رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في التاريخ الإسلامي تطورت تقاليد عريقة في طرائق تناول علماء الدين للقضايا والشؤون المُستجدة التي تواجه مجتمعاتهم. تتناول هذه السطور اثنين من تلك التقاليد التي تم القضاء عليها في حقبة التدين المظهري والتلفزيوني التي نشهدها في الوقت الراهن. التقليد الأول هو دراسة الشأن المطروح على الفتوى بأكبر قدر من التأني والحذر والدقة في إصدار الرأي فيه. وهنا نعرف كيف أن العلماء الحقيقيين كانوا ينظرون في الأمر المعروض عليهم ويقيسونه زمنا ومكانا وظرفا وشخصا. ويتأملون في انعكاساته وتأثيراته ثم يصدرون رأيهم. ما يصدر من فتوى في شأن من الشؤون يطلبها شخص ما في مكان ما في زمان ما في ظل ظروف محددة قد تختلف تماما حول ذات الشأن إن طلبها شخص آخر. أو في مكان آخر. أو في زمان آخر. أو في ظل ظروف مختلفة. ومُسجل في أدبيات الفتيان الشافعي كان قد أفتى في العراق بشكل مختلف عن ما أفتاه في الشام وحول ذات الشؤون. لأن السياق والظرف يختلفان.مقابل ذلك التأني والحذر وموضوعه الفتوى في سياق الزمان والمكان والظرف والسائل ماذا نرى هذه الأيام؟ الذي نراه جحافل من أرباع العلماء يحتلون شاشات القنوات الدينية جاهزين "على الهواء" لإطلاق أي فتوى حول أي شأن كان. وفي أي مكان وزمان. كيف يتأتي لحضرة "المفتي التلفزيوني" هذا العلم الديني اللامحدود والذي يؤهله للرد الفوري والمباشر على أي سؤال من أي شخص ويكون ضميره الديني مرتاحاً؟ كان يُؤتي للعالم الحقيقي بالقضية في إطار التقاليد العريقة للفتوى فيطلب الوقت لينظر فيها ويعيد السائل من حيث أتى. فيعكف على المسألة لدراستها وتقليب وجوهها. مفتيو اليوم لا يحتاجون "للنظر في المسألة" فعبقرية علمهم الديني تؤهلهم لإطلاق الرأي يمينا وشمالاً وعلى الفور حول أكثر القضايا تعقيداً. مشاهدة أي برنامج من برامج "فتاوى على الهواء" تثير الغثيان بسبب جراءة المفتين التلفزيونيين الذي داسوا تحت أقدامهم كل ما له علاقة بتقاليد الفتوى التاريخية من الدراسة والتأني والحذر. تأتي أسئلة لا تستثني شيئا من السؤال عما إن كانت "العولمة حراما أم حلالا". أو "امتلاك السلاح النووي حرام أم حلال". إلى "حل أو حرمة مرافقة الابن الوسيم لأمه المنقبة في الشارع" (لأن رؤية الناس لوسامته سوف تشير ضمناً إلى جمال أمه!). إلى "حل أو حرمة تويتر وفيسبوك". إلى "حل أو حرمة شراء تذاكر اليوم الواحد في قطارات المترو في أوروبا. وصولا إلى الحكم بإسلام أو كفر طوائف وجماعات بأكملها. وإلى كل شيء عملياً! ومع ذلك لا يرمش طرف للمفتين التلفزيونيين ونراهم وبكل ثقة تلفزيونية استعراضية يطلقون فتاواهم من على "شاشات مصانع الفتوى" ومن دون أي تردد. "الفتاوى التلفزيونية" كارثة حقيقية تواجه مجتمعاتنا اليوم. لأنها خليط من تنافس الاستهلاك الديني بين القنوات الفضائية ورأس المال الباحث عن دعايات أكثر في حال تحقيق نسبة مشاهدة أعلى لبرنامج هذا المفتي أو ذاك. يتسلل إلى وعي المفتي التلفزيوني الهوس التنافسي لتحقيق الظفر والتفوق على غيره من المفتين على الشاشات الأخرى عن طريق التشاوف بامتلاك علم أوسع وقدرة أكبر على الفتوى إزاء كل شيء. أصبحت "مصانع الفتوى" جزء لا يتجزأ من رأسملة الدين وتحويله إلى وسيلة للربح التلفزيوني السريع.والتقليد التاريخي الثاني الذي تم طحنه في ماكينات الاستهلاك الديني التلفزيوني هو قول "لا أدري" إن أُشكلت القضية على العالم وحار إزاءها جوابا. مثّل هذا التقليد سمة رفيعة عند علماء الدين الحقيقيين الذين كانوا ورغم علمهم العميق يتواضعون أمام هذا الشأن الخلافي أو المُبهم أو ذاك ولا يصدرون فتوى بشأنه. كان ذات العالم الذي يطلب وقتا لينظر في قضية معقدة لا يتوانى في الاعتراف بعدم قدرته على إعطاء رأي جازم فيها ويقول "لا ادري". اين هو هذا التقليد العظيم الذي يعكس التواضع والقدرة في ذات الوقت عن كثير من مفتي هذه الأيام وعلمائه الذين صار اشتغالهم بالفتوى والدين اقرب إلى "التشبيح" منه إلى أي شيء آخر.لا يدرك "شبيحة المفتين" اليوم أن قاعدة "لا أدري" هي عمليا من حفظ التعايش التاريخي وعلى مدار قرون طويلة في المنطقة والعالم الإسلامي عموماً. ولأنها مرتبطة عضوياً بمنهج متأسس على "لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". المعنى العملي والتطبيقي لتوجيه النص القرآني هذا هو أن كثيرا من أمور الحياة والشؤون المُستجدة تقع في مناطق رمادية وبعيدا عن ان تُحسم بالفتوى وبـ "الحلال والحرام". ومن الأفضل أن تبقى هناك وكذلك. وهذه المناطق الرمادية كلما بقيت على اتساعها كلما انتعشت المجتمعات وازدهرت. ويشهد التاريخ الإسلامي على ذلك في مراحل تقدم المسلمين وعلوهم. في المناطق الرمادية تشتغل العلوم وتتقدم الثقافة ويتم هضم كل ما هو مُستجد وتطويعه عبر عبقريات الاجتماع الإنساني لخدمة الناس من دون إعاقات. وفي المناطق الرمادية تعيش جماعات المجتمع المختلفة بأنماط تدينها المُتباينة وسلوكياتها المختلفة. وهو أيضا ما شهدت به المراحل التاريخية المختلفة. في المقابل عندما تتآكل المناطق الرمادية ويصبح هوس الأفراد ورجال الدين (الشبيحة) مُكرس على الخروج على منهج "لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". ويتحول كل الجهد المصطنع لاختلاق قضايا من لا شيء ندخل في زمن انحطاط وتقهقر. تبدأ ماكينة الفتوى والتحريم بالقضم التدريجي والمتواصل من المناطق الرمادية وتحاصرها في غياب كلي لقاعدة "لا أدري" والتي هي القاعدة الطبيعية لعدد هائل من المسائل الطارئة والمعقدة والمُبهمة. ولكن رغم تعقيدها وإبهامها إلا أن ذلك لا يدفع مفتي الاستعراض التلفزيوني من مواجهتها وإصدار الفتوى (التحريمية) بشأنها. نحن الآن نعيش هذه الحالة المريعة من محاصرة المربع الرمادي الوسطي للاجتماع العربي والإسلامي من قبل بلدوزرات الفتوى التحريمية التي تهدم أرضيات ذلك المربع الذي إن انتهى انتهينا معه.
333
| 20 مايو 2013
ليس من حق حماس ولا أي جماعة إسلامية أو غير إسلامية أن تتحكم في سلوكيات المجتمع وحريات الأفراد وتتجبر فيها بالقوة والقانون طالما أن تلك السلوكيات والحريات لا تعتدي على حقوق الآخرين. ما تقوم به حماس في غزة. ويناظره هوس الأحزاب الإسلاموية الأخرى بالسلوكيات الفردية وأسلمة وطلبنة مجتمعاتها. يدلل على أمور كثيرة جديرة بالنقاش والكشف والنقض. في الأشهر القليلة الماضية تسارعت وتائر وتوترات الطلبنة في قطاع غزة بشكل غريب. وأعادت الناس إلى المربع الأول من زمن حكم حماس للقطاع عندما شعر الناس بضغط المناخ الطالباني يهبط فجأة على حيواتهم وحرياتهم الفردية. بعدها تعقلنت حماس وتراجعت بعض الشيء عن تعليمات وقوانين أثارت السخرية مثل قانون منع المرأة من تدخين الأرجيلة وسؤال كل امرأة ورجل في أي مكان عام عن إثبات رسمي لطبيعة العلاقة بينهما. وكأن الجميع مُتهم إلى أن يثبتوا العكس. وهي سلوكيات رسمت صورة كاريكاتورية عن حركة المقاومة أكثر من أي صورة أخرى.بيد أن الهوس والتوتر في السلوك الاجتماعي والفردي للناس عند حماس والجماعات الدينية في قطاع غزة عاد ليفرض ذاته على المناخ المخنوق أصلا في القطاع. ففي الفترة الأخيرة هناك أخبار متلاحقة عن ممارسات قسرية تتدخل في خصوصيات الأفراد وتفرض عليهم أنظمة شمولية وأبوية تريد أن تراقب علنيتهم وسريتهم. تتنوع تلك الممارسات بين صدور قوانين وتعليمات واضحة إلى تبني توجهات عامة غير مكتوبة لكن يُناط بالأجهزة الرسمية تطبيقها (وبحيث يتم التنصل منها في حال اشتد الرفض لها وجوبهت بمقاومة واسعة). وصولا إلى خلق المناخ العام الذي يتيح لأفراد الشرطة والمباحث فرض رؤاهم هم على مسلكيات الناس. منطلقين ممن فهموه من إشارات وتعليمات عامة للحفاظ على "الفضيلة" أو على "الأمن الفكري" للمجتمع.في سياق ذلك المناخ تعدد منظمات حقوق الإنسان قائمة طويلة من انتهاكات حقوق الإنسان التي قامت بها حكومة حماس في قطاع غزة. سواء بحق النساء. أو الفنانين. أو الكتاب والأكاديميين. وأخيرا بحق مرتادي المكتبات العامة حيث أغلقت بلدية غزة ناد لتعليم اللغة الإنجليزية بسبب الاختلاط ومنعت جلب واستخدام الكمبيوترات الشخصية إلى المكتبة (بسبب سوء استخدامها!). كما عادت إلى الفضاء العام الممارسة البغيضة المتمثلة في سؤال أي امرأة ورجل عن إثبات "العلاقة الشرعية" التي تخولهما مرافقة بعضهما البعض في أي مكان. وبُغض هذه الممارسة لا يتمثل في سوء النية المُفترض في كل اثنين. بل يتجاوزه في الاتصال بأهل المرأة وأخبارهم عن "إلقاء القبض" على من تخصهم وهي في رفقة رجل ما. وهي ممارسة تجسسية صبيانية تخلو من الحد الأدنى من المروءة. ولا نعرف على أي أساس يمكن تبرير هذا التصرف الفوقي التجسسي الذي لا علاقة له بما عُهد من مروءات مسلكية في تاريخنا تنهى عن التجسس على أسرار الناس. وحتى عن دخول الرجل على زوجته في بيته من دون إعلامها مسبقاً!الخطاب الرسمي لحماس وحكومتها يتجه دوما لنفي أي سياسة لها علاقة بكل ما ذكر أعلاه. والإحالة على مبالغات خصوم حماس ومحاولاتهم تشويه سمعتها. وتضخيم "بعض" الأخطاء التي تتم على أساس فردي. وهذا رد فعل تقليدي لأي سلطة تُدافع عن سياسات وسلوكيات صبيانية ترفضها الغالبية من المجتمع. الأجدى والأجدر بحماس. حتى لا نقول الأكثر رجولة. هو أن تواجه ذاتها وتُطلق نقاشاً فكريا وسياسيا وفقهيا داخل دوائرها حتى تصل إلى إجابات داخلية أولا ثم تناقش ذلك مع مجتمعها الفلسطيني وتعرض عليه رؤيتها كي يقبلها او يرفضها بشكل حر وديمقراطي. أما سياسة "الفرض المتدرج" و"خلق المناخ" ثم التهرب من المسؤولية فهي فضلا عن كونها مكشوفة ولا توحي برصانة وثقة. فإنها تدميرية للمجتمع وحماس معاً. على حماس أن تواجه المعضلات الكبرى التي تواجهها كل الحركات الإسلامية التي تجد نفسها في مأزق خلط الدين مع السياسة. وتحاول أن تجد أجوبة خاصة بالسياق الفلسطيني وليست "مستوردة" من أي سياق آخر. هذه المعضلات والتي يفرضها خلط الدين بالسياسة على الصعيد الاجتماعي ونرى تمثلاتها في سياسات التخبط في قطاع غزة هي عمليا كعب أخيل الإسلاموية السياسية عاجلا وآجلا.واحدة من أهم المعضلات النظرية والعملية متعلقة بفهم الديمقراطية من قبل الإسلاميين. الذين يفهمونها من زاوية سياسية فحسب وكآلية لهزيمة الخصوم انتخابيا ثم الوصول إلى الحكم. لكن الديمقراطية هي أوسع من العملية الانتخابية إذ هي نظام اجتماعي للعيش المشترك. فإن قلنا ان هناك "ديمقراطية سياسية" تنظم التنافس السياسي والتداول على السلطة سلميا. فهناك "ديمقراطية اجتماعية" تقر بالاختلاف السلوكي والثقافي والديني والاجتماعي على قاعدة التعايش. إذا تعدت الديمقراطية السياسية على تلك الاجتماعية تحول النظام إلى نظام شمولي ابوي على النمط الستاليني أو الكوري الشمالي. حيث تتدخل السلطة في التفاصيل الفردية للبشر وتتجسس على تنفسهم. وحيث تحاول أن تصهر المجتمع والبشر في قالب واحد يُنتج أفرادا متماثلين ونمطيين لا يقرون بالتعددية ولا يشعرون بـ "المواطنة" إلا مع الشبيه والمتماثل وفقط. وعملية الصهر وتوحيد الأفراد هي عملية مستحيلة وفاشلة حتى لو انطلقت من منطلقات دينية. لأنها ضد طبيعة الحياة وتنوعها. وعلى ذلك يشير النص القرآني الذي يقرر اختلاف البشر وعدم خلقهم على دين او ملة واحدة."الديمقراطية الاجتماعية" تقرر أن المجتمع طيف واسع من القناعات والسلوكيات والحريات الفردية التي لا دخل للسلطة فيها طالما أنها لا تؤثر على حقوق الآخرين. ليس من حق اي سلطة في نظام قائم على الانتخابات (أو سلطة استبدادية) أن تحاسب. مثلا. فردا فوق السن القانونية على نوع المواقع التي يزورها في شبكة الإنترنت. حتى لو كانت إباحية. هذا شأنه وليس شأن الدولة أو السلطة. وليس من حق أي سلطة أيا كانت أن تحاسب امرأة أو رجلا فوق السن القانونية يترافقان معاً من دون جبر أو استغلال. فهذا شأنهما وليس شأن السلطة. عندما تنحدر السلطة أي سلطة إلى تسنم دور ضابط الشرطة الأخلاقي الذي يريد أن يراقب تفاصيل الحياة وانضباطها لملايين الناس. فإنها تحفر قبرها بذاتها. والتاريخ لا غيره يقدم مئات الشواهد على ذلك.
317
| 13 مايو 2013
من ناحية نظرية بحتة وفي مواقف وقضايا سياسية كثيرة تبدو سياسة "النأي بالنفس" حكيمة ومُتصفة بالحصافة. وعندما تتعقد الجوانب وتتفاقم المخاطر المحتملة من أزمة سياسية ما فإن الحياد الذي تلتزمه بعض الدول والأطراف والمنظمات. خاصة في الجوار الجغرافي الأقرب. يكون مفهوما بل ومُحبذا. وعندما يكون الصراع المُحتدم أكبر بكثير من طاقة تحمل دول الجوار الصغيرة فإن "النأي بالنفس" يُصبح إستراتيجية دفاع وبقاء. الشرط الأولي والأهم لنجاح هذه الإستراتيجية هي وجود حد أدنى من العقلانية والبراجماتية السياسية عند الأطراف المتخاصمة بحيث تنأى هي الأخرى بنفسها عن أطراف "النأي بالنفس". لأن في ذلك تحقيق لمصلحة المتخاصمين. ذلك أن كلا منهم يقر بأن بقاء طرف ما على الحياد أفضل من انحيازه للخصم. لكن عندما ينعدم الرشد تماما عند أحد الأطراف المتخاصمين من خلال تصميمه على توريط الآخرين في الدم وتصدير الأزمة إليهم. أو عندما تفيض الأزمة عن حدودها الجغرافية ويشكل استمرارها تهديدا إستراتيجيا وأمنيا لأحد الأطراف المحايدة فإن إستراتيجية "النأي بالنفس" تصبح انتحارا سياسيا.النظام الأسدي هدد كثيرا. وها هو الآن قيد تنفيذ تهديداته. بإغراق المنطقة في مستنقع من الفوضى والحرب والدم. كل دول الجوار سوف تدفع الثمن. ولن تهنأ دولة بالأمن طالما أمن العصابة الحاكمة في دمشق مُهدد. هذا هو جوهر إستراتيجية "أنا أو الدمار الإقليمي الشامل" التي يتبناها الأسد. معالم هذه الإستراتيجية وإعلاناتها تتكرر يوميا. إن على شكل تصريحات أو ممارسات وتعديات ومحاولات تصدير على الحدود التركية واللبنانية والأردنية. الإطار الأعم للإستراتيجية هو تحويل المعركة العادلة للثورة السورية المُنتفضة على نظام إقطاعي ومُستبد وفاسد إلى معركة "نضال إقليمي" يتورط فيها الجميع وتصبح مصلحة الكل مرهونة بالحفاظ على نظام الأسد وإجهاض الثورة. ليس هناك ذكاء خارق في اجتراح هذه الإستراتيجية إذ لولا انحياز روسيا بوتن المتوترة والباحثة عن دور في السياسة الدولية. ولولا انحياز "دولة الثورة الإسلامية" في إيران إلى جانب "مُستكبر دمشق" ضد "مستضعفي" سوريا كلهم لما كان هناك أدنى فرصة لاستمرار النظام في الحكم حتى هذه اللحظة.توازن. أو بالأحرى. لا توازن القوى في المعركة على مستقبل سوريا يُشير إلى أنها ستطول. وإطالتها لا تصب وحسب في مصلحة النظام الأسدي. بل وتفاقم من منعكساتها على المنطقة خاصة دول "النأي بالنفس" في الجوار. وفي مقدمتها الأردن ولبنان. فهذان البلدان هما من يعاني الآن وبشكل مباشر من مخاطر فيضان المُستنقع الأسدي وهو المقصود والمُستهدف تماما من قبل النظام. مقارنة الوضع الراهن سواء داخل سوريا أو المنعكسات الحالية للأزمة على الأردن ولبنان بما كانت عليه الأمور في الوقت نفسه من السنة الماضية تدلل على المنحى الحاد والمُتدهور وزيادة المخاطر على البلدين. والأكثر قتامة في الصورة هو أن هذا المنحى ما زال حاد الانحدار بما ينبئ بحالة أسوأ بكثير بعد عام من الآن. فإذا كانت التحديات الإنسانية والأمنية والمعيشية التي يفرضها وجود مئات الألوف من اللاجئين في البلدين تستنزف قدرات الحكومات في البلدين. فلنا أن نتوقع الحال عندما تتفاقم هذه الأعداد. وهو الأمر المرشح حدوثه في ظل استعار المجازر التي يقوم بها النظام في كل أرجاء الوطن السوري.فاتت الفرصة الذهبية في تأييد دول الجوار خاصة الأردن للثورة السورية في مرحلتها السلمية الأولى. وعندما كان الملك الأردني أول من تحدث وبجرأة عن ضرورة رحيل بشار الأسد وخضوعه لمنطق المطالبات الشعبية العارمة. ثم فاتت الفرصة الفضية اللاحقة بتأييد الثورة السورية التي أجبرت على التحول إلى مسلحة من قبل النظام. وعندما كان الجيش الحر وعلى ضعف إمكاناته هو العنوان الرئيسي للحركة المسلحة وقبل دخول جماعات التطرف والتعصب وبروز جبهة النصرة. ثم فقدان الثورة لوضوحها الأولي مع ازدياد الشحن الطائفي والثقافة القاعدية التي جاءت مع تلك الجماعات. كانت إمكانية تسليح الجيش الحر وتقويته وتوثيق هرميته مع المجلس الوطني السوري أولا ثم الائتلاف لاحقا ما زالت قائمة بحيث تقوم بنية سياسية - عسكرية موحدة تكون هي الناطق الرسمي باسم الثورة والشعب السوري. والطرف الأكثر فعالية من ناحية عسكرية.تتحمل الولايات المتحدة والغرب المسؤولية الأكبر في التردي الذي آلت إليه أمور الشعب السوري وثورته وهي تواجه آلة الدمار الأسدي/الإيراني/الروسي. وهي مسؤولية تتمثل في وضع الخطوط الحمراء أمام تسليح الطرف الأهم في الثورة السورية. تلك الخطوط أتاحت لجبهة النصرة وغيرها أن تتمدد وتسلح نفسها وتعتمد على التدريب والتأهيل الذي يتمتع به أفرادها. وبالتالي تصدر جبهة القتال ضد النظام. لكن الدول العربية مجتمعة مع تركيا تتحمل مسؤولية لا تقل خطورة عن المسؤولية الأمريكية والغربية وتتمثل في أمرين: الأول هو الانصياع الكامل للأوامر الأمريكية بعدم تسليح المعارضة والوقوف عند النقطة التي ترسمها واشنطن ولا يتم تعديها. والثاني هو التمسك بسياسة "النأي بالنفس" عند بعض الدول العربية. خاصة دول الجوار كالأردن. رغم اتضاح مسار الأمور وفجاجة الإستراتيجية الأسدية في تصديرها الأزمة بلا تردد للجوار الإقليمي. كل ذلك صب وما زال يصب الحب في طاحونة النظام ويطيل من عمره. ويطيل بالتوازي من هول المجزرة التي يتعرض لها الشعب السوري.والأمر الثاني هو التغافل عن أن حسابات العواصم الغربية خاصة واشنطن وبروكسل ومصالحها الحالية والمستقبلية والمحتملة في سوريا ومآلاتها تختلف عن حسابات ومصالح الدول العربية ومحددات صناعة القرار فيها. بوصلة صوغ المصلحة والسياسة الأمريكية والأوروبية إزاء سوريا هو "أمن إسرائيل". وهي البوصلة التي كانت قد حكمت تلك السياسة إزاء حكم عائلة الأسد. الأب والابن. طيلة العقود الأربعة الماضية. طالما كانت العائلة حارسة على أمن إسرائيل كان الغرب جاهزا لتقديم كل تنازل. بما في ذلك التغاضي عن ابتلاع دمشق للبنان كله لفترة مديدة من الزمن. على ذلك فإن مقدار التأييد للثورة السورية ينضبط على هذا المقياس: هل سوريا ما بعد الثورة تشكل تهديدا أكثر أم أقل على إسرائيل؟ أما الحسابات العربية فمن المُفترض أن تقودها بوصلة ثانية وهي تغول النفوذ الإيراني في قلب المنطقة العربية. أي نظام يرث النظام الأسدي سوف يكون أفضل للعرب. وأفضل لمواجهتهم مع إسرائيل.
399
| 06 مايو 2013
شاب أسمر فارع الطول سخي الابتسامة. وشقراء تماثله الطول وكرم التبسم. يقفان على مدخل فندق روكو فورتي في مدينة أبو ظبي. على بُعد صفحتين من معرض الكتاب. يتناقشان حول موضوعات الروايات الست الفائزة بالقائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية – المعروفة بـ "البوكر العربية". زكريا وفلور نواتج جميلة لهذه الجائزة. ما الذي يدفع زكريا ابن محلة الواو غرب بحر الغزال من أقصى جنوب السودان كي يتعلق بالرواية العربية. وما الذي يورط فلور. الإنجليزية المالطية. في العربية لغة وأدبا كي تتعلم الحسانية الموريتانية ثم تتقن بقية اللهجات العربية وتصبح لاحقا المنسقة الإدارية لأهم جائزة في الرواية العربية. زكريا الذي أدهش فلور بمتابعته لتفاصيل الجائزة وأسماء المتنافسين فيها. والروايات التي كتبوها. يُسمعها رأيه في الروايات. في المساء سوف تُعلن لجنة التحكيم عن الرواية التي ستُمنح الجائزة الأولى. وزكريا يتمنى أن تفوز "ساق البامبو" للروائي الكويتي سعود السنعوسي. قال لي لاحقا أنه احب هذه الرواية جدا رغم أن الروايات الأخريات لا تقل جمالاً. لأنه رأى نفسه فيها واندمج مع بطلها عيسى/خوزية. الشاب مشطور الهوية بين الفلبين والكويت.زكريا. أو مُختصرا "زكي" كما هو مكتوب على صدر زيه الرسمي في مدخل الفندق. تتنازعه وعائلته الصغيرة هويات قاتله. عاش في شمال السودان معظم حياته وهو القادم من جنوبه الذي كان جنوبا ثم انفصل وصار بلدا مستقلا. نجوى. حبيبته الشمالية التي حلم بالزواج منها ثم تزوجها. تنتمي إلى شوايدة كورتي ثاني أحد أكبر قبائل شمال السودان. قبل الانفصال كان انشطار الهوية يلاحقه بما فيه الكفاية. بعد الانفصال أصبح أجنبيا ومن "بلد آخر" يقيم في السودان. وكان عليه استخراج جواز سفر وإقامة. لكن لعنة الهويات تصير عاصفة لا تتوقف وهي الآن تحيط بولديه سامح. ثماني سنوات. وبوداي. أربع سنوات. ولد الاثنان قبل الانفصال وعندهما شهادة ميلاد سودانية وهما الآن في مدارس سودانية. لكن زكريا لا يعرف أي هوية أو جواز سفر يستخرج لهما. إن كانت شمالية لا يعود بإمكانهما الانتساب إلى الجنوب حيث الأجداد والجذور. وإن كانت جنوبية صاروا أجانب وغرباء بضربة قلم موظف السجل المدني. أحس بأني وأولادي كحال بطل "ساق البامبو" مشتت بين أب كويتي وأم فلبينية والمجتمع أو حتى المجتمعات لا تعترف به. في المساء كانت أبو ظبي تحتشد بمثقفين وكتاب وروائيين في الفندق الذي يعمل فيه زكريا مسؤولا عن حركة الدخول والخروج وخدمات المواصلات (concierge). وفيه يلتئم الحفل السنوي للجائزة العالمية. ويأتي الروائيون الستة وناشروهم. ولجنة التحكيم. ومجلس الأمناء. ومترجمون. ومستعربون مهتمون بالأدب العربي. في مسابقة هذا العام تنافست مائة وثلاث وثلاثون رواية اختصرتها لجنة التحكيم بعد القراءة والتقييم إلى قائمة قصيرة من ستة عناوين ("ساق البامبو" لسعود السنعوسي من الكويت. "مولانا" لإبراهيم عيسى من مصر. "القندس" لمحمد حسن علوان من السعودية. "أنا وهي والأخريات" لجني فواز الحسن من لبنان. "معالي السيد الوزير" لحسين الواد من تونس. و "يا مريم" لسنان أنطون من العراق). كانت فقرات الحفل في القاعة الأنيقة تتوالى فيما كان زكريا بقامته الفارعة يسهل يسهل حركة الداخلين والخارجين على بوابة الفندق. ويتمنى ل "ساق البامبو" وهوياتها أن تفوز. كم من هؤلاء الذين يتلقون ابتسامته السخية وفي زيه الفندقي المهندم يعرف أنه ليس أمام "حمَال حقائب" بل مشروع ناقد أدبي أو كاتب يلتهم الكتب التهاما. ويكتب أحيانا ولكنه يطوي ما يكتب خجلا وعدم معرفة بطرائق النشر. يحمل بكالوريس أدب إنجليزي إضافة إلى دبلوم عالي في الترجمة. وولعه بالترجمة ومعرفته بها يدفعه لتفضيل "ساق البامبو" أيضاً والتي تختلط فيها اللغات ويتلاعب الروائي فيها بعناد الكلمات الفلبينية متحدية فصاحة العربية ومترجميها. في العام الماضي تعرف زكريا على جائزة البوكر ورواياتها إذ أقيم الحفل السنوي في الفندق ذاته. وقرر متابعتها. عالم الرواية والكتب ليس جديدا عليه فهو وكما كانت تقول عنه أمه "عياّن بالكتب". وتشاكست معه كثيرا بسبب انهماكه بها. وخلال سني دراسته الجامعية كان قد أنشأ ناديا متواضعا للكتب في بيته يقوم على إعارة الكتب لزملائه وأصدقائه مقابل مبلغ زهيد. قرأ كثيرا وفي كل شيء. من الاديان إلى الروايات والشعر. علمته الكتب أن يكتب. وصار يكتب ويطوي ما يكتبه. وعندما يقرأ على والدته. ثم زوجته في ما بعد. ما يكتب تقولان له إن في رأسه شياطين. يقرأ عليهما أشياء كتبها من سنوات. كأنها حدس في المستقبل البعيد. قبل زواجه من نجوى كتب عنها وكانت بعيدة المنال. حلم بها زوجه وحلم بأن له ابنا منها اسمه سامح.... وهذا ما كان بعد سنوات! عندما تصفحت نجوى أوراقه القديمة وفيها يكتب اقداره مسبقا. رأت نفسها وولدها سامح مسطورة في أحلامه. انشدهت وقالت له ما كانت تقوله أمه "في رأسك شياطين". عن القائمة القصيرة وعناوينها يقول زكريا إنه أحب الروايات الست بلا استثناء. لكنه يحب الرواية ذات العنوان الغامض أكثر من غيرها. "ساق البامبو" و "القندس" اثارتاه حيث لا يستطيع القارئ أن يتوقع الموضوع. "مولانا". و "معالي السيد الوزير". ويا مريم". بالنسبة لزكريا الناقد الآن. روايات جميلة لكنها تفضح موضوعاتها من العنوان الرئيس. مثلاً. عندما تقرأ اسم إبراهيم عيسى وهو المعارض لحكم الإخوان المسلمين والناقد للإسلاميين في مصر مقرونا بعنوان مثل "مولانا" فأنت تعرف مباشرة أن موضوع الرواية هو نقد الإسلاميين. وعندما تقرأ عنوانا مثل "معالي السيد الوزير" تعرف أن الرواية تناقش فساد الحكم وسوء استغلال السلطة. وكذلك الأمر بالنسبة لـ "يا مريم" حيث تدرك أن الرواية تدور حول الطائفية والهويات الدينية. لكن ماذا عن "أنا وهي والأخريات"؟ زكريا أعجبته هذه الرواية لأنها تتحدث مرة أخرى عن تمزق الهوية وهذه المرة على مستوى العائلة الصغيرة والجزر المعزولة داخل كل بيت. وهي تناقش منظومة الأخلاقيات التي تحتاج إلى ثورة حقيقية. لو حققنا ثورة أخلاقية. كما يقول زكريا. لسقطت أنظمة الفساد من دون الحاجة إلى ثورات عنفية! غادرت أبو ظبي وفيها صديق جديد رفيع المستوى ثقافة وتهذيبا وطموحاً. عندما كان يرتب لنا على مدخل فندق روكو فورتي سيارات تأخذنا إلى المطار ويفتح الباب ويغلقه خلف كل منا. كنا نذوب خجلاً. واعدته بأن نرسل له روايات كثيرة هذا العام حتى يتابع الجائزة من بداياتها. وواعدت نفسي بأن أقول في أول اجتماع لمجلس الأمناء أن النجاح العظيم لجائزة البوكر العربية يأتي من اكتشافها لزكريا واكتشاف زكريا لـ "ساق البامبو" من خلالها.
417
| 29 أبريل 2013
ماذا سيكون رد فعل الأحزاب والجماعات الإسلامية في مصر وفي كل مكان لو نشأ حزب قبطي في مصر ورفع شعارا انتخابيا يقول "المسيحية هي الحل"؟ من ناحية منطقية نظرية وفي دولة قائمة على المساواة المفترضة بين المواطنين وإذا وجد حزب يرفع شعار "الإسلام هو الحل" فليس هناك أي وجه اعتراض مقبول على شعار "المسيحية هي الحل إن رفعه حزب آخر". لكن من ناحية ترسيخ بناء دولة قائمة على المواطنة الدستورية. ومن ناحية تعزيز التعايش بين الأفراد والجماعات داخل أي مجتمع ودولة. فإن الشعارين يجب أن يُرفض استخدامهما سواء في الحملات الانتخابية أو الصراع السياسي. مناسبة هذا الكلام هو ما قام به مجلس الشورى المصري من تعديل لمادة مهمة في قانون الانتخابات كانت تجرم استخدام الشعارات الدينية في الانتخابات. معنى ذلك أن المجلس الموقر يفتح الباب واسعا لعواصف التوتر الديني وتوظيف الدين في الانتخابات والسياسة على أوسع مدى. ومعنى ذلك أنه من المشروع أن نتوقع أن تشهد الانتخابات المصرية القادمة شعارات تنافسية من النوع التالي: "الإسلام هو الحل". "صوتوا ضد بناء الكنائس في مصر الإسلام". "مصر أهل البيت تنادي: يا حسين". "المسيحية هي الحل". "صوتوا لإعادة مصر لحكم المسيحية".. "السلفية هي الحل". "التشيّع لأهل البيت هو الحل". "الجهاد هو الحل". "ختان البنات من جوهر الدين". "الدين يحرم وضع سن أدنى لزواج الفتيات". "ابن لادن والظواهري حماة الدين". هل في تخيل هذه الشعارات مبالغة لفظية. أم أننا حتى لو أطلقنا العنان للخيال فإننا لن توقع حقاً مدى الانهيار ونوع وطبيعة الشعارات الكارثية التي سيتفتق عنها العقل الديني المتعصب والذي تغذيه قوانين وتشريعات مدهشة في غبائها وفي عدم تقديرها لمخاطر ما تشرعه وتسمح به. إذ تم تمرير التعديل الذي أجراه مجلس الشورى على القانون ولم تحبطه الآليات القضائية والدستورية الأخرى فسوف نشهد انحدارا حادا وإضافيا في كل ما له علاقة بالسياسة بشكل عام و"تطورا" كبيرا إزاء زج الدين في أتون السياسة ومناوراتها وأحابيلها النفاقية والتنافس على المناصب والمصالح. ويدلل هذا في سياق أوسع على أن المراهقة الإسلاموية السياسية لا تزال تتخبط في كل الاتجاهات. بل وتلعب فعلا في النار في مجتمعاتنا. وتزيد من التوتر فيها. وتفتعل معارك لا معنى لها ولا ضرورة لوجودها. وتشغل الناس في قضايا نظرية على حساب ما يواجههم في يومي حياتهم من فقر وبطالة واقتصاد مترد. توظيف الدين والشعارات الدينية مسألة كان قانون الانتخابات الحالي قد حظرها (في المادة 60) كما تفعل كل قوانين وتشريعات العالم. وجود مثل هذا القانون يعتبر من أبجديات العملية السياسية. وأوليات الانتقال الديمقراطي وبناء نظام جديد قائم على التنافس البرامجي وليس إدعاء تمثيل الدين أو الله في الأرض. وفي حال شطبه فإن جني التعصب الديني يطلب من دون رقيب ولا حسيب في أي مجتمع. هناك عدة اعتبارات تفرض وجود هذا القانون في المجتمع الحديث. أولها ضرورة تحييد الدين والحفاظ على مكانته الروحية في المجتمع بعيدا عن التلويث السياسي. والمنطق واضح هنا وهو رفض أي ادعاء لاحتكار الدين من قبل أي جماعة أو حزب سياسي. فعندما يزعم حزب ما بأنه ينطلق من قاعدة دينية ويمثل الدين ويطلب من الناخبين أن يصوتوا له لأنه يمثل الدين ويحافظ عليه وسوى ذلك. فإنه يرتكب عمليا أكثر من خطيئة. فهو يقزم من اتساع الدين وكونه للناس والشعب ويطبق ويُراعى بأشكال ودرجات مختلفة. ويحوله إلى برنامج سياسي حصري الفهم والتفسير والاستخدام. بمعنى آخر يتم "مأسسة الدين" داخل إطار حزبي بما يحبط فكرة تحرر الفكرة الدينية عن أي مأسسة وتواجدها الاختياري في الفضاء العام. كما أنه ينقل الدين إلى ميدان الصراع السياسي حتى يتم التنازع عليه فصائليا وتوظيفيا. فعندما تصبح تضج الساحة بأحزاب عدة كلها تدعي النطق باسم الدين وكل منها يفسره بشكل مختلف فإن ذلك يشوه من الدين نفسه ويجعله مطية للاستخدام السياسي. ثم يؤدي ذلك إلى التداخل والاختلاط الذي يحدثه توظيف الشعار الديني من قبل السياسيين حيث تصبح أخطاؤهم وكأنها أخطاء الدين. فعندما يقول حزب ما يرفع شعار "الإسلام هو الحل" للناس إن الحلول التي يقدمها هي "حلول الإسلام" فكيف سيكون موقفه عندما تفشل تلك الحلول في تحقيق أي إنجاز للمجتمع والبلد؟ سيكون الرد التقليدي في هذه الحالة هو أن الحزب هو الذي فشل في تطبيق الحلول وإيجادها وليس الإسلام. وإن الفشل منسوب لأعضاء الحزب وقادته. ولكن حتى لو نجحت الحلول المفترضة أو أي حل منها فإننا سوف نجد ألف معترض حتى من داخل مربع الجماعات الإسلامية يرفض اعتبار الحل أو النجاح المعني "حلا إسلاميا". كما هي الحالة في تركيا وحزب العدالة والتنمية الحاكم فيها. حيث يرفضه كثير من الإسلاميين ويرفضون حلوله. وفي الحالة المصرية مثلا. أو التونسية. فإننا نعرف أن تيارات وأحزاب سلفية ودينية مختلفة تعارض حركة الإخوان المسلمين الحاكمة في مصر وصاحبة شعار "الإسلام هو الحل". وتعارض حركة النهضة في تونس التي تحمل نفس الشعار بشكل أو بآخر. معنى كل ذلك أن رفع شعارات إسلامية ودينية في العمل السياسي لا يحقق سوى المزيد من الفوضى الدينية والسياسية ويُقحم الدين ويلوثه في ميادين الاستغلال السياسي لا أكثر ولا أقل. والاعتبار الثاني الذي يحققه التجريم القانوني لاستخدام الدين في الحملات الانتخابية هو توفير مناخ منصف للمنافسة السياسية المتكافئة. خاصة في مجتمعات يحتل فيها الدين مكانة معيارية كبيرة ومؤثرة. ومعنى هذا أنه من المرفوض أن تتسلح بعض الأحزاب بالشعار الديني وتتدرع بالدين ثم تخوض الانتخابات تحت لوائه. لأن ذلك يعني ضمنا أن الأحزاب المتنافسة الأخرى معادية للدين أو رافضة له. في مصر وبقية البلدان العربية عندما تستخدم الأحزاب الإسلاموية الشعارات الدينية في الحملات الانتخابية. فإن مضامينها المباشرة أو المُبطنة سوف تتجه كلها نحو اتهام خصومها بأنهم ضد الدين. وأن الأحزاب الإسلاموية هي حامية الدين من "المنافقين والعلمانيين والكفار" (أي الخصوم السياسيين). وعندما يتم استخدام المساجد والمنابر وخطب الجمعة في التحريض السياسي والانتخابي فإن العملية الانتخابية تفقد معناها لأن ما هو مُتاح للأحزاب الإسلاموية لن يكون مُتاحا للأحزاب الأخرى. وهذا ينفي أي تكافؤ في المعركة الانتخابية. ومن المثير للدهشة أنه في سياق النقاش المصري الذي انتهى في مجلس الشورى بإقرار استخدام الشعارات الدينية أن ممثلي حزب الحرية والعدالة. الإخوان المسلمون. أرادوا إظهار نوع من الموضوعية فاقترحوا أن يتم حظر كل الشعارات الأيديولوجية إن كان ولابد من حظر الشعارات الدينية. لكن ذلك لا معنى له لأن استخدام أي حزب لأي شعار أيديولوجي سوف يكون قابلا للنقاش والنقد وحتى للتفكيك الفكري والهجوم. بمعنى آخر. لو قال حزب ما إن الأيدلوجية الليبرالية هي الحل. أو اليسار هو الحل. فإن تلك الأيدلوجية سوف تكون مجالا مفتوحا للنقاش والنقد والنقض. أما عندما يستخدم حزب إسلامي شعار "الإسلام هو الحل" فإن أحدا لن يستطيع أن يجرؤ على القول إن الإسلام ليس هو الحل. وسوف تكون المعركة غير متكافئة. ومن أجل هذا فإن المطلوب هو معركة انتخابية قائمة على برامج سياسية واقتصادية مع تحييد كامل للدين فيها.
528
| 22 أبريل 2013
يدافع أحمد عارف المتحدث باسم جماعة الإخوان المسلمين في مصر بأن "الجماعة يحق لها الدفع بأي مرشح لمنصب رئيس جامعة الأزهر. وأنه من حق الدكتور عبد الرحمن البر (أحد أعضاء الجماعة) الترشح لمنصب رئيس جامعة الأزهر". إذا تم هذا وأصبح رئيس جامعة الأزهر إخوانيا فسوف تكون الخطوة التالية هي محاولة الإخوان الحصول على منصب شيخ الأزهر نفسه. والسيطرة على أعرق مؤسسة دينية تقليدية في مصر. أهمية الأزهر لا تحتاج إلى شرح وإفاضة. لكن ما يحتاج إلى تأكيد راهن هو الوضع والمكانة القانونية التي منحها الدستور المصري الجديد للأزهر في مادته الرابعة والتي تنص على ضرورة أخذ رأي هيئة كبار العلماء في الأزهر في الموضوعات التي قد تحتاج إلى رأي شرعي. معنى ذلك أن المكانة القانونية والدستورية للأزهر أصبحت شبيهة إلى حد ما بالمكانة القانونية والدستورية للقضاء والمحكمة الدستورية التي تُحال عليها القضايا الخلافية الكبرى. بما يستلزم ويشترط الاستقلالية التامة لهذه الهيئة عن الجهاز التنفيذي الحكومي أو أي حزب سياسي يمكن أن يصل إلى الحكم. وبالتالي فإن الإخوان المسلمين، أو السلفيين، أو أي حزب سياسي ديني في أي وقت من الأوقات يرتكب خطيئة دستورية يجب أن تكون مرفوضة بصرامة عند إظهار الرغبة في السيطرة على الأزهر أو على هيئة كبار العلماء فيه المنوطة بإعطاء الرأي والفتيا في القضايا الكبرى. إنها حالة شبيهة تماما بحالة سيطرة حزب سياسي على جهاز القضاء في الوقت نفسه الذي يسيطر فيه نفس الحزب السياسي على السياسة والبرلمان، بما يعني تعطيل مبدأ فصل السلطات وإجهاض جوهر المراقبة والمحاسبة من قبل السلطات المختلفة لبعضها البعض والحفاظ على توزيع السلطة وتوازنها. سوف يقول "الإخوان" إنهم جزء من الشعب وأن علماءهم جزء من علماء الأمة ويحق لهم أن يكونوا أعضاء في قيادة الأزهر وفي هيئة كبار العلماء فيه. وهذا صحيح من ناحية نظرية، لكنه مليء بالألغام أيضا. لو لم يتم إقحام الأزهر في "العهد الإخواني" الجديد، ومن خلال الدستور الجديد، في السياسة من خلال منحه دورا دستوريا يضعه في مرتبة الجهاز القضائي لكان منطق الإخوان في المساهمة في قيادة الأزهر وعضوية هيئة كبار العلماء معقولا. لكن في الوضع الجديد وإذا أردنا عملية دستورية نظيفة وبعيدة عن شبهات السيطرة والتوظيف السياسي فيجب أن تُحظر المناصب الأزهرية العليا على أي رجل دين له دور سياسي، كأن يكون عضوا في حزب سياسي ينحاز إليه في وقت الانتخابات، أو وجود احتمالات تسلم هذا العالم نفسه منصبا سياسيا حكوميا، أو فوزه بمقعد في البرلمان. على المدى المتوسط والطويل يمكن القول إن "الإخوان" و"السلفيين" في مصر قد خلقوا مشكلة دستورية لا يعرف أحد مآلاتها النهائية من خلال توريط الأزهر في العملية التشريعية، وتخليق هيئة كبار علماء تكون عمليا هي "الحارس الديني" على الدولة والدستور في مصر، في استنساخ ليس بعيدا عن التجربة الإيرانية. من ناحية منطقية ونظرية بحتة تتمتع هذه الهيئة بسلطة أكبر من سلطة البرلمان، إذ تستطيع رفض أي تشريع يقره النواب المنتخبون من قبل الشعب، وهي عمليا تحبط الجوهر الديمقراطي التعددي للسياسة، إذ تفترض ضمنيا أن السيطرة العامة على البرلمان والسياسة والتشريع سوف تكون من قبل قوى إسلامية، وفي حال جاءت قوى غير إسلامية فإن هيئة العلماء تكون واقفة لها بالمرصاد، ولنحاول الذهاب مع المنطق الافتراضي إلى آخر الشوط ونقول: ماذا لو أراد الشعب اختيار تيارات مدنية وعلمانية بهدف أن تقر تشريعات جديدة جدا ومخالفة لما قد تراه هيئة كبار العلماء الأزهرية؟ إلى أين ستتجه الأمور في حالة كهذه؟ وكيف سيكون الصدام آنذاك بين برلمان منتخب بشكل مباشر من قبل الشعب، وهيئة غير منتخبة تُخضع إرادة الشعب وناخبيه لما تراه هي من آراء واجتهادات. لكن تلك المعضلة برسم التأجيل الآن إزاء المعضلة الراهنة والملحة المتأتية من الشبق الإسلاموي المدهش إزاء السلطة وامتلاكها والتحكم في مفاصلها، تشريعيا وتنفيذيا وقضائيا..... وأزهريا. إذا لم يتم تحييد الأزهر تشريعيا وقانونيا على الأقل لجهة تدخل الأحزاب السياسية الدينية الحالية في قيادته وآلية اتخاذه للقرارات، وعلى وجه التحديد كيفية عمل هيئة كبار العلماء وعلاقتها بالحكومة والبرلمان، فإن هذه المؤسسة الدينية العريقة سوف تتحول إلى ساحة صراع سياسي محتدم يستنزف صدقيتها وهيبتها ومكانتها التاريخية والحالية. لن يقف "السلفيون" موقف المتفرج على "الإخوان" وهم يسيطرون تدريجيا على الأزهر، بل سوف يحشدون قواهم وطاقاتهم للمنافسة والسيطرة. ولا نعرف ما هو التيار الديني الآخر الذي سوف يخرج إلى الساحة في المستقبل إلى جانب الإخوان والسلفيين كي يدخل المعركة أيضا. وفي خضم الطحن المتبادل سوف يكون الأزهر واستقلاليته ومكانته وعلماؤه هم الضحايا الأهم. لقد أقحم الأزهر عمليا، ومن خلال الدستور الجديد، كمؤسسة وعلماء، في ورطة السياسة وتجاذباتها ومؤامراتها ومساوماتها وأوساخها. وسوف يجد نفسه عاجلا أم آجلا في صدام مع هذه الشريحة أو تلك من السياسيين أو النخب أو حتى الشعب بسبب رأي فقهي هنا أو موقف سياسي هناك. وقد كان من الأفضل للأزهر وللسياسة والدين والشعب أن يبقى الأزهر بعيدا عن كل هذا، ويحتفظ بمهابة المؤسسة الدينية التي تقول "رأيا فقيها" يكون الأخذ به من قبل الناس والحكومة وغيرهم طوعا واختيارا، ولا تزعم أنها تقول "الرأي الفقهي" الحاسم، الذي يُفرض على الناس جبرا وقسرا بقوة السلطة وفرضها. في هذه الحالة يتحول الأزهر إلى أداة من أدوات السياسة والسلطة، وقد يتطور ذلك إذا ما تغولت الإسلاموية الحالية في السياسة المصرية، إلى حالة شبيهة بوضع الكنيسة والبابوية في العصور الوسطى، حين تحولت الكنيسة من مؤسسة روحانية دينية إلى سلطة جبروتية سياسية وإمبراطورية قاهرة. إقحام الدين في السياسة من خلال الأحزاب الإسلاموية يقحمنا في مرحلة بالغة الغموض قانونيا ودستوريا ومؤسساتيا ودينيا، وليس الصراع الإخواني على الأزهر سوى جانب منه. وبسبب غياب أي فكر ديني-سياسي مستنير وعميق عند كل الأحزاب الإسلاموية الراهنة فإن المسار المزايداتي هو الذي يسود، وهو المسار الذي تزايد فيه الأحزاب الإسلاموية بعضها على بعض في "تطبيق الشريعة" ودروس السياسة وتفسيراتها، وهو مسار في الغالب الأعم لا يقود إلا إلى كنسية جديدة في ديار المسلمين.
505
| 08 أبريل 2013
قرارات القمة العربية في الدوحة يجب أن تشكل نقطة انعطاف حقيقية في مسار الدعم العربي للثورة السورية وتسليحها. بعيدا عن الأجندة الغربية وتحفظاتها وتلكؤها الذي خدم النظام وأنهك الثورة وشعبها. أهم تلك القرارات يتمثل في فتح المجال أمام البلدان العربية لتزويد الثورة بالسلاح. ونأمل أن يتم ذلك دون الرضوخ للسقف الذي تضعه واشنطن على نوعية السلاح وكميته. الأجندة الأمريكية والغربية ومصالحها في سوريا ومقاربتها إلى ثورتها تختلف عن الأجندة العربية ومصالح العرب هناك. بوصلة المصلحة الغربية في سوريا هي إسرائيل وأمنها ومستقبلها وكيف سيتأثر ذلك بأي وضع جديد تأتي به الثورة بعد انهيار نظام الأسد. أما بوصلة المصلحة العربية في سوريا فترتبط في تحرير سوريا من السيطرة الإيرانية ولجم نفوذ وتوسع طهران الذي يتكرس على شكل هلال يضم العراق وسوريا ولبنان. على الضد من الشعاراتية الأسدية ورطانة خطاب المقاومة فإن سوريا الخائضة للنفوذ الإيراني أثبتت حسن سلوكها السياسي لإسرائيل وأمنها عبر عقود طويلة. وهي الخيار الأفضل لإسرائيل. وحروب حزب الله ضد إسرائيل التي دعمتها سوريا واستثمرتها في تعزيز خطاب المقاومة ثبت أنها كانت تخدم تكريس النفوذ الإيراني أكثر بكثير مما تخدم مواجهة إسرائيل.من حق الجامعة العربية كمنظمة إقليمية أن تقود سياسة دعم وتسليح جديدة في سوريا وتتيح لها الأعراف الدولية أن تنتهج السياسة التي تراها مناسبة لتحقيق الأمن والاستقرار في منطقتها الإقليمية. بل إن تلك الأعراف تشير إلى أن أي صراع إقليمي يجب أن يُصار إلى محاولة حله عبر المنظمات الإقليمية قبل الذهاب إلى المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن. على ذلك تستند الجامعة العربية إلى أرضية قانونية قوية عندما تقرر تبني سياسة وإستراتيجية جديدة في دعم الثورة السورية. تحقق المصلحة العربية بعيدا عن المصلحة الغربية. وحتى لو تناقضت معها. لكن وبرغم اختلاف الأجندة العربية ومحددات صنع قراراها إزاء الثورة السورية عن تلك الغربية فقد خضعت مع الأسف الأجندة العربية لتلك الغربية خاصة على صعيد تسليح الثورة نوعيا. مما تسبب في تواصل مسلسل الموت الرهيب في سوريا وتدمير الوطن والشعب والبنية التحتية فيه. وإطالة عمر النظام. كما أدى الالتزام الحرفي بالسقف الصارم الذي وضعه الغرب لجهة تزويد الثورة بالسلاح النوعي. خاصة الذي يحيد التفوق الجوي ويجبر النظام على وقف استخدام الطائرات. إلى فسح المجال لقدوم جماعات التطرف القريبة من القاعدة. وتديين الثورة وتطييفها. وهكذا وبعد مرور أكثر من سنتين على اندلاع الثورة السورية هناك أمل في يترك الموقف العربي والخليجي على وجه التحديد من تلك الثورة الحالة المفارقة والغريبة التي التزم بها وهي التأييد القوي مع الدعم غير الفاعل. التأييد القوي يُترجم سياسيا. ودبلوماسيا. وإعلاميا. وإنسانيا. أما الدعم غير الفاعل فيُترجم من خلال التردد الكبير والتباطؤ في تقديم العون العسكري والنوعي الذي يؤدي إلى تغير موازين القوى على الأرض بين الثورة والنظام. في مرحلتها الأولى بدت الثورة السورية مشابهة للثورة الليبية في مسارها الإجمالي. حيث الدعم السياسي والدبلوماسي الخليجي. خاصة القطري. للمعارضة والحركة الثائرة قاد إلى حشد إقليمي ودولي انتهى بدوره إلى تفويض أممي لاستخدام القوة أوقفت بطش نظام القذافي وتهديداته بحرق المدن الليبية على رؤوس الثائرين. إستراتيجية القذافي في مواجهة الحراك الشعبي آنذاك تمحورت حول "عسكرة" الانتفاضة الليبية وإنهاء شكلها السلمي تفاديا للسيناريو التونسي والمصري حيث كانت سلمية الانتفاضات هي سلاحها الفتاك. لذلك أطلق النظام آلته القمعية بكامل ترسانتها ضد المحتجين العزل ومظاهراتهم. وبالتوازي مع ذلك فتح مخازن الأسلحة الخفيفة لهم لجر الحركة الشعبية السلمية إلى الخيار العسكري. الذي يوفر للنظام مسوغ استخدام البطش العسكري الذي أخذ أقصى الأشكال الدموية. قاد ذلك كما نعلم إلى حلقات متتالية من التطورات أفضت إلى التدخل الأممي العسكري. إستراتيجية النظام السوري في قمع الثورة منذ بداياتها تشابهت مع تلك الليبية إلى حد بعيد. خاصة في مسألة إنهاء جانبها السلمي (الخطير). مُضافا إلى ذلك توظيف أقسى درجات القمع ضد أي حراك سلمي بأمل وأده منذ البداية. اعتمد النظام على القبضة البوليسية الدموية التي استهدفت "تلقين" كل من تسول له نفسه الخروج إلى الشارع. بهدف خلق مناخ رعب رادع لا يتيح أي فسحة للاحتجاج. فشلت تلك الإستراتيجية أمام الإرادة المدهشة للسوريين الذين تمسكوا بسلمية ثورتهم شهورا طويلة رغم القمع الدموي الذي تعرضوا له. كان من المُتوقع أن يقود تفاقم قمع النظام إلى تبلور موقف دولي مشابه لذلك الذي تبلور ضد نظام القذافي. لكن ما حدث على أرض الواقع أن الحالة السورية اندرجت في مسار خاص بها. بخلاف كل حالات الثورات العربية الأخرى. خاصة بعد تلقيها الضربة الكبرى التي تمثلت في الموقف الروسي المتصلب الذي اعتبر المعركة السورية معركته الدولية لإثبات النفوذ وتكريس مكانة موسكو في عالم اليوم – خاصة في ضوء الغضب إزاء ما اعتبرته موسكو الخديعة الغربية في توسيع التفويض الأممي للتدخل العسكري في ليبيا. وهكذا. وإيجازاً لما صار معروفا ولا يحتاج إلى إعادة سرد. تسبب الموقف الروسي. وعبر استخدام حق النقض في مجلس الأمن. في إفشال المسار الذي كان من المُؤمل أن يكون الأقل كلفة والأقصر زمنا. وأدى ذلك بالتالي إلى حشر الثورة السورية في مأزق بالغ المأساوية. ومعه كل داعميها وعلى رأسهم الدول الخليجية. فمن ناحية لا يمكن أن يعوض التأييد المعنوي والإنساني والإعلامي وحتى الدبلوماسي (خاصة مع انسداد المسار الأممي) اختلال ميزان القوى العسكري الكبير في ميدان القتال. فما هو قائم على أرض الواقع في نهاية المطاف تجسد في شكل صراع مسلح غير متكافئ. حيث مجموعات المعارضة التي دُفعت دفعا إلى استخدام السلاح وجدت نفسها تواجه جيشا مدججا وباطشا ويحظى أيضاً بدعم لوجستي إقليمي (إيران والعراق) ودولي (روسيا والصين). هذه هي المعالم الأساسية للصورة الحالية للثورة السورية. وهي التي جمدت عناصر السياق العام للثورة وأبقت على العنصر الوحيد المتحرك وهو استمرار بطش النظام وتقتيله اليومي للشعب السوري. والسؤال الآن. هل نرى ترجمة لقرارات قمة الدوحة تغيّر من السياق الذي تجمد وتغير مساره؟
406
| 01 أبريل 2013
بثينة حمدان ناشطة فلسطينية في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة تستحق مع ناشطات أخريات زميلات لها أوسمة شرف على الجهود المتواصلة والمثابرة ضد ما تواجهه المرأة الفلسطينية من قمع ذكوري وتمييزي سواء من قبل المجتمع أو القانون نفسه. داخل قاعات الدراسة في معهد أبو لغد للدراسات الدولية في جامعة بير زيت وفي نقاشات مساقات برنامج الماجستير هناك حيث سعدت بتدريسها وزميلاتها وزملائها كانت بثينة تطرح الأسئلة الصعبة والجريئة وتنتقد البنية المجتمعية القامعة للمرأة. خارج قاعات الدراسة كانت قد بدأت تطل على الفضاء المفتوح من خلال مدونتها ومقالاتها وما تنشره في أكثر من منبر. هذه الأيام تتضافر جهود بثينة مع ناشطات كثر في فلسطين وخارجها للوقوف أمام فضيحة ما يُسمى بـ "جرائم الشرف" في فلسطين وهي ذات النسخة المعيبة من القتل الرخيص المنتشرة في المنطقة بشكل عام. الحملة النبيلة التي تقودها الناشطات الفلسطينيات تستهدف كشف المستور ووضع هذا الموضوع تحت الشمس والأهم من ذلك تغيير القوانين التي تخلق المناخ المساعد والمسهل على قتل المرأة بدعوى الشرف. في مقالة جريئة لبثينة في شهر نوفمبر الماضي موجهة للرئيس الفلسطيني محمود عباس بعنوان "سيدي الرئيس: هل تصمت على قتل النساء"؟ أطلقت بثينة صرخة قوية وعالية باسم كل الإناث الضحايا اللواتي قتلن بأيد باردة واختبأ قتلتهن وراء "قانون العذر المخفف" الذي لا يمكث المجرم القاتل بسببه إلا شهورا قليلة في السجن. في المقالة المذكورة عددت بثينة بعض الحالات الحديثة و "الطازجة" من القتل والضحايا البريئات. إنهن بنات في عمر الورود لهن وجوه وأسماء وأحلام وحياة كانت ممتدة أمامهن. ولسن أرقاما في سجل الموتى. أوردت المقالة حالاتهن ومختصرا موجعا عن الجرم ذاته وحيث تم إثبات جريمة القتل ومعرفة القاتل لكن الأحكام لم تطبق عليهم. تتضمن الحالات قصة آية برادعية ابنة العشرين عاما والتي وجدت جثتها في بئر بالخليل في أبريل من عام 2010 وقد تحللت بالكامل بعد ثلاثة عشر شهرا من إلقائها في البئر. وقد اعترف عمها والجناة بالقتل ولم يحاكموا حتى الآن. وقصة المرأة التي قتلت على يد زوجها في شهر يوليو 2012 في أحد شوارع بيت لحم. وفتاة قتلت في طولكرم وأخرى في مخيم الشاطئ في الشهر نفسه. ثم في شهر يناير 2012 حالة أخرى مروعة حيث صدر حكم بحق أب اغتصب ابنته عام 2007 أي بعد وقوع الجريمة وسجنه بخمس سنوات، وكان حكم السجن عشر سنوات، تم تخفيفه إلى خمس بسبب إسقاط الحق الشخصي.. علما أن نسبة الاعتداءات الجنسية داخل الأسرة هي 75% من مجمل الاعتداءات الجنسية في المجتمع الفلسطيني. في فبراير من 2012 حكم بالسجن خمس سنوات لقاتل شقيقته في طولكرم. قاتل مع سبق الإصرار يصدر هذا الحكم المخفف عليه. والذي غالبا ما يخفض بعد فترة! وفي سبتمبر من عام 2011 وفي مخيم الدهيشة اغتصبت طفلة بعمر 12 سنة، وقتلها خالها بعد أن اكتشف حملها. والقضية حتى الآن بلا حكم منذ أكثر من عام! وفي صيف نفس العام وفور إعلان نتائج الثانوية العامة هذا الصيف قتلت فتاة عمرها 18 عاما على يد والدها فلم تكتمل فرحتها بنتيجتها المشرفة ولم تكتمل حياتها. بشكل عام ثمة تحالف لئيم ومتماسك في كثير من بلادنا العربية ضد المرأة يضم موروثا من التقاليد البالية. والتفسيرات القاصرة للنصوص الدينية. والأطراف المنتفعة المدافعة عن السيطرة الذكورية على المجتمعات وقمع المرأة. وعلى رأسها القوى القبلية والعشائرية والقوى الإسلاموية. يستقوي هذا التحالف بقوانين تميز ضد المرأة ولا تكرس المساواة بينها والرجل بشكل تام. وتوفر لهذا الأخير القدرة على التحكم في المرأة وإخضاعها في البيت وخارج البيت. في مكان العمل والدراسة والترفيه. نتائج الدراسات العلمية والمسحية حول وضع المرأة في المنطقة مخجلة حيث القمع وممارسات الضرب وانتهاك الحقوق وصولا إلى ما يُسمى "قتل الشرف". ولأن الممارسات القمعية والتمييزية ضد المرأة تضرب بعمق لعقود طويلة إن لم نقل قرونا فلم تعد مُستهجنة بل وُتعتبر أشياء طبيعية وتُنسب إلى "الخصوصية الثقافية" لمجتمعاتنا – بمعنى أن لنا خصائص ثقافية تسوغ ما تمارسه المجتمعات ضد المرأة. وأن هذه الممارسات التي تُرى على أنها قمعية إنما تنتمي إلى السمات الثقافية تختلف عن نظيراتها للمجتمعات الأخرى. "قتل الشرف" جريمة بلا شرف يجب القضاء على كل مناخ مُفضي لها. فالقتل هو القتل وجزاؤه يجب أن يكون الأقصى ومحددا قضائيا ولا هوادة فيه. ومن الطبيعي أن يؤدي أي تراخ في أو تهوين في التعامل مع جريمة القتل إلى تشجيع الآخرين في الحالات المشابهة لارتكاب ذات الجرم. في جرائم "قتل الشرف" هناك قصص يندى لها الجبين حيث قتل الإناث يتم لأسباب في غالبيتها الكاسحة لا تتعلق بـ "الشرف" المزعوم الذي انتهك. بل يكون القاتل نفسه عديم الشرف إما لأنه يريد أن يقتل أخته أو قريبته للاستيلاء على الميراث كله. أو لأسباب عائلية. أو لأنه اعتدى عليها جنسيا والوسيلة الوحيدة لإخفاء جريمته تكون القيام بجريمة أخرى هي قتل الضحية. وهكذا. حتى في الحالات التي يثبت فيها الفعل الجنسي بين اثنين عاقلين ومن دون غصب أو إجبار فإن القانون يجب أن يتدخل هنا ولا يسمح لأي كان التصرف بالطريقة التي يريدها. في وسط الكآبة والضيق الذي يحدثه هذا الموضوع في الوجدان هناك بصيص عقلانية وأمل يستحق أن يُشار إليه هنا. وهو أن الحملة التي تنسقها بثينة وزميلاتها تثمر الآن ومن المؤمل أن تتكرس حتى تصبح هذه القضية شأنا عاما لا يتم تجاوزه إلا أن تواجه بالقانون والقضاء. وأهم إنجاز أثمرته الحملة حتى الآن تمثل في الفتوى التي أصدرها الشيخ يوسف إدعيس رئيس المحكمة العليا الشرعية/ رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي، على الموقع الإلكتروني للمحكمة حيث بين موقف الشرع من جرائم الشرف في فلسطين، مؤكداً بالبينات أن هذه الجرائم تخالف الشريعة الإسلامية وأنها ظاهرة تتزايد وتستهدف نساء بريئات ولا تستند إلى البينات المذكورة في القرآن، وأنها عادة جاهلية حاربها الإسلام.
400
| 18 مارس 2013
يتراكم الغضب الفلسطيني هذه الأيام انتصارا لأسرى الحرية المضربين عن الطعام. ورفاقهم الذين قضوا أجمل سنوات شبابهم في سجون الاحتلال العنصري الإسرائيلي. يحدث كثيرون بأننا على أعتاب انتفاضة ثالثة. إسرائيل وأجهزتها الأمنية وقادتها السياسيون مرتبكون ولا يريدون أن تفلت الأمور نحو ذلك الاتجاه. ما يريدونه هو الاستمرار في توسيع الاستيطان. وإهانة الشعب بكامله. ومحاصرته في الجغرافيا. والأمن. والاقتصاد. وخنقه بالكامل... دون أن يصدر عنه أي رد فعل غاضب. أي انتفاضة. أو مقاومة. أو حتى فلم! ارتباك إسرائيل مُضاعف هذه المرة لأن الغضب الحالي. وأي شكل متطور عنه قريبا. سواء على شكل انتفاضة أو غيرها. سوف يكون مرتبطا عضويا وسببيا بقضية الأسرى العادلة. لن تستطيع إسرائيل أن تتغطى خلف خطاب "الإرهاب الفلسطيني" وسوف تواجه مهمة صعبة إذ كيف لها أن تصوغ إعلاما وخطابا سياسيا يواجه مطلبا لا يضاهيه آخر في عدالته: إطلاق ألوف الأسرى الذين كان من المفترض إطلاقهم من سنوات طويلة. في ذروة الغليان الداخلي الفلسطيني هذه كاد فيلم "خمس كاميرات محطمة" للفلسطيني عماد برناط أن يشرع مساحة واسعة في الإعلام العالمي لصور متواصلة من ذات الغليان المستمر في قرية بلعين على مدار أكثر من سبع سنوات. ترشح عمل برناط للفوز بجائزة أفضل وثائقي هذا العام في جوائز الأوسكار. ورغم أنه لم يفز بها إلا أن مجرد وصوله للترشيح يُعتبر إنجازا كبيرا. ذلك أن سجل صناعة السينما الأمريكية و "أوسكارها" إزاء تعاملها مع قضايا وصور العربي والمسلم يزخر بالعنصرية والنمطية. الأهمية الراهنة لـ "خمس كاميرات محطمة" تكمن في تصويره ونمذجته لنضالات أهل قرية بلعين ومؤازريهم من المناصرين والنشطاء من كل العالم ضد عنصرية جدار الفصل الذي يقطع أوصال القرية. وتقديمه كل ذلك الآن كوسيلة نافذة في مواجهة الاحتلال. عماد الذي اشترى كاميرا فيديو متواضعة لتوثيق ميلاد ابنه "جبرين" عام 2005. وجد نفسه مُنساقا لتوثيق ميلاد قصة نضال بلعين ودرسها البليغ ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد الجدار البشع. كان يصور والده الختيار. وأولاده الأربعة. وزوجته الفلسطينية المولودة في البرازيل. كاميرا عماد الأولى البسيطة والبدائية وصورتها المهتزة وزواياها غير المحترفة تُدخل المُشاهد في تفاصيل حميمية لبيت فلسطيني متواضع أرهقته الأقدار وأرهقت قريته كلها. تخرج الكاميرا من بين جدران البيت إلى حقل الزيتون وإلى سرب طيور مقيم في سمائه. تنزل الكاميرا لتصدم عيوننا بالبلدوزرات تضرب في الأرض وترسم حدا بين قلب بلعين ورئتها. الكاميرا التي وُلدت عادية وبسيطة وعائلية أصبحت عين بلعين الراصدة. ولأنها كذلك استهدفها رصاص الغاصب الذي لا يريد توثيق اغتصابه... حطمها! جاء عماد بكاميرا ثانية. رصدت. صورت. وثقت. فجاء الغاصب وحطمها أيضا. جاءت كاميرا ثالثة. ثم رابعة. وخامسة... تتوزع في التقاط الصور. بين نمو الوليد "جبرين" وحياته البريئة. ونمو الجدار العنصري عدو البراءة. نتابع جبرين يكبر ويسجل بالأحرف الأولى ويركب كلماته الأولية: "جدار". "جيش". "رصاص"! يغتال الاحتلال أجمل لحظات العمر وصفاء البراءات. جبرين وبقية أولاد القرية يحبون النشطاء الأجانب. هؤلاء الجميلون الذي جاءوا من زوايا الأرض مدفوعين بالتوق لعدالة غائبة. "فِل" (Phil) أحد هؤلاء. يقدم في أوقات كثيرة مع زملائه عروضا بهلوانية لأولاد القرية حتى تتفتح فيهم البسمات والضحكات رغم صرامة الأسلاك الشائكة التي تلتف حول عنق قريتهم. شباب القرية ونسائؤها وأولادها وبناتها هم شخوص الفيلم. ليسوا ممثلين ولا محترفين. هؤلاء بشر عاديون يكافحون كل يوم كي يعيشوا حياة عادية. تنتصب في وجوههم بوابات حديدية وأسلاك وخرسانات عليهم أن يطلبوا إذن الغاصب كي يجتازوها إن أرداوا الانتقال من ظل زيتونهم إلى شمس حقلهم. كل يوم جمعة يأتي بصلاتين. صلاة الظهر. ثم صلاة المقاومة! يأتي الناس. والنشطاء. ويمارسون طقس هدم الجدار. "أديب" ابن أرض البلد يذرع المكان والحقول باثا روح التحريض بابتسامة لا تغيب. وروح تتقافز فوق الريح. يشجع الناس و "يربي فيهم الأمل". رفاقه. الشجرة. و "الضبع" و "فِل" وعماد والآخرين كلهم يصيرون جدارا يوميا يتلقى الرصاص المطاطي من صفوف الجنود المصطفين على الجانب الآخر. على طول الحد الجديد الذي يرسم مسار الجدار يتناثر الدم. وترصده كاميرا عماد. روعة الفيلم وعبقريته تكمن في عفويته وبساطته المرعبة. المُشاهد لا يرى ممثلين يلبسون زي الجيش ويطلقون قنابل بلاستيكية. هذا جيش حقيقي بكامل عتاده. هذه قنابل ورصاص حقيقي وقاتل. وهذا الدم الذي يسيل طازجا وحارا من شباب في عمر الياسمين على الأرض. هو دم حقيقي. الكاميرا. عين بلعين. تلتقط صورة الدم. الدم الذي يتصل إلى خارج فلسطين كأسطورة غامضة تنادي على ناس من بعيد كي يأتوا ويموتوا هناك. الكاميرا تحضن الشهيد "فِل". الاجنبي الذي قتله الرصاص المطاطي وأسقطه على حد الجدار. جبرين الآن يدخل عامه الرابع ويسأل أبوه عماد لماذا قتل الجيش "فِل". جبرين كان يحب "فِل" ويسميه الفيل. كما يسميه بقية الأولاد وهي التسمية التي كان يحبها فِل نفسه. صور فِل تملأ القرية وجنازته تخرج وراءها بلعين كلها ويصدح قرآن حزين في سمائها. تحطيم الكاميرا الخامسة لم يعد كافيا. هناك عين وراء عين الكاميرا يجب قلعها. عماد نفسه هذه المرة. استهدفه الغاصبون وصرعوه بالرصاص. نراه بعين كاميرا مجاوره يغرق في دمه. يحملونه ويعود للحياة من حافة الموت. على مدار ست سنوات وعيون كاميرا عماد صارت عيونه ترصد وتكتب ما يصير في قرية بسيطة. لكن عظيمة. اسمها بلعين. جبرين ابن الخامسة يدخل عاما جديدا مع خروج كل كاميرا من كاميرات أبيه بعد تحطيمها. نراه في آخر الفيلم يركض في ماء شاطئ فلسطين وقد نجح أبوه في تأمين زيارة له للداخل. كان مع أخيه يركضان ويضحكان ويقولان "البحر الحلو". أديب روح بلعين وناشطها الفوار اعتقل وسجن. ينتهي الفيلم ولا ينتهي التصوير. تنتظر بلعين خروج أسيرها أديب. وخروج ألوف الأسرى الذين يلتهب أحبتهم على وقع عشق بلعين للحياة والحرية.
1944
| 04 مارس 2013
عندما ينتقل أي قيادي حزبي من الأفق الضيق للحزب الذي ينتمي إليه إلى أفق وطني أرحب تضيق به جماعته. ثم لا تضيع فرصة لتهميشه أو التخلص منه. تنخرط القيادات الحزبية في العمل الوطني والتنافس والصراع منطلقة من مقولة تسير في جينات أي حزب تنص على أن مصلحة الوطن هي في مصلحة الحزب. وأن العمل للثاني يعني خدمة الأول. مع مرور الزمن ومواجهة الأزمات وتعقيدات الواقع تكتشف بعض هذه القيادات أن تلك المقولة ليست مطلقة. وأنه في كثير من الأحيان لا تنسجم مصلحة الحزب مع مصلحة الوطن. وأن الأولوية يجب أن تكون دائما للثانية حتى لو اضطر الحزب لتقديم خسارات تكتيكية. التجربة والاحتكاك تنقل هذه القيادات من مستوى لآخر. وهو ما رأينا أمثلة كثيرة له في ممارسة الأحزاب الإسلامية في حقبة ما بعد الربيع العربي. السلفي عماد عبد الغفور رئيس حزب النور سابقا يكتشف هذا الاصطدام. فيصطدم مع بقية الحزب. لينتهي مستقيلا ومؤسسا لحزب جديد اسمه. للمفارقة. حزب "الوطن". خالد مشعل ينتقل إلى أفق وطني ما بعد حزبي بعدما يكتشف ضيق تحزب حماس وعنادها في أكثر من سياق. وهو ما يدفع إلى تهميشه وربما إزاحته عن قيادة حركته. حمادي الجبالي. أحد القيادات التاريخية للإسلام السياسي في تونس ورئيس وزرائها بعد بن علي. يكتشف ضيق أفق الحزب ورغبته في الاستئثار في السلطة. ويطرح تشكيل حكومة تكنوقراط تتجاوز أفق الحزب. ويعيد سقوط مبارك يكتشف عبد المنعم أبو الفتوح كيف أن إخوان مصر ما زالوا تحت الأرض ويفكرون بمصلحة الجماعة أكثر من مصلحة مصر. فيتركهم ويؤسس حزبا لـ"مصر القوية". وهناك أمثلة أخرى كثيرة بطبيعة الحال. في الشكل الحديث لممارسة السياسة ضمن إطار "الدولة-الأمة" تبلور الحزب السياسي بكونه الشكل الأكثر نجاعة للتنافس بين الرؤى الأيديولوجية والمصلحية والسياسية في خدمة الوطن المعني. الحزب تأسس في خدمة الوطن. وليعبر عن رؤية ومقاربة معينة لمؤسسيه ومنسوبيه تطرح نفسها باعتبارها ما يحقق المصلحة العليا للوطن ومواطنيه. والحزب السياسي هو الشكل الأكثر نجاعة لاستيعاب وتذويب الولاءات السابقة التي تعتمد على القبيلة. والطائفة. والدين. أي على العلاقات الغرائزية التي تشترط ولاءً أعمى يسبق الولاء للوطن وللدولة. الأشكال ما قبل الحديثة للتجمعات البشرية تريد تحقيق مصالح التجمع الصغير. الإثني. أو الطائفي. أو الديني. على حساب مصالح التجمع الكبير. الشعب. الحزب السياسي. بالتعريف النظري. يخترق تلك الحدود التقليدية وينضم الناس إليه لتحقيق مصالح مشتركة. بالخيار. وليس لأنهم سليلو قبيلة معينة. أو إثنية. أو ورثوا اتباع دين معين. الفروقات الكبيرة بين المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث من ناحية ممارسة السياسية والانتماء تكمن في أن الانتماء إجباري في الحالة الأولى (للقبيلة. والطائفة والدين). واختياري في الحالة الثانية (للحزب. أو أي تنظيم قائم على المصلحة المشتركة). وتكمن في أن الفرد يُعرّف في الحالة الأولى ب "من هو" وإلى من ينتمي. وأن الفرد يُعرّف في الحالة الثانية ب "ماذا يعمل" وماذا يُنجز – بحسب مفهوم "ماكس فيبر". ليست الأمور مثالية في الشكل الحديث لتسيس البشرية حتى في أفضل أشكالها الديمقراطية. ذلك أن مصالح الأحزاب تختلط وتبتعد عن طوباوية "خدمة الوطن". لكن هذا الشكل على سيئاته هو أفضل ما أنتجه الإنسان في سياق الصراع على الحكم وإدارة التنافس بين مكونات أي مجتمع بشري. في المنافسة بين الأحزاب. وفي المنافسة بين القيادات الحزبية. وفي المنافسة على رئاسة الدولة. هناك غايات حزبية وأيديولوجية. وهناك طموحات وتوق شخصي للوصول إلى القيادة. ونزعة فطرية لحب الرئاسة وقيادة الآخرين. لكن هذه الغايات والطموحات والأنانيات تشتغل تحت ضوء الشمس وفي سياق حريات عامة. وعرضة أن تصطرع بالسلاح والدم. تتنافس بطريقة سلمية وحزبية. وهي الطريقة التي تخلف أقل قدر ممكن من الدمار. معنى ذلك أن نسبة المصلحة الحزبية أو الشخصية مقارنة بمصلحة الوطن تكون مكشوفة للرأي العام. والرأي العام هو الذي يقرر عبر صناديق الانتخاب. ومعنى ذلك أيضاً أن هناك اعتراف واقعي وتصالحي بأن التنافس السياسي الحزبي ينطوي على قدر كبير من الرغبة والطموح الشخصي الذي يرفع راية "خدمة الوطن والشعب". وطالما أن المرشح للرئاسة. والذي قد تقوده طموحاته الشخصية أكثر من دافع خدمة الوطن. سوف يضطر لخدمة الوطن ومحاولة إثبات أنه الأفضل عن طريق الإنجاز والخدمة وذلك لتحقيق أحلامه الشخصية في المجد ودخول التاريخ. فلا ضير في أن تتحقق مصلحته عن طريق تحقيقه لأقصى قدر من المصلحة العامة. وطالما أن الحزب يحقق مصالحه مع إنجازات المصالح العليا للوطن فلا ضير في ذلك. لكن هناك ما هو أخطر من الطموح الفردي للوصول إلى القيادة والرئاسة. وهو ما يمكن ترويضه عبر آليات محاسبية ورقابية وفصل للسلطات. الخطر الحقيقي في الحياة الحزبية يتمثل في الأحزاب عميقة التأدلج أو ذات البعد الطائفي. أو القبلي. أو الإثني. أو الديني. ففي هذه الحالة تسود المصلحة الأيديولوجية. أو الطائفية. أو القبلية. أو الإثنية. أو الدينية. على أي شيء آخر. حيث يتم النظر لاختصار الوطن والمصلحة الوطنية بكونهما لا يتحققان إلا من خلال تحقيق مصلحة الحزب المعني. وهنا ترتبك الأمور وتختلط ليس فقط على الأفراد والقواعد التابعة للأحزاب. وهم دائما مقودين بالتعليمات العليا وأوامر الحزب وعليهم السمع والطاعة. بل يطال الارتباك القيادات نفسها المنهمكة في الدفاع عن الحزب حتى العظم. حتى لو كان أدى ذلك إلى تدمير مصلحة الوطن. ماذا يفعل الحزبي الذي منح حزبه زهرة شبابه وقضى فيه سنوات طويلة من عمره. طواعية وعن خيار حر.عندما يرتبك ضميره الوطني ويكتشف أن انتماءه وولاءه لحزبه صار يعاكس ولاءه لوطنه. وأن مصلحة الاثنين لم يعد يراها منسجمة كما كان يراها سابقا؟ الفكرة الابتدائية في التحزب السياسي عند غالبية أفراد أي حزب تفترض أن خدمة الحزب هي خدمة للوطن. وأن تحقيق مصلحة الأول يعني تحقيق مصلحة الثاني. تتكاثر الحالات التي يبرز فيها هذا الاشتباك والتشظي على مستوى الضمير الوطني والولاء الحزبي عندما ينتقل الحزب من العمل السري إلى العمل العلني. ويكتشف كثيرا من الأفراد أن الحياة السياسية تحت الشمس غيرها تحت الأرض. وأن تعقيدات الواقع غير خيال المثال المجنح. تحت الشمس وفي ضوء الحرية تختبر المقولات والأيديولوجيات وكثيرها. إن لم يكن كلها. تتواضع طوباوياتها وتصبح أكثر عقلانية. وتبرز ثنائية مصلحة الوطن ومصلحة الحزب. الحزب الناجح هو الذي يتأقلم بأسرع وقت ممكن ليتواءم مع مناخ الحرية ويتخفف من وطأة الحزبية والسرية والانغلاق وينفتح على أفق وطني. والحزب الذي يفلح في ذلك يفقد عناصره أفرادا وجماعات ذلك أنهم في مناخ الحرية صاروا يرون الأشياء بطريقة مختلفة. هذا ما حدث مع كثير من منتسبي الأحزاب الإسلامية في مصر وتونس وليبيا واليمن والأردن والمغرب وفي كل بلد انفتحت فيه آفاق حرة للعمل السياسي. انتقل حزبيون إسلاميون كثر من أفق الحزب إلى أفق الوطن. وتمردوا على المعادلة المؤدلجة التي تنص عليها دساتير أحزابهم بأن مصلحة الوطن هي مصلحة الحزب.
522
| 25 فبراير 2013
لقد أُبتذل محمود درويش وانتهى الأمر! الشاعر العظيم الذي حلّق في نص القصيدة ورفعها إلى أفق مُبهر. وليّن الحرف وأنتج ما أنتج من روائع صار يُتمسح به من قبل من لا يفقه من شعره شيئاً. تحول شعره إلى مقولات يرددها منافقون سياسيون. أو جهلة دهماء. أو تجار طماع. ولأنه كان ولا زال قامة فارعة الحضور يتبارى الكل في إظهار القرب إلى ذكراه وتراثه وشعره. شعره الرهيف المنسوج بعمق جواني ورمزية مركبة أصبح يُرى مكتوبا بخطوط رديئة على واجهة بقالة هنا. أو خلفية سيارة يقودها سائق ارعن. أو يتبجح باقتباسه سياسي مكروه. لقد أُبتذل محمود درويش وأسقطه من عليائه "الدهماء" وصار "مشاعاً" – هذا ما يقوله كثير من النخبة الآن في فلسطين وخارجها بتحسر تملؤه مرارة. يشيرون إلى كل مظاهر "المشاعية" ويعددون الأمثلة على الابتذال. تجار وشركات لا هم لها إلا مراكمة الربح تراها تستخدم كلمات من نصوصه. ومؤسسات رسمية تحاول مداراة فشلها السياسي أو الخدماتي بامتشاق بيت شعر له تُصّدّر به أوراقها وتخفي فشلها أمام الناس والمواطنين وراء ما قاله الشاعر يوما ما.يُشير المُتحسرون كثيرا وتكرارا إلى المقولة الشعرية الأوسع انتشارا وابتذالا. برأيهم. والتي صارت تُرى في كل مكان. وتسمع على كل لسان. مطرزة على واجهة كل شيء: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة". "النخبة" العتيدة صارت تشعر بالبؤس والنقمة إزاء هذه الكلمات العنقائية التي تبارز الموت وتحشد الرغبة الجماعية في الحياة عند شعب مقموع من قبل محتل عنصري. لماذا؟ لأنها "ابتذلت" وصارت في كل مكان! يشير المتحسرون النخبويون إلى نصوص شعرية أخرى أو اقتباسات أُنزلت من عليائها لتدور في الشوارع ومع الناس العاديين. قصيدته الغزلية الثرية بالصور والإيحاءات الرغبوية "درس في فن الانتظار" صارت مكتوبة على طاولات المطاعم. وعلى اقداح الشاي. ومقابض "الاراغيل"! الحلم الذي يدغدغ خيال كل شاعر في وصول شعره إلى الناس أيا ما كانت خلفياتهم الثقافية. وأن يُتلى ويُكتب في كل مكان صار في رأي جزء عريض من النخبة التي تدعي امتلاك محمود درويش "ابتذالا"!في بدايات شعره في الستينات كتب درويش نفسه. في "أوراق الزيتون". منتقدا نخبوية الشعر وانقطاعه عن الناس العاديين وقال في قصيدة مشهورة عنوانها "عن الشعر": "قصائدنا بلا لون. بلا طعم. بلا صوت... إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت... وإن لم يفهم البُسطاء معانيها فأولى أن نذريها. ونخلد نحن للصمت". هكذا كان الوعي الأولي والرسالي لدور الشعر عند درويش في تلك المرحلة. وهو وعي تجاوزه في مراحل لاحقة حيث ابتعد شعره عن إدراك "البُسطا" وتعقدت حمولاته الرمزية. وفي الرحلة الطويلة التي انخرط فيها درويش انتقل من القناعة الرسالية المباشرة لدور الشعر إلى مستوى أكثر تعقيدا وتركيبا إذ توتر وتشظى بين هم إبقاء شعره نضاليا ورساليا مفهوما لكل القراء والبسطاء. وهمّ الاستجابة لغواية الشعر وذاتيتها المفرطة وسماواتها اللانهائية. عبر هو ذاته عن ذلك التشظي والتوتر الدائم في لقاءاته وفي أشعاره أيضا. مما أضاف بعدا معاناة لا تنقصه الملحمية إلى ما أبدع.حلق درويش بعيدا عن "البسطاء" وكتب شعرا معقدا استغلق في بعض جوانبه حتى على النخبة التي تدعي امتلاكه الآن. وتريد أن تصدر حظر تجول على البسطاء الذين "ينتهكون" دروب شعره ويتجولون في أبياتها وظلالها من دون تقدير عميق لكنهها. خاض تحديا ومغامرة بالغة في الخطورة جوهرها حمل قراءه. النخبة والبسطا. على مرافقته في متاهات رحلته الشعرية. وتعقيداتها. ورمزيتها. وصعوبتها. والتخلي عن مباشرتها الأولى. ورساليتها الصادمة. ولم يكن لنا جميعا القدرة على مجاراة سباقه التراجيدي مع الزمن والموت والقلق الوجودي العميق والرغبة الانتحارية للوصول إلى مرافئ "الشعر الصافي" كما كان يقول. لهث كثيرون في تلك الرحلة الأوديسية في الشعر والوطن والحب والأنسنة والفلسفة ومبارزة الموت. وكل منهم توقف عند محطة من محطاتها. بهره نص هنا. أو قصيدة هناك. فظل هناك يتأمل اكتشافه. كل مُكتشف لسر من أسرار الشعر الدرويشي أحس بشعور غريب بأنانية الامتلاك والاستحواذ. كأن الشاعر صار ملك القارئ الذي فكك شفره الرمز الشعري. بعد طول عناء. فكيف إذن يأتي بعد كل ذلك مالك بقالة ما. أو سائق تكسي. ليخط على جدار بقالته المتهالك. أو باب سيارته المهترئ ذلك النص الشعري الثمين المحمل بالأسرار. هكذا وببساطة؟ليس هناك أي حاجة للتحسر والندب واللطم على "ابتذال" محمود درويش واستخدامه من قبل "اللي بسوى والي ما بسواش!". هذه الحالة الدرويشية العامة وترديد الجميع "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" هي ديمومة حياة الشاعر نفسه وانتصاره على الموت حتى بعد مماته. هي الحلم والأمنية التي يشتهيها كل شاعر وكاتب. التحسر والندب واللطم تكون مشروعة لو حل الموت في جسد الشاعر وحل في إرثه وشعره أيضاً ولم يترك وراءه سوى نسيانه. والمفارقة الكبيرة أن ثقافة التحسر والتأوه تثير النقمة والسخرية في آن معاً. تخيلوا لو شطبت كل الأشعار والاقتباسات الدرويشية التي تثير حنق النخبة الاحكتارية لدرويش وحل بدلا منها مقاطع لأغان رخيصة لهيفاء وهبي أو نانسي عجرم؟ عندها سوف تشتغل ثقافة التحسر والتأوه لتندب الحاضر والناس والشعب والانحطاط الثقافي الذي لا يلتفت للشعر والحكمة والقراءة وينساق وراء أغان هابطة. في الحقيقة يمكن القول أن الناس تحيروا في شأن "النخبة"! إذا أحبوا محمود درويش بطريقتهم واقتبسوه وغنوا معه و "ابتذلوه" فإن ذلك يثير غضب النخبة الكريمة. وإذا ابتعدوا عنه وخافوا من غموض شعره في "درس الانتظار" ورددوا عوضا عنه شعرا غزليا رديئا يتحدث عن الأثداء والأرداف فإن النخبة الكريمة سوف تشتم انحطاط ثقافة الشعب وابتعادهم عن درويش! لو كتب الناس بعضا من نصوص أغاني شعبان عبد الرحيم على واجهات محلاتهم. لتعالت أصوات النخبة تحسرا مقارنة شعوبنا المُنحطة مع شعوب العالم المتحضرة. ولقالوا انظر إلينا وانظر إلى البشر المحترمين الذين. مثلاً. ينسخون الشعر الراقي في محطات المترو في باريس؟ يحتار الناس في أمر النخبة الكريمة كيف تشير إلى رقي الفرنسيين عندما "يبتذلون" شعرهم وشعرائهم. والى انحطاطنا عندما نفعل الأمر نفسه؟ لكن الشيء الجميل في كل ذلك يبقى في صورة عنيدة ضد النخبة لسائق تكسي أشعث أغبر. يسوق بلا أدنى رعاية لقانون سير. يطل برأسه وربما نصف جسمه من شباك سيارته. يدخن سيجارته برعونة. ويصيح على صديق مار على الرصيف. وصوت غناء من داخل السيارة يرنم "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"!
2640
| 18 فبراير 2013
اتفقت القيادات الفلسطينية في القاهرة مؤخرا على تشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات فلسطينية. وبحيث تبدأ إجراءات التنفيذ كما أعلن بإصدار مراسيم رئاسية تحدد الآليات والمواعيد. وهو اتفاق يُرحب به بطبيعة الحال ويُرجى له مصيرا أفضل من الاتفاقات التي سبقته. السطور التالية تُناقش مسألة الانتخابات الفلسطينية وضرورة التأمل في "كيفية وآلية" القيام بها. وتدعو إلى "هندستها" مسبقا حتى لا تأتي بنتيجة تعيد الأمور إلى المربع الأول. وجزء من هذه الأفكار أوردتها في مقال نشر منذ عام تقريبا وعقب اتفاق آخر بين فتح وحماس على إجراء الانتخابات. وأعيد اقتباسها هنا. ابتدء يتوجب التوكيد على فكرة أساسية وهي أن المحافظة على الانتخابات الدورية في أي نظام سياسي هو أحد علامات سلامة وصحة ذلك النظام. بل وأساس ديمقراطيته. والديمقراطية هي أفضل "آلية" توصلت إليه المجتمعات الحديثة كي تتخلى عن منطق الاحتكام إلى القوة لفض الصراعات والتنافسات الداخلية. وهي مرة أخرى مجرد "آلية" وليست أداة سحرية لحل المشكلات والمعضلات التي تواجه المجتمعات. وهذه نقطة أساسية في فهم الديمقراطية (والانتخابات أيضا). ذلك أن كثيرا من الفهم السائد للديمقراطية خاصة في مجتمعات الانتقال الديمقراطي. أو مجتمعات الاستبداد. يخلع على الديمقراطية إمكانات لا تدعيها. فتحقق الديمقراطية ووفقا التصور التخيلي عند البعض سوف يجلب حلولا سريعة وقاطعة لكل المعضلات ودفعة واحدة: الفقر. البطالة. الفساد. العدالة الاجتماعية. مواجهة التدخلات الخارجية. الخ. وهي بهذا تتحول إلى "برنامج سياسي" أو أيديولوجية مطلوب منها تحقيق قائمة طويلة من المطالب التي تراكمت في عهود وعقود الاستبداد المنقضية.وواقع الأمر أن وظيفة الديمقراطية هي غير ذلك ولا تتجاوز توفير الأجواء الصحية والسلمية للبرامج السياسية والأيديولوجيات المختلفة كي تتنافس في ما بينها وتصل إلى السلطة. ووقتئذ. أي حال تسلم الظافر منها السلطة. يصبح مطلوبا منه تطبيق البرنامج السياسي الذي يريد من خلاله معالجة المعضلات التي تواجه المجتمع. وفي هذه المرحلة. أي مرحلة ما بعد الانتخابات. فإن دور الديمقراطية يتحول إلى تعزيز المحاسبة وترسيخ مجتمع الشفافية وإسناد القضاء المستقل والإعلام الحر بهدف محاصرة السلطة بالرقابة الدائمة وقطع الطريق على أي سوء استغلال للسلطة. يحدث ذلك في سياق سيادي دستوري ومستقل وضمن سيرورات سياسية طبيعية. وذلك كله مختلف عن الوضع الفلسطيني. فلسطينيا. تتم الانتخابات تحت سقف الاحتلال الإسرائيلي وفي غياب سيادة تامة. وفي ظرف تاريخي ما زال الشعب الفلسطيني يناضل فيه من أجل التحرير والحرية والاستقلال. وبهذا فإن "المشروع الديمقراطي" في فلسطين يواجه معضلات بنيوية هائلة لا يواجهها ذات المشروع في البلدان الأخرى التي تمر بعمليات انتقال ديمقراطي اعتيادية. لا يعني ذلك وبأي حال من الأحوال التسويغ لإدارة للديمقراطية والعملية الانتخابية في فلسطين. إذ رغم كل المعوقات الناشئة عن الوضع غير الطبيعي تبقى ممارسة "نصف ديمقراطية" أفضل ألف مرة من غيابها كاملة. لكن الوضع غير العادي يستلزم مقاربة مختلفة وغير عادية للديمقراطية وللانتخابات التي هي مكونها الأساسي. لا يتحرك الفلسطينيون في فضاء حر يستطيعون فيه ممارسة حرية الانتخابات وتخويل صندوق الانتخابات للقيام بحسم الصراع والتنافس السياسي الداخلي بطريقة طبيعية كما يحدث في أي وضع عادي آخر يتسم بالسيادة والاستقلال. العالم كله يقف على أطراف أصابعه إذا نظمت انتخابات فلسطينية. وكل طرف يستعد للانقضاض على النتيجة: إسرائيل. الدول الإقليمية. الولايات المتحدة. أوروبا. الأمم المتحدة. وهكذا. يصبح "صندوق الانتخابات الفلسطيني" كأنه صندوق عجائب. يخضع للمراقبة الدولية ونتيجته تؤثر في معادلات وسياسات وقد تقلب أمورا كثيرة رأسا على عقب. ما افرزه هذا الصندوق عام 2006. بفوز حماس في الانتخابات. قاد إلى حصار إسرائيلي قاتل لقطاع غزة لمدة سبع سنوات. ثم شن حربين عليها. وداخليا تسبب في انقسام فلسطيني مدمر. السبب الجوهري في ذلك أن العملية الديمقراطية وانتخاباتها تمت تحت الاحتلال وفي ظل غياب السيادة والتحرر. ما زالت الشروط البنيوية المسيطرة على الوضع الفلسطيني ذاتها: احتلال إسرائيل والتغول الدائم لغطرستها. تهديدات الولايات المتحدة. انحياز الغرب. الضعف العربي. إضافة إلى غياب السيادة الفلسطينية والإرادة الحرة التي توفر للفائز بالانتخابات المناخ الصحي والحر لتطبيق برنامجه السياسي. في الوقت نفسه هناك حاجة فلسطينية ماسة للانتخابات لأن الشرعية السياسية للوضع القائم سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة قد تهاوت إن لم نقل انتهت. فترة رئاسة أبو مازن انتهت منذ أمد. وفترة حكم حماس القائمة على شرعية الفوز بانتخابات 2006 انتهت هي الأخرى. وبالتالي هناك ضرورة ملحة لشرعية جديدة. لكن الخطورة هنا أن "صندوق الانتخابات الفلسطيني" قد يأتي بنتيجة تعيد تأزيم الأمور (نظرا للمعضلات البنيوية التي ذكرت) في الوقت نفسه الذي يؤسس فيه لشرعية جديدة. بمعنى آخر. ماذا لو فازت حماس مرة أخرى في الانتخابات. وبقيت مسيطرة على قطاع غزة. فما الذي سيختلف؟ وماذا لو فازت فتح في قطاع غزة. هل ستتخلى حماس عن بنيتها الأمنية وسيطرتها هناك؟ وماذا لو فازت حماس في الضفة الغربية؟ هل تستطيع في هذه الحالة إدارة الأمور والضفة كلها بشكل أو بآخر هي في قلب الحوت الإسرائيلي؟ كيف نعمل إذن على التمسك بالممارسة الانتخابية التي وحدها تمنح شرعية للسلطة القائمة. وتجذر الخيار الديمقراطي ولكن في الوقت نفسه نمنع الانتخابات من توريطنا في مأزق جديد؟ بعض الأفكار المطروحة فلسطينيا تقول بأن السبيل إلى ذلك يتمثل في الاتفاق المُسبق بين القوى المتنافسة. وتحديدا فتح وحماس. على مبدأ المشاركة وليس المغالبة بعد الانتخابات. أي أن يكون في جوهر اتفاق المصالحة توافقا على أن سلطة وحكومة ما بعد الانتخابات سوف تكون سلطة وحكومة ائتلافية تضم كل الأطراف ولا ينفرد فيها فصيل لوحده حتى لو فاز بالأغلبية. وهذه فكرة معقولة تحاول تدجين النتيجة الانتخابية مُسبقا. جانب الضعف الواضح في هذه الفكرة يتمثل في إمكانية عدم الالتزام بها بعد الانتخابات في حال اكتسح أحد الأطراف الانتخابات وأسكرته نشوة النصر. أو فشلت مفاوضات تشكيل حكومة ائتلافية. أو تطورت ظروف وضغوط خارجية تعيق تشكيل الائتلاف الحكومي المتفق عليه. الخيار الآخر الذي تطرحه هذه السطور للنقاش يبني على فكرة التحالف الائتلافي السابقة ويتمثل في "هندسة" العملية الانتخابية والسيطرة على نتيجتها مسبقاً حتى لا تنفلت بأي اتجاه غير ائتلافي. ويتم ذلك عن طريق خوض الانتخابات بقائمة وطنية موحدة عمودها الفقري فتح وحماس يتم الاتفاق عليها عبر الحوار والنقاش المُسبق. وتوزيع الأحجام والنسب. إذا اتفقت الحركتان على قائمة موحدة وبرنامج سياسي مرحلي يقوم على توافقات الحد الأدنى فإن نتيجة الانتخابات لن تحمل أي مفاجأة إذ ستفوز بها "قائمة الوحدة الوطنية". الاتفاق المسبق على مثل هذه القائمة (وحتى على الحكومة الائتلافية اللاحقة) سوف يوفر الوقت الكافي لدراسة كل عناصر المعادلة السياسية الداخلية والإقليمية وردود الفعل المحتملة من كل الأطراف. والاستعداد لها والالتفاف عليها. وبحيث تتفادى أي مطب مستقبلي سواء من المقاطعة الدولية. أو عدم الاعتراف. أو سوى ذلك. جانب الضعف الأهم في مثل هذه الفكرة أنه يفرغ العملية الانتخابية والديمقراطية من جوهرها التنافسي وربما يعود بالسياسة الفلسطينية إلى ممارسة "المحاصصة". وهو جانب يجب الإقرار به. لكن وفي الوقت نفسه توفر علينا هذه الفكرة التورط في مخرجات انتخابية قد تعيد تأزيم الوضع بدل أن تقدم حلولا له. الانتخابات الديمقراطية الحرة التنافسية هي النموذج الأساسي والصحيح. لكن اشتراطاتها في الحالة الفلسطينية غائبة. وغياب الاشتراطات لا يعني تفادي الانتخابات والتحول الديمقراطي لأن ذلك معناه الاستبداد والسلطوية. ثمة "منزلة بين المنزلتين" هي "هندسة الانتخابات" للاستفادة من شرعيتها. ولكن من دون المغامرة بفلتان نتيجتها في أي اتجاه تأزيمي. إنه حل "نصف ديمقراطي" لكنه يتناسب مع الوضع "نصف السيادي" الذي نحيا فيه.
527
| 11 فبراير 2013
مساحة إعلانية
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات...
4605
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه،...
3402
| 29 سبتمبر 2025
تجاذبت أطراف الحديث مؤخرًا مع أحد المستثمرين في...
1581
| 05 أكتوبر 2025
في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة يمكن وصفها بـ...
1119
| 02 أكتوبر 2025
من أخطر ما يُبتلى به التفكير البشري أن...
1059
| 29 سبتمبر 2025
منذ أكثر من مائة عام ارتُكبت واحدة من...
885
| 30 سبتمبر 2025
في لحظة صفاء مع النفس، يطلّ النسيان عليَّ...
852
| 30 سبتمبر 2025
لسنا متشائمين ولا سلبيين في أفكارنا وتوقعاتنا ولكن...
768
| 03 أكتوبر 2025
كم مرة قلت «نعم» في العمل بينما في...
756
| 02 أكتوبر 2025
في الوقت الذي كان العالم يترقب رد حركة...
663
| 05 أكتوبر 2025
في فجرٍ قطريّ عليل، كان البحر يلمع بألوان...
633
| 30 سبتمبر 2025
كيف نحمي فرحنا من الحسد كثيرًا ما نسمع...
624
| 30 سبتمبر 2025
مساحة إعلانية