقن لغتهم ويتعلم بمدارسهم؟، لم يعد يملك جواز مرور أو عُملة ورقية تثبت أمومتي، أين الحقيقة من الأكاذيب لسلخهم عن أصولهم وطمس تاريخ أجدادهم؟، أين السلام الذي ينادون به وهم يعتدون على ممتلكاتي كل يوم، حتى قضموا كل أطرافي واستباحوا حدودي وحاصروا شعبي ونكلوا بمقدساتي؟. أنا فلسطين، هل تذكروني، أنا الحاضرة رغم التهميش، أُحافظ على كرامة عروبة باعتني، وأصون مقدسات أديان تجاهلتني، في جبالي ترى الصمود، والإصرار يملأ تلالي وتفيض بالكرامة هضابي، وإن بحثت عن الشهامة فلن تجدها إلا في أغواري وعلى سواحل بحاري وضفاف انهاري سيكون الكبرياء والعز قراري. لذا تجاورت حدودي الجغرافية لأتعرف على هذه الأم المناضلة وأتجول في صروح كرامتها، اقطف عناقيد العنب المتدلية على أسوارها، اشتم بشوارعها عبق الماضي الأصيل، أستظل بشجرة زيتون عطرة مُعمره، وأراقب أغصان الصفصاف الباكية وأنا أتذوق التين النابلسي الذي يرمز لهويتها التاريخية، بهرتني خصال شعبها الأصيلة وإيقانه المتأصل وسعادته لوجودنا بأراضيه ومساندتنا لقضيته. ولكن سادت مشاعر الاستهجان والتي لي منها الكثير، بعدما شاهدت الواقع الذي لا يُنقل عبر الشاشات، واكتشفت الحقائق التي تُغطى بالغربال، ولامست الأحزان التي لا تُعبر عنها الكلمات والجروح التي لا يمكن أن تندمل، مُعاناة إنسانية يبتلعها العالم بأطيافه وأجناسه من أجل توفير معاملة استثنائية لمحتل تجاوز كل الانتهاكات الصارخة للقوانين الدولية وحقوق الإنسان. شعب سجين يحتاج إلينا لنربت على أكتافه ونمسح دموعه ونشد من عزمه، بعد أن دافع عن شرف الأمة وحفظ كرامتها وفعل ما تمنينا فعله ولكن جبننا خذلنا أمام تقاعس الأمة وفساد السياسة. فلم نكن هناك حين تشردوا ليلاً من منازلهم ولم نكن هناك حين سالت دماؤهم لتغطي أشجار الزيتون، ولم نكن هناك حين اضطرهم الخونة والفاسدون لخوض معركة غير متكافئة وعادلة لتقرير مصيرهم المستحق والمتوارث منذ قرون، كما لم نكن هناك حين استبيحت أعراضهم أمام الجار وأبناء العمومة واغتيل قاداتهم، لم نكن هناك حين حوصروا وجوعوا ونُكل بجثثهم، لم نكن هناك أبداً ولن نكون.
3423
| 20 سبتمبر 2023
نلتقي بأرواح لم نعرفها قط ولم نميز من قبل ملامحها، ونعشق كلمات دون النظر إلى من كتبها أو ما استدعاه لأن يخطها وما يخفيه بباطنها، ونبكي مع عيون لم نبصرها، نتشارك معها الأحداث ونرسل لها النوايا الجميلة، عسى أن تخفف مشاعرنا من معاناتها وتؤنس وحدتها، ليبقى حب الروح أسمى ما عرفناه، فليس المودة والحب بقرب الأجساد لكنها بتشابه القلوب وانسجام أرواحها. لكن هناك من يتوجس التعامل مع الأشخاص الذين لا يعرفهم، يخشى التواصل معهم لاعتقاده بأنهم قد يملكون فكرا سيئا أو نوايا خبيثة، لظنه بأنهم لا يمكنهم فهمه بالطريقة التي يتوقعها منهم فيكون خياره الأول هو الابتعاد عن كل الوجوه الجديدة خشية الإخفاق، فيستحسن البقاء وحيداً على أن يخوض تجربة معرفة أرواح جديدة، فلا تكون لديه رغبة لفهم الآخرين والنتيجة أدنى أن تضر عوض أن تفيد. ليبقى بوضعه الراكد خشية صخب الحركة التي تنازعه أو مواجهة الفكر الذي قد يتحداه، ذلك لأنه لا يستطيع الرد على الحركة بحركة أقوى، وأن يقابل عنفا بعنف أشد. وبما أن التعاملات الإنسانية تفرض عليه ما لا يستطيع من مقابلة فكر بفكر أرقى وأقوى، وهو ما هو منه فقير، فيرضخ ليتعامل مع الوجود بفكر متهيب من المجهول، يحيط ذاته بالكثير من الظنون والمخاوف التي مع مرور السنوات تحرمه بطواعية من التمرس والإتقان لفن التعاملات البشرية، فلا يملك الفراسة للتعرف على معادن البشر المستوحشة - كما يتخيل – لينتهي به المطاف بين فكّي أحدهم. إلى أن يبلغ مرحلة يصعب عليه فيها استيعاب أن الرائعين حوله أكثر مما يتخيل فقط عليه إعطاؤهم فرصة، ليثبتوا له العكس ولكنه للأسف يتمادى في مخاوفه حتى يقع فريسة لها، فترميه الدنيا بأحضان كل أشباه ظنونه ليثبت صدقها فتتزايد شكوكه ويطول انعزاله حتى لا يواجه العار المتراكم في باطن الفكر المتخوف من الناس لتفقده العزلة إنسانيته ويتوه في واقعه المشوش. وعلى النقيض هناك من يتشدق بين الأرواح كجيفة سارحة لا تستشعر طعنات العار ووخز الخيبات المتكرر، فلا يستهويها الفهم ولا يعنيها التفكر بمحيطها، تتخبط بين هذا وذاك دون أن تتعلم الدروس وتتقن فنون التعاملات مع الأرواح البشرية التي تعرضت للإيذاء وما نتج عنه من تفاعلات مركبة يصعب تجاوزها أو بسيطة يسهل تخطيها. وبين ذاك وهذا، أناشدك بالاعتدال والوسطية فهي الملاذ الآمن، فإن كان فكرنا سليماً جاء نظرنا وأداؤنا سليماً وفق نسقه، وإن كان فكرنا معتلا جاء نظرنا وأداؤنا معتلا على شاكلته، من هنا تنبثق أهمية اجتناب مشوهات التفكير العضوية والنفسية التي تراكمت من تجاربنا ومخاوف المحيطين بنا، فبدونا متوجسين من كل ما يحيط بنا، وكأن العالم تمحور فينا، فما فعل ذاك هكذا إلا ليُغيظنا وما تفوهت فُلانة بتلك الكلمات إلا لتشوهنا، أما هذه فنظراتها لي مسمومة وذاك يتصيد للإيقاع بي، وهكذا دواليك تسير عجلة الحياة وهي تحتضن بين أتراسها مشاعر الريبة والخوف لتتوالد وتتكاثر بعفن الحقد والكراهية، فتخيط العناكب بيوتها معلنة الدمار الكامل لكل من يقترب من توجسها المستمر. لذا، أعد ضبط إعداداتك الفكرية وافتح أبواب عقلك وعينيك للحياة لتتعرف على أفرادها المتمرسين والهواة، ستصادف الصالح والطالح، وستتجادل مع الذكي والمتذاكي، كما لا يمكنك أن تفوت جمال تجربة التعامل مع الغبي والمُتغابي، أو يغيب عن تجربتك الحياتية رؤية الماكر والطيب، ففي كل واحد منهم متعة وفائدة مختزنة نستنبطها لفهم خفايا الوجود والأرواح البشرية، فلن يقضموا منك قطعة ويقتسموك كقالب حلوى إن لم تسمح لهم بذلك، مهما كان طعمك حلواً فهناك أنفس لا تشتهي المذاق المُحلى ولا تنغمس فيه ليقينها بأضراره المتتابعة وخطورة مجاراته. فالفكر هو ما نشعر به بوجودنا، ونهتدي به إلى وجود ما حولنا، قريبه وبعيده، ظاهره وباطنه، علينا أن نتوازن به لتتزن أوقاتنا وتصلح أحوالنا، بأن نتبنى الأفكار المرنة لخلق بيئة صالحة قوامها كلمة طيبة تريح القلوب وتسعد الوجوه، فليس منا من لم يتأذى، جميعنا نعاني ولكن الحياة لم تقف ولم نوصد الأبواب في وجه بعضنا البعض، بل على العكس من ذلك، كُلما تفهمنا الآخرين بادلونا الفهم وكلما تقبلناهم بكل ما نراه فيهم من قصور قابلوا نواقصنا بالرضا والقبول.
1452
| 13 سبتمبر 2023
غالباً ما تعمل الآلة الكهربائية كالتيربو حين تكون جديدة لتثبت لك صلابة أجزائها وأصالة معدنها وإن تركتها تعمل طوال اليوم فلن تتذمر، ولكن بعد مرور الأيام المتتالية والأشهر المتتابعة قد تصرخ حرارتها مرتفعة طالبة مساحة من الراحة أو مساندة خارجية كتغيير بعض القطع التي تساعدها على الاستمرار وإلا فإنها ستنهار ولن تنفعها كل وسائل الصيانة، وسترغب سريعاً باستبدالها بأخرى بعد ان يكون مصير الأولى الاعدام بمكب النفايات. كحال اجسادنا البشرية تُحركها الطاقة الكامنة والمُحيطة بشتى أنواعها وتؤثر على اتزانها الحيوي بموجاتها الكهرومغناطيسية لنشع نشاطاً بالمراحل العمرية الأولى، وبما ان كلمة طاقة تتسع لتشمل الطاقة الحيوية والفكرية والروحية، فكل حركة يقوم بها الإنسان سواء كانت عضلية أو فكرية هي استنزاف لهذه الطاقة، لذا فعملية التزويد بالطاقة يجب أن تكون مستمرة وبشكل وقدر صحيح لضمان استمراريتها بالمراحل العمرية المتقدمة. ففي كل فرد منا مخزون طاقي مختلف، كما هناك ما يُميز كل مرء عن الآخر (حسب تقديره الخاص) والذي عادةً يكون صادقاً، فمكنوناتك وقدراتك انت الكفيل الوحيد بقياسها وتقديرها، ولن يحدث ذلك إلا بالتمعن الداخلي والبحث عن كنوزها الخاصة، كأن تُزيل الشوائب التي خلفها غبار الايام، لتلمع ويشع ضوئها، وليشتغل كل منا على نفسه ويصنع رؤيته للحياة ويعمل على تغيير حياته للأفضل بتنمية مهاراته ولغته وتعديل سلوكه اليومي وتصحيح علاقاته الداخلية والخارجية. ولكن رفقًا بأرواحكم، خلقها الله لكم أمانة؛ ليس لتعذيبها بل لتهذيبها، والمسافة بين التعذيب والتهذيب كبيرة. قد لا ننتبه لتلك الفروقات بينهما لفترة من الزمن حين تجرفنا الحياة وتغوينا، لنتعارك مع أرواحنا قبل الآخرين فنتصادم معها ونجبرها على تحمل ما لا تطيقه في سبيل الغاية التي تبرر كل الوسائل، فمنا من يعمل ليل نهار ليثبت جدارته ويحقق طموحاته وهناك من يعيشها في سكون دائم إلى ان تحين اليقظة، ويحين وقت رؤية الصورة الكونية الكبرى لكل ما هو يحيط بنا من ماض نجتره أو حاضر نصارعه أو مستقبل نتقاتل عليه. في حين ان نظرة واحدة للوراء بتمعن وصفاء قد تغنينا عن كل هذا العناء، ولا أقصد هنا التكاسل واللامبالاة بل إني أحث على تجاوزه بالتمعن في المُتع الدنيوية لنستمد منها الطاقة اللازمة لتكملة المسير والاستمتاع بالطريق دون التعرض للتدمير الذاتي الذي ينتج عن الاضطرابات الرهابية النوعية كالقلق المستمر والغير منطقي والخوف الشديد من أشخاص أو ظروف أو أشياء. وكل ذلك بسبب إعطائها قيمة أكبر مما تستحق، فهناك مقولة تقول: لا تعطي الأشياء أكثر من حجمها فالأشجار تموت من كثرة الماء. أحرص على ألا تدع أبواب القلق الوهمية تُفقدك لذة الاستمتاع بحياتك، فلا تنغمس في عالمه، فالإنسان بطبيعته لو تدرج فكريًا لعلِم أنه يعيش في العديد من الأوهام المختلفة التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع. لا تدع الأمور الصغيرة تُشكِّل عائقًا في حياتك فتُلقي كل اهتماماتك وتركيزك عليها وتنسى الأمور الأهم التي تُشكِّل رابطًا أساسيًا في العديد من أمور حياتك. أنظر جيدًا لما حولك وودع ساعاتك التي تقضيها بالقلق والتفكير ليكون لها معنى أجمل في عالم الاستمتاع الروحي، ويكون ذلك بالتخلص من الخوف الذي يُحيط بك من كل جانب، ذاك الذي يستنفد طاقاتك ويُلقي بك في غِياهب الهزيمة الذاتية. أفسح مجالاً للحب في حياتك ليتغلغل بداخلك ويتناغم مع كلّ من حلق بحياتك خيرًا ولكن، الاهتمام الرئيسي يكون لشؤونك الذاتية - دون أنانية ـ التي وقفت أمام ريح الأيام كثيرًا وصمدت وحان قطافها لتكتسب الهدوء الذاتي الذي سيحقق لك كل غاياتك دون اللجوء للاحتراق في بوتقة مخاوف اختلقتها افكارك التي استنبطتها من تجاربك السابقة، فكلنا نتغير والظروف كذلك لا يغيب عنها التغيير بل هو مبدأها. ثِق بحدسك وتَمحَّص تلك الأمور الخارقة وسط الأمور العادية ولا تكن عشوائيًا بإدارة حياتك، فقم بتنظيم جدول زمني يقودك نحو تحقيق الفكرة العامة. كن واثقًا بقوةِ أفكارك واطلب رجاءً من توجهاتك الذهنية بأن تكون إيجابية فهي رفيقتك طوال حياتك، استغلها وتخل عن الفكرة التي تستنفد طاقة الإبداع في داخلك والتي توحي بأنه يجب عليك أن تحصل على كل شيء وما دون ذلك فالموت أحق، فهذا هراءٌ يقودك للفشل والهزيمة.
1845
| 06 سبتمبر 2023
على هامش الحياة نتخبط لدخولها، عسى أن نفترس أحدهم أو يبقى لنا أثر من بقايا الروح، صفحات بيضاء لطختها أيادي البشر بعد أن تزينت بألوان الطيف المبهجة، لنغدو رقماً بين مليارات الأنفس التي تستنشق أكسجين الحياة وتزفر رماده بوجه أعدائها، تقتات على رفاتهم لترتفع درجات قد تظن لوهلة أنها تُقربك من المراكز العليا وترتقي بك لتتربع على عرش الاستحقاق، لكنها في الواقع ذاته قد تبعدك عنه درجات صُنفت أرقامٌ عُليا أكبر لا تخلو من الأفضلية. كثيرًا ما مثّلت الأرقام «طاقة» تُحركنا وتتحرك بها الأحداث والأشياء من حولنا، فلا عجب أن نجد لها وقعًا وتأثيرًا في مختلف الثقافات الإنسانيّة باختلاف أزمانها، ومستويات تقدمها أو تأخرها، فالأرقام تُحيط بأجسادنا وتنظم كوكبنا، تشاءمت ثقافات محدودة من بعضها وتفاءلت أخرى بالبعض الأخر، إلا أن علاقتنا بها باتت تنتقل لمستويات غير مسبوقة من الاندماج شبه الكامل، فكل شيء أصبح قابلاً لرقمنته. إنه زمن تصدير الأرقام وتوصيفها بقيم افتراضية، كيف تكون رقماً صعباً، كُن رقماً مميزاً، عليك أن تحتل رقماً بارزاً، لا تقف على الهامش، وكأن الهامش نكرة يُعبرون عنه بللا شيء (الصفر)، يدخلونه على الأرقام ليحدث تغييرا وفارقا كبيرا بالقيمة والكمية والمضمون، حسب موقعه بينها، ورغم ذلك فهو الفراغ الذي عبر عنه الخوارزمي بنظرياته. فما الفرق بين الواحد والمائة؟ لعلنا بمعرفه الإجابة نستخلص أيهما أفضل، وهل التدرج التفضيلي من الأقل فالأكثر أم هو من الأكبر فالأصغر؟ ومن ذاك الذي يملك مقاييس الأفضلية التي تتناسب مع الجميع، بعيدا عن الروح الإلهية ودرجات الفضل عند الله (سبحانه) وتعالى قدرة عن هذه المتناقضات الدنيوية. أذكر جيداً في أولى سنواتي العملية، واجهني مسؤول لا تعنيه المسؤولية بمقولة: عدم ضرورة أن يكون ناتج عملية الجمع للرقم واحد ونظيره هو العدد اثنين، فلم استوعب حساباته الواهية، لذا جادلت منطقه الهش الذي أربكني واضطرتني مقاييسه المتضاربة لترك العمل، كيلا انساق لهذه التناقضات، ومن يومها ما عادت تستهويني الأرقام وسباقاتها الواهية، بل باتت تُثيرني وتزعجني عندما تُطلق لتقييم موقف أو فرد، وكأنها عملية حسابية غير كونية يتناقض البشر في احتسابها، كلٌ حسب رغباته وحاجاته الدنيوية يتلاعب بها ويصنفها من الأساسيات الحتمية التطبيق، لترتكز عليها حياة الآخرين من حوله، مما ادخلني في تساؤلات فردية ومعارك فكرية تشوبها الحيرة والارتياب لهذا المبدأ المخالف للمنظومة الحسابية والنظريات المتعارف عليها. أعترف أنها استلزمت مني سنوات من الخبرات والتجارب والحروب الواهية، لاستكشف حقيقة مقصدهم وتلاعبهم بالحسابات لإنشاء قواعد نظرية جديدة مفادها: لا تتشبث بالأسس والثوابت، وأطلق مرونتك الذهنية لتتناغم مع متطلبات الحياة الظرفية. درس قاس نخوضه في معترك التناقضات (تكمن الفوائد بنتائجه)، فكثيراً ما تثبت لنا الدنيا ضرورة مسايرته، كيلا تدور عجلاتها العكسية محطمة آمالنا، فتجتز حصادنا بشكل مباغت لا تتقبله طموحاتنا الهائجة. لكن على الدوام عند نهاية المطاف تتضح الصورة الكبرى، لتؤكد حجم خساراتنا التي لا يمكن تعويضها، مثبتة بما لا يدع مجالا للشك أن الحلول الخاطئة ستترتب عليها نتائج كارثية تسوقنا لنهايات حتمية، كان بالإمكان تدارك بداياتها. لذا، تشبثت بدقتي وقراراتي وإن رآها البعض خطأ فادحا، فلا ترضيني الحلول الرمادية، حفظت الدرس وتدرب عقلي على رسم خطوطه الحمراء وأيقنت بأنه أنا فقط من يملك حق الدفاع عنها ويجبر الآخرين على احترامها، لن تتغير حساباتي ولن أكون طرفاً في عمليات رقمية لا تعنيني، لأنني ببساطة لا تستهويني الأرقام وسباقاتها ولا ابحث عن رقم يحدد موقعي بقدر طموحي للتفرد، فلا يعنيني ما هو الرقم الذي سينصبني عقلك فيه، ولا مقدار تقييمك لقيمتي المضافة، فتواجدي بهذه الحياة ليس لمنازعتك على رقم أو مكانه، بل جل اهتمامي، عدم الاهتمام، وقمة رغباتي، إلا رغبة. خلاصة القول: قيمة الإنسان الذاتية لا يستمدها من الآخرين - فأغلب الطغاة نصبوا لهم التماثيل، في حين يُرمي الشجر المُثمر بالحجارة - تقديرك لقيمتك هو رأيك الشخصي بنفسك، لذا احرص على أن تبقيه هكذا، فلا ينبغي أن يعتمد أو يبنى على تفاعلات وآراء الآخرين، فما دمت مقتنعاً بما يناسبك فأنت تملك حق انتقائه ورفض ما لا يتوافق مع توجهاتك وحاجاتك.... قيمتك ليست رقما يحدده الآخرون.
1059
| 23 أغسطس 2023
اعتدت تدللاً ألا أفتح لضوء الشمس عينيّ مباشرة مع بداية يومي، أتحاشى أشعتها بنظارتي الداكنة، أداري عنها أنسجتي المُرهفة خوفاً من قسوتها الحارقة، فلا تغريني موجاتها الكهرومغناطيسية ولا تشفع لها رحلات عبورها غلافنا الجوي، لكن خبر رحيلك في ذلك النهار الحار المشمس أنساني تفقد حقيبتي قبل خروجي من المنزل للتأكد من وجود النظارة بها. كالصاعقة وقع، جعل خطواتي تتسارع لأسابق الزمن لعل الحياة تمنحني لحظات وداع لمن حكم الزمن علينا بمفارقتهم وكأن غيابهم كان مُفاجئاً. تجاهلت كل الدلائل والإشارات والتقارير الطبية، استبدلتها بالحظ الذي رافقني دائماً، لكنه اليوم غدر بي وخانني معك، أختبأ بجيوبك الأنفية وتحت هالاتك الداكنة ليرسم ابتسامة رضا على شفتيك، وأنت تودعين بها جسدك الذي أسرف بالكتمان حتى تآكلت أجزاؤه بالأورام. أحكمت يدي على مقود السيارة بعد أن رميت بجسدي داخلها وتركت لها توجيهي لتقودني لمصيري متوكلة، غير مكترثة لمطباته وتعرجاته، بعقل شارد تتسع أحداقي أمام ضياء الشمس، لتنير بصيرتي لنعم حُرم آخرون منها. كم هي بديعة دافئة، فلم تؤذيني أشعتها لأنني بادلتها الحب ولامست أطيافها لتتدفق بمقلتي المتعطشة للهبات الربانية التي اعتدنا وجودها فهضمنا قيمتها وأبخسنا دورها وحقها وكأنها أمر مُسلم. فليس معتاداً في عمق دوامة الحياة تدبر أن هناك أرواحا طويت صفحاتها وغُلفت أعينها وكُفنت أجسادها، وحُرموا من هذا النور الأرضي للأبد، إلا عندما تفقد عزيزاً ويؤلمك هذا الغياب الذي لا يليه لقاء، يغادروننا راضين مُكتفين ولكن بجعبتهم أُمنية عودة لهذا النور الكوني، لتبليغ وصية أو طبع قبلة أو فعل خير يرفعهم درجات وينير مثواهم. رغم سرعتي وصلت متأخرة، فصلتني عن مغادرة جثمانك الأخيرة للبيت دقائق بسيطة، لا يمكن قياسها بعد أن سرقت وداعك بين أجنحتها، لم يعد للدموع قيمة ولا للعزاء جدوى بعد أن سلبتني الصدمة مشاعر الحزن، أربكت مشاعري ففقدت بوصلتها لتضيع بين الوجوه المتصنعة وبكاء الغرباء، تبتسم لصورة كَفّنها الموت التقطتها يد مُحبة، تسببت بانهيار آخرين وسقوط كل أقنعة الصمود والجبروت التي نتجمل بها، حشود مواسية جاءت لترثيك بالوقت الضائع، وجوه كانت لك مصدر ألم تنتحب اعترافاً وتكفيراً، ليتك تشاهدين سكينتك وهدوءك ماذا فعل بهم. إنه الفقد الذي يُفجعك رغم انتظاره، ألم عميق لا دموع له، تذكرة رحيل تم حجزها غير محددة بوقت أو يوم، أرعبك قرارها ومباغتتها روتين حياتك، فلا تملك ترف توقيتها، ولا كُتيب يرشدك لأسلم سبل مواجهتها. أرواح نفتقدها، غادرت عالمنا السطحي ولكنها ستبقى بأرواحنا تنبض، وإن أشغلتنا الحياة وعاركنا أمواجها إلا أنها الحقيقة التي تطأطأ رؤوسنا وتفقدنا حاسة التذوق، أن في غيابهم هيبة، نقف أمامها بذهول يشل أطرافنا، فلا ننتحب، لأننا نبكي دائماً فيما بعد، عندما تتجمد الدموع، ويتوقف الحداد، وتتسع المسافات، نخبئ دموعنا تحت وسائدنا لنخنق صرخات وجع الفراق، نشيح بوجوهنا وهي تشيخ لعل روحاً تعود لطمأنتنا أو زيارة بـأحلامنا تسعدنا. أنيقة أنتِ بآلامك وأحزانك وجراحك، كذلك كُنتِ بغيابك، لم تطيلي مرورك بين الحيوات إلا عليك، رأفتِ بمن لم يرأف لأوجاعك بتجاوزك غيابهم عندما كان ضروريا وتجاهلك نكرانهم الحقير لعطاءاتك. ما زالت نبرة صوتك تتدافع بأذني الوسطى، أسمعها بقلبي هذه المرة، لها وقع مختلف تماما، أستشعر بذبذباتها كل ما كان يصعب عليك بوحه أمام نصائحي المبتذلة. فقط الآن استوعبت عدم جدواها، فألمك كان أكبر من فهمي ومعاناتك أعمق من مداركي، ورغم ذلك كنت تستمعين وتتصنعين التقبل لكلماتي وهي تتطاير حول رأسك ولا تدخله. أعلم بأنك ذهبتِ غاضبة، فلم تكن مقاسات العقول تناسبك، ولا تقلبات البشر تطمئنك، وأيقن بأن دموعنا لن تكون مصدر عزاء فلن تنتبهي لعويل رثائنا أو رسائلنا الصوتية، لأنكِ لم تعشقي الهاتف إلا للحديث معنا، فلم تستهويك تطبيقاته أو تشدك إغراءاته، وقد تكون سبب عداوتك له علمك بأنه سينقل خبر فراقك لنا لتتسارع الدموع الافتراضية والمشاعر الإموجية بتوديعك. تعلمين جيداً بأنني لن أنهار أمامهم، لأن الجينات التي جمعتنا لا تتسق مع الانهيار الذي خطف سعادتك، لم تكوني مجرد صديقة فالقرابة العائلية جمعت طفولتنا وتشاركنا الضحك على ذكرياتها التي سأتشاركها الآن مع ذكرى رحيلك الذي سيحول بينك وبين قراءة كتاباتي التي استهويتها، ليتك تقرأين وجع فقدك... لكن للأسف لا تصدر الصحف بالمقابر بل فقط تنعي قاطنيها.
1737
| 19 يوليو 2023
لم تبدأ حكاياتنا لتنتهي، ففي كل يوم لنا حكاية وقصص وروايات، تجارب سابقة تشبعت قلوبنا بغصاتها لتقسو، تجرعنا مرارتها ليستفيد اللاحقون، كما تلذذت أرواحنا بنقاء أفراحها التي سرت بعروقنا كالبلسم، منعشاً طرياً حدوثها كالندى، نتشدغ بحلاوتها حاملين رايات النصر العظيم، نتزاحم لنلحق بركب السعادة الأبدية، الهُلامية، فخلف أبوابها العتمة دوما ما تُشرق أنوار الصباحات الجميلة معلنة عن بدايات جديدة أجمل، وحكايات جديدة تنثر عطرها بممرات قلوبنا المُحبة للحياة، نستفتح على نسماتها، نستجمع قوانا الآيلة للتهالك لنبدو أقوى، نُقلب فيها صفحاتنا عبثاً، تتطاير أوراقنا بعد ان سطرنا بها مشاعر وتواريخ لأحداث قد لا تكون بذاك القدر من الأهمية ولكن مواقفها لامست فينا أمراً، أو احدثت بنا شرخاً، جهلنا فحواها وقت حدوثها، لكن الآن، وقد فهمنا أكثر مما تمنينا يوماً أن نفهم، تجلت لنا الحياة بإعوجاجها وقلة مروءتها، تعاركنا معها واضعين نصب اعيننا النصر أو الفناء، نجتر حكاياتنا لنُفاقم ما يحلو لنا ونطمس ما لا يروق لمسمعنا، نتشارك ملاحمنا الأرضية رغم اختلاف الادوات والأسلحة التي نتدجج بها إلا ان جراحنا مشتركة وآلامنا متشابهة كتشابهنا في صفاتنا الإنسانية رغم اختلاف طبائعنا البشرية. نحاول جاهدين ترتيبها وهندمتها بالتقاط المبعثر منها من على طاولة أفكارنا التي تضيق فلا نجد بها منفذا لوضع قلم صغير، ثم فجأة تتمدد حتى لا تكفيها المساحات الكونية، لتسيطر على حاضرنا وتحرق المستقبل. إنها خبراتنا المؤذية التي تلاحقنا فتؤرق سكوننا وتعيق تقدمنا، بالرغم من ثيابها الرثة إلا إنها ما زالت كحصان طروادة تخترق رؤوسنا لتذكرنا بما مضى، لنعود ادراجنا بعد ان حاصرتنا بمخاوفها واضعين أمامنا حواجز وهمية تؤكد قوتها الزائفة. حقيقة ابدية تتكرر نجتمع في بعض حقائقها ونختلف بالكثير منها ولكن لكل منا حقائقه المسيطرة، تبقيه رهينة لتمارس عليه ارهاب احتمالاتها، نضيع في حسابها ونتشتت عند ذكرها، لنبقى سجناء أسوارها التي نبنيها بأيدينا. حتى نيوتن ما كان ليقدر على قياس قوتها وحجم دمارها، رغم انها مشحونة بالعواطف والمشاعر إلا ان كتلتها المادية ليس لها وزن في مقاييسه. ولكن متى ستتوقف تلك التراكمات السامة، ونتخلص من هذه الأشلاء المتناثرة؟ قد تكون الإجابة بسيطة عندما نضع الماضي بمكانه الصحيح كتجربة ولت وخبرة نفعت، فهو مجرد ذكرى تراودنا لن نعطيها قيمة بتكرارها، كي لا تتحكم بنا، ويمكننا تجاهلها تماماً فنحن المسئولون عن حياتنا وأحداثها. ولأنك تدرك صعوبة الواقع فلن أخدعك بهذه الكلمات العقيمة، لأنه ليس هناك سبيل للانسلاخ من كل ما مضى، فما حدث سيبقى محفوراً إن لم تواجهه وتتقبل حدوثه، وتسامح أطرافه ممن أخطؤوا بحقك، لتتكيف مع ذراته وتتجاوز حالاته. لذا أيقنا بما لا يدع مجالا للشك، بأن السعادة قرار نستمده من تجاربنا التي زادتنا عزيمة لا يخذلها موقف، وصلابة لا يكسرها ماض ولا يعكر صفوها حاضر، ولأننا ندرك أن ظلام النسيان نعمة لا يحققها إلا العظماء، فلن نبدأ معركة الماضي والحاضر كي لا نخسر المستقبل الذي سيصبح حاضراً قريباً، لأننا لا نريد ان نكون عظماء بقدر رغبتنا بأن نكون سعداء ولن تكون هناك نهايات جميلة لكل حكاياتنا ان لم تكن بداياتنا الجديدة حاضرة.
1818
| 12 يوليو 2023
إلى القلب الكبير والحصن المنيع الذي التصق باسمي ليُثبت قواعده ويقوي ركائزه ويرسم تاريخه. إلى من لا زال يؤنسني خياله كُلما فاضت بي الذكرى وطال عنائي. يتذلل قلمي وينحني أمامك مُعتذراً... فلقد أقلقنا راحتك بتفاصيلنا ومطالبنا التي لا تنتهي، جعلتنا جوهر اهتماماتك حتى قبل أن نُخلق، تداخلت أقدارنا معك لتغدو تضحياتك إجبارية، فانسابت أيامك من بين أصابعنا، دون ان نشعر بثقلنا ونحن نتراقص حولك ونقفز على كاهلك. لن اخفيك اشتياقي لنظراتك الحادة رغم ذبولها، وضحكاتك المجلجلة رغم ندرتها، أفتقد رحلاتك البحرية صيفاً ونزهاتك البرية حين تخضر الأرض ويشتد الشتاء، أذكرك مع ارتفاع الأذان وصباحات الأعياد وسقوط الأمطار، فأشتم عطرك المفعم بصوتك الجهور، لكن تلك الذكريات لا تهوّن عليّ سفرك الأخير بل ترعبني وتقهرني وتفاقم فقدي لتفاصيلك. الآن بت أفهم بأن الحياة قست عليك قبلنا، عندما حرمتك صغيراً حنان الأبوين، فلم تعتد ان تظهر مشاعرك التي كنا نلتمسها بأفعالك ونظراتك التي تحرسنا كيلا يصيبنا مكروه أو يعكر صفونا عارض، استوعبت قسوتك وتقبلت الفاظك واحببت قوتك وصرامتك لينتهي بي الأمر وأكون نسختك. لم تكن هين الطباع، بل كنت رجلا شديد البأس ذا هيبة صنديدا، لا تسمح لأحد بمناقشتك أو مُخالفة أوامرك أو الخروج إلا برفقتك - ولا أنكر استثنائي من بعض ذلك - لذا فلم أعترض أبداً لقناعتي بخوفك علينا وحمايتنا مما هو خارج السور. لكن رحيلك بعثر اللمّة التي ما ظننت عقدها سينفرط، غاب الأسد عن عرينه، غاب الزاهد الصارم المُتدين عن معبدة، فقدنا التعويذة الحامية من الجن، والتراتيل الصباحية، انطفأت الشمعة وانكمش شعاعها المحيط بنا فغدونا كالطائر الصغير العاري من الريش عندما يُرمى وسط طريق مزدحم والمطر ينهمر امام عينه فلا يُميز الاتجاهات التي عليه ان يسلكها ليتفادى ضربات الزمن التي ستفتت عظامه وتبعثر أشلاءه. أعلم بأنك تُعاقبني لأني ابكيتك يوم زفافي، ورأيت دموعك النادرة وانت تشيح بوجهك عني غاضباً وقد احتقن وجهك دماً وبرزت عروقه، لم يكن استيعاب ابنة التاسعة عشرة ناضجا حينها لتعي وجع الغياب الذي سببه انتقالها لمنزل يبعد عنك عشرات الأمتار فقط. فلم أفهم بأن بُعدي اتعب قلبك، وأسرع في رحيلك، إلا بعد مغادرتك بسنوات، لأكتشف بأني انشغلت ببناء أُسرتي المستقبلية لأهدم الماضي الذي سيظل يلاحقني... سرقت الصدمة دموعي وكذبت حقيقة غيابك، لكونك دائماً تغيب لتعود مشتاقاً لأناملي التي تداعب خصلات شعرك فأشتم أنفاسك وأنت مُستسلم بين يدي الصغيرتين، تحكي لي القصص وتمازحني مُدللاً. لكن بعد ان طال غيابك وأيقنت أننا لن نكون بعد الآن معاً، بكيتك بحرقة حتى تقطعت أنفاسي وتمزق قلبي كمداً عليك، فلم أتقاسم حزني، لأني أردتك حتى في غيابك لي وحدي، أنعى أياماً معك لن تعود وأماكن تلاشت من خريطتي ومناسبات خلت من وجودك، اناظر صورتك التي لم تفارق هاتفي، واتحدث معها، لأكتشف بأنك ما زال لديك فضول لمعرفة أخبارنا؟ دعني أُطمئنك يا أبي، فلم يتغير حالنا كثيراً، عطاءاتك لم تضمحل بغيابك، كالشجرة نستظل بأغصانها الممتدة، تجمعنا معاً رغم الشوارع الطويلة وأسوار المنازل التي تفصلنا، فبعد ان سلمت الراية لوالدتي، امسكت بدفة السفينة لتقودها بأمان فتلك السيدة الضعيفة استمدت القوة من غيابك الذي كسرها أول الأمر ولكنها نفضت حزنها لتتعامل بحكمة مع المحن والخسارات التي كبرت بعدك. أخبرك سراً؟ ابنتك الكبرى التي كانت دائماً تعارضك وتختلف معك، امتلأت ندماً وتدعو رضاك بعد ان أنهكها غيابك، عسى ان تعود أيامك لتختبئ بين جناحيك، وأخي الصغير ما زال غاضباً تائهاً يبحث بين الوجوه عنك، تركته بعُمر لم يكن فيه صغيراً لينسى، ولا كبيراً ليحتمل ألمَ رحيلك، استندنا جميعاً بكتف أخينا الكبير الذي ولد بلا طفولة أبا صغير يحمل صفاتك وجد نفسه دونما رغبة أو خيار يحمل أقدارنا بعد ان قرر أحد أخوتي فجأة ان يذهب اليك دون وداع. أرجو ان تعذر صراحتي كما أعذر قلة تواصلك، لذا لن أكف عن تسطير كلماتي التي تثور بعد زياراتك لأحلامي مُبتسماً، مُطمئناً، لتنفرج اساريري مع الصباح فتُضيئ أحلك أيامي. وبالرغم من كونك لا تعرف القراءة إلا أنني بعد ان ولَّت عشرون سنة على غيابك قررت ان أضع رسائلي بجوار قبرك في الزيارة القادمة، لأنك ستبقى دائماً في فؤاد صغيرتك.
1956
| 21 يونيو 2023
لم يفارق مُخيلتي منظرها الكئيب وانطواؤها الخجول، نمر من أمامها دون ان نلاحظ وجودها وكأنها ما عُلقت عليه، لقد كان بوسع الحائط عكس صورتها كالمرآة لتغوص في سطحه كسفينة تلتهم أجزاءها الأمواج عندما تتشابه وتختلط بألوانه، فتشاركه الجمود لتذبل بين أحضان أمها الحنون، أذكر حجم زواياها الأربع عندما تعتلي ذرات الغبار إطارها الداكن، تنتظر بتوجس عابراً يقظاً يسير بقُربها تتعلق بها نظراته، ليلاحظ وجودها ويعيد لها الحياة التي ألفتها، عندما كانت تستصرخ مستنجدة اهتماماتنا المتراكمة، تحثنا ببراعة المتمرس لتثير حواسنا، تستجدي نظراتنا لتلاحق خطواتها وهي تدور باستحياء في حلقاتها المُفرغة لنستمع لدقات قلبها المتسارعة والتي للأسف لم نعرها انتباها لعقود. فلقد كانت أجسادنا ملتصقة بتلك الدقائق ولكن أرواحنا تبتعد آلاف الكيلومترات عن لحظات السعادة التي تتضمنها كل تلك الأزمنة بأجزائها الدقيقة المتناهية الصغر. كانت تعلم بأننا سنعود لتأنيبها وتوبيخها على سرعة مُباغتتنا بعد ان ضاعت الأوقات وتلاشت اللحظات، سنلتقيها بالممرات وأكبر الصالات لنلقي جُل خيباتنا على طعنات عقاربها المسمومة التي سلبتنا الفرص وقضت على أحلامنا التي ابتلعها الزمن مع سنوات العمر فذابت كأدمع الشمع. كبرنا معاً ولكن الثواني معها كبرتْ أكثر لتمتص قواها، في حين انتقصت من أعمارنا وتسربت كالزئبق من بين أصابعنا، فاختلطت المشاعر بين مراقبة هرولتها وتجاهل صوتها الذي يتك تك في الأرجاء. فبعد ان مضت كل تلك السنين، نتذكر مواقف وأحداثا تُعيدنا لتلك الأزمنة ولكن نعجز عن تذكر مشاعرنا خلال كل كمية الثواني والدقائق التي عشناها، فنحن نمضي بطريقنا حاملين الماضي بتفاصيله ومنشغلين بالمستقبل وأهدافه، غير مكترثين بعيش اللحظة التي باتت جزءا زمنيا يمضي بين الماضي والحاضر يخلو من المتعة والأهمية. ثم بعد كل ذلك يأتينا من يتشدق بالأعمار ويقارن بالأرقام، ليوحي لنا بالكبر والعجز، وكأن حالنا تغير الآن وبتنا نأبه لأعدادها المتزايدة أو نخشى تناقصها. نعم انه واقعنا الحتمي، فستستمر الحياة وستتوالى الساعات والأيام إلى أن تنقضي أعمارنا الزمنية، وليس من ذلك مهرب، ولكن بالقلوب تكمن هوية أخرى وإدارة مختلفة للزمن يتم تسجيل العمر الافتراضي فيها لقلبك، فإن كان متوهجاً تلاشت منك أعراض تلك الأعوام، لتؤمن بأن تلك الأعمار ما هي إلا أرقام يحددها الآخرون لنا، وأن هناك أرقاماً يحددها القلب بإيعاز منك، فاحرص دائماً على عدم رفع سقفها الرقمي. فبعد خوض كل تلك التجارب التي امتزجت بالانتصارات والإخفاقات، وجدنا أننا لم نكن مُجبرين على ممارسة تلك الطقوس الحياتية التي أُقحمنا مُرغمين بدواماتها اللامتناهية لننغمس بصخبها مُتجرعين كؤوس آلامها المُرة، متسائلين باستغراب ألم يحن الوقت بعد لتحطيم كل تلك الكؤوس!!! واستبدالها بقوارير نرتشف من مبسمها عذب المذاق والشهد المـُصفى، لنتلذذ بلحظاتها ونستشعر جمالياتها الأبدية، لكون القلوب لا تشيخ والأرواح لا تهرم، وان بدت علاماتها على أجسادنا فلن تطول أعماقنا المُحبة للحياة كزهرة تزهو ببساتينها الفسيحة وتتباهى بأغصانها المثمرة. فلا يثبطك رقم، أو يرعبك افتراس الشعيرات البيض لمرآتك التي لم تحتفظ بشبابك كما يفعل ألبوم الصور، ولا تتوجس من قطار العمر فهو لن يفوتك ما دمت تقف منتظراً له على أرصفة المحطات كخيول جامحة لا تُقيدها مسارات، يمضي ناسياً مكابحه، دون ان يكترث لتلك الأرصفة المكتنزة بمواويل الحزن وآهات الغرباء، لتحجز مقعداً أمامياً بقرب نافذة الأمل وتشاهد ومضات العمر الجميل وانت مغمض العينين بكل طمأنينة، دون امتعاض لقطرات المطر التي تكدست لتحرمك متعة النظر من خلالها، أو تُفزعك فكرة الارتطام أو حتى يزعجك ضجيج الركاب، سكينة لا تنشغل فيها بضياع حقائبك ومستوى الخدمات التي لم توفر لك، فلقد أرهقك الترحال وتآكلت تفاصيلك بحثاً عن موطنك، فكل ما يعنيك الآن هو لقاء محبوبتك الشقية، التي مع مرور الوقت تزداد اشتياقاً للجلوس بقربها والاستمتاع بهمسات أحاديثها، ها هي تقترب بثوبها الأبيض الفضفاض تقطع الممرات فتنكسر الرقاب لهيبتها، لتختارني أنا وتمنحني شرف رفقتها الدائمة، إلى أن تصيح الصافرة معلنة مغادرتها لمحطة الوصول برصيف النهايات. إنها اللحظة، نعم هي معشوقتي التي أنوي أن لا أفارقها، وبت أدرك وأستشعر جمالها لذا سأعيش سائحاً بين القطارات بحثاً عنها، فإن كان ليس بأيدينا ان نعيش طويلاً فإننا نملك أن نعيش كثيراً بامتلاكها، فيوماً ما سننظر للخلف وسنشعر بالفخر لأننا لم نستسلم لبلوغ مرحلة عيش اللحظات التي لا تعادلها حياة. Twitter: AlKubaisiSha
1419
| 16 يونيو 2023
لسنا خارقين للطبيعة، نعترف بقدراتنا المحدودة وتقلباتنا المزاجية المزعجة، نتباهى بتعدد الأدوار وحمل الأثقال، بالرغم من هشاشتنا نتحدى أنفسنا ونقودها لمعتقلات غوانتنامو السرية لتهذيبها وتعذيبها تأكيداً للصمود بوجه مفترقات الطرق ومطباته الحديدية، بضمان ـ طويل الأمدـ للصدمات والكوارث الحسية، مُتشبثين بقراراتنا البالية، نحارب من أجل أفكار لم تُخلق لنا وندافع عن أشخاص لن يكونوا معنا بعد شهور أو سنوات، كأن جلودنا لم تكتف من دبغها المتكرر، كاشفة آثارها المنحوتة التي نرمقها بوقوفنا أمام مرآة العمر متطأطئين، تخذلنا شجاعتنا، ويخوننا كبرياؤنا أمام وسمّ القسوة الجارح والنظرات المُستنكرة بجهالة ما خلفته في أرواحنا تلك التجارب السامة. دعني أوضح الأمر ببساطة أكثر ليتقبلها جسدك المُنهك، فعندما تضع يدك بالماء الدافئ تسري بأوصالك رجفة بحّار عاشق لأمواج الغموض والتناقضات، فتغوص بأعماقه متلذذاً بارتفاع سخونته التدريجية، المتناغمة مع انسجتك وأوعيتك الدموية، إلى ان يبلغ درجات عالية من الحرارة يرفضها جهازك العصبي وينبذها عقلك بتخطيها سقف مقاومته الطبيعية، حينها يرسل برج المراقبة صافراته الفورية التحذيرية، لتنفض يدك سريعاً مبتعداً عن مصادر الألم وكارهاً لها، متجاوزاً الآلام الحارقة والكدمات المشوهة التي خلفتها طول المدة الزمنية التي قررت بها الصمود اختباراً لقدراتك. لتنظم للكثيرين ممن تمكنوا من تجاوز الآمهم للنهوض من جديد، فلم يتقبلوا فكرة كونهم دُمية يتم تدليلها بوقت الفراغ ثم تُرمى بمنتصف الطريق لتدوسها عجلات المارة لأنها لم تعد ضمن أولوياتهم، خرجوا بمسيرات فكرية للمطالبة بعدم معاملتهم كقطعة سيراميك مصقولة لوثتها أحذيتهم القذرة وطلباتهم التعجيزية حتى تآكلت أطرافها وملأت الثقوب بشرتها الناعمة فلم تعد مشاهدتها تسر ولا جدوى لوجودها، توقفوا عن تقديم التضحيات لغير مستحقيها بعد ان اكتفوا من تأمل الزمن وهو يفترس المشاعر وينثر غباره بوجوههم كهالات سود. اعترف انه ليس من السهل حماية أنفسنا من الأذى والمشقة، فهناك أجزاء كثيرة في حياتنا لا يمكننا السيطرة عليها، إما لتمسُكنا بالكثير من المعايير والأفكار والعادات التي تثقلنا بالكرب وتستعبدنا، أو بسبب المخاوف التي تملأنا من المتغيرات ذات الدروب الوعرة، وعدم ثقتنا بأنفسنا والتقليل من قدراتها بإجبارها على إرضاء رغبات الآخرين والسماح لهم بتعريضها للتهميش والانتقاد الدائم، الذي يعوق نجاحاتنا ويطمس مواهبنا، وان كانت كلها أعذارا واهية يصب مجملها في جرة واحدة نتجرعها بالمشهد الأخير. لتكتشف اطماعهم الاستغلالية، فكُلما أرخيت لهم حبالك ضاعفوا أثقالهم وأحكموا قبضتهم، ينظرون لتنازلاتك بسخط وجحود فلا تعنيهم تضحياتك التي تحتضنها لتدفئة كرامتك المتجمدة، تاركين جراحك تنزف بلا ضمادات، كلما شارف التئامها باغتوا تقرحاتها بذرّ الملح، ليشاهدوك تغرق مرةً تلوَّ الأخرى كما تفعل المرساة. ولكن هناك حدودا قصوى ونقطة بآخر السطر تُنبئنا بالنهاية، علينا ان نتعلم كيف نراها لنقلب الصفحة، مودعين بقصد كل النقاط السوداء، صارمين في أولوياتنا وعلى دراية تامة بفنون التخلي المنعشة قبل أن يتم التخلي عنا. لذا أقول لكل شخص أخفق في التخلص من هذه المرارة، أسأل ذاتك الأسئلة الدقيقة التي يمكنك الإجابة عنها بوضوح دون الرعب من الاعتراف بالحقيقة التي قد تكون جلية للجميع إلا أنت، حينها ستميز وتفرق بين أزهارك التي تزهو وتعطر نسمات صباحك وبين أكوام الفحم القبيحة القابعة عند بابك لتحجب عنك الرؤية، تنفث دخانها بين عقارب بوصلتك الحياتية لتنحرف عن مسارها.
2445
| 08 يونيو 2023
تتباين معاييرنا الموروثة وقيمنا المكتسبة، فمعتقداتنا سطحية وتجاربنا غير متشابهة وخبراتنا متفاوتة، رغم تواجدنا بمحيط جغرافي واحد إلا أن بيئاتنا الصغيرة مختلفة في عمق الأثر والتأثير، مما أنتج خليطا من الأفكار المتضاربة والآراء المتعارضة التي تتنافس وتتصارع ليس فقط لإثبات صحة فكرتها، بل للإطاحة والتقليل من أفكار الآخرين - فكل قول يُخالف أقوالهم يستحق الرجم، وكل فكرة تُعارض أفكارهم جزاؤها النحر بعد التمثيل-، هذا ما أفرزته المُحصلة النهائية للأفكار المزروعة منذ الطفولة والتي تبلورت لتخلق معتقدات راسخة يصعب تغييرها. أتفهم أنها تساؤلات يفترضها الواقع، واستعداداتنا الفطرية تُمكنا وتُحتم علينا تحليلها وتدقيقها بتمييز مسبباتها وما يترتب عليها للوصول لقناعة ذاتية تؤكد مدى قربها من الحقيقة، ولكن ماهي الحقيقة التي يطمح الإنسان لإدراكها؟، فبالرغم من ارتباط الحقائق بجنسنا البشري إلا أن البشر تضاربت آراؤهم، فمنهم من يقر بوجود حقيقة مُطلقة ما دامت الأشياء مُتضمنة لصفاتها في ذاتها وتدركها عقولنا، في حين بالمقابل هناك من يـؤكد على استحالة بلوغها ما دام العالم في تغير مستمر والعقول تنمو وتتطور، وبين هذا وذاك فإنه علينا التمييز بين ما هو جدير بها وبما هو نسبي لا يرتقي أن يبلغ مشارفها. بالتأكيد لكل منا ثوابت مُحرمٌ مساسها، مقياسنا الوحيد فيها لمعرفة الصواب والخطأ هو الأخلاق الإنسانية التي نعتمد على صمودها وترسيخها في العلاقات البشرية لتحفظ ثبات المعايير، وتأسس قواعد القيم، وإلا اختلت الموازين وانهارت المجتمعات، لذا لا تخلط الأمور وتدافع عن أفكارك السطحية والتي قد لا تتناسب مع واقعك وتعاملها معاملة الثوابت فقط لكونك لم تتعرف على غيرها، أو تسمح بتقبل ما يُناقضها. أحياناً أشعر بأني مع أجناس غريبة وإن جمعتنا أسوار أسمنتية واحدة، تركيبة متناقضة لا تمت لمواقعها بصلة - تستثير فضولي لأتخيل كمية العقد والتراكمات غير المرئية والتي تظهر على سطح صاحبها، دون أن يعي بأنه بات من شدة تعصبه لفكرة ما، كالقارورة الشفافة التي تفضح ما بداخلها، لترى كل الشوائب التي ترسبت بالقاع وهي تطفح بعد أن نمت تفاعُلاتها وتجذرت -، فعندما تشارك بمحفل يرفع شعاراً للسلام، يُتوقع منك ان تكون داعياً له أو محباً، أو على أقل تقدير تحمل بداخلك نزعة منه، لا أن تكون مُهاجماً، يُفرغ كل معتقداته البالية وسمومه الضارة، ليثير العداوات ويؤجج الأحقاد ويزرع الفتن، وينطلي هذا المثال على جميع المواقف والمحافل التي ينتمي إليها المُتعجرفون، وهم قلة، إلا انهم واضحون كبقع السوس، التي عليك أن تلاحظ وجودها مُبكراً لتقتلعها قبل أن تنتشر. تأكد أن سماحك لمرور الأفكار التي لم تكن تتبناها سيعزز إثراء مداركك الدنيوية ويحررك من الأفكار البالية، لتعتاد التصنيف بينها بعد أن تملك العديد من الآراء والاختيارات التي ستقوم بدراستها للوقوف على أفضلها وانتقاء أجملها، ولا يعني ذلك تبنيها بالضرورة، بل هي تنقية ذاتية تُمحص بها أفكارك وتطورها، لتنتقل لمستوياتها الأعلى، فتدرك مدى مناسبتها لك الآن وقوة تناغمها مع محيطك، حينها فقط ستعيّ جيداً ما عليك استبداله، فلا تخش هذا التغيير وإن كان ذلك سيُربك من هم أشباه نسختك القديمة، وسيغضبون لأنك بذلك جعلتهم يواجهون معتقداتهم وأفكارهم الهشة.
1953
| 31 مايو 2023
مساحة إعلانية
حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم...
8277
| 09 أكتوبر 2025
كثير من المراكز التدريبية اليوم وجدت سلعة سهلة...
5397
| 06 أكتوبر 2025
في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة يمكن وصفها بـ...
4965
| 02 أكتوبر 2025
تجاذبت أطراف الحديث مؤخرًا مع أحد المستثمرين في...
4539
| 05 أكتوبر 2025
في زمن تتسابق فيه الأمم على رقمنة ذاكرتها...
1926
| 07 أكتوبر 2025
لم يكن الإنسان يوماً عنصراً مكمّلاً في معادلة...
1605
| 08 أكتوبر 2025
قبل كل شيء.. شكراً سمو الأمير المفدى وإن...
1464
| 08 أكتوبر 2025
في الوقت الذي كان العالم يترقب رد حركة...
1041
| 05 أكتوبر 2025
لسنا متشائمين ولا سلبيين في أفكارنا وتوقعاتنا ولكن...
909
| 03 أكتوبر 2025
في السنوات الأخيرة، تصاعدت التحذيرات الدولية بشأن المخاطر...
852
| 09 أكتوبر 2025
المحاولات التي تتكرر؛ بحثا عن نتيجة مُرضية تُسعد...
828
| 07 أكتوبر 2025
التوطين بحاجة لمراجعة القوانين في القطــــاع الخـــــاص.. هل...
822
| 05 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تابع الأخبار المحلية والعالمية من خلال تطبيقات الجوال المتاحة على متجر جوجل ومتجر آبل