رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في حوار معه، يقول الكاتب السعودي أحمد أبو دهمان، الذي أصدرت له دار جاليمار الفرنسية الكبيرة، رواية وحيدة بعنوان: الحزام، منذ أكثر من عشر سنوات، كتبها بالفرنسية عن قريته، وترجمتها دار الساقي إلى العربية، إنه حصل على راتب تقاعدي من الدار، ونسبة أرباح كبيرة، خلافا ما كان سيحدث في الوطن العربي، لو أن الرواية كتبت عربيا أولا. لقد أراد أبو دهمان أن يبين الفرق بين النشر في الغرب والنشر في الشرق، من ناحية الانتشار أولا، ومن ناحية صيانة الحقوق ثانيا، وهو أمر صحيح بلا شك، لكن ليس دائما بهذه الطريقة. فالغرب له قوانينه الصارمة فعلا، وله نظرة ثابتة للثقافة وجهد الفرد، كما أن عدد القراء هناك، وبأي لغة أوربية، يفوق عدد القراء في كل الأقطار العربية مجتمعة، الفرق هنا، هو أن جاليمار ليست أي دار أوربية، فهي مؤسسة عريقة لها موازنات ضخمة، ويعتبر محظوظا من تنشر له كتابا، وتوجد مؤسسات أخرى مشابهة لها مثل لي سوي الفرنسية، وبنجوين وراندوم هاوس الأمريكيتين، ومندادوري الإيطالية مثلا. هذه أيضا دور عريقة ويمكن أن تمنح كتابها امتيازات خاصة مثلما حدث مع الكاتب السعودي في تعامله مع جاليمار. وأذكر أن زميلنا الكاتب السعودي يوسف المحيميد قد نشرت له بنجوين الضخمة روايتة فخاخ الرائحة، وأيضا كانت فرصة كبيرة، أن تنتشر روايته في الغرب، وتحظى بقراء جيدين. هذا الموضع يقودني إلى الحديث عن مستقبل الأدب العربي عموما، حين يترجم إلى لغة غربية، فليس الأمر دائما ورديا، خاصة أن ثمة نظرة خاطئة مستفحلة هناك، هي أن الأدب العربي ليس بتطور الآداب الأخرى، مثل اللاتينية، واليابانية، وحتى الصينية، وتلك القادمة من بلاد آسيوية أخرى، ولم يحدث أن حدث اهتمام كبير بآدابنا، حتى بعد أن حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل الكفيلة بلفت الأنظار، وبعد أن خصص معرض فرانكفورت الدولي إحدى دوراته للأدب العربي، والذي يحدث هو مجهودات فردية من مترجمين منبهرين بالأدب العربي، ودور نشر إما صغيرة أو متوسطة، تقوم بنشر الأدب العربي المترجم، وللأسف، بعد أن حدثت أزمات إقتصادية في كثير من الدول، اضطرت دور كثيرة أن تغلق أبوابها، أو تذوب في دور كبرى، وهكذا لم يبق للأدب العربي أي باب، يمكنه من الدخول إلى القارئ الآخر. شخصيا تعاملت مع الفرنسيين وغيرهم، وأعرف زملاء تعاملوا أيضا مع كثير من الدول الغربية، في نشر إبداعهم مترجما، ولم تكن الامتيازات كما ذكرها أبو دهمان، هي مجرد نافذة معنوية، أطللنا عبرها، واكتسبنا قارئا آخر، وهبنا كثيرا من التشجيع. منذ فترة قصيرة، أقامت لي دار نشر نوتاتنبو الإيطالية، حفلا جيدا في روما، بمناسبة صدور النسخة الإيطالية من روايتي صائد اليرقات، ذهبت إلى ذلك الاحتفال، وكان كما توقعته، عثرت على عدد كبير من المهتمين بالأدب العربي عامة والأفريقي خاصة، كلهم قرأوا وجاءوا للتحاور، لكن لا مكاسب مادية، ولا تحقيق لأي حلم وردي آخر. رأيي، لكي نحافظ على معنوياتنا مرتفعة، فلنظل كتابا عربا فقط، نكتب لقارئنا الأصلي، وإن جاءت الترجمة، فلتجيئ، ولكن بلا أي أحلام إضافية.
448
| 12 أغسطس 2013
حين نقلنا نيشان من حي: دار السلام، لم يكن في حالة تسمح بإسكانه بيتا في هذه الليلة، وعرضه على متخصص في الصباح، ونحن في العربة كان متورما، وبذيء اللسان، يقاوم قيد الحبال القوي لينفلت، ونجح إلى حد ما، في إخافة "أفرنجي" وزحزحة قناعاته، في إمكانية حراسته والاعتناء به بأجر. شاهدت قاهر الجن كما يقول، وصديق الجنية دلدونة، يتلفت فزعا، ويحك ذقنه بأظفار متسخة، سمعته يخبرني بضرورة الإسراع، وفي تمتمة خاصة، وبصوت شبه مسموع، كان يثني على تلك الخرقة الممزقة، التي يتوسدها في سوق عائشة كل ليلة. أفرنجي لن يقبل بالمهمة كما بدا لي، ولن أضغط عليه حتى لا يفر من صحبتي وكنت أحتاج إليه في خدمات كثيرة، ما طرأ على بالي في تلك اللحظة، هو أن أمنحه البيت المؤجر، وأخبره صراحة بأنه سيكون لنيشان حالما يشفى من مرضه. حين استأجرت خدمات أفرنجي، في البداية، لم أخبره بقصة التخاطر التي قادتني للاهتمام بنيشان، لأنني أعرف تماما بأنه لن يستوعب غموضا كهذا، هو يعرفني مدرسا قديما، في مدرسة كان يعمل فيها ساعيا، يعرفني كاتبا متفرغا في الوقت الحالي، ولم تسمح له ثقافته المحدودة، ومعرفته الضالة باللغة التي أكتب بها، أن يقرأني ولا أظنه سيقرأني حتى لو امتلك الثقافة واللغة كاملة. قلت له في حينها بأنني أقوم بواجب إنساني لشخص أعرف أهله، ولم يطرح سوى الأسئلة الخاصة بمرض الرجل وشخصيته. لقد وصلنا بنيشان، أو ن ح ن كما سميته في ذهني، لأن اسمه الطويل العريض، ابتدأ يرهقني حين أنطقه أو أفكر فيه إلى المستشفى، كان لا يزال مورما بالأعراض، ما زال يقاوم حبل أفرنجي القوي، يسأل عن عسكري متمرد في جيشه النظامي، يستحق القتل، وذبابة صعلوكة لا تتركه ينام، ولفت أكثر من مئة نظر متجول، ونحن نعبر به الشوارع أو نتوقف في شارات المرور الحمراء، كلمت الدكتور شوقي هاتفيا بمأساته ومأساتي ونحن نعبر بالطرق، وكان شهما في فهم المأساة عند حد الفصام العقلي، ولم يرد أن يخوض معي نقاشا في مسألة التخاطر، إما لأنها خرافة في رأيه، أو لأنه لا يستوعبها، وربما يسعى لاستيعابها مستقبلا. نيشان قوبل بالترحاب القوي، عند باب المستشفى، حملوه على محفة نظيفة، إلى غرفة منعزلة، لا يسمح نظامها الأمني الصعب، بمرور ذبابة تافهة، من دون أن تحمل إذنا بالمرور. شاهدته ملقى على سرير أبيض، وثمة محاليل معلقة على ساعديه، أو تركد على طاولة بجانبه، في انتظار أن تعلق. شاهدته هادئا ونائما، وما عاد ثمة مخاط يسيل من أنفه، ولا ريالة مهووسة، تتلاقح في فمه، ولو كان ثمة حلم يداعبه الآن، فلا بد أن يكون حلما ورديا يخص رنيم، المعشوقة المهاجرة، أو محكمة ضاجة بالمحكومين والشهود، يدير جلساتها بوصفه قاضيا.
485
| 05 أغسطس 2013
كان من بين الذين حضروا حفل تدشين الرواية، واصطفوا للحصول على توقيعي، في النسخ التي اقتنوها، رجل في نحو السابعة والأربعين، كان نحيفا، مقوس الظهر قليلا، يرتدي الثوب والعمامة، وحذاء عاديا من جلد الماعز الرخيص، ويبدو مهتزا في وقفته، يتلفت بلا انقطاع، كان من الأشخاص اللافتين للنظر، وقد لفت نظري بالفعل برغم الزحام، وكثرة الأسئلة والأجوبة. واستعجال البعض ليحصلوا على حوار قصير كما هي العادة في كل شأن ثقافي. رأيته يحتك بفتاة صغيرة، أمامه بشكل بدا لي غير متعمد، ورأيتها تلتفت ناحيته، وقد تغير وجهها، ثم تخرج من الصف وتمضي حاملة نسخة بلا توقيع، رأيته يفتح الكتاب، يطالعه لدقيقة ثم يغلقه، وحين وقف الرجل أمامي في النهاية، ووضع نسخته على الطاولة لأوقعها، لم يمد يده محييا كما فعل الآخرون، ألقى النسخة بإهمال، ووقف وكانت عيناه بعيدتين، تحدقان في أي اتجاه تصادفانه بلا تركيز. سألته عن اسمه لأكتبه، فالتفت ناحيتي، وكانت فرصة لأدون بريقا نابضا فر من عينيه لحظة وانطفأ. قال: ليست لي ولكني سأهديها لخطيبتي رنيم، نسختي سأحضرها لك ذات يوم لتوقعها، اكتب إلى العزيزة رنيم، مع محبتي. كتبت الإهداء إلى رنيم، على الصفحة الأولى وناولته الكتاب، فالتقطه ومضى يترنح. كان غريبا بالفعل، ولم يبد لي أبداً في هذه السن، وذلك الاهتزاز الظاهر، والملابس البلدية القحة، خاطبا محتملا لفتاة اسمها رنيم، وأعرف أنه اسم مستحدث في البلاد، لا يمكن أن تسمى به امرأة من جيل قديم يناسبه. لكني لم أدقق كثيرا، ولم ألبث أن نسيته وسط آخرين تجمهروا من حولي، وأصدقاء أرادوا أن نكمل الليل في مكان آخر، وحين خرجنا إلى الطريق بعد أن انتهى كل شيء، كان عاشق رنيم المهتز، لا يزال يترنح حول المكان، حاملا الرواية في يده اليمنى، وفي يده اليسرى سيجارة مشتعلة. فجأة رأيته يقترب مني بخطوات سريعة، يتوقف أمامي، ثم يسألني بلا مقدمات، وهو يلهث: متى تعود من رحلتك؟ كان سؤاله سيكون عاديا جدا، لو أن رحلتي كانت معلنة. في الحقيقة لم تكن مؤتمرا ثقافيا، ليعرف أخباره أحد، ولم تكن لعلاج في الخارج، ليكتب أحدهم بأنني مريض وأسافر للعلاج. ولا أذكر أنني أشرت إلى سفر قريب، في صفحتي الشخصية، في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. كانت رحلة خاصة من برنامج رحلات أقوم بها من حين لآخر، لرؤية بلاد جديدة، واكتساب خبرات أحتاجها بشدة. ولم أخبر بها حتى أصدقائي ممن يقفون معي الآن، ويحاولون حمايتي من رجل ظنوه مهاجما. قلت: لا أدري، وابتعدت، وأحاول أن أنحت ذهني باحثا عن مصدر، ربما عرف عاشق رنيم كما سميته، عن طريقه قصة سفري، ولا أعثر على شيء، وكان ما أردت ترسيخه في ذهني حتى لا أزيد الذهن إرهاقا، هو أن الرجل قد خمن بأنني مسافر، ولا شيء آخر.
313
| 29 يوليو 2013
أعلنت دار أثر السعودية، وهي دار نشر شابة، وحديثة نسبيا، لكنها مجتهدة، عن جائزة باسم الدار للرواية العربية، تقام كل عام، وتقدم للفائزين فيها جوائز مادية، كما تقوم الدار بنشر الكتب الفائزة. هذه الخطوة الممتازة من دار أثر، تدل على وعي كبير بمسؤولية الناشر، تجاه الكتابة التي يتعامل معها، ويتوجه بها إلى زبائن ليسوا عاديين، ولكن من الذين عشقوا القراءة ويمارسونها. فحين ترصد دار النشر جائزة، هذا يعني أنها ستتعرف على كثيرين من الذين يكتبون، ولم يتسن لهم أن ينشروا لأي سبب، لكنهم سيقدمون نصوصهم للجائزة. وإذا فاز أحدهم، سيجد كتابه منشورا بلا شك، أيضا من ناحية القراء، فالإعلان عن الجائزة، وحده كفيلا بلفت النظر إلى إصدارات الدار، وهي بحق إصدارات مميزة، سواء كانت عربية أو مترجمة من لغات أخرى، مثل رواية ليلة لشبونة، للألماني إيريك ماريا، والتي أعتبرها من الروايات الخالدة، وكانت تؤرخ لفترة حرجة من تاريخ العالم، فترة الحرب العالمية الثانية، ومضاعفاتها. أعود إلى مسألة النشر عموما، فالناشر في الحقيقة، هو جسر مهم في عملية الإبداع، ولولا وجود ناشر، ما استطاع أحد أن يكتب وأن يوصل كتابته إلى مدى بعيد. هناك ناشرون مهتمون كثيرا بمسألة جودة الأعمال التي يقدمونها، وفيهم مثقفون، ومبدعون، وهناك آخرون اهتموا بالشق التجاري من العملية، ولا تبدو لهم الجودة، هامة ما دامت ثمة سلع تعرض، وتجد إقبالا من البعض، وهؤلاء كما يبدو لي يقومون بدراسة السوق جيدا، وبعدها يقررون ماذا ينشرون، وماذا لا ينشرون. الكتاب الحقيقيون، يفضلون التعامل مع الدور الناضجة، التي تمتلك وعيا كبيرا، تدلقه على حرفة النشر، وتسوق لسلعة الكتاب كما يمكن أن تسوق أي سلعة أخرى. صحيح أن الكتاب لم يعد يحتل أي مكانة مميزة، في أزمنة الفقر والحروب والتشرد، لكن بالقطع ما زال يوجد من يهتم به، وربما تستقر الأوضاع أو تتحسن في المستقبل، ويعود الكتاب إلى مجده. المهم هو الاعتناء به في كل وقت، ولا أعتقد أن الدعاية للكتاب، عيب، كما يعتقد البعض، وقد شاهدت كتابا كبارا وراسخين في الكتابة، مثل الياباني موراكامي، يشاركون بأنفسهم في تلك الدعايات التي تقيمها دور النشر لإنتاجهم الجديد، التسويق مهم بكل درجاته، ولن يصل الكتاب لأي جهة، أو يتلقاه أي قارئ، إذا ما طبع ووضع على أرفف المكتبات، بلا دعاية تسبقه أو تعرف به. إذن خطوة دار أثر، أعتبرها مهمة، وستكتسب أهمية إضافية، إذا ما قامت دور نشر أخرى، بتلقف هذه الخطوة، هنا سنحصل على قيمة حقيقية للكتابة، وأنها مدعاة للفخر، من الذين ينشرونها للناس.
573
| 22 يوليو 2013
وقفت في ركن شبه معتم في الصالة الخارجية لمبنى نادي الرفاق الاجتماعي، أدخن سيجارتي ببطء، وأحاور ذكرياتي الآسيوية بتوتر، متمنيا أن تنطق بجديد أسرع لتدوينه حالما أعود إلى بيتي. كانت الصالة على عكس القاعة الداخلية، حيث محاضرة الطب الانعكاسي، محشوة بشدة بالرواد، ثمة أشخاص يلعبون الدومينو في حماس ظاهر، أشخاص يثرثرون بحدة عن الوضع السياسي الراهن، ومباريات كرة القدم المحلية، ونفر قليل، تحلقوا حول طاولة قديمة للعب كرة الطاولة، موضوعة في الركن المقابل، ينتظرون دورهم. كانت صالة عادية، في ناد عادي، لن تلفت النظر كثيرا، ولن يلفت وجود كاتب روائي حتى لو كان لامعا، أنظار شاغليها، ذلك بباسطة أنهم بعيدون جدا عن طرق القراءة، لكن غير العادي، حدث في تلك اللحظة، فقد شاهدت بغتة عاشق رنيم المضطرب، يبزغ من إحدى الغرف الداخلية، كان يرتدي ذات ملابسه البلدية القحة، وحذاءه المصنوع من جلد الماعز، ويتجه نحوي بسرعة، وفي يده اليمنى نسخة من روايتي أمنيات الجوع، وفي اليسرى ما خلته لهلعي، مدية. ألقيت سيجارتي على الأرض بسرعة، وأسرعت نحو باب الخروج، وأحس برغبة مؤلمة في الصياح، ومناداة أحد أولئك المشغولين باللعب، لحمايتي إن كنت أواجه هجوما من مهووس، ورعت في ذهني للحظة، عشرات المواقف والذكريات، ما أنجزته في حياتي، وما لم أنجزه، ما كان سعيدا حقا، وما كان مؤلما، وفكرت في لعنة الكتابة وأنها أكبر لعنة يصاب بها مدرس للرياضيات، كان يمكن أن يكون الآن قد أصبح وزيرا للتعليم، أو أقلها مستشارا للشؤون التعليمية. لقد كانت كتابتي في مجملها خليطا من الواقع والخيال، شيء أستوحيه من محيطي، وشيء أخترعه، وحتى ما أستوحيه لا أكتبه كما هو، ولكن أعدله بحيث لا يجرح أحدا، ولا يعطي الواقع أي فرصة ليدعي امتلاكه، وقد دخل إليها عبر هذا الدرب أصدقاء وأهل وجيران، ومعارف، وناشطون في الدنيا، وخامدون، ولم يقل أحد من قبل إن تلك الشخصية هي أنا، ولا ردد صاحب موقف استلفته، بأن هذا موقفه، وسيقتلني من أجل كتابتي له. حتى المدن لا أكتب أسماءها من أجل أن تأتي مدينة ذات يوم، وتدعي أنني رسمتها، وشارع بيتي الذي أسكنه، وصفت فورانه في فقرات كثيرة، ورغم ذلك، لن يحدث أن يعاتبني ذات يوم. حين وقف الرجل أمامي، كنت لدهشتي الشديدة، قد قرأت في ذهني أمنيات الجوع كلها، مررت بشخوصها وحواريها وأزقتها، وشوارعها المسفلتة، والوعرة. مررت بتنفسها وغياب تنفسها، بما اعتبرته مشرقا فيها، وما اعتبرته رديئا بلا طعم. وخرجت منها بأن لا شيء داخلها يشبه هذا الرجل، ليلاحقني بها هكذا. الرواية في يده اليمنى، وما خلته مدية، كان وهما، لأن يده اليسرى كانت خالية.
356
| 15 يوليو 2013
كانت حورية مصلح قد رأت الغشيم لأول مرة وهو طفل مربوط، زارته في حمى الزيارات المباركة التي كان لا بد منها أيام سجنها عند الإريتري قبر قبرسلاس هيلا. قالت: الحقني يامربوط! الحقني ياشيخ! ووضعت عند رأسه سلال التمر وحلوى الحلقوم وما استطاعت توفيره من النقود الفضة والنحاس، وأخذت من جنونه عبارتين غامضتين لم تفهمهما ومضت. وحين عاد من معتقله البعيد بعد سنوات الغياب المعرفية شاهدته وسط حشد من المزارعين الفقراء، كان يحدثهم عن مأساة إفريقيا السوداء، تلك القارة الكسيحة إلى الأبد، يحدثهم عن مأساة العالم الثالث كله، ويعلّمهم صياغة الغضب في وجه من استعبدهم، وكانوا يتلفتون برعب، ويتسربون من صراخه واحداً بعد آخر. لمحها فتوقف درسه في حلقه، رماها بجنية مسيسة، استوحاها من جسدها الرشيق الشحم، حين صرخ: – مرحباً بغلاء المعيشة... مرحباً بالسوق السوداء. ثم قهقه بكل ما أوتي من جنون. انتبهت حورية إلى عروقه المجلجلة في عنقه وآثار مرض الأكزيما على يديه وساقيه العاريتين حتى الركبتين؛ انتبهت إلى عينيه الممتلئتين بنوازع العلة والذهول، وقميص سجنه الدمور الذي يحمل رقماً فظاً؛ انتبهت إلى حسنات ربما تكمن في عيوبه الجلية وسعاله الذي كان كسعال المصابين بسلّ الرئة، وأيقنت، بيقين المتمكنات من اليقين، أنها مُنحت فرصة العمر أخيراً لامتلاك خادم يتيم معتوه، جبار، وطويل النظر إلى أبعد مستوى. وقفت وسط حشد المزارعين الفقراء فقيرة مثلهم، وسعت أذنيها تستمع إلى مواصفات البؤس في إفريقيا، كما كان يوصف، ومأساة العالم الثالث غير المتحضر، كما كانت توصف، وتنفست بأنفاس حارة كان يتنفس بها الآخرون. وحين فرغ الغشيم من خطبته صفقت بحماس، رققت صوتها إلى أبعد حد، نادته: يا غشيم. جاءها على الفور مثل ومضةٍ من لهب حي، كان يقهقه ويبكي في الوقت نفسه، تتساقط نظراته على الأرض، وترتفع إلى السماء، وتستقيم على خط الأفق، لتمتص غبار الشوارع. كان جائعاً بحق ويابس الفم بشدة، تقرقر الحموضة في ثلثي معدته وتسعل مصارين الجوع في بطنه بذلك السعال الشحاذ. أخذته إلى بيتها، أجلسته على حصير أخضر من سعف الدوم كان ممدداً على الأرض، أطعمته من فطائر اللحم والبيض المهروس بالصلصة وشرائح البطاطا المقلية في زيت عباد الشمس، وأعانت عصارته الهاضمة، التي لم تصادف شبعاً مثل هذا منذ زمن بعيد، بشاي أسود. كان الغشيم يأكل مثل جرذ، كانت عيناه صغيرتين ومضطربتين ومتجاوزتين للحد المعقول من التماسك، ترعيان في بيت الحضرمية بلا هدف، وكان جسده الذي تهتّك من ضغط الحبال وضراوة التعذيب في السجن يرتعش بين حين وآخر. وحين فرغ من آخر قطرة مرة من الشاي الأسود تجشّأ تجشؤاً كاملاً، كلّمها بلسانه المريض لأول مرة منذ تبعها في الطريق، ولقّبها بلقب هائل تحول بمرور الأيام إلى لقبها الدائم في لسانه بعد كل طعام مشبع. قال: – شكراً يا عمتي شجرة الدر.
1229
| 08 يوليو 2013
لا شك أن ترجمة نص ما، أو نقله من لغتة الأصلية إلى لغة أخرى، مسألة غاية في الصعوبة، ويشمل ذلك جميع النصوص المراد ترجمتها، سواء إن كانت علمية أو دينية، أو أدبية أو تراثية، الأمر هنا يتطلب إلماما تاما باللغتين اللتين يتعامل معهما المترجم، وغالبا ما تكون اللغة التي ينقل إليها، هي لغته الأصلية، أيضا يتطلب الأمر لياقة من نوع آخر، أقصد لياقة التعامل مع النص وإيجاد مخارج بديلة لبعض المفردات في اللغة المنقول إليها، من دون إقحام لمفردات أو جمل بعينها ربما تضر الكتاب أكثر مما تنفعه، وتثير بعض ردود الأفعال غير المطلوبة، وربما خسائر كثيرة يتحملها المترجم، وناشر الكتاب معا. وقد تعودنا منذ الصغر على قراءة الكتب المترجمة، من دون أن نعرف إن كانت ترجمة صادقة أم لا؟، إن كانت قد اتبعت فنيات الكتابة الأصلية؟، أم اخترعت فنيات بديلة، للغة البديلة، لكن بالتأكيد عشنا أجواء تلك الكتب بامتياز، أجواء روسيا القديمة وأوروبا وأمريكا، وتعرفنا على واقعية أمريكا اللاتينية من تراجم جميلة فعلا، وبالتأكيد لمعت أسماء لمترجمين نقلوا كل ذلك بكل ود وجهد، منهم القدير صالح علماني، مترجم اللغة الإسبانية، وعفيف دمشقية، وظهر أخيرا سامر أبو هواش كواحد من الذين ترجموا من الإنجليزية، روائع لكتاب مثل حنيف قريشي وغيره. القارئ للغة المترجم إليها الكتاب، لا يكتفي بالترجمة فقط والجو العام للكتاب الذي يتعرف إليه، عبر تلك الترجمة، هو قطعا يبحث عن الفن داخل الترجمة، والفن هنا، هو أن يحاول المترجم أن يرتقي بأدواته، لتقترب من العمل الأصلي. والمترجمون الذين ذكرتهم، أجد فيهم هذه الخاصية، وهناك كتب قرأتها بالإنجليزية، والعربية، وما وجدت فرقا كبيرا، وتحضرني مقولة ماركيز في حق مترجمه الإنجليزي، حين قال بأنه لو كتب بالإنجليزية، ما كان سيفعل أفضل منه. بالنسبة لترجمة الكتب العربية إلى لغات أخرى، تكمن المعضلة، فاللغة العربية بالرغم من غزارتها، وتفردها وأنها مليئة بالإيحاءات، وهي لغة القرآن الكريم، إلا أن الاهتمام بها خارجا، معدودا جدا، قلائل من الدارسين تستهويهم هذه اللغة، وقلائل من المترجمين، يمكن وصفهم بأنهم أجادوها، حد نقل فنياتها إلى لغاتهم الأصلية، وهناك مترجمون عرب، ينقلون عنها إلى لغات أخرى، وهم أيضا معدودون على أصابع اليد، لذلك نجد من يصف آدابنا بأنها متخلفة، بناء على ترجمات سيئة، قرأها، هناك من لا يتفاعل مع نصوصنا المترجمة كثيرا، وإن حدث، فلا بد مع نص ترجم بعناية. نحن مطالبون إذن بالاهتمام باللغة العربية أكثر، بتشجيع الغرب على فهمها واحتوائها، وبذلك تنتشر الكتابة العربية.
2650
| 01 يوليو 2013
في كلمة رشيقة ومميزة كتميزه الذي يعرفه العالم كله، وجهها للشعب القطري الأصيل صباح الثلاثاء ٢٥ يونيو الحالي، وضح حضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أنه سلم مقاليد المسؤولية في قيادة قطر، لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وبذلك نقل تلك المسؤولية الكبيرة، من جيل أعطى بلا حدود إلى جيل جدير بحملها، ويعطي في المستقبل بلا حدود أيضا، وكتب واحدة من أكثر الصفحات إشراقا في تاريخ الأمة العربية. الصفحة التي بدأت بالمنجزات الفعلية، ولن تنتهي لأن من حمل المسؤولية، امتداد لمن سلمها، وما منجزات المستقبل إلا مزيدا من منجزات الحاضر، وتظل قطر في كل وقت، ذلك البلد الراقي، والألمع في أيامنا هذه، والحاضن لكل ما يمكن أن يساهم في رقي الإنسان وتطوره. ومنذ ٢٧ يونيو ١٩٩٥ ، حين تولى صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة، مسؤولية قطر، وكل من يقيم على هذه الأرض الطيبة شاهد على ما قدمه، سواء من الناحية السياسية، أو الناحية التنموية والاقتصادية، ورفاهية المواطن، والعدل، وحقيقة عبر بقطر إلى الصف المتقدم من العالم، ليس من جسر واحد فقط، ولكن من آلاف الجسور التي شيدها بحكمة ووعي شديدين، ولم يكن الأمر مقتصرا على قطر فقط، التي حققت نموا غير مسبوق، وقضت تماما على ما يسمى الفقر والبطالة، ولكن ممتد إلى كل بقعة فيها دم سيراق، لتوقف قطر إراقته، فيها جوع يحتاج إلى شبع لتشبعه، وفيها دمار يحتاج إلى إعادة تعمير، ليتم الإعمار كاملا. ولم يسبق أن اجتمعت عشرات الملفات المعقدة، في طاولة واحدة، إلا انتهت، وقد زال تعقيدها تماما، وقد نشطت المؤتمرات السياسية، والمؤتمرات الاقتصادية، شاهدنا حوار الأديان، حوار الثقافات المختلفة، الارتقاء بالتعليم والصحة، وكل شيء ممكن وغير ممكن، ليصبح ممكنا في النهاية. ولأن حضرة صاحب السمو الشيخ حمد، يؤمن بالشباب وقدراته، فقد أفرد له مساحة واسعة في مجتمعه، وحياته، واهتم بتنوير العقل الشاب، وتجهيزه لخوض المستقبل بالأدوات اللازمة، واختار أخير الشباب، حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد، ليوليه مسؤولية يعرف كيف يتولاها، ويدير دفتها وأيضا بحكمة ووعي. وبصفتي أحد الذين يقيمون على هذه الأرض الطيبة من زمن، وشهدت طفرتها ورخاءها وتقدمها الذي أصبح مثلا، وقدمت لي الكثير في مجالي المهني والثقافي، وقدمتني إلى العالم، أنحني لهذه اللحظة التاريخية المضيئة، أنحني لهذا اليوم المختلف في تاريخ الأمة العربية، الذي قلما يكتب، وأبارك لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، توليه مسؤولية البلاد، وأعرف ويعرف العالم أجمع أنه خير خلف سيقدم الكثير، لخير سلف قدم ولم ينقطع عطاؤه.
337
| 26 يونيو 2013
فجأت تحدث نيشان، وكان صوته غريبا، صوت رجل يتحدث من خلف رعشة حمى: إلى أين نذهب؟، أراك تقود منذ أكثر من ساعة، بلا نية في الوقوف؟ لم تكن لدي إجابة حاضرة لتساؤله، تلفت حولي، وكنت لدهشتي، في حي السكة الحديد، قريبا من محطة القطارات الرئيسية، حيث تقيم أمي الروحية ملكة الدار، في الواقع كنت أمام بيتها تقريبا، ولا أعرف كيف وصلت إلى هنا، كأن ثمة حبلا غير مرئي، جرني، لكني أحسست بارتياح ما، وبيت أمي الروحية، هو بيتي الثاني، أزوره كلما احتجت إلى وجه أم، ورائحة أم، وطعام تعده أم، ولن يكون غريبا إن دخلته الآن، ومعي ضيف، لأنني فعلت ذلك مرات كثيرة، آخرها منذ شهرين حين اصطحبت معي حكاء قديما اسمه إسماعيل، أردت منه بعض الإيضاحات عن تاريخ العاصمة البعيد، ورفض إعطاءها إلا بعد وجبة من طبيخ (التركين) الشعبي، ولم أكن سأجد مثل تلك الوجبة شبه المنقرضة، إلا في بيت ملكة الدار. كان بيت ملكة الدار رحبا، ولا أعني رحابة المكان الجغرافي، ولكن رحابة الصدر، حيث أجده في كل وقت يؤوي كثيرا من الغرباء أو أهل قريتها الأصلية، في شمال البلاد، الذين تقطعت بهم السبل في العاصمة، وقد أفردت في جانب من حوشه الواسع نسبيا، غرفة كبيرة بعض الشيء، تضم أسرة وألحفة، وبرادا صغيرا للماء، ويمكن أن تضم الطعام، في أي وقت. كان الباب في مواجهتي تماما، وقد جدد لونه الأخضر الزيتي، وجددت كتابة الإعلان عن حج صاحب البيت: حجا مبرورا وذنبا مغفورا وعودا حميدا، وكانت ملكة الدار قد أدت تلك الفريضة مرة برفقة زوجها، ومرة أخرى بعد وفاته من ضمن فوج رسمي. كان دخلها من عملها المسائي، الذي لا تزال تمارسه، ممرضة لدى أحد أطباء النساء والتوليد المعروفين، حتى بعد تقاعدها عن العمل في الحكومة، كفيلا بإنعاش بيتها، وإنعاش حياتها كلها. طرقت الباب، ففتحت بنفسها، ولاحظت أنها تعرج قليلا، وأعرف أن ثمة خللا في مفاصل ركبتيها، بفعل السمنة، وتقدم السن، قد بدأت أعراضه تتطور. وربما تحتاج لمفصلين صناعيين في وقت قريب، كان البيت خاليا في تلك الساعة، كما بدا لي، الأسرة في غرفة الضيوف المفتوحة، تبدو فارغة، الألحفة مطوية، وصوت رضيع كأنه ممغوص، ينز من إحدى الغرف الداخلية، خمنت أنه لابنتها فاطمة، وكنت قد لاحظت تثاقلها بفعل الحمل، في آخر زيارة لي قبل سفري لماليزيا. سألتها: - هل وضعت فاطمة؟ - نعم، جاءت بذي النون منذ تسعة أيام، ولم تكن موجودا لأخبرك. متى عدت؟ لم أستغرب أبدا، أن يسمى طفل حديث الولادة، باسم متسع على سنه، وبعيد جد عن أسماء المواليد الجدد في تلك الأيام. وكنت أعرف أن ملكة الدار وأسرتها يعشقون الأسماء القوية، يفرضونها على أصهارهم حتى لو كانوا غرباء، وينظرون إلى أسماء الرجال الحداثية الناعمة، نظرات مليئة بالشفقة والتحسر.
603
| 24 يونيو 2013
سقطت السيرة الذاتية للمدرس الغريب على أذنيها بعنف أخاذ مجلجل، ضاعف من جريرة عمرها الوقور، أحاله إلى عمر مراهق. توغلت بعينيها في التاجر المتعاون لعدة ثوان فقط ثم شتمته. شتمته بجمل كذابة للغاية طليت بماء الصدق، يعرف جملها الشاتمة الحقيقية، رآها تحك يديها وشعرها، وتخرج من عنده بغضب راضٍ مطلي بماء عدم الرضا، يعرف غضبها الحقيقي جيدًا، تضرب وتجرح، تقع على الأرض وتقوم، وتبث هستيريا غريبة، ولا تترك بؤرة الفوران حتى حضور أكبر جمهرة فضولية، وأوسع آذان ريفية، وأعتى سلطة محلية. في إحدى المرات كانت عنده، وطالبها بمئة جنيه مستدانة، استدانتها من عنده بنعومة شديدة، وركدت في تناسيها عدة شهور، ولم تردها، بالرغم من أنها لم تنقطع عن زيارة دكانه في أي يوم من الأيام. قال: أريد جنيهاتي يا حورية مصلح، أحتاجها لتكملة نقود صفقة ملحة، وتعرفين الأحوال في هذه الأيام. ذلك اليوم استيقظ غضبها الحقيقي كاملًا، وقعت على الأرض وقامت، مدت لسان الشبق حتى القاع، وأيادي الأظفار الطويلة المدهونة بالمانيكير، جرحته في مواضع كثيرة من جسده، كان أوجعها الجانب الأيسر من وجهه الذي لا ينام إلا عليه، وكان في ذلك اليوم دائنًا بلا أمل في سداد دين، مسجونًا لعدة ساعات في سذاجة الشرطة الريفية، التي اتهمته بالتحرش، مؤرقًا ومحمولًا على شماتة البلدة كلها. وحين أراد صديقه المحجوب صائغ العرائس، القادم من الشمال أيضًا، أن يدخل إلى المعضلة مدافعًا عن صديقه، ويزجر المرأة بلسانه فقط، اخترعت خربشات على جسدها الرشيق الشحم نسبتها إلى أظفاره التي كانت مقلمة ومصقولة، ولا يمكن أن تعض، وكانت فديته في ذلك اليوم خاتمًا على شكل ثعبان، من ذهب حر نقشه بتذمر وقرف، وتحت وابل من رصاص عينيها. وفي السنة التي سميت بسنة الضرر نسبة لخمول المطر، وعنوسة الأرض بسبب جفاف نهر المبروك الموسمي الذي يسقيها، وارتداء الريفيين لحلل النحافة والوسواس وسوء التغذية، وانتشار مرض العشى الليلي، والكساح، وبلوغ عدد الأرامل والمطلقات، والعازبات معدلات تنذر بالبصق على وجه المجتمع، ظهر " هندوب عيسى الأتمني" سليل قبيلة الأتمن الشرق – أفريقية التي تحتل مكانة كبيرة بين القبائل المترحلة في البلاد، وتعرف بقوة الرجال، وإجادتهم لنظم الشعر. كان قادمًا من ضواحي مدينة كسلا، من منطقة غنية بالأمطار والهواء الذي ينعش الروح، يحمل وجهًا مليحًا، وجسد فارس مكتمل البنيان، وقلبًا سلسًا، ونبوءة معقدة لعجوز من قبيلته، عرفت بصدق التنبؤات، وأنها ما رددت شيئًا، إلا صدق في ما يأتي من أيام، صهرت تلك النبؤة احتماله، ودحرجته عاشقًا مجنونًا إلى تلك البقاع، يحمل في مخلاته مهرًا لامرأة، لم يسمع بها من قبل أبدًا. قالت العجوز وهي تعترض فروسيته وشاعريته في أحد الأيام، وتدس في قلبه جنينًا معقد الملامح: اسمع يا فارس، زوجتك وحبيبة قلبك، عند العمدة صابر علي، زوجتك اسمها سكر البيت، الحقها قبل فوات الأوان، لأن عدد خطابها أكثر من شعر رأسك. قال متلهفًا: صفيها لي يا خالة أرجوك. ردت: لا أستطيع يا فارس. سأل : وأين العمدة صابر علي هذا؟ ردت بمكر: ستجده ذات يوم، ارحل فقط. ثم طالبته بأجر لنبؤة لم يتوقعها، ولم يسع إليها حقيقة.
411
| 17 يونيو 2013
أول شيء فعلته حين عدت من رحلتي الماليزية الرائعة، هو أن بحثت عن أم سلمة، وكانت أرملة متوسطة العمر، لديها ولدان في سن المراهقة، تقيم في حي شعبي بعيد، وتأتي لترتيب بيتي وإعداد طعامي مرتين أو ثلاث أسبوعيا. كنت أقيم في حي جيد وسط العاصمة، في بيت ورثته عن أهلي، ولم أكن متزوجا، ولم أنو الزواج قط بعد طلاقي منذ سبع سنوات من امرأة كانت تحبني وأحبها، لكنها لم تحتمل الحياة لصيقة بالهوس الكتابي والسفر المتواصل، ونوبات التشاؤم والإحباط، وجوقات النساء المغردة دائما في أي حقل ثقافي. كان بيتي في الواقع، محصنا جيدا من الزيارات المفاجئة وغير المفاجئة، لا يعرفه إلا القليلون، ولم يكن يزورني في الغالب، سوى أخي الوحيد معاذ، الذي يعمل منسقا للإغاثة، في منظمة طوعية، ويعيش في إحدى مدن الأقاليم البعيدة غرب البلاد، ولا يأتي إلا مرتين في العام، ليقضي وقته ليس معي ولكن متسكعا برفقة أصدقاء له، في العاصمة التي لا نحفل في العادة ببريقها كما يحفل به سكان الأقاليم، وفي أحيان قليلة، كانت تزورني ملكة الدار، الداية المسنة المتقاعدة، وأمي الروحية كما أسميها، وكانت قد ساعدتني كثيرا في بداياتي، لكني كنت ألتقي بأصدقاء وقراء في مقاه متعددة، وبشكل شبه مستمر. وقد أتاحت لي تلك العزلة البيتية القاسية، تنظيم مكتبتي بمزاجي، في الصالة الرئيسة للبيت، وإنشاء فرعين لها في غرفتين متجاورتين، بينما بقيت غرفة نومي الرئيسة، خالية من كل ما له علاقة بالقراءة والكتابة، ولا أحمل إليها حين أدخلها، إلا نعاسي أو أرقي فقط. ورغم أنني استقلت من عملي مدرسا للرياضيات في المدارس المتوسطة، منذ زمن طويل، ولم أمارس نشاطا وظيفيا مقيدا بعد ذلك، إلا أنني كنت أحيا بطريقة أو بأخرى. صحيح أن أثاث بيتي كان متواضعا للغاية، لكني أحب تواضعه، وأنني لا أملك عربة حديثة كالتي يملكها السماسرة والطفيليون، لكن عربتي القديمة المتوعكة في أغلب الأيام، من ماركة كورولا اليابانية، كانت تؤدي واجبها جيدا في تنقلاتي المحدودة. في الصباح التالي وأنا منغمس في توابل الكتابة الشرقية التي عدت بها، ومحاولات جرها إلى الورق لكتابة نص مغاير كما أعتقد، رن هاتفي المحمول. كانت مكالمة من نجوم، الفتاة المتعجرفة جدا، التي أعرفها منذ عامين، وأحب عجرفتها في أحيان كثيرة. كانت تتعالى حتى على تنفسها، فلا تستخدمه إلا بمقدار. تتعالى على الوطن وسكانه، ومقتنعة تماما، إن النجوم البعيدة في السماء، هي التي سميت على اسمها، وليس العكس. كانت ثيابها تقليدية، لا تتبع تفصيلات الحداثة، لأنها لا تحب الانبهار بموضات هذا العصر، ولا أي عصر آخر، عطورها خليطا من أنواع مختلفة من العطور المحلية والأجنبية، حتى لا تحس بأسر عطر واحد كما تقول. ونظرتها للرجال، يمكن تلخيصها في جملة واحدة فقط: نظرة ليست على ما يرام.
468
| 10 يونيو 2013
مما لا شك فيه، أن الكتابة موهبة، والكتابة فن راق، وهي كما أصفها، وحل مميز اختص بعض الناس بخوضه من دون الآخرين، ولذلك ومهما كانت المجتمعات بدائية أو غير معنية بالثقافة كثيرا، إلا أنها تمنح وضعا جيدا من الناحية النظرية للكاتب، وتقدمه في المواقف التي تحتاج لقلم للتصدي لها، وأيضا هناك من يفخر بكاتب ما من وطنه وبكتابته، حتى لو لم يكن قد قرأ له شيئا. في ممارستي الطويلة للكتابة، التي تجاوزت العشرين عاما، أستطيع أن أقول وبارتياح كبير: إن الحياة التي يعيشها الكاتب عموما، ليست حياة سلسة كما يتوقع الآخرون الذين لم تصبهم لعنتها، أو جرثومتها كما أسميها دائما. الكاتب ملزم رغما عنه أن يحدق طويلا في واقعه المحيط، بحثا عن فكرة، أن يبدو متأنقا ولطيفا، وشديد السخاء في ما يمنحه للآخرين من لغة، وألا يثرثر في داخل المجتمعات إلا بمقدار، لأن هناك صفات غير منصفة، وجاهزة، ستمنح له حتما إن بدا للناس أكثر ثقافة ومعرفة، حتى لو كان كذلك بالفعل. وحين يصبح الكاتب اسما كبيرا، وشخصية لامعة، تكثر السكاكين التي تسن في الخفاء لجز اسمه، وبذلك تتضح جليا تلك اللعنة التي لم تكن اختيارا، وكانت قدرا. في بداياتي الكتابية أمسكت بكثير من المواقف التي أسميتها آثارا سلبية للكتابة، وكانت تحذيرات مبكرة، للفرار من تلك اللعنة، لم أتبعها مع الأسف، كنت طالبا في المرحلة الإعدادية والثانوية، حين عرفتني مدينتي شاعرا يكتب الأغنيات، وكان من توابع ذلك، أنني اضطررت في كثير من الأحيان، أن أبدو أكبر سنا، وأكثر غنى، من أشخاص أحاطوا بي باعتبارهم معجبين لما أكتبه، كنت أدفع لدعوات غداء أو عشاء، لم أكن من دعا إليها، أركب مواصلات خاصة وغالية، لأن الشاعر، لا يستطيع التزاحم مع الناس في مواصلات عامة، وكان هناك من يتصيدون ظهوري هنا وهناك ليطالبوني بما لا أستطيع فعله، وأذكر أنني ظهرت ذات يوم في برنامج تلفزيوني اسمه نداء السودان، وكان ذلك عام ١٩٨٧، عقب فيضانات وأمطار غزيرة، اجتاحت البلاد، كنت في سنتي النهائية في الجامعة، في مصر وجئت إلى السودان في إجازة قصيرة، وقد قرأت في ذلك البرنامج قصائد مباشرة كنت قد كتبتها عن انتفاضة مارس- أبريل التي أطاحت بحكم جعفر النميري. وفيها كما أذكر قصيدة اسمها: دموع عم أحمد. بعد ذلك البرنامج الذي تكررت إذاعته عدة مرات، لم أعد أستطيع المشي في الشوارع بخطوات الطلاب العادية، أمشي في أي طريق، فأسمع من ينادي: عم أحمد، أركب أي باص عام، فأجد فيه من يعرفني ويعرف دموع عم أحمد، وأعود إلى بيت أهلي فيطرق الباب من يسأل عن الشاعر الذي كتب دموع عم أحمد، وحين ركبت مرة قطارا مزدحما متجها للعاصمة، لم أجد فيه مكانا إلا في الدرجة الرابعة، جاء من يلفت إلي النظر، وكان مدرسا للغة العربية، وجدته أمامي يصرخ فجأة: شاعر عالمي في الدرجة الرابعة؟، وكان ذلك يوما من أبأس الأيام التي عشتها، حيث اقتادني المدرس إلى غرفة في الدرجة الأولى للقطار، أغرقها بالطعام الفاخر الذي قام بطلبه من البوفيه، واتضح بعد ذلك أنها غرفة بلا حجز ولا تذاكر، ولا يملك المدرس قرشا واحدا يدفعه، وقمت بتغطية تلك التكاليف بمصروفي البسيط، حتى لا أدخل السجن، ولم يبق لي ما أذهب به إلى بيت أقاربي في العاصمة.
1922
| 04 يونيو 2013
مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب...
2325
| 10 ديسمبر 2025
عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا...
1227
| 09 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل...
795
| 10 ديسمبر 2025
هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل...
693
| 11 ديسمبر 2025
حسناً.. الجاهل لا يخدع، ولا يلبس أثواب الحكمة،...
669
| 08 ديسمبر 2025
تمتاز المراحل الإنسانية الضبابية والغامضة، سواء على مستوى...
600
| 12 ديسمبر 2025
أيام قليلة تفصلنا عن واحدٍ من أجمل أيام...
597
| 08 ديسمبر 2025
نحن كمجتمع قطري متفقون اليوم على أن هناك...
546
| 11 ديسمبر 2025
السعادة، تلك اللمسة الغامضة التي يراها الكثيرون بعيدة...
537
| 14 ديسمبر 2025
• في حياة كل إنسان مساحة خاصة في...
531
| 11 ديسمبر 2025
يوم الوطن ذكرى تجدد كل عام .. معها...
510
| 10 ديسمبر 2025
مع دخول شهر ديسمبر، تبدأ الدوحة وكل مدن...
498
| 10 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية