رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يتراكم الغضب الفلسطيني هذه الأيام انتصارا لأسرى الحرية المضربين عن الطعام. ورفاقهم الذين قضوا أجمل سنوات شبابهم في سجون الاحتلال العنصري الإسرائيلي. يحدث كثيرون بأننا على أعتاب انتفاضة ثالثة. إسرائيل وأجهزتها الأمنية وقادتها السياسيون مرتبكون ولا يريدون أن تفلت الأمور نحو ذلك الاتجاه. ما يريدونه هو الاستمرار في توسيع الاستيطان. وإهانة الشعب بكامله. ومحاصرته في الجغرافيا. والأمن. والاقتصاد. وخنقه بالكامل... دون أن يصدر عنه أي رد فعل غاضب. أي انتفاضة. أو مقاومة. أو حتى فلم! ارتباك إسرائيل مُضاعف هذه المرة لأن الغضب الحالي. وأي شكل متطور عنه قريبا. سواء على شكل انتفاضة أو غيرها. سوف يكون مرتبطا عضويا وسببيا بقضية الأسرى العادلة. لن تستطيع إسرائيل أن تتغطى خلف خطاب "الإرهاب الفلسطيني" وسوف تواجه مهمة صعبة إذ كيف لها أن تصوغ إعلاما وخطابا سياسيا يواجه مطلبا لا يضاهيه آخر في عدالته: إطلاق ألوف الأسرى الذين كان من المفترض إطلاقهم من سنوات طويلة.
في ذروة الغليان الداخلي الفلسطيني هذه كاد فيلم "خمس كاميرات محطمة" للفلسطيني عماد برناط أن يشرع مساحة واسعة في الإعلام العالمي لصور متواصلة من ذات الغليان المستمر في قرية بلعين على مدار أكثر من سبع سنوات. ترشح عمل برناط للفوز بجائزة أفضل وثائقي هذا العام في جوائز الأوسكار. ورغم أنه لم يفز بها إلا أن مجرد وصوله للترشيح يُعتبر إنجازا كبيرا. ذلك أن سجل صناعة السينما الأمريكية و "أوسكارها" إزاء تعاملها مع قضايا وصور العربي والمسلم يزخر بالعنصرية والنمطية.
الأهمية الراهنة لـ "خمس كاميرات محطمة" تكمن في تصويره ونمذجته لنضالات أهل قرية بلعين ومؤازريهم من المناصرين والنشطاء من كل العالم ضد عنصرية جدار الفصل الذي يقطع أوصال القرية. وتقديمه كل ذلك الآن كوسيلة نافذة في مواجهة الاحتلال. عماد الذي اشترى كاميرا فيديو متواضعة لتوثيق ميلاد ابنه "جبرين" عام 2005. وجد نفسه مُنساقا لتوثيق ميلاد قصة نضال بلعين ودرسها البليغ ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد الجدار البشع. كان يصور والده الختيار. وأولاده الأربعة. وزوجته الفلسطينية المولودة في البرازيل. كاميرا عماد الأولى البسيطة والبدائية وصورتها المهتزة وزواياها غير المحترفة تُدخل المُشاهد في تفاصيل حميمية لبيت فلسطيني متواضع أرهقته الأقدار وأرهقت قريته كلها. تخرج الكاميرا من بين جدران البيت إلى حقل الزيتون وإلى سرب طيور مقيم في سمائه. تنزل الكاميرا لتصدم عيوننا بالبلدوزرات تضرب في الأرض وترسم حدا بين قلب بلعين ورئتها.
الكاميرا التي وُلدت عادية وبسيطة وعائلية أصبحت عين بلعين الراصدة. ولأنها كذلك استهدفها رصاص الغاصب الذي لا يريد توثيق اغتصابه... حطمها! جاء عماد بكاميرا ثانية. رصدت. صورت. وثقت. فجاء الغاصب وحطمها أيضا. جاءت كاميرا ثالثة. ثم رابعة. وخامسة... تتوزع في التقاط الصور. بين نمو الوليد "جبرين" وحياته البريئة. ونمو الجدار العنصري عدو البراءة. نتابع جبرين يكبر ويسجل بالأحرف الأولى ويركب كلماته الأولية: "جدار". "جيش". "رصاص"! يغتال الاحتلال أجمل لحظات العمر وصفاء البراءات. جبرين وبقية أولاد القرية يحبون النشطاء الأجانب. هؤلاء الجميلون الذي جاءوا من زوايا الأرض مدفوعين بالتوق لعدالة غائبة. "فِل" (Phil) أحد هؤلاء. يقدم في أوقات كثيرة مع زملائه عروضا بهلوانية لأولاد القرية حتى تتفتح فيهم البسمات والضحكات رغم صرامة الأسلاك الشائكة التي تلتف حول عنق قريتهم. شباب القرية ونسائؤها وأولادها وبناتها هم شخوص الفيلم. ليسوا ممثلين ولا محترفين. هؤلاء بشر عاديون يكافحون كل يوم كي يعيشوا حياة عادية. تنتصب في وجوههم بوابات حديدية وأسلاك وخرسانات عليهم أن يطلبوا إذن الغاصب كي يجتازوها إن أرداوا الانتقال من ظل زيتونهم إلى شمس حقلهم.
كل يوم جمعة يأتي بصلاتين. صلاة الظهر. ثم صلاة المقاومة! يأتي الناس. والنشطاء. ويمارسون طقس هدم الجدار. "أديب" ابن أرض البلد يذرع المكان والحقول باثا روح التحريض بابتسامة لا تغيب. وروح تتقافز فوق الريح. يشجع الناس و "يربي فيهم الأمل". رفاقه. الشجرة. و "الضبع" و "فِل" وعماد والآخرين كلهم يصيرون جدارا يوميا يتلقى الرصاص المطاطي من صفوف الجنود المصطفين على الجانب الآخر. على طول الحد الجديد الذي يرسم مسار الجدار يتناثر الدم. وترصده كاميرا عماد. روعة الفيلم وعبقريته تكمن في عفويته وبساطته المرعبة. المُشاهد لا يرى ممثلين يلبسون زي الجيش ويطلقون قنابل بلاستيكية. هذا جيش حقيقي بكامل عتاده. هذه قنابل ورصاص حقيقي وقاتل. وهذا الدم الذي يسيل طازجا وحارا من شباب في عمر الياسمين على الأرض. هو دم حقيقي. الكاميرا. عين بلعين. تلتقط صورة الدم. الدم الذي يتصل إلى خارج فلسطين كأسطورة غامضة تنادي على ناس من بعيد كي يأتوا ويموتوا هناك. الكاميرا تحضن الشهيد "فِل". الاجنبي الذي قتله الرصاص المطاطي وأسقطه على حد الجدار. جبرين الآن يدخل عامه الرابع ويسأل أبوه عماد لماذا قتل الجيش "فِل". جبرين كان يحب "فِل" ويسميه الفيل. كما يسميه بقية الأولاد وهي التسمية التي كان يحبها فِل نفسه. صور فِل تملأ القرية وجنازته تخرج وراءها بلعين كلها ويصدح قرآن حزين في سمائها.
تحطيم الكاميرا الخامسة لم يعد كافيا. هناك عين وراء عين الكاميرا يجب قلعها. عماد نفسه هذه المرة. استهدفه الغاصبون وصرعوه بالرصاص. نراه بعين كاميرا مجاوره يغرق في دمه. يحملونه ويعود للحياة من حافة الموت. على مدار ست سنوات وعيون كاميرا عماد صارت عيونه ترصد وتكتب ما يصير في قرية بسيطة. لكن عظيمة. اسمها بلعين. جبرين ابن الخامسة يدخل عاما جديدا مع خروج كل كاميرا من كاميرات أبيه بعد تحطيمها. نراه في آخر الفيلم يركض في ماء شاطئ فلسطين وقد نجح أبوه في تأمين زيارة له للداخل. كان مع أخيه يركضان ويضحكان ويقولان "البحر الحلو". أديب روح بلعين وناشطها الفوار اعتقل وسجن. ينتهي الفيلم ولا ينتهي التصوير. تنتظر بلعين خروج أسيرها أديب. وخروج ألوف الأسرى الذين يلتهب أحبتهم على وقع عشق بلعين للحياة والحرية.
تأهيل ذوي الإعاقة مسؤولية مجتمع
لم يعد الحديث عن تأهيل ذوي الإعاقة مجرد شأن إنساني أو اجتماعي بحت، بل أصبح قضية تنموية شاملة... اقرأ المزيد
51
| 24 أكتوبر 2025
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز بالتّجدّد وتظهر دائما من خلال المشاريع الجديدة العملاقة المعتمدة على... اقرأ المزيد
60
| 24 أكتوبر 2025
لا تنتظر الآخرين لتحقيق النجاح
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالبا ما نعتمد على الآخرين لتحقيق النجاح والسعادة. نعتمد على أصدقائنا وعائلتنا وزملائنا... اقرأ المزيد
21
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4890
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3657
| 21 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في دولة قطر، الخاص بمكافحة المنشطات في المجال الرياضي، تحولًا مفصليًا في مسار التشريع الرياضي العربي. فالقانون لا يقتصر على تحديد المخالفات والعقوبات، بل يؤسس لفلسفة جديدة قوامها الإنسان، بوصفه غاية الرياضة قبل أن يكون وسيلة للإنجاز. هذا التوجه التشريعي يعكس نضجًا مؤسساتيًا يربط بين الطب والقانون والأخلاق، في محاولة لصياغة مفهوم حديث للنزاهة الرياضية داخل بيئة تتسارع فيها التطورات العلمية والتقنيات الطبية. على الصعيد العلمي والطبي، يُدرك المشرّع أن قضية المنشطات ليست مجرد مخالفة قانونية، بل قضية صحة عامة تمس توازن الجسد الإنساني. فالمواد المحظورة، مهما كان أثرها في تحسين الأداء، تُحدث اضطرابًا فسيولوجيًا وتشوه المسار الطبيعي للقدرة البدنية. ومن ثم، فإن تشجيع الرياضي على الاعتماد على جسده لا على العقار يُعبّر عن احترام للعلم في جوهره، لأن الطب وعلوم الحياة وُجدت لفهم الطبيعة البشرية وصونها لا لتجاوزها. وهكذا يرسخ القانون مفهوم "الطب الأخلاقي” الذي يوازن بين العلاج والحماية من الانحراف الدوائي. وإذا كان الجانب العلمي قد كشف خطورة المنشطات على الجسد، فإن الجانب القانوني يسعى لضبط مسؤوليات المنظومة بأكملها. فالقانون ينقل عبء المسؤولية من الفرد الرياضي إلى الهيئات والمدربين والمختبرات والإدارات التنظيمية. وهذا تطور مهم، لأن التجارب العالمية أثبتت أن الرياضي ليس دائمًا الجاني، بل قد يكون ضحية نظام يضغط نحو الفوز بأي ثمن. لذلك يتبنى التشريع القطري فلسفة المسؤولية المشتركة، فيتحول من أداة عقاب إلى نموذج إصلاحي متوازن يعزز الشفافية داخل المنظومة الرياضية. أما في البعد الأخلاقي والفلسفي، فيفتح القانون نقاشًا عميقًا حول معنى العدالة في الرياضة: هل العدالة مساواة شكلية أمام القانون أم حماية لجوهر الجهد الإنساني الطبيعي؟ الإجابة تميل إلى الثانية، إذ ينحاز التشريع إلى الفطرة الرياضية وإلى التنافس النزيه الذي يستمد شرعيته من الإرادة لا من الكيمياء. إن هذه الرؤية لا تُعلي من شأن العقوبة بقدر ما تُعلي من شأن القيمة، وتضع الرياضة في سياقها الأسمى: تهذيب الجسد والروح معًا. ومع ذلك، يظل التنفيذ هو التحدي الحقيقي، فمكافحة المنشطات ليست معركة قوانين بل معركة وعي وثقافة. ومن دون إدماج هذه المبادئ في المناهج التربوية والأكاديميات الرياضية، سيبقى القانون نصًا بلا روح. آخر الكلام: إن تجربة قطر تُجسد فهمًا عميقًا للرياضة كقيمة إنسانية وثقافية لا كصناعة للألقاب، وتؤسس لمرحلة عربية جديدة تجعل من الأخلاق الرياضية جزءًا من الأمن الصحي الوطني. وهكذا يصبح القانون رقم (24) لسنة 2025 أكثر من تشريع؛ إنه إعلان فلسفي عن هوية رياضية جديدة قوامها المعرفة، والإنصاف، واحترام الجسد الإنساني كأسمى معمل للطاقة والإبداع.
2751
| 21 أكتوبر 2025