رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كان الفاضل مطربا شعبيا، وكان طويلا وعريضا وأقرب للمصارعين منه إلى موقدي جمر العواطف. في أحد المساءات كان يغني في حفل عام، وأمامه صف من الفتيات الجميلات، يتأملهن بشغف، ويزداد رعونة في الغناء، كلما ارتشف ابتسامة، أو التقط تلويحة من يد ناعمة. كان الراقصون يصعدون إلى المسرح، يتمايلون قليلا أمامه ويهبطون، يصعد غيرهم، يتمايلون أيضا ويهبطون، وصعد رجل يرقص بهستيريا، التصق بالمسرح لأكثر من ربع ساعة، لدرجة أنه شتت مقاطع الأغنية، وحجب عن المغني طوفان الجمال أمامه. فجأة أمسكه الفاضل من رقبته، رقصه قليلا في الهواء وما زال يغني، ثم مضى به إلى خلف المسرح، ألقاه في الكواليس وعاد. كان المايكروفون لا يزال في يده، والأغنية لم تنقطع أبدا. ٢ كان الدكتور ملوال، زميلا لنا، يعمل في قسم الأمراض الباطنية. في أحد النهارات، قصد بيتا للخمور البلدية، في أحد الأحياء الطرفية من المدينة، وخرج في أول المساء يترنح. عثر عليه سائق عربة أجرة ملقى على الأرض، سابحا في القيء والعرق، أحضره للمستشفى وهناك فحصه الطبيب المناوب، وأدخله العنبر للملاحظة، بعد أن كتب على أوراقه: مجهول، ولم يخطر على باله أبداً أنه الدكتور ملوال. في العنبر تلقاه ممرض الليل المتثائب، أرقده في أحد الأسرة القذرة، وعلق على يده محلولا وريديا، وعاد إلى كرسيه يتثاءب، وأيضا لم يفكر لحظة أنه طبيب العنبر. في الفجر استيقظ الدكتور ملوال، تأمل بعينيه المكان وعرف على الفور، أنه يرقد في العنبر الذي يشرف عليه شخصيا. غافل ممرض الليل، وانطلق إلى سكن الأطباء القريب، اغتسل وأفطر، وغير ملابسه، وعاد بعد ساعتين إلى نفس العنبر، يعلق سماعته الطبية على رقبته، ويطوف على المرضى الذين زاملهم في الليل، غائب الشعور. ٣ كان ذلك في أوائل التسعينيات، وكانت فتاة سمراء ومليحة وواسعة العينين بشكل ملفت للنظر، تلازم والدها المحتجز لدينا بأمراض خطرة مثل تليف الكبد وجلطة الدماغ، واحتمال ورم في الأحشاء. كنت أراها يوميا عشرات المرات، تجلس بجانب والدها في العنبر المزدحم، تدلك يديه وساقيه، أو تقرأ كتاب: رحلة المليون، لغادة السمان. كانت تسألني كثيرا، وأجيب كثيرا وحدثتني مرارا عن زوجها لاعب الكرة النجم، الذي منعه انشغاله في معسكر تدريب، عن الحضور معها من العاصمة، لكنه يتابع حالة الوالد يوميا، ويتولى مصروفات علاجه بالكامل. وأرتني صورا كثيرة مقتطعة من الصحف لذلك الزوج النجم، وهو يركل كرة في شباك الخصم، أو يتشنج عقب هدف أحرزه، أو في وسط معجبين منبهرين، وأخبرتني بأنه بات يعرفني جيدا ويسعده أن أكون ضيفا في بيتهما في أول زيارة لي للعاصمة، وعرفانا منها لما قدمته لوالدها، أهدتني كتاب رحلة المليون الذي ما زلت أحتفظ به إلى الآن. بعد شهرين مات والدها وما عاد لها وجود سوى صورتها في مخيلتي. منذ فترة التقيت مصادفة بلاعب الكرة القديم، كان قد تهدم وتثاقلت مشيته، وما عاد يملك من مجده سوى ذكريات البطولات الذائبة في التاريخ، تحدثنا كثيرا وسألته عن زوجته التي كنت أعالج والدها ذات يوم، فنظر إليّ مندهشا، وأخبرني وما زالت بقايا الدهشة عالقة بوجهه: إنه لم يتزوج قط.
543
| 11 مارس 2013
كان إمام مغنيا يملك صوتا ممتلئا بعناصر الطرب كلها، وكان يعمل نجارا في ورشة صغيرة، يملكها في أحد الأحياء البعيدة. كان يدق مسمارا أو مسمارين في الصباح على طاولة أو كرسي، أو خزانة، وينفق باقي اليوم في تلحين القصائد التي تناثرت داخل الورشة. وكان مألوفا جدا أن ترى عددا من زبائنه، يسألون بغضب عن أغراضهم التي مضى عليها زمن طويل وما زالت مجرد خشب. في أحد الأيام زرته في ورشته، أعطيته قصيدة كتبتها لفتاة جميلة وأرادت أن تسمعها مغناة، فطلب مني أن أحضر شايا من مقهى قريب وأعود، وحين عدت بعد عدة دقائق، كان يسمعني قصيدتي ملحنة بصورة لم أصدقها، وفي يوم آخر زودته بخامات الخشب، وطلبت منه طاولة جديدة لعيادتي التي سأفتتحها قريبا، فلم أستلم تلك الطاولة قط. 2 كان الصديق في ذلك الوقت، في الأربعين تقريبا، نحيلا وأسمر البشرة، يرتدي بنطلونا أزرق وقميصا أبيض باستمرار، يضع منديلا أحمر حول عنقه، وعلى عينيه نظارة طبية سميكة من ذلك النوع الذي يطلق عليه (قعر الكوب)، كان خياطا، يجلس على ماكينته من طلوع الشمس إلى غروبها، يأتيه طبق الفول بالجبنة، يلتهمه وهو منهمك، يأتيه كوب الشاي الأحمر الداكن، يتجرعه وهو منهمك، يحاوره الناس في السياسة والكرة، وأفلام راجي كابور، فيحاورهم وهو منهمك، وحين يفرغ من عمله، تكون عشرات البناطيل والقمصان والبدل، معلقة على شماعات خلفه، في انتظار أصحابها. إنها الملابس التي استلم خاماتها في نفس الصباح، فصلها وخاطها، ثم التفت إلى جيرانه من الخياطين الآخرين يسألهم إن كانوا يرغبون في أن يمد لهم يد المساعدة، قبل أن ينصرف إلى بيته. في أحد الأيام استلم قماشا من أحد أبناء الجنوب المنتشرين بشدة في الشرق، لم يكن الجنوبي يعرف عنه شيئا، سلمه القماش طالبا ثوبا وسروالا، وقميصا داخليا. أخذ الصديق قياساته، أعطاه قرشا وطلب منه أن يحضر له زجاجة من مشروب مرطب، ذهب الجنوبي إلى إحدى البقالات وعاد بالمشروب، ليسلمه الصديق ملابسه كاملة. وكانت صدمة للرجل الذي رفض أن يتقبلها باعتبارها ليست ملابسه، ودارت في ذلك اليوم معركة كبيرة دامت نصف ساعة، وعطلت الصديق عن إنجاز بدلة كاملة لأحد العرسان. استلمها منه واعدا بإنجازها حالما يفرغ الرجل من شرب شايه في أحد المقاهي القريبة. 3 كان عبود اللص، ميتا في ذلك اليوم لا محالة، فقد تسلق حائط أحد البيوت، في حي راق، ليسرق، وأحس به سكان البيت الذين كانوا ينامون في الحوش. طاردوه بالعصي والسكاكين، وأمسكوا به، وضربوه بعنف على جسده ورأسه، حتى أصيب بإغماء، ونقلته الشرطة إلى المستشفى في منتصف الليل، وكنت مناوبا. لقد شخصته ارتجاجا في المخ، قمت بخياطة جروحه، وتصوير رأسه بأشعة إكس، وكان قد استيقظ من إغمائه، وبدا مشوشا قليلا، وقمت بإدخاله المستشفى للمراقبة كما نفعل عادة. حيث يمكن أن تتطور حالته في أي وقت. وهو في الطريق إلى العنبر الداخلي، غافل حارسه والممرضين اللذين يحملانه على المحفة، قفز وانطلق يركض، لكن طاردته رصاصة من الحارس، أسقطته ميتا أمام أعيننا.
796
| 05 مارس 2013
كان حليمو صاحب المطعم المفخخ في البلدة، هو الوحيد الذي ما اندلقت دهشة في حسائه ولا حامت علامات من العجب حول ملامحه. كانت عاصميته التي أكلتها المحلية منذ عهد، مازالت ببقية من روح ترفس بين حين وآخر، يعرف منابع التشرد، التي عاد منها أحمد الأصلي جيدا، يعرفها من شباب وطيش ومن هواية قديمة كانت تمشي جنبا إلى جنب مع هوايات أخرى مثل لعب الكرة، وتسطير رسائل الغرام الملتهبة. كان يتخيله طوال مدة غيابه، طريحا في شراك شارع النيل يراقب الحياة النهرية وهو يزفر، يتخيله مساعدا في باص شعبي، مراقبا لعربات السادة في فوهة الميريديان، وبالاس، يتخيله ببذاءة الريف يسطو على جحر متسخ في سكن، في حواري أحياء مثل القلعة، و"أبو آدم" وفي أشد حالات التخيل مروءة يتخيله بلا شيء. كان العائد صديقا سطحيا لصاحب المطعم، أحد المغرمين بحليمو بوصفه وتدا اندق في البلدة بمهارة، وكان يمكن أن يندق في أي غربة أخرى ويحيلها إلى وطن. يحب شواء حليمو، وفوله المطهو برائحة حضر بعيدين، يحب اختياره للحم، وتدقيقه في جسد البطاطس قبل شرائه، وشعيرات رأسه القليلة التي تمنحه تميز الثعالب، وحين كان يسمعهم ينادونه بالأسطى، وصاحب الجيب السمين، كانت مفاهيمه تتأكد، لأن أسطى بجيب سمين، ما كان يتوفر في البلدة إلا مرة في القرن، وحين أراد أن يتشرد لعدة سنوات بعيدا عن عطور البلدة الرخيصة، لم يسع إلى مخيلة فقيرة ينحتها، ولا متفلسفين محليين، أو مسافرين موسميين يصفون له العاصمة كما وردت في ملصقات السياحة. كان يريد عاصمة حية وعارية من الزخرفة، يدخلها كما يدخل بيته. استعان بحليمو بالذات، كلمه في أذنه، وعينيه، وعلى مرأى من الناس بإلحاح شديد. أغراه بغسل أوعية ستين يوما عشائية، وتنظيف فوانيس مطعمه وحشوها بالجاز، جلب له دهنا للشعر، وثوبا مطرزا من جلب مهربي الحدود، وبالغ في الإغراء حين نط إلى حراس الحدود اليابسين في حاميتهم المرابطة بعيدا عن البلدة، وسلمهم عشاء دسما من مطعم حليمو، كانت نفقاته على حسابه الشخصي. استجاب حليمو أخيرا لإلحاح الأصلي، اجتمع به على انفراد لنصف ساعة فقط، وأسس له خط سير معوجا يكتظ بالحفر والمطبات وإشارات المرور الحمراء، وفي نهاية خط السير المعوج، رسم له مستشفى الطوارئ، وبوابة السجن، ودله على عدد من كتاب العرضالات، وموردين للتنباك، كان يعرفهم. اغتبط الأصلي بجريرة حليمو التي اعتبرتها زوجته في ذلك اليوم، أقسى جريرة يرتكبها صاحب مطعم في حق ريفي، حللتها بتمعن، وقدمتها على عدد من الجرائر انتعشت في البلدة في سنوات متعاقبة، جريرة عطا الله، عامل البناء الفقير، حين تقدم للزواج من امرأة، كانت عضوا ناشطا، في اتحاد نساء البلدة، جريرة الشاعر إبراهيم، الذي مدح الصحراء اليابسة، وجعل منها عروسا. جريرة عدد من عمال الحدود، سيروا مظاهرة تطالب بانضمامهم إلى دول عدم الانحياز. تلك الليلة، ارتبك حليمو مرارا وهو يعد العشاء لزبائنه، ونام مشوها، كثير الاستيقاظ، كان يحس بآلام في حوضه، وثقل في تنفسه، وبوادر لانفصام في الشخصية، وتأكد في كثير من الكوابيس، إنه شارك في حرب الجنوب الدائرة، ومات من لغم متفجر. انتظر حتى طلوع الشمس، وانفلت قبل أن يتأكد من طلوعها تماما ليلحق بالمسافر ويستعيد خط السير المعوج الذي رسمه.
416
| 19 فبراير 2013
منذ مدة، لفت نظري زميلنا المترجم القدير عبد الودود العامري، إلى خلو أدبنا العربي مما يعرف برواية التقصي، التي توجد بكثافة في الآداب الأخرى، ليس المقصود هنا الرواية البوليسية التي تبني على جريمة معينة وطلاسم عديدة، لتصل إلى حل معين، يوجده الكاتب في النهاية، كما نلاحظ في أدب أجاثا كريستي الواسع الانتشار، وروايات استيفن كينج، وغيرهما، لكن الرواية التي تتبع تاريخا معينا لأحداث حقيقية معينة قد تغير وجه المستقبل، وضرب بذلك مثلا لرواية إنجليزية، تتبعت تاريخ كتابة القاموس الإنجليزي، وحفلت بكل الشروط المطلوبة لكتابة الرواية بما فيها الأحداث والشخوص وأيضا التشويق الذي يحتاجه القارئ ليتبع رواية ما. فقط كانت نهايتها أن القاموس الإنجليزي، كتب بالفعل. ما ذكره العامري حقيقة، فالرواية العربية في أغلبها حتى الآن، تتبع تجارب الكاتب التي ربما يكون قد عاشها أو سمع بها أو قرأ عنها، واختمرت فكرة في ذهنه، ليقوم بكتابتها لاحقا، وفي السنوات الأخيرة، أقام عدد من الكتاب، جسورا لا بأس بها مع التاريخ، وصار ذلك البعيد الغامض المدون في الوثائق، مادة غزيرة في كتابتنا، ونتسابق في كتابته كل حسب ما يرى. هناك من يأخذ شخصية تاريخية معينة، مثل سيرة ملك أو قائد أو ثائر، يتتبع سيرتها الحقيقية، ليعيد صياغتها من جديد، وهناك من يأخذ حدثا تاريخيا معينا، يبني عليه رواية من الخيال. وفي النهاية لا بد من شد القارئ ولفت انتباهه وتشويقه، ولا بد أيضا من الابتكار، حتى لا تسقط الكتابة في فخ التكرار والرتابة. وفي مراجعة سريعة لحوادثنا العربية قديمها وحديثها، عثرت على أحداث كثيرة تصلح لاختيارها مادة لرواية التحري أو رواية التقصي. لدينا علماء اكتشفوا دورة الدم، وعلم الفلك وسير النجوم قبل غيرهم، لدينا مصممون مثل المهندس حسن فتحي، اهتدوا إلى فن عمارة إسلامي خاص، ومتفوق، وآخرون أسهموا في الارتقاء بتقنية الاتصال وكثيرون في مجالات عدة. مأزق رواية التحري، هو أنها تحتاج إلى قراءات مكثفة، وتتبع صادق للحقيقة قبل ظهورها، أي منذ كانت فكرة في ذهن أحد. هي تحتاج إلى ثقافة لا يمكن اكتسابها بسرعة في عصر ضيق الوقت والمشاغل ولا يمكن للخيال أن يلعب دورا كبيرا، كما هو الحال في الرواية العادية، ما دامت هناك أحداث حقيقية، حدثت بالفعل وغيرت شيئا من وجه الحاضر الذي نعيشه. والكاتب اليوم مثله مثل أي إنسان آخر، يعاني من مشقة الحياة، ولا يستطيع التفرغ لكتابة مثل هذه الروايات. أقترح أن تتبنى جهة ما مسألة مشروع كتابة رواية تحر عن مواضيع تحددها، وذلك في شكل مسابقة لها جوائز مرضية، وتجعل الكتاب يركضون إلى البحث في جذور تلك المواضيع، لتخرج إلى المكتبة العربية كتابة جديدة، وما فعله صديقنا العراقي علي بدر في روايته (حارس التبغ) مثلا، يصلح نواة لذلك النوع من الكتابة، حين جعل بطله يتحرى عن حياة موسيقار شهير، هي رواية من الخيال بلا شك، ولكن تشبه في صياغتها رواية التقصي التي أقصدها.
775
| 04 فبراير 2013
لا شك أن رأي القارئ لأي نص شعري أو روائي، يعد عند الكاتب من الأشياء المهمة، وبالتحديد من الأعمدة التي ربما ترتكز عليها كتابته بعد ذلك، رغم أن بعض الكتاب يتعالون على القارئ، ولا يهتمون بآرائه كثيرا، ناسين بأنهم يتوجهون إليه وحده، ولولا وجود قارئ للكتب، ما وجدت الكتابة أصلا. وقد سعدت كثيرا بظهور أجيال جديدة من القراء المبدعين، يمكنها أن تشارك الكاتب خفقاته وانفعالاته. وتتعمق في نصه بعيدا، وتخرج بأشياء ربما لم يكن الكاتب نفسه يستطيع استخراجها لولا هؤلاء القراء. الآن توجد على الإنترنت، مئات المواقع التي تشجع على القراءة، وربما تساهم الآراء التي تطرح فيها، في توزيع الكتاب، فالذي تعجبه رواية أو مجموعة شعرية، لا يحتفظ بإعجابه داخله، وإنما يبثه لأصدقائه ومعارفه، الذين يسرعون باقتناء الكتاب، ويتحدثون عنه بعد ذلك. منتديات القراءة تلك، أصبحت تقوم بمهام المقاهي الثقافية التي كانت سائدة فيما مضى، وقد جلست في العديد من تلك المقاهي أيام بداياتي في مصر ورأيت كيف كان الناس يبدون آراءهم في الكتابة، وكيف أن كتابا مغمورا، سطع فجأة وسطا على ذهن القارئ، لأن عدة قراء مهمين، تحدثوا عنه باحترام، ومن تلك الكتب كما أذكر، رواية العطر للألماني باتريك زوسكيند التي تتحدث عن صانع العطور القاتل في بحثه عن عطر إنساني، ورواية عالم صوفي التي تتحدث عن تاريخ الفلسفة، وكثير من الروايات العربية الجميلة التي ما كان لها أن تنتشر كل ذلك الانتشار لولا وجود من قيمها انطباعيا، بعيدا عن تعقيدات النقد الأكاديمي. من تلك المواقع الحافلة بالنشاط القرائي، موقع (Good reads)، وتعني القراءة الجيدة. كل قارئ يمكنه أن يسجل حسابا في ذلك الموقع، يمكنه أن يضع قائمة بالكتب التي قرأها أو يريد قراءتها، أو التي أوصى بها أحد أصدقائه. يمكنه أيضا أن يضع رأيه في الكتاب بلا تردد، ويشارك الآخرين آراءهم فيه، وفي النهاية يمكنه أن يقيم الكتاب باختيار نجمة أو نجمتين أو حتى خمس، حسب رأيه. ولأن القائمة الطويلة أو القصيرة من جائزة البوكر العربية، تعد موسما خصبا للقراءة، بتنويهها للكتب المختارة، فإن القراء دائما ما يمنحونها أولوية خاصة، يضعون القائمة، ويبدأون في تشريحها، وربما منحوا احترامهم لرواية دخلت القائمة الطويلة، وخرجت، وعدم احترامهم لرواية وصلت إلى القائمة القصيرة، أو حتى نالت الجائزة الكبرى. وأيضا هناك من يضع قائمته الخاصة ويدافع عنها. لذلك وإيمانا مني بضرورة القارئ الذي أعتمد عليه في تقييم نصوصي وضعت على غلاف الطبعة الثانية من روايتي صائد اليرقات، جنبا إلى جنب مع تعليقات النقاد، تعليقا لقارئة اسمها زهرة، ربما ستفاجأ لو عثرت عليه، لكنه حقها بكل تأكيد، أن يهتم بها الكاتب كما اهتم بالنقاد المساندين لعمله، فهي وكثيرون غيرها أعمدة أساسية في الارتقاء بالعمل الإبداعي. وأنوي مستقبلا أن أملأ الأغلفة الخلفية لرواياتي بآراء القراء سلبية كانت أو إيجابية.
1021
| 28 يناير 2013
كنت قد قرأت مقالا للكاتب البيروفي الكبير، الحائز على جائزة نوبل في الأدب منذ عامين، ماريو فارجاس يوسا، يصف فيه فرحته الأقرب إلى الصدمة، حين تلقى نبأ فوزه بنوبل في الخامسة صباحا، بتوقيت نيويورك، وكان موجودا في تلك المدينة الصاخبة، برفقة زوجته، لإلقاء محاضرات والمشاركة في ندوات خاصة بالكتابة. يقول يوسا إنه لم يصدق في البداية، وظنها مزحة أو مقلبا من أحد أصدقائه، لا لعدم ثقته في مكانته التي ترتقي به إلى أية جائزة، ولكن لعدم تفكيره في الجائزة باعتبارها حلما مشتركا، يتزاحم عليه عشرات الحالمين كل عام، وبعضهم مدرج على ذلك الحلم منذ أكثر من ثلاثين عاما، ولم يستطع إطلاق فرحته من عقالها، إلا حين أذيع النبأ رسميا في الأخبار. ما أود طرحه، هو: لماذا تفرحنا الجوائز أو تصدمنا إلى هذا الحد؟، ولماذا تصيبنا بالإحباط حين لا نفوز بها؟ في رأيي الشخصي، أن الكاتب الحقيقي لا يكتب من أجل جائزة، وكما أقول دائما، إن الكتابة جرثومة تولد مع الشخص حين يعانق الحياة، ولا علاج لها، سوى مزيد من تمكينها في الدم، ولو صادف أن فاز أحدهم بجائزة ما، أثناء مشوار الإبداع، فلا بأس، وإن لم يفز، فسيظل إبداعه موجودا في أذهان أجيال تأتي بعد ذلك، لكن إذا قارنا الجوائز الإبداعية بالمؤهلات الدراسية التي ترافق سير المتعلمين، لوجدنا أنها أشبه بالدرجات العلمية، فالذي يحصل على جائزة، سيضيفها حتما إلى سيرته الإبداعية، وبالتالي تساعد في انتشار أعماله، تماما كدرجة الدكتوراه التي تساعد حاملها على سرعة توظيفه، حين يتنافس المتنافسون في سوق العمل، أو الرتب العسكرية والنياشين التي تضاف إلى بذلات العسكريين، وتكسبهم مزيدا من الاحترام. وتبدو جائزة نوبل هنا أكبر شهادة في هذا المجال، وأعلى الرتب الإبداعية على الإطلاق. لا نستطيع أن نلوم يوسا حين فرح، برغم شهرته العريضة، والنياشين المعنوية التي حصل عليها طوال مشواره الكتابي، فقد حصل على أعلى الرتب. بالنظر إلى توزيع كتب يوسا بجميع اللغات التي ترجمت إليها، قبل نوبل، سنجد أنها تخضع للتذوق الشخصي، وتسير في معدل تجاري مقبول، مثل كثيرين غيره من الكتاب الكبار، وحين جاء نيشان نوبل، اختل ذلك المعدل، تسارع توزيع الكتب بشكل جنوني، واحتل بعضها لائحة الأكثر مبيعا. فقد عرف الذين لا يعرفونه أن ثمة كاتبا حصل على الرتبة العالية، ومن ثم سارعوا للتعرف على إنتاجه عن قرب. لقد عاش كثير من عظماء الكتابة وماتوا بلا دكتوراه إبداعية، ولا رتب أو نياشين، وقرأ البعض إبداعهم، ولم يقرأه البعض الآخر، وأظنهم لو حصلوا على تلك الإضافات في سيرهم لاختلفت أحوالهم كثيرا. لا عجب أن يوسا فرح كثيرا بجائزة نوبل.
854
| 21 يناير 2013
في دفاعه عن روايته المثيرة للجدل، أولاد حارتنا، والتي كانت محظورة في مصر حتى عهد قريب، أذكر أن الكاتب الكبير الراحل، نجيب محفوظ، أشار إلى مسألة الفهم الخاطئ للنصوص الأدبية، حين تتم قراءتها باعتبارها كتابا يحوي حقائق، على القارئ أن يصدقها، ويتفاعل معها، بينما العمل الأدبي هو في الحقيقة، جمع بين الحقيقة والخيال. بمعنى أن تكون الفكرة نابعة من الواقع، وتمت تكملتها بالخيال الذي يضخه الكاتب من ذهنه، أو يلتقط الكاتب شخصيات من محيطه الواقعي، ويتم تعديلها من أجل الظهور في رواية. الفهم الذي حدده محفوظ، وأبعد روايته سنوات طويلة عن القراء في بلده، قد ينطبق بالفعل على تلك الرواية، وقد لا ينطبق عليها، وأزعم أن الكاتب مهما اجتهد الآخرون في تفسير كتاباته، يظل في النهاية وحده من يملك مفاتيح خاصة، لا يمنحها لأحد غيره، ويظهر النص مفتوحا قليلا، أو مواربا، وتحدث دائما الصدمة الكبيرة لعدد من القراء حين يواجهون الكاتب في ندوة أو أمسية ثقافية، يتحدث فيها عن نصوصه ويفاجأون بالفهم الذي خرجوا به، والذي هو بعيد تماما عما قصده الكاتب، أو ادعى أنه يقصده. الكتابة عموما، خاصة لدى المتمرسين فيها، تملك حيلا كثيرة، وأزقة ملتوية تراوغ فيها، وأيضا جحورا للاختباء، متى ما أحست بالخطر. ما أقصده أن الكاتب يستطيع عند الضرورة أن يمنح تفسيرا معقدا، وغير مقصود في الأصل عند الكتابة، لنص أثار جدلا عند خروجه للناس، ومس شيئا من معتقداتهم، والعكس تماما في إصرار الكاتب على أن ما وصف في روايته باعتباره عملا خياليا، وأسطوريا، ليس كذلك، وإنما هي حقائق اكتشفها من البحث الدؤوب لسنوات، كما حدث في رواية شفرة دافنشي التي قرأتها شخصيا باعتبارها عملا روائيا متخيلا بالكامل، ولا يمت إلى الواقع بصلة، وفسرت من قبل كاتبها، بأنها رواية بحث، اجتهد فيها سنوات وتوصل إلى نتيجة.. وأذكر أن القراء ما زالوا يسألوني عن العديد من الشخصيات التي كتبتها في رواياتي، هل هي حقيقية فعلا، كما توحي داخل النصوص؟، خاصة عبد الله فرفار الذي كان الشخصية الرئيسة في روايتي: صائد اليرقات. أنا عموما ضد منع تداول الكتب مهما كانت ركيكة، وسيئة، أؤمن بضرورة إشراك القارئ في مسألة الغربلة، والاستفادة من رأيه الذي حتما سيكون رأيا صائبا خاصة عند القراء الذين تدربوا على القراءة منذ الصغر. منع تداول الكتب يحولها إلى كتب لامعة، تماما مثل أن يسجن متشرد بلا هدف، ويخرج من السجن بطلا، وأعرف كتبا كثيرة بلا أي قيمة ثقافية أو معرفية، لمعت بشدة بعد أن منع تداولها وصودرت طبعاتها، وظل الناس يبحثون عنها بدافع الفضول، ليعرفوا ماذا احتوت، ولماذا منعت من القراءة، وبالتالي زادت طبعاتها، وزاد تداولها، وركزت في الأذهان أكثر. وفي معارض الكتب التي في الغالب لا يمنع فيها أي كتاب، عثرت على كتب عديدة من ذلك النوع المسيء للكتابة والقراءة معا، وظلت مغمورة لأنها لم تمنع.
713
| 14 يناير 2013
خلال تجربتي الطويلة في القراءة والكتابة، دائما ما أطرب حين أعثر على فكرة جديدة داخل نص كتبه غيري، أو تأتيني شخصيا فكرة ما لأكتبها في نص جديد، وأيضا أتساءل: كيف تأتي تلك الأفكار؟ وكيف تتجدد وقد كتبت منذ زمن طويل ملايين الكتب، وبشتى اللغات، ولمختلف الحضارات؟ هنا تكون الإجابة مكملة لما اعتقده الجاحظ من أن الأفكار ملقاة على قارعة الطريق، وعلى الذي يريدها أن ينحني قليلا ليلتقطها. الأفكار ليست على قارعة الطريق فقط، ولكن في كل شيء موجود في الدنيا بما فيه الطريق نفسه، وقد ورد على لسان روائي موجود داخل روايتي (صائد اليرقات)، إن الأفكار موجودة حتى في مصاريننا التي تهضم الطعام، ورئاتنا التي نتنفس بها، وأضيف أن الأفكار بكثرتها، لا تصنع في النهاية أدبا رفيعا إلا إذا تمت مساندتها بعدد من الأدوات الأخرى، مثل اللغة، الشخوص، والحبكة الدرامية، هنا نستطيع أن نقول إن ثمة فكرة جديدة قد نجحت في الصمود داخل نص. من الأفكار الجيدة التي أعجبتني، وتم إبرازها بشكل رائع، لدرجة أنني تمنيت لو كنت كاتبها، فكرة قلم النجار، الذي أهداه سجين تم إعدامه إلى الجندي الذي أعدمه، مبينا له أنه هدية وتذكار منه، في رواية تحمل نفس الاسم للروائي الإسباني مانويل ريفاس. لقد شكل قلم النجار ضميرا غائبا وحاضرا عند الجندي القاسي، متحجر العواطف، يردعه في كثير من الأحيان، ولا يستطيع التخلص منه، هنا جعل ريفاس الضحية تسيطر على الجاني حتى وهي مدفونة تحت الأرض. لقد قرأت قلم النجار، برغم قصرها نوعا ما، بمتعة شديدة، خاصة أنها من ترجمة صالح علماني، أحد أهم مترجمي الأدب الإسباني اليوم، وظللت أبحث كالمجنون عن أي عمل آخر لذلك الإسباني، لكن للأسف يبدو أنه كاتب مقل، وحتى بلغته الإسبانية ليست لديه أعمال كثيرة. أيضا أعجبتني أفكار أخرى لكتاب عرب وأجانب وددت لو كنت من كتبها، وفكرت فعلا في كتابة بعضها ولكن بطريقتي الخاصة، وكما قال جابرييل ماركيز، إنه لا يخجل من أخذ فكرة أعجبته عند زميل آخر، وكتابتها بأسلوبه الشخصي، وأخذ بالفعل قصة الجميلات النائمات التي كتبها الياباني ياسوناري كواباتا، عن ذلك الطقس السحري، حين يشاهد الكهول فتيات نائمات، وسمى روايته: ذكرى غانياتي الحزينات، لكن كتابتها عند ماركيز لم تنجح كما أعتقد. وكنت قد قرأت في مقدمة كتاب اسمه (رشوة) للطاهر بن جلون، إنه أخذ الفكرة من كاتب آخر له رواية تحمل نفس الاسم، وسافر لزيارته في بلده، وعاد ليكتب روايته رشوة، فقد راقت له الفكرة واشتعلت في خياله. إذن، الأفكار موجودة دائما، متشابهة ومختلفة، ولا أظن الذي يملك موهبة الكتابة وموهبة التقصي، يعجز عن إيجاد فكرة لكتابتها.
1086
| 07 يناير 2013
مساء بعيد في مستشفى مدينة بورتسودان، وكنا ننتظر تجهيز غرفة العمليات، لبتر ساق لمتسكع ليلي، أصابه طلق من سلاح عسكري، كان يحرس منع التجول في الساعات المتأخرة من الليل. كنا أمام غرفة كبير الممرضين عبد الله منصور، وكان شيخا غزير السنوات، لكن بنيانه المتماسك، وتحركه النشط، وأصباغ الشعر وشهادة تسنين قوية الحجة، كل ذلك أبقاه في الخدمة العامة لم تطله يد " الستين " الخشنة والقوية، والطاردة لسواعد الرجال. كان عبد الله منصور حكاء، وكانت مجالس الحكي التي يديرها أمام غرفته المتواضعة في ليالي المناوبات، تشد آذان الكثيرين من أطباء وممرضين ومرضى ومرافقين، لكنه في ذلك اليوم كان يكلمني، وكنت مستمتعا، فقد كنت بالفعل في تلك الليلة قارئا لرواية سحرية عظيمة. قال كبير الممرضين يحدثني: حدث ذلك في بداية الخمسينيات، حين كانت الخدمات الطبية شحيحة جدا ولا تتوفر إلا في المدن، وكانت القرى تفتقر حتى لمعاون صحي بسيط، لقد استلمنا في أحد الأيام بلاغا بوجود مصاب مطعون في بطنه في شجار قبلي، في أحد أماكن تجمعات الرحل المنتشرة خلف الجبال، وقد أبلغنا بذلك أعرابي كان يركب جملا، وقد وصل إلى المدينة بعد أن استغرق عشرين يوما في الطريق. ركبنا في عربة للإسعاف تابعة للمستشفى برفقة الأعرابي، وتوغلنا في وسط الجبال والدروب الوعرة، نجوع ونعطش، ونتوه ونستدل، مستغرقين خمسة عشر يوما، حتى وصلنا إلى موقع المصاب وكانت أمامنا مفاجأة: فقد كان المطعون معطرا بعطر الشاكوين المحلي، ومزينا يغطي شعره الودق، وقد لفت أحشاءه المدلوقة خارج البطن بخرقة نظيفة، وكان يحمل سيفا وعصا ويرقص وسط الأغنيات المحلية وزغاريد الصبيات، فقد كان يوم عرسه. حاولنا الإمساك به وجره إلى عربة الإسعاف، لكنه صرعنا جميعا واستمر في احتفاله الكبير غير عابئ بتحذيري وتحذير ممرض آخر كان برفقتنا. جلسنا في القرية شهرا كاملا، كنا متوترين ونافدي الصبر، ننتظر انتهاء شهر العسل حتى نقوم بمهمتنا، وكنا في كل صباح جديد نقوم بزيارة المصاب في خيمته، نغسل أحشاءه بملح الطعام ونلفها بشاش معقم، ونجبره على تناول بعض ( السلفا ) حتى انتهى ذلك الشهر المرير، وعدنا به إلى المدينة. كانت الرحلة هذه المرة شاقة للغاية فقد كنا في عراك مستمر مع العريس المطعون الذي كان يسأل عن عروسه، ويحاول القفز من العربة كلما أعاقتها حفرة أو اعترضها جبل، وكانت خمسة عشر يوما أخرى مريرة حتى وصلنا إلى المدينة، وسلمنا المصاب إلى قسم الجراحة لترتيق أحشائه). كان عبد الله منصور يلهث، وكان يقطع الحكي بين حين وآخر، بتثاؤب متقطع أو قسم غليظ، وحين انتهى سألني فجأة: هل تعرف " عثمان أوهاج" الذي كان شرطيا في المستشفى وانتقل منه العام الماضي؟ قلت: نعم - إنه ولد المصاب البكر، وقد رزق بعده بسبعة آخرين. كانت في حلقي أسئلة كثيرة، وكانت ثمة حوارات ومداخل تجتاحني، لكن غرفة البتر كانت جاهزة، وكان علي أن أنصرف.
536
| 31 ديسمبر 2012
في ذلك المكان بالضبط، تحت نصب الزعيم ماجوك، ومنذ أكثر من عشر سنوات، التقى رابح مديني بسوشيلا أكوال التي تنحدر من قبيلة الزاندي المحلية، المعروفة بفروسية الرجال، وملاحة النساء، ولم تكن من سكان البلدة، لكنها قدمت من ريف بعيد لتحتفل أسوة بالجميع. كان رابح في نحو الخامسة والخمسين وكانت في التاسعة عشرة، هو تزوج وطلق، وتزوج وطلق مرة أخرى، دون أن ينجب، وهي لم تتزوج قط. كانت أول فكرة خطرت بباله حين شاهدها حافية، مكسوة بعقود الخرز، وسن الفيل، ودائخة تحت نظرات الرجال، ترج جسدها في حمى الرقص الجماعي، هي أن يهديها صندلًا متميزًا بألوان الطيف، جلبه ذات مرة، من إحدى رحلاته الروتينية إلى أوغندا، ولم يعرضه للبيع قط، ألبسها الصندل في خياله، وجعلها تتمشى به قليلًا، ثم تنزعه، وتنزع أشياء أخرى عن جسدها، وتقف أمامه برشاقة. عند تلك النقطة، لم يستطع أن يسيطر على مشاعره أكثر، همس في أذن صديقه (آدم مطر) الذي يقف بجانبه، وكان من نفس قبيلته، ويملك مطعمًا في السوق اسمه مطعم (بابايا): - قل لي يا صديق.. هل سأكون مغفلًا، لو تزوجت من تلك الفتاة؟ - بل تكون مغفلًا لو لم تتزوجها. رد الصديق، وعيناه تتابعان الراقصة سوشيلا، وكانت تعدل قميصها الوردي، الذي بعثره الرقص، وتخرج من الساحة، بعد أن انتهت الأغنية. فيما تبقى من ذلك اليوم، اشتعلت حواس رابح كلها، أخرج من جيب قميصه البنفسجي، من ماركة (سيجال)، الذي جلبه من أوغندا في رحلته الأخيرة، رزمة من أوراق النقد خضراء اللون، فضها وبعثرها في المكان، في أغرب خطوة من خطوات الكرم، تصدر من تاجر، وتزاحم الناس، كل يريد الحصول على ورقة. صاح في عازفي آلات الربابة، والكمنجة، والطبل، أن يبدأوا العزف من جديد، وانتقى مغني قبيلة الزاندي المعروف في تلك الأنحاء، حميدو دينق، من وسط رفاقه المغنين، أوقفه على قدميه في الوسط، بعد أن همس في أذنه، كانت أغنية مسنودة بالثروة والنفوذ، أغنية اسمها سوشيلا الراقصة، ألفها المغني، ولحنها في المسافة بين وسط الساحة، والمقعد الذي كان يجلس عليه، وغناها بترف وصعلكة، لم تحدث من قبل أبدًا. كانت الراقصة سوشيلا قد عادت، شدتها أغنيتها، وأعادتها مرة أخرى إلى الرقص المحموم، وكانت الساحة خالية إلا من جسدها المتماوج، وعذابات رابح مديني الذي كان يحاول جاهدًا، أن يبدو راقصًا محتفلًا بذكرى الزعيم ماجوك، أكثر من كونه عاشقًا أخرق لفتاة لا يعرف عن قلبها شيئًا، ولم يرها إلا قبل عدة دقائق فقط.
523
| 24 ديسمبر 2012
كان أحد أقاربي، واسمه فضل الله، يملك مطعمًا متخصصًا لبيع السمك فى سوق حى النور الشعبي، سماه مطعم (الجنتلمان) وكان اسمًا غريبًا لمطعم، لا علاقة له بتلك الكلمة الإنجليزية التى يوصف بها الرجل ذو المروءة والشهامة، ولياقة السلوك. لم أكن قد رأيت قريبى ذلك منذ سنوات طويلة، تقترب من العشر، ولا زرتُ مطعمه إلا مرة واحدة برفقة والدى حين كنت طفلًا، ولا جاء يبارك لى عيادتى التى كانت فى حى يسكنه منذ سبعينيات القرن الماضي، ويمارس فيه صنعة بيع السمك الذى يشتريه مباشرة من الصيادين فى البحر، كما جاء بعض أقاربى الآخرين الذين يتشتتون فى الجوار، لكننى فوجئت به وقد مضت خمسة عشر يومًا على حادثة الزفة المسروقة، يدخل غرفتى فجأة، وبيده كيس من الورق البني، ينز منه الزيت، وتنبعث رائحة السمك المقلى كثيفة تخنق جو الغرفة، وضعه على الطاولة أمامي، ونز شيء من الزيت إلى دفتر الوصفات ولوَّثه. فى تلك الخمسة عشر يومًا لم يظهر (إدريس علي) مرة أخرى فى محيطي، لا شخصيًا ولا عبر احتيال جديد، وأخبرنى الشرطى العجوز، حين زرته فى مركز الشرطة فى إحدى الأمسيات، ورأيت شريطه العسكرى ينفلت مجددًا بعد أن زال مفعول الصمغ، وفرغت العلبة الصفراء كما يبدو، أن أنسى الموضوع تمامًا، خاصة أننى لم أفقد شيئًا، وأن أحافظ على عربتى بتغيير الأقفال الهشَّة التى عليها، ولم ينس أن ينصحنى متحدثًا بصوت عال، ويفتل شاربه الأبيض الكثيف، باستخدام أقفال أمريكية أو ألمانية، لأنها تستعصى على الفتح حتى بمفاتيحها الأصلية أحيانًا. سألتٌه إن كان قد فشل فى اعتقال المحتال إدريس، فهب واقفًا وهو يردد: — لا يوجد مجرم اسمه إدريس ولا متاريس فى هذه المنطقة التى أعمل فيها قبل أن تولد، أهل العرس هم الذين استلفوا عربتك، استخدموها مؤقتًا وأعادوها..وأنت تنازلت عن مقاضاتهم باختيارك، وأنا أنتظر العريس حتى يعود من شهر العسل، وأحاسبه بطريقتي..انتبه إلى حديثك.. ولا تقل فشلت للشاويش خضر أبدًا مرة ثانية. — كان قد عاد إلى الجلوس مرة أخرى، وجهه الموشوم بتلك الخطوط الرأسية التى تحيله إلى أهل الشمال، قد احمرّ قليلًا، وألمح فى عينيه نظرة غريبة، كأنها نظرة رجاء أن أذهب من أمامه بلا مشاكل. تلك اللحظة أصبت بدهشة حقيقية، ولم استطع أن أستوعب ذلك الكلام الغريب الذى سمعتُه، هل يكون ذلك الشرطى العجوز شريكًا لإدريس الذى ينكر وجوده، ويدفعنى إلى إنكار وجوده مثله، فى سرقة العربة وتأجيرها لأهل العرس، ومصائب أخرى لا أدرى عنها شيئًا؟، وقد رأيت إدريس مرتين فى يوم واحد، وزارنى جيش كونه وأرسله لغزو عيادتي، وأصدق تمامًا ما قاله العريس المفجوع بشأن تأجيره للعربة. لم تكن ثمة جدوى من مناقشتى للشاويش الغريب فى قناعاته أو فساده.. لا أدري، وقد دخل القسم فى تلك اللحظة، زميله الشاب، وهو يجر صبيًا متسخ الملابس، وذابل العينين، سرق حذاء ممزقًا من أمام مسجد فى وقت الصلاة، وشاهده صاحب الحذاء، يتمشى به فى السوق واقتنصه. على أن أغيّر قفل العربة بقفل أقوى كما نصحني، وأبحث عن مركز شرطة آخر، أقدم شكواى فيه، إن عاد إدريس بإحد الاعيبه وأربكنى مرة أخرى. لم أقل للشرطى شيئًا وخرجت من عنده، وتشغلنى فكرة أن أنقّب حى النور وحدى باحثًا عن ذلك المقتحم.
545
| 21 ديسمبر 2012
كانت مشكلة “قسم السيد محارب”، الذي اقترب من السادسة والثلاثين من عمره بلا طموح ولا أحلام، والتي لم تفارقه قط، منذ أن عرف الدنيا وعرفته، هي تعاطفه الشديد. يتعاطف مع قطة هائمة، مع كلب ضال، مع ضحايا قمع سلطوي، أو حرب أهلية، أو هزة أرضية هنا وهناك، وتعاطف مرة مع منتجي شراب الكوكاكولا، حين منع من البلاد، ومع التعابير البائسة لرئيس مشرد في الأرض، كنسه شعبه في ثورة، وأرسل عشرات الرسائل غير الموثوق في وصولها، إلى عدد من الصحف المحلية، يعلن تعاطفه الصريح مع أخبار البؤس التي تعودت تلك الصحف نشرها، ويكتب في عدد من تلك الرسائل التي خصصها للتعاطف مع ضحايا الفيضان في الشمال، والحرب الأهلية في الجنوب، والمجاعات في الغرب، عنوانه كاملًا، حتى إذا ما احتاج إليه أحد، لبى النداء بلا تردد. وكان أميز تعاطف له، وأبكاه حقيقة، حين شاهد (حيدر با خريف)، بطل كمال الأجسام القوي، الملقب بشمشون الأفارقة، في آخر أيامه بعد أن تجاوز السبعين، يلعب لعبة القوة في حارة قذرة، وينهزم من قبضة مراهق. شاهده يتدحرج منكس الرأس، وقد سقطت من جيب قميصه، عدد من المحاقن، التي تستخدم في حقن الأنسولين في الدم. بكى بصدق، واعترض طريق البطل القديم، لمَّ محاقنه من الأرض، وقال من كل قلبه: - هاك قبضتي يا شمشون الأفارقة، اهزمني أنا. ولم يكن با خريف للأسف الشديد، بحاجة إلى تعاطف من ذلك النوع على الإطلاق، بقدر حاجته إلى سبع وسبعين جنيها، ينطلق بها إلى أقرب صيدلية، لشراء قناني إنسولين من أجل دمه. كان قسم السيد، في أوقات فراغه، وحتى أثناء تأدية وظيفته حارسًا للأمن في فندق سواري، ينقِّب في الوجوه الواثقة التي يصادفها، بحثًا عن ذرة ضعف ينفذ من خلالها، يفتش الحقائب اليدوية، وصناديق الأمتعة، المحشوة خيرًا وشرًا، بلا مزاج أمني، ويسمح للسيدات الأنيقات أن يبتسمن ويضحكن، ويسخرن من زيه الرسمي الأزرق، الذي يبدو فضفاضًا، على جسده الضئيل، وتلك الشامة السوداء الداكنة، التي تغطي قسما كبيرًا من خده الأيمن، من دون أن يبتئس، وحين يسأله أحد العابرين بالبوابة عن اسمه، أو يقدم له سيجارة، يحس بأنه يحب ذلك الشخص جدًا، وربما يسميه عمي لو كان رجلًا، وخالتي لو كانت امرأة، وولدي الصغير، لو كان صبَّيًا يافعًا. وانطلاقًا من تلك المشكلة المزمنة، كان لقسم السيد آلاف الأعمام والخالات، والأبناء أيضًا، موزعين في الدنيا كلها، وبالقطع لا يعرف عنهم، ولا يعرفون عنه شيئًا.
522
| 06 ديسمبر 2012
مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب...
2325
| 10 ديسمبر 2025
عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا...
1227
| 09 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل...
795
| 10 ديسمبر 2025
هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل...
693
| 11 ديسمبر 2025
حسناً.. الجاهل لا يخدع، ولا يلبس أثواب الحكمة،...
669
| 08 ديسمبر 2025
تمتاز المراحل الإنسانية الضبابية والغامضة، سواء على مستوى...
600
| 12 ديسمبر 2025
أيام قليلة تفصلنا عن واحدٍ من أجمل أيام...
597
| 08 ديسمبر 2025
نحن كمجتمع قطري متفقون اليوم على أن هناك...
546
| 11 ديسمبر 2025
السعادة، تلك اللمسة الغامضة التي يراها الكثيرون بعيدة...
537
| 14 ديسمبر 2025
• في حياة كل إنسان مساحة خاصة في...
531
| 11 ديسمبر 2025
يوم الوطن ذكرى تجدد كل عام .. معها...
510
| 10 ديسمبر 2025
مع دخول شهر ديسمبر، تبدأ الدوحة وكل مدن...
498
| 10 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية