رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في أحد المنتديات الثقافية التي تنتشر على الإنترنت، وتملك عالمها الخصوصي، وقراءها ومبدعيها البعيدين تماما عن الكتابة الورقية، تحدث أحدهم عن رواية صدرت حديثا لكاتب عربي، وأعجبته، ولما سألته إحدى المتداخلات عن تلك الرواية، وهل تستحق أن تدفع فيها ذلك السعر الذي تعرض به في المكتبات؟، رد بأنها تشبه سعاد ماسي. لم أكن أعرف من هي سعاد ماسي بالتأكيد، لكني خمنت بأنها ربما تكون ممثلة حديثة الظهور، لم تصل إلى أسماعنا بعد، أو مغنية من أولئك اللائي يظهرن كل يوم بلا صوت ولا طعم مميز، ومعتمدات على جمال الوجه فقط، ويختفين بعد ذلك من دون أن يتركن أثرا يتم اقتفائه، حين نؤرخ للغناء العربي، وعن بصمات الذين ملأوه إبداعا. كان جوجل، الباحث العظيم، حاضرا في تلك اللحظة، ومنذ ظهر جوجل في حياة الناس، لم تعد الأمور البحثية صعبة، ولا عادت هنالك حاجة للبحث المضني في المكتبات العامة والصحف القديمة والمجلات المعبرة، للعثور على ما نبحث، ويمكن عن طريقه العثور حتى على حفرة صغيرة، في شارع منسي وفي بلد لا يعرفه أحد. وبضغطة ذر على ذلك الباحث الرهيب، ظهرت سعاد ماسي التي شبه القارئ بها رواية أعجبته، وكانت مغنية مليحة تقاطيع الوجه بدرجة لا تصدق، وتتشرف تلك الرواية بأنها شبهت بها. لا أنكر أن ذلك النهج من التوصيف أعجبني بشدة، وجدته اختصارا شفافا لعدة أوراق ربما يكتبها ناقد أو صحفي، ليبدي إعجابه بتلك الرواية وربما لا يقرأها أحد بعد ذلك. كان ترويجا يربط الشائع بغير الشائع، فالمغنيات ونجمات السينما بالطبع أكثر شهرة من الروايات، ويتذوقهن الناس أكثر مما يتذوقون الرواية، وما دامت رواية تشبه إحداهن، فقد تشد عشاق تلك النجمة ليقرأوا الرواية ويبحثوا عن وجه الشبه. بالرجوع إلى ذلك المنتدى الثقافي الذي كما قلت، يملك قراءه ومرتاديه العديدين، حيث يروج كل واحد لكتاب نال إعجابه، أو يقرأ عن كتاب لا يعرفه، وجدت أن الرواية قد تم شراؤها بواسطة تلك التي سألت عنها، واستكثرت سعرها الغالي وهي تراها على واجهة إحدى المكتبات وبواسطة آخرين أيضا، ربما أعجبهم الوصف أو شدهم، فانساقوا وراءه وقرأوا تلك الرواية، وأسهبوا في الإشادة بها، وهم في الواقع كما أتخيل، يشيدون بنجمتهم المغنية. نحن ككتاب نحتاج إلى تلك الصراعات الجديدة بلا شك، نحتاج إلى من يلصق أعمالنا بنجمة سينمائية أو مغنية فارهة الحسن، حتى تشق طريقها إلى القراءة، وفي مقالات قادمة سأعمق من ثقافتي الغنائية، أقصد في الوجوه التي تغني، وأربطها بكتب أعجبتني، لعلها تجد قارئها بسهولة، كما وجدت تلك الرواية التي تشبه سعاد ماسي.
722
| 22 نوفمبر 2012
حين انتهيت من كتابة روايتي توترات القبطي، ذلك النص المرهق الذي استرق مني عدة أشهر من البحث والتنقيب، والمتابعة المتواصلة، ونشرتها بعد ذلك، قرأها الكثيرون باعتبارها قراءة لتاريخ حقيقي، وبالتالي وضعوا آراءهم حولها، من ذلك المنطلق، وكانت ثمة أبحاث كثيرة، أجراها البعض، بحثا عن شخصيات حقيقية، وردت في الرواية، وربطها بالأحداث التي عثروا عليها في كتب التاريخ. في الحقيقة، أنني في توترات القبطي، أخذت مقطعا معينا من التاريخ، فترة معينة لم تكن في الواقع واضحة تماما للمؤرخين الذين كتبوها تاريخا، وإنما رويت بروايات مختلفة لعدد من الذين كتبوا، كلٌ يكتبها من زاويته الخاصة، وكان عليَ أن أخترع نصي وسط تلك الفوضى الحكائية، أخترع شخوصاً لم يكونوا موجودين في الأصل، وجوا لم يكن موجودا أيضا، وأساطير لم تكن من ضمن سياق النص التاريخي، لكن الرواية تحتملها، وعلى عكس كثير من الكتاب، ممن اعتادوا إعادة رواية التاريخ، بطريقة حكائية ولكن بنفس ثوبه وعمامته، ووقائعه التي حدثت، وأيضا شخصيات رئيسة، كانت حاضرة ساعة وقوع الأحداث الأصلية، لم أفعل ذلك. تركت النص حرا يتسكع في تلك الفترة البعيدة، ويمشي على هواه. مشكلة هذا النوع من الروايات التاريخية، أو الروايات التي تحوي في جوها عبقا تاريخيا معينا، إنها تقرأ كتاريخ صرف، وليس كنص إبداعي منفصل عن ذلك التاريخ، ودائما تعثر على من ينتقدك بحدة، بعد أن يقرأ، ويسوق إليك كثيرا من الحقائق التي لم تغفلها سهوا، ولكن لم ترد كتابتها في النص، وقد تجد من يتهمك بلي عنق التاريخ لغرض ما، ولكن في النهاية كلها آراء لن تثني الكاتب الواثق من كتابته، عن المضي قدما. أذكر حين كتبت مهر الصياح، وجعلتها في فترة تاريخية محددة أيضا، من دون أن أتعرض لساكني تلك الفترة أي نوع من التعرض، واجهني ذلك الكلام نفسه، عن تشويه التاريخ، الذين قالوا ذلك، استنتجوا تاريخا في نص إبداعي ولم يجدوه، وبالتالي كان انتقادهم. أعتقد أن القراءة الخاطئة، سمة من سمات هذه الأيام، وقد أصبحت القراءة الصحيحة الخالية من الأغراض، شبه منعدمة، يقولون إن نصوص هذه الأيام غامضة ولا تشبه النصوص التي صدرت في سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لذلك تقرأ بهذه الطريقة، ونقول دائماً، إن الكتابة مثلها مثل كل أدوات الحياة، تتغير وتتطور، ولكن تحتاج إلى الذهن الذي يتطور معها، ولا يحاول إعادتها إلى عصر الأغلال البعيد.
763
| 15 نوفمبر 2012
من خلال متابعتي المستمرة للتجارب الروائية، سوى أكانت تلك التجارب عربية، أو أجنبية تمت ترجمتها إلى اللغة العربية، كثيرا ما أجد تشابها في العوالم التي يبتكرها كاتب متعدد النصوص، بمعنى أنك تقرأ نصوصا عدة، بحكايات جديدة، ولكنها تنصب في نفس القالب الذي أنجز من قبل، وربما تعثر على شخصيات كثيرة ظهرت في عدة نصوص، إما بنفس ملامحها القديمة، أو تكون قد شاخت واكتست ملامح جديدة، ودورا جديدا في الحكاية اللاحقة. من هذا المنطلق، تمت إحالة عدد كبير من الكتاب الكبار إلى النص الأكثر شهرة، أو النص الذي تكاملت فيه كل أجواء الكتابة للكاتب، تكاملت شخصياته، وأدواته الفنية ولغته وحواراته وكل ما يمكن أن يمت إلى كتابته بصلة، وأصبح ينظر للنصوص الأخرى السابقة أو اللاحقة، بنظرة لا تود أن تنصفها باعتبارها نصوصا ذات استقلالية ونفوذ، ولكن تصنفها إما إرهاصات سابقة للنص الكبير، أو امتدادا لاحقا له، وحين تقرأ مئة عام من العزلة، الرواية الأكثر شهرة لجارييل جارسيا ماركيز، تود أن تبحث عن روايات أخرى للكاتب من شدة انبهارك بها، ستعثر على رواية الجنرال في متاهته، وتصنفها إرهاصا سابقا، والحب في زمن الكوليرا، وتصنفها امتدادا لمئة عام من العزلة، وفي الواقع إن ما أنجزه الكاتب هنا، هو الذي ظلم نصوصه الأخرى وأحالها إلى تلك النظرية، ولطالما أحسست بالتعاطف الشديد مع نص كبندر شاه للطيب صالح، ذلك أنه ظلم كثيرا بسبب أنه أتى بعد رواية عظيمة مثل موسم الهجرة إلى الشمال، ولم يستطع زحزحة الأنظار عنها، ليجلس متقرفصا في وسط الكتابة النقدية التي مجدت الطيب وموسم هجرته إلى الشمال لعقود طويلة وإلى الآن. هناك كتاب أنجزوا العالم الواحد الذي تحدثت عنه، ولم يردوا أن يفارقوه حتى لو كانت الكتابة بعيدة عنه، ومازال صديقنا إبراهيم الكوني، مبتكر دهشة الصحراء وعالمها، هو أفضل من كتب عن تلك المناطق، برغم أن كتابا أوروبيين عديدين، كتبوا روايات عن بدو الصحراء وعاداتهم، ولم يستطيعوا في رأيي أن ينجزوا ما أنجزه الكوني، عالم الكوني واحد ومتجدد بحكاياته في كل نص، ولم يترك فرصة لأحد كي يختصره في رواية واحدة، ذلك أنه لا رواية عند الكوني تقهر رواية أخرى، ولا نص ينتصر على نص، إنما نصوص إخوة يتشابهون في الملامح ويختلفون في الشخصيات. شخصيا أحب أن أغوص في عوالم أي كاتب ينجز عوالم، أحب أن أقرأ النصوص كلها حتى لو وجدتها متشابهة، هذا ما أريد أن يفعله كل قارئ محب للآداب، أن يستنطق العوالم المتشابهة لكاتب ما، ويخرج منها بمتعة مختلفة.
765
| 12 نوفمبر 2012
كان يصحو في كل صباح؛ صحيان نائم مستقر، يحتسي كوب شايه بنكهة النعناع، يلتهم طبق الفول، ومربى القرع، والبطيخ، بطريقة عادية. يستجيب لدعاءات التوفيق التي ترددها الزوجة المتآمرة، بابتسامة. يتأنق ويتعطر، وينساب إلى المدرسة انسياب معلم حقيقي. يدرس منابع النيل ومصبه وتضاريس الصحراء بدقة، والرسوم البيانية، وهياكل الحشرات، والضفادع والصراصير، وجزيئيات حلقة البنزين، كما كان يدرسها في أي وقت سابق. يتحدث عن الصوم والصلاة المفروضة والنافلة، ربما استاء من رائحة بخور التيمان القوية، التي تشتعل قريبا من بيته، ربما أزعجته الأدعية والتراتيل التي لا تنقطع، وهستيريا عرافة الشمال التي تعرق في وسط متعته، ووجوه أعضاء الوفد التي ذكرته بوجوه مأزومة شاهدها في حلم مأزوم، وربما استغرب من ذلك الصمود الغوغائي العنيد، لعدد من الغرباء جاءوا من الشمال ليستعيدوا مفقودا، هو أصلا لم يكن، وعندما يشتد الزحام، خاصة في أمسيات اليباس والملل، يضطر أن يصرخ، ولا يسمع أي صدى لصرخاته. عبده الشبعان. عبده البكاء. عبده ناكش أنفه. عبده البغل. عبده الكسير الحظ.. ألقاب يسمعها تردد، ولا يعرف أصحابها، لم تكن ذاكرته المحبوسة بإتقان عند بديعة حساب، تأتي إلا غباشا مستهتر التذكر، كان يحيا بالذاكرة الحاضرة، المطعمة بماض شحيح، مهاجرا شماليا يمسك بالإصبع الكبير للهجرة، ومدرسا ابتدائيا، وصهرا لإحدى العائلات المحلية، وعاشقا فذا لامرأة مزركشة، جائعة العواطف، ونادما على سنوات جدباء، لا يعرف أين أنفقها، ولا كيف ندم عليها. في المدرسة؛ أخبره بعض التلاميذ الأشقياء، مرارا بالمكيدة كلها، منذ أن اقتحم الغشيم قيلولته، إلى الآن، أخبروه بالعربي الفصيح، وتهتهة اللسان، والرطانة القبلية، وحروف الإشارة، وعاقبهم بتلذذ، بأن أوقفهم في طابور عقابي لعدة ساعات، ليظل النص المكتوب محكما بلا ثغرة. أخبره الزملاء أيضا بالضغينة من ألفها إلى يائها، ومن طفولتها حتى ابيض شعرها، قاطع صحبتهم وازدراءهم، حتى يحتفظ النص بتماسكه، وقال له مدير المدرسة في أحد أيام انفلات الأعصاب، التي تكالبت على البلدة بغزارة، ودعمت من انسياب المشاكل الزوجية، وارتفاع معدلات العنوسة والطلاق، وبقاء المدير نفسه أعزب، حين طلق امرأته، بعد زواج مديد: إن القرار بيده، ويستطيع في أي لحظة، أن يفر بعقله الجديد المسحور، إلى الشمال، ليستعيد العقل القديم، على راحته، وسط أهله وعياله، وبمساعدة خبراء أكثر حنكة من هؤلاء الذين جاءوا، فاستغرب بشدة: أي عقل جديد؟، وأي عقل قديم؟ وأي عيال وأهل؟. أخبره بعض التجار في السوق بعد أن تشجعوا، وقهروا الخوف، وأخبرته الطرق التي يمشي فيها، كلها، وذهب به كثير من المتطوعين والمرتبكين، ومن صنفوا أنفسهم رعاة للصالح العام، بعد فوات الأوان، ذهبوا به إلى بيت بديعة حسّاب، في انزوائه البعيد عن تضاريس البلدة، نكاية في تلك التضاريس، اقتربوا به بحذر، وبالقدر الذي يسمح لعينيه برؤيا تحمل حدا أدنى من الضباب، أشاروا له إلى مطبخ الهوس الذي طبخت فيه الضغينة، وضغائن أخرى عددوها له، وملأت عدة صفحات من الألسنة المتهيجة. قالوا: يا أستاذ، لديك من الأغراض في ذلك المكان ما لدى العمدة من الفدادين في أرض البلدة، وما لدى الوطن من الموتى في الحروب والمجاعات، وما لدى القمر من الضياء وهو بدر، فما صدق أبدا، أغتاظ، ولم يعد يلقي السلام على أحد، أو يرد إن حياه أحد.
790
| 08 نوفمبر 2012
وحين ظهرت سونيا آفرين الملكة، تتهادى في مجال نظرته ونظرات الآخرين، وضح تماما أنه أعد لها شركا عاطفيا بعيدا كل البعد عن توقعي وتوقعها، وتوقع أي أحد آخر من المسافرين. رأيت لويجي آر كميلسون، المفترض حتى تلك اللحظة، أنه قبطان سفن شراعية متقاعد، وأحد هواة غرائب البحر الذين يشنون حروبا قاسية على اليابسة مهما كان تحضرها وعذوبة مدنها، ويتسلى بملاطفة الحسناوات بلا أي غرض محتمل، ينحني أمام ملكة الجمال، يقبل يديها وقدميها ويبكي، ويعلن بصوت الدموع الفاجر، استعداده أن يتحضر، ويقلع عن هوى البحر الركيك، ويقيم تحت قدميها في أي مدينة تحددها في العالم الفسيح. كانت الملكة قد اضطربت تماما في تلك اللحظة، فاجأها الشرك العجوز غير المتقن، واضطربت، كانت تنز من عينيها السحريتين نظرة خوف، يفور في فمها الوردي شبح استيضاح، وتحركت يدها اليمنى مرارا أمام عينيها، بلا أي هدف محدد. لم تكن مرتها الأولى في مواجهة عاشق مهووس مثل القبطان لويجي، بكل تأكيد، وتعيش في بيئة ممتلئة بالمطبات والحفر، وثقلاء الدم، ومخترعي لغة الإغواء، وأصبحت ملكة، لكن المفاجأة، والمفاجأة وحدها ما جعلها تضطرب. استدارت لتمضي متعثرة، بينما عاشقها العجوز، ما يزال منكفئا على السطح، وقد تقاطر منه العرق، وتدافع عليه المسافرون، يحاولون إيقافه على قدميه، وقطعا يبحثون في بؤسه وبؤس اللحظة، عن هيبة البحار القديم الذي عشقته ثلاثمئة حورية بحر طوال سنوات قهره للبحر، ولم يلتفت لإحداها، كما كان يردد دائما. ذلك اليوم، وما تلاه من الأيام حتى بلوغنا بر مصر، لم تكن ثمة فرقة لأسماك البحر، تقيم ضجيجها وفوضاها، ولا مغن يمجد شاربي ورجولتي وعنفواني. ولا مسابقات تجرى وأسئلة تجاوب، أو واحد مثلي يحكي عن البلاد المجهولة، وينصب فارسا للحكي. عثروا على القبطان في غرفته ميتا أمام رقعة شطرنج قديمة باهتة المربعات، كان يلاعب وسواسا قويا كما يبدو لأن الأحصنة والجنود التي في جيشه، كانت منهزمة. لم تكن ثمة آثار لجريمة ارتكبت عن عمد، ولا رسالة انتحار موقعة، ولا أي أداة من تلك الأدوات التي اشتهرت عبر التاريخ في إنهائها حياة العشاق، وحين رفعوه وعروه، وفتشوا جسده جيدا، لم يعثروا إلا على جغرافيا العمر المرسومة على الجلد، وفتاق متورم عند السرة، ووشم غائر في ساعده الأيمن، يمثل نورسا بلا جناحين. تأثرت كثيرا بموت القبطان لويجي بالرغم من أنني عرفته رفيق سفر، ولم يكن يوما من مؤسسي طفولتي أو شبابي، لم أصدق بأن صانع الغرائب الحكاء قد تحول فجأة إلى جسم غريب لا بد من التخلص منه عاجلا. لفوه بعلم لا يشبه العلم البريطاني، ولا أي علم آخر أعرفه، وخمنت أنه علم مفترض لدولة البحر التي كان القبطان واحدا من رعاياها. واستلمه الرهبان المسنون الذين يسكنون غرفتي لعدة دقائق، باركوه فيها كما يبدو، قبل أن يلقى في البحر.
438
| 29 أكتوبر 2012
انتبهت حورية إلى عروقه المجلجلة في عنقه، وآثار مرض الإكزيما على يديه وساقيه العاريتين، حتى الركبة، انتبهت إلى عينيه الممتلئتين بنوازع العلة والذهول، وقميص سجنه الدمور الذي يحمل رقما فظا. انتبهت إلى حسنات ربما تكمن في عيوبه الجلية، وسعاله الذي كان كسعال مصابي سل الرئة، وأيقنت بيقين المتمكنات من اليقين، أنها منحت فرصة العمر أخيرا، لامتلاك خادم يتيم معتوه، جبار، وطويل النظر إلى أبعد مستوى. وقفت وسط حشد المزارعين الفقراء فقيرة مثلهم، وسعت أذنيها، تستمع إلى مواصفات البؤس في إفريقيا، كما كان يوصف، ومأساة العالم الثالث، غير المتحضر، كما كانت توصف، وتنفست بأنفاس حارة، كان يتنفس بها الآخرون. وحين فرغ الغشيم من خطبته، صفقت بحماس، رققت صوتها إلى أبعد حد، نادته: يا غشيم. جاءها على الفور، مثل ومضة من لهب حي، كان يقهقه ويبكي في الوقت نفسه، تتساقط نظراته على الأرض، وترتفع إلى السماء، وتستقيم على خط الأفق، لتمتص غبار الشوارع. كان جائعا بحق، ويابس الفم بشدة، تقرقر الحموضة في ثلثي معدته، وتسعل مصارين الجوع في بطنه، بذلك السعال الشحاذ، أخذته إلى بيتها، أجلسته على حصير أخضر من سعف الدوم، كان ممددا في بيتها، أطعمته من فطائر اللحم، والبيض المهروس بالصلصة، وشرائح البطاطا المقلية في زيت عباد الشمس، وأعانت عصارته الهاضمة، التي لم تصادف شبعا مثل هذا، منذ زمن، بشاي أسود. كان الغشيم يأكل مثل جرذ، كانت عيناه صغيرتين ومضطربتين ومتجاوزتين للحد المعقول من التماسك، ترعيان في بيت الحضرمية بلا هدف، وكان جسده الذي تهتك من ضغط الحبال وضراوة التعذيب في السجن، يرتعش بين حين وآخر. وحين فرغ من آخر قطرة مرة من الشاي الأسود، تجشأ تجشؤا كاملا، كلمها بلسانه المريض، لأول مرة منذ تبعها في الطريق، ولقبها بلقب هائل تحول بمرور الأيام إلى لقبها الدائم، في لسانه بعد كل طعام مشبع. قال: - شكرا يا عمتي شجرة الدر. كانت قد ابتسمت بالفعل، محتفية باللقب، رغم أنها لم تفهمه، لا تعرف مغزاه، وسعيدة أنها أشبعت جائعا مضطربا من دون خوف، ضحكت بالفعل حين نهض الغشيم، ينقر على بطنه من الشبع، شد الحصير الأخضر، لعب به، وحوله إلى شكل مركب، ثم دوره وحوله إلى شكل أسطوانة، ثم حمل أطباق العشاء الفارغة حملا قاسيا، خشنا، ذهب بها إلى حوش البيت، غسلها بالليف والصابون ولمعها بسائل فيري، وهو يردد: قاهر الدهون العصري، ومضى بها أخيرا إلى حبل للغسيل في فناء البيت، علقها من أطرافها النحاسية وعاد متأرجحا إلى الداخل.
545
| 08 أكتوبر 2012
بالرغم من عدم اقتناعي السابق الذي كتبته عدة مرات، من جدوى إعادة كتابة الأعمال المنشورة، إلا أنني أحسست بأن روايتي صيد الحضرمية، المكتوبة منذ أكثر من عشرة أعوام، تستحق إعادة كتابتها، لما تحويه من أفكار مهمة، ربما أضاعتها سطوة الشعر التي كانت مسيطرة. هذا مقطع من الكتابة الجديدة: غاص العمدة في سكة الاستفسار أكثر، وقد أحس بأعراض مرض عرق النسا الموروثة في عائلته، تزحف على ظهره ووركه اليمنى بلا هوادة، كان يعرف آداب التسمية وإنشاء الألقاب في البلدة، معرفة كبيرة، وشارك منذ صباه المبكر في تلقيب الكثيرين، ممن أصبحوا الآن يعيشون في المجتمع وقد نسي الناس أسماءهم الحقيقية: الخنفس، وجملكة، والغراب، وشجرة الدوم، وكلب الحر، وغيرهم، هؤلاء من إنجازاته التلقيبية التي لم يهزها الزمن. يعرف أن حبكة اللقب في حد ذاتها، أهم من شرب الماء، للذي يريد أن يلقب أحدا، ويعرف أيضا أن لقبا وارفا وظليلا كسكر البيت لا يمكن أن يمنح لواحدة مثل حورية أزرق خلطة الغجر بالحضارم، وصانعة المشاكل، حتى لو جاء في مرسوم حكومي، كان العمدة متزوجا من منصبه العمودي منذ كانت البلدة مجرد غبار ورمل وحصى، وسكانها مجرد رحل بادين، لا يعرفون عن الإعمار شيئا، ومقبلا على الزواج الأصعب والأرقى، من منصب أرفع شأنا في اللجان الشعبية الحكومية في إقليمه، سيتيح له السكنى في المدينة، والتمتع بما تبقى له من عمر، وكان وجود لقب هام كهذا في بلدته، وحول عينيه وأذنيه من دون أن يعلم به، أو يوقع شخصيا على استخدامه، حتى من باب الذوق والأدب، يعد نقيصة قد تؤثر على عافيته الخاصة، ومزاجه الذي يطمح لجعله صافيا في أي وقت، وزواجه المرتقب من منصب اللجنة الشعبية الحكومية، في رئاسة الإقليم. قال المستشارون، بصدق الذين قد تفوتهم شاردة، أو واردة، ولا يلحقونها: - لا ندري جناب العمدة، صحونا في أحد الصباحات ووجدناها سكر البيت، وكنا نظنك تعرف. ثم التفتوا للفارس الغريب، تحلقوا من حوله، وابتدأوا يلحسون غرابته. الآن صابر علي، عمدة البلدة، مبعثر الدم بصدق، ومستغرب إلى حد متعة الحساد. يراجع في ذهنه تلك النبوءة التي صدقت، ولا يعرف كيف حدث ذلك. تراجع استياؤه من الغريب، وابتدأ يفكر بجدية، في اتباع خط النبوءة، وتزويج الرجل من معشوقته التي جاء من أجلها، سيرسل في طلب الحضرمية التي كانت وليت أمر نفسها، سيتأكد من رد فعلها أولا، ويحاول إقناعها بنفسه، إن تفهت من شأن الغريب، أو افتعلت معركة ربما يراق فيها دم. كان الغريب قد بعثر مخلاته الكبيرة، أخرج منها ما تبقى من أغراض، وكانت ثوبا أبيض مغسولا بإتقان، وعدة خناجر لامعة، يبعث مرآها القشعريرة، كان ثمة خبز يابس، وجراب من جلد الماعز، ينز منه الماء، صرخ في أتباعه أن يذهبوا به ليغتسل أولا، ثم يطعموه ويجهزوه، ويخبئوا خناجره التي لا مجال لوجودها في مكان، ربما يشهد اليوم جلسة فرح. كان الغريب مطيعا، وتفهم بعمق، لكنه لم ينس أن يشهق وهو يغادر: يا سكر البيت.
442
| 01 أكتوبر 2012
يوم عصبي لمهنتي في المستشفى الحدودي البعيد، فقد جاءتنا راكضة تعليمات من إدارتنا الإقليمية، تقضي بتعيين ممرضين جدد، وذلك لطرد الجوع المهني الذي كان يحاصر تلك المهنة، ويجعلها سيئة التغذية، تترنح وهي تؤدي مهماتها. كنا فرحين للغاية، أنا ورئيس الممرضين، ومحاسب الحسابات البائسة، وعدد من الفراشين، والمرضى أيضًا، كنا نرى في ركض التعليمات جدية، وعلاجًا لصمم كان مزمنًا في إدارتنا الإقليمية. كانت الشروط ساذجة للغاية، ولعلها الأكثر سذاجة في العالم كله، أن يكون المتقدم من أبناء المنطقة، أن يكون حاصلًا على الشهادة الابتدائية أو ما يعادلها، ويشمل ذلك المعادل شهادات العُمد ونظار القبائل، وشيوخ الخلاوي، وبكاء النساء، واستعطافات المسنين، وأحيانًا توصيات غاية في الخشونة من برلمانيين إقليميين نهبوا مقاعدهم، ويسعون لنهب وظائف لمؤيديهم في الخدمة العامة. أيضًا حدد العمر بين السادسة عشرة والثلاثين، فأعطيت مساحة شاسعة تكفي للعب بالأعمار ودس الصبية والمراهقين والكهول في بلدة لا تملك سجلًا قاطعًا للمواليد أو الوفيات. كانت الحصيلة تسعين طلبًا، قدمت مبتسمة ومكشرة، واثقة وضارعة، ميتة ومسنودة بتوصيات العمد والبرلمانيين، حتى المراسل الذي كان يقف على باب مكتبي الريفي ويعد الشاي والقهوة، يتبسم في وجوه الأعيان ويكشر في وجوه «الغُبُش»، فوجئت به يرتدي الزي الأبيض اللماع، ويضع اسمي في خانة الأشخاص الذين يمكن الرجوع إليهم لتزكية المتقدم إلى الوظيفة، قلت له من عيَّنك ممرضًا يا محمد آدم؟.. قال: أنت يا عمي، ثم مضى إلى أحد العنابر حاملًا محلولًا من الملح، وحقنة للملاريا، وابتسامة أوسع من ابتسامة «جينا لولو بريجيدا». قمنا بغربلة التسعين متقدمًا، قيمناهم أكاديميًّا وقبليًّا وعشائريًّا، واستبعدنا بضراوة أي منحى باتجاه المظهر العام. فظل الملتحون ملتحين، والحليقون حليقين، والذين يرتدون القمصان والجزم، مثل الذين يرتدون «العراقي» والسروال، وصنادل «التموت تخليه» المصنوعة من إطارات السيارات، والموغلة في المحلية، وعندما أعلنا أسماء العشرة المطلوبين كنا مرهقين وجائعين، وممزقي الذهن، لكن الأمر لم ينته. كانت الثانية بعد الظهر عندما اقتحمنا «حقَّار شجر غابات» كان مهتاجًا لدرجة أن كيانه الأسمر الداكن كان معطونًا في العرق، وعينيه الموصوفتين بـ«العسليتين» في بطاقته الشخصية تنزان نارًا حمراء.. كنا قد أسقطناه بجدارة، لم نجد شرطًا واحدًا يسنده، فهو من أبناء جبال النوبة في أقصى الغرب، تسرب إلى الحدود «الإريترية» هربًا من جوع الغرب إلى جوع الشرق, ومن عشوائية «كادقلي» و«الدلنج» إلى عشوائية «قرورة» و«عيت» و«عدوبنا».. كان عكازه الأكاديمي الذي جاء يتوكأ عليه، شهادة في محو الأمية، عكازه الاجتماعي.. عدة أغنيات بالغة الأسى شدا بها في ليل الحدود، وعكازه البدني، عضلات صلدة تصلح لرفع شاحنة لا لحقن حقنة، أو تركيب قسطرة، أو وضع مطهر على جرح. حاولنا إقناعه بهدوء فلم نستطع، بخشونة، فلم نستطع، بصراخ، وطرد، فارتفعت أكمامه إلى ما فوق رسغيه، وأطل سكين أمي من جيب سروال الممرضين الأبيض الذي فصله كقرار نهائي بلا رجعة. كانت نظارتي الطبية ترتعش، وكبير الممرضين الذي أنفق خمسين عامًا في تلك المهنة يكركر من بطنه بلا توقف. قال «حقَّار شجر غابات»: - حتى إخواني في الدلنج عرفوا أنني أصبحت ممرضًا، وستأتي والدتي للعلاج هنا. فجأة قال كبير الممرضين: - سوف نمتحنك يا حقار.. فإذا نجحت نقوم بتعيينك. ولشدة دهشتي تقبل الرجل الأمر، وارتخت عضلاته تمامًا، عادت عيناه عسليتين، وتقهقر سكينه إلى قاع جيبه. انغرس في أحد المقاعد وبدا متقدما عاديا وربما أكثر خجلًا وارتباكًا. سألناه عن جداول الضرب، فتقيأها كاملة. عن وظيفة الطبيب فخاطها من قميصها الإنساني حتى حذائها العلاجي. عن وظيفة الممرض، فلم يترك فيها لحمًا إلا عراه. وعندما سألته في النهاية عن مرض والدته الذي يكبدها كل تلك الهجرة للعلاج هنا، قال: إنه مرض الفرح.. فرحة الأم بابنها. في اليوم التالي كان «حقَّار شجر غابات» ممرضًا تحت التدريب يزهو بلباسه الأبيض، وأسنانه البيضاء، وعراك الملفات والمحاليل، وأوامر الطبيب، وكان يغني.
689
| 24 سبتمبر 2012
كان المستشفى هو أول ما يلفت نظر الغرباء في البلدة البعيدة، وكان للفت النظر هذا أسبابه العديدة، منها تلك الفخامة النسبية التي بنيت به.. بالطبع ليست فخامة مستشفيات المدن القائمة على أشكال وألوان وفلسفة هندسية، لم تسمع بها البلدة، لكن طلاءها الأبيض، ونجيلها الهزيل، وخزان الماء الذي يرتفع في غطرسة، والإضاءة المتقطعة التي يجود بها مولد محدود الإرادة يستر عورة الفقر قليلًا، كانت تعد فخامة. أيضًا وجود الطبيب في حد ذاته كان يعد فخامة، ففي ذلك الوجود يمكن أن تعثر على قميص وبنطال أنيقين، ونظارة طبية غالية الثمن، وحذاء يختلف عن أحذية البلدة التي تستعمر أرجلها «المراكيب»، وأحذية «التموت تخليه» المصنوعة من إطارات السيارات، وفي كثير من الأحيان عري الأرجل الصريح، ذلك بالإضافة إلى وجود سكن يتبع المستشفى يمكن أن يشكل فندقًا بلا نجوم, لكنه يسند حضور أولئك الغرباء، ويستضيفهم. لذلك كنا دائمًا ما نكون أول من يصافح الغرباء عند حضورهم.. وآخر من يصافحهم عند انغراسهم في سكة السفر. حين جاء «التقلاوي» إلى البلدة سار على درب لفت النظر ذلك، وفوجئنا به بكل مستلزمات سفره من تعب، وإرهاق، وحقائب، يصب في المستشفى، ثم في السكن بعد ذلك، كان من أبناء الغرب، لكن مهنته الغريبة جعلت وجوده في السفر حتميًّا، فقد كان فنيًّا جوالًا يعمل في صيانة الآلات الكاتبة «تايب رايترز».. هكذا كان ينطقها عاضًا على لحمها الإنجليزي في إصرار حتى ينزف.. كان يلاحقها في المدن البعيدة، ولا بد أن تلك المهنة كانت مربحة. كنت من المغرمين بالأسماء.. خصوصًا تلك التي تملك رائحة عجيبة، ولا تتكرر كثيرًا.. فقد أنفقت ظهيرة مشتتة وأنا ألاحق اسم الغريب، أحيله إلى مدن، وقبائل، وعائلات، ولا أجد له تربة صالحة أغرسه فيها، اسم «التقلاوي» يشبه «الدنقلاوي» والحلفاوي، و«الحلاوي»، لكنه بلا غطاء مثل تلك الأسماء، فليست ثمة قبيلة اسمها «تقل»، ولا مدينة كذلك، ولو افترضنا أنه اسم عادي مثل أي اسم.. فماذا يعني؟ أفقت على صوت الغريب يسألني.. وعندما التفت إليه رأيته يعبث بإحدى حقائبه التي لا بد أنها تحوي عدة العمل الصياني للآلات الكاتبة: - كم «تايب رايتر» عندكم في المستشفى؟ قلت وأنا أتذكر الكاتب الوحيد بالمستشفى.. العم «شيبة شيبان».. وهو منكفئ على أوراقه ومراسلاته يركلها بخطه «الهيروغليفي»، ويرسلها إلى رئاستنا الإقليمية، ليقرأها كاتبهم القديم «بشرى» دون أي تذمر: - ولا واحدة. كان الغريب كأنه لدغ، لأن يده فرت من حقيبة العدة، كما تفر من شاي حار، أخرج ورقة من جيبه، وشطب على اسم مدون في أعلاها، استطعت أن ألمحه، كان اسم المستشفى الذي دون بجانب عدد من المرافق يبدو أنها شدت الغريب وتجواله إلى تلك البلدة.. بناءً على نصيحة خاطئة. أخذته إلى سكن الأطباء، كان الغداء فقيرًا لكنه مشبع، وكان بعض العاملين في تلك المرافق التي دونها الغريب في ورقته، قد حضروا للغداء أيضًا، عثر على ضابط في الشرطة، وضابط في الجيش، ومفتش زراعي، ومفتش في الحكومات المحلية.. أراد أن يلاحق آلاتهم الكاتبة، فأخبرته أن ينتظر حتى ينتهي الغداء. كنت أخشى على شهيته من انسداد أو جلطة. عندما انتهى الغداء جاءت الخيبة الكبيرة تعدو. لم تكن توجد آلة كاتبة واحدة في البلدة كلها.. كانت الأيدي المحلية هي الـ«تايب رايترز».. تركل الورق، وتغلفه، وترسله، ولم يرد في ذهن أي مصلحة محلية أن تغير من ذلك السلوك. في الصباح التالي كان «التقلاوي» يلم عدته، وإرهاقه وحبوب تهيج القولون التي زودته بها ويرحل.. صافحناه وقلنا.. إلى لقاء.. قال كأنه يشتمنا: - لا أظن ذلك.
627
| 11 سبتمبر 2012
طالبني عشرات الأصدقاء، بنشر مقطع آخر من روايتي ٣٦٦، المنجزة مؤخرا، وها أنذا أستجيب بنشر هذا المقطع: "لم أكن من هواة حفلات الزفاف الصاخبة على الإطلاق، أعتبرها مناسبات خرقاء يمكن اختصارها إلى أدنى حد، وإقامتها داخل بيت صغير بلا ترف ولا ضجيج، بحضور من يعنيهم أمرها، من أهل العروسين وجيرانهم، لكن المجتمع ليس في صفي على الإطلاق، وكنت أذهب مضطرا لمشاركة من أعرفهم، وكان عبد القادر من أقاربي اللصيقين، ومن ثم لا بد من مشاركته حتى النهاية. أتيت إلى الحفل متأنقا بحسب تصوري الشخصي، ولم أكن ضليعا في الأناقة، في أي فترة من فترات حياتي، أرتدي ملابس راعيت فيها أن تبدو ملابس معلم في مدرسة، ربما يصادفه أحد تلاميذه في ذلك الحفل، ولا يحس بأنه يصادفه خارج صفوف الدراسة، أو معامل الكيمياء، قميصي أبيض بلا خطوط إضافية، وسروالي أزرق فاتح، وعطري واحد من تلك العطور السائدة في السوق، أظنه كان عطر ماكسي أو جاكومو، أو ون مان شو، لا أذكر الآن بالتحديد، ولم تكن لدي حيلة لأجعل وجهي شديد الفرح، فقد كان وجها جامدا، ممتلئا بتجاعيد، ورثتها من أسرة لم تورث سوى التجاعيد. كان المسرح معدا بطريقة إعداد مسارح الزفاف المعروفة في البلاد، ثمة ورد أحمر وأصفر وبنفسجي، متناثر في المكان، وأضواء ملونة بألوان قوس قزح، تحلق، وسجاد من القطيفة الحمراء، مفروش على الأرض، وكرسيان مكسوان بالمخمل الأحمر، موضوعان في ركن من أركان المسرح، يجلس عليها العروسان، ومئات المقاعد البلاستيكية، التي رصت في المواجهة، وقد ازدحمت بالناس والعطور والفرح، وصراخ الأطفال، وثمة فرقة موسيقية من شباب في عشرينيات العمر، بملابس سوداء، وشعور طويلة، اسمها فرقة اللهب، تعزف على آلات متنوعة، ومغني وارف الصوت، يردد: وكان الليل أشواقا ووجهك مشرق فيها وكان الصبح دمعاتي التي احترقت أمانيها. فيا ليلي كفى شوقا ويا صبحي كفى تيها. ستشرق ذات أمنية وأنسى كل ماضيها. انتظرت حتى انتهت الأغنية التي أطربتني حقيقة، وصعدت مختبئا، في وسط عدد من الأقارب إلى حيث يجلس العروسان، حتى أؤدي واجب التهنئة المعتاد، والتمنيات بحياة زوجية سعيدة، وأمسح ذرات من العرق، انزلقت على وجهي، وأنزوي في أحد المقاعد، حتى يتقدم الليل قليلًا، وأفر إلى عزلتي المنظمة في حي "المساكن" الذي أسكنه منذ زمن، لكنك ظهرت فجأة يا أسماء، ظهرت، لا أعرف من أين وكيف، وكان ظهورك بذلك الشكل المفاجئ، هو الممحاة الكبرى التي ستزيل كل جفاء قديم جافيته للمرأة، وتنبت مكانه خفقات قلب. تعيد جنون المراهقة المفقود، كله، تبقيه قليلًا، وتلغيه، تعيد فوران الشباب المفقود أيضًا، وتبقى معربدة داخله. وجدتك أمامي كاملة، سخية الجمال، متهورة في العطر والشعر والسحر، كأنك خرجت من أمنية المغني، التي تحدث فيها عن الإشراق، ومن فوضى عازفي الطبل والغيثار، ومن كل ضحكة ضحتها امرأة، أو زغرودة أطلقتها أم أو خالة، كأنك المناسبة الكبرى التي تأنقت لحضورها. حقيقة لا أعرف كيف أصفك، فلم أصف من قبل سوى حلقة البنزين، وهايدركلوريد الصوديوم، والبوتاسيوم لطلابي القساة المستهترين، فقد كنت في تلك اللحظة بحاجة لمعلم آخر، من معلمي علم الجمال، في مدرسة من مدارس السحر، ليصفك لي.
492
| 02 سبتمبر 2012
من خلال متابعتي الدائمة للتجارب السردية، سواء كانت تلك التجارب عربية، أو أجنبية تمت ترجمتها إلى اللغة العربية، كثيرا ما أجد تشابها في العوالم التي يبتكرها كاتب ما، متعدد النصوص، بمعنى أنك تقرأ كتبا متعددة لنفس الكاتب، بحكايات جديدة في كل مرة، ولكنها تصب في نفس القالب الذي أنجزه الكاتب من قبل، وربما تعثر على شخصيات كثيرة ظهرت في عدة نصوص متتابعة، إما بنفس ملامحها القديمة، أو تكون قد شاخت واكتست ملامح جديدة، ودورا جديدا في الحكاية اللاحقة . من هذا المنطلق، تمت إحالة عدد كبير من الكتاب الكبار إلى النص الأكثر شهرة، أو النص الذي تكاملت فيه كل أجواء الكتابة للكاتب، تكاملت شخصياته، وأدواته الفنية، وحواراته وكل ما يمت إلى كتابته بصلة، وأصبح ينظر للنصوص الأخرى السابقة أو اللاحقة، بنظرة لا تود أن تنصفها، ولكن تصنفها إما إرهاصات سابقة للنص الكبير، أو امتدادا له، وحين تقرأ مائة عام من العزلة، الرواية الأكثر شهرة لماركيز، تود أن تبحث عن روايات أخرى للكاتب من شدة انبهارك بها، ستعثر على رواية الجنرال في متاهة، وتصنفها إرهاصا سابقا، والحب في زمن الكوليرا، وتصنفها امتدادا، و في الواقع أن ما أنجزه الكاتب هنا، هو الذي ظلم نصوصه الأخرى وأحالها إلى تلك النظرية، ولطالما أحسست بالتعاطف الشديد مع نص كبندر شاه للطيب صالح، ذلك أنه ظلم كثيرا بسبب أنه أتى بعد رواية عظيمة مثل موسم الهجرة إلى الشمال، ولم يستطع زحزحة الأنظار عنها، ليجلس متقرفصا في وسط الكتابة النقدية التي مجدت الطيب وموسم هجرته إلى الشمال لعقود طويلة وإلى الآن. هناك كتاب أنجزوا العالم الواحد الذي تحدثت عنه، ولم يريدوا أن يفارقوه حتى لو كانت الكتابة بعيدة عنه، وما زال صديقنا إبراهيم الكوني، مبتكر دهشة الصحراء وعالمها، هو أفضل من كتب عن تلك المناطق، برغم أن كتابا أوروبيين عديدين، كتبوا روايات عن بدو الصحراء وعاداتهم، ولم يستطيعوا أن ينجزوا ما أنجزه الكوني، عالم الكوني واحد ومتجدد بحكاياته في كل نص، ولم يترك فرصة لأحد كي يختصره في رواية واحدة، ذلك أنه لا رواية عند الكوني تقهر رواية أخرى، ولا نص ينتصر على نص، إنما نصوص تتشابه في الملامح وتختلف في الشخصيات. ومن كثرة ما أنجزه الكوني عن الصحراء، لا تستطيع أن تتخيله كاتبا لنص، تدور أحداثه كاملة في طرابلس، أو بنغازي مثلا، تماما كالذي تشاهده يرتدي الثوب والعمامة، ولا تتخيله يرتدي بدلة كاملة مثلا. شخصيا أحب أن أغوص في عوالم أي كاتب ينجز عوالم، أحب أن أقرأ النصوص كلها حتى لو وجدتها متشابهة، هذا ما أريد أن يفعله كل قارئ محب للآداب، أن يستنطق العوالم المتشابهة لكاتب ما، ويخرج منها بمتعة مختلفة.
607
| 13 أغسطس 2012
في رسائل تردني كثيرا، يسألني القراء عن تلك الأسماء الغريبة التي أستخدمها في نصوصي الروائية، وأيضا يستخدم مثلها في الغرابة، كثير من كتاب القصة والرواية في الوطن العربي، بمعنى أننا لا نكتب في الغالب أسماء معروفة ومتداولة بين الناس، وإنما نلجأ إلى أخرى ربما يسمع بها القارئ لأول مرة، مما يجعله يتساءل عن مصادرها. من أين أتت، وهل هي ذات دلالة معينة في النصوص؟ في الحقيقة، أن كل كاتب حين يبدأ في كتابة نصه، يندمج في مناخات النص وأجوائه، ومن ضمن ذلك، لا بد من أسماء لشخوص تشبه مناخ الكتابة، أو تنحدر منه، وبالطبع لكل بلد عربي أسماء يعرفها كتاب ذلك البلد، ويستوحون منها أسماء شخوصهم الملائمين لمناخ الكتابة.. وبالتأكيد النص الذي يدور في قرية ريفية لا يمكن أن يستوعب أسماء المدن، والعكس صحيح إذا كان النص تدور أحداثه في مدينة، وحتى داخل القطر الواحد، تجد لكل قبيلة أسماء متداولة، ولكل قرية أو إقليم أسماء تندر في غيره، وهكذا يستوحي الكاتب أسماءه، أو يطلقها على الذين يحس بأنهم يشبهونها وتشبههم. وفي تربتي الشخصية، وهي أحيان كثيرة، أحس بأن شخصية معينة، تشبه اسما معينا، ولا أستطيع أن أنتزعه منها أو أستبدله بآخر، مهما حاولت، أو مهما كان الاسم ثقيلا في النطق، وغير مستساغ، مثلما حدث في حالة حارس البوابة الفندقية(قسم السيد محارب)، في رواية تعاطف، فقد حاولت تغييره إلى اسم أخف، لكنه أبى ذلك التغيير تماما، وهكذا تركته كما هو. أيضا (آدم نظر)، الذي جعلته بطلا لرواية مهر الصياح التي جرت أحداثها في دارفور القديمة، لا يمكن أبداً أن يكون اسمه غير آدم نظر، أو اسم آخر يشبه البيئة التي استوحيت منها الرواية، وإلا لن تكون رواية ناجحة. وهناك استثناءات بالطبع، حين يكتب غريب من المدينة، مثلا بنفس مواصفاته المدينية، في نص يدور في الريف، هنا الغريب لا يشبه البيئة، ولكنه موجود فيها لسبب أو لآخر. ليس الأمر إذن، ولعا بالأسماء الغريبة، وحشدها لإنهاك قارئ، نحن نبحث عنه بشدة في هذا الزمان، حيث خف تهافت الناس على القراءة، ولكن إيحاءات تشبه كتابتنا، ولا بد من تضمينها حتى يأخذ النص دلالته كاملة، وحتى يكون صادقا وأكثر تعبيرا عن المجتمع، وما زلت مقتنعا أن الكاتب مرآة لمجتمعه، وأن الرواية لا تكتب عبثا أو إهدارا للوقت، ولكن بقناعة تامة بأهميتها.
1975
| 07 أغسطس 2012
مساحة إعلانية
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا...
6735
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت...
6390
| 14 أكتوبر 2025
منذ صدور قانون التقاعد الجديد لسنة 2023، استبشر...
3411
| 12 أكتوبر 2025
في خطوة متقدمة تعكس رؤية قطر نحو التحديث...
2790
| 12 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....
2082
| 16 أكتوبر 2025
مع دخول خطة وقف إطلاق النار حيز التنفيذ،...
1815
| 10 أكتوبر 2025
في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...
1638
| 16 أكتوبر 2025
قمة شرم الشيختطوي صفحة حرب الإبادة في غزة.....
1524
| 14 أكتوبر 2025
الوقت الآن ليس للكلام ولا للأعذار، بل للفعل...
1185
| 14 أكتوبر 2025
لا يخفى على أحد الجهود الكبيرة التي تبذلها...
1062
| 14 أكتوبر 2025
حين نسمع كلمة «سمعة الشركة»، يتبادر إلى الأذهان...
966
| 10 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...
810
| 16 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية