رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
(1) إن قلت: نعم، أكون محبطًا، وغير دقيق. وإن قلت: لا، أكون مبالغًا، وغير دقيق. والحقيقة أنَّ الحقيقة بينهما. (2) الحرب مصيبة، تقع هكذا فجأة على رؤوس الناس، لم يحسبوا لها حسابًا، ولا يملكون منها مخرجًا. تصبح النجاة هي همهم الأكبر، كيف ينقذون أنفسهم وما يملكون، ينظرون إلى أحلامهم أنها ترف في غير حاجة إليها، عبء لا يحتمل، وآخر ما يفكِّر المرء فيها لينقذها. سهل -وأنا خارج دائرة الحرب- أن أقول: إنهم في ذلك مخطئون، لكن الحرب ليست جديدة على الإنسان، لقد اخترعها منذ أن وطئت قدماه الأرض، ويشهد التاريخ لكثر أنهم أنقذوا أحلامهم من الحرب، تمامًا كما أنقذوا أغلى ما يملكون. في الحرب تتغيَّر حياتك وإلى الأبد، حتى وإن نجوت، لذلك فإن همَّك يجب ألا يقتصر على اللحظة الراهنة، وإنما على ما بعد الحرب، تسأل نفسك: إذا خرست المدافع كيف سيكون حالك، حيًّا بإذن الله، لكنك بائس؛ لأن الأحلام علامة أنك حقًّا تعيش، فإذا فقدتها فإنك لا تشعر بحلاوة الحياة، وإن بقيت أنت على قيدها. قل لنفسك: جميل أن نخرج من الحرب سالمة أجسادنا، لكن ماذا عن أحوالنا وصحتنا النفسية، ماذا إذا انكسرنا؟ الأحلام تحميك من الانكسار. (3) الإبداع الذي يدَّعيه كثر إنما هو أن تلتف على ظروفك الصعبة وأوضاعك الاستثنائية؛ لتحقق ما تريد، أو بمعنى أدق: لتحقق أقصى ما يمكن أن تحققه مما كنت تحلم به. لن يقدِّم لك أحد حلولاً جاهزة على طبق من ذهب، أنت من يجب أن يخترع هذه الحلول، أنت من عليه الالتفاف على الواقع بذكاء وصبر؛ ليحصل على الحلول. الإبداع هو أن تتكيَّف مع الواقع بمعطياته الصعبة، ثم تعمل على تجاوز تحدياته، على اكتشاف فرص جديدة، تلك التي تنشأ من قلب الأزمات، أن تقترب من الشخصيات الملهمة، تستمد منها الحكمة والقوة، ترافقها، أو تسمع لها. الإبداع أن تكون ذكيًّا بما يكفي لتقرِّر أن تكتفي في هذه المرحلة الصعبة بالعمل على تحقيق أحلام صغيرة بديلاً مؤقتًا لحلمك الكبير، وبنجاحك فيها تخطو خطوات إلى الأمام، وتمنحك الثقة في نفسك، وتمدك بالأمل. أو تعرف: قد تكون الحرب في حد ذاتها هي الإلهام، تلهمك درسًا لم تتعلمه، أو تكشف لك حقيقة غابت عنك، أو تدفعك إلى أمر لم يكن في حسبانك. (4) الحرب ليست المدافع والصواريخ وحمم الطائرات وحسب، الحرب هي كل ظروف استثنائية صعبة ومؤلمة تمرُّ بك. كل شدة هي حرب. الفقر، المرض، العلَّة، الفراق، الفشل، وكل ما شابه ذلك. هذه الأزمات تصقلك صقلاً، كما تصقل النار الذهب، بشرط أن تعرف كيف تتعامل معها، لا تستسلم لها، ولا تكثر الشكوى، ولا تكتفي بدور الضحية. اقلب الطاولة -من فضلك- على حربك، على شدتك. تحرَّر من الخوف، فهو عدوك القاتل. ستنتهي الأزمة بلا شك؛ لأن من طبائع الأشياء أن لا شيء يدوم. صدق الله العظيم: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ ليس بما نتمنى وإنما بالعمل، العمل ينجيك، السعي ينقذك، تكرار المحاولة -مهما فشلت- هو الذي يخرج بك -بإذن ربك- من ظلماتك إلى النور. (5) إن مللت من كلامي أدعوك لأن تسلي وقتك بقراءة هذه الرواية: «أحلام في حقبة الحرب»، للكيني «نغوغي وا ثيونغو»! صاحبنا وُلد عام 1938 في ظلال الحرب العالمية الثانية، لا يعرف ترتيبه وفقًا للسن، بين الأربعة والعشرين طفلاً لأبيه وزوجاته الأربع، لكنَّه الطفل الخامس في منزل أمه. يعود في روايته إلى محطَّات تاريخية لينقل لنا كيف أن حياته تأثَّرت بها بصيغة ما، مؤتمر برلين في عام 1885 الذي قسَّم إفريقيا إلى مدارات نفوذ بين القوى الأوروبية، تنافس الألمان والبريطانيون على استعمار أقاليم شرق إفريقيا. ولأن الشدة حرب، يستذكر أن عائلته الكبرى كانت تعيش حياة عادية إلى أن نفقت مواشي الأب التيكانت عماد تجارته، ليصبح والده شخصًا عنيفًا جدًّا، تهرب والدته، ويطرد هو وأخوه من بيت أبيه. حدث ذلك في وقت كان فيه الشعب الكيني يقاوم المستعمر البريطاني، الذي لم يتوان عن استخدام أي سلاح، وخاصَّة التعليم، للقضاء على اعتداد الشعب الكيني بثقافته ومقاومته له. يحكي لنا عن المدارس المستقلة التي تمردت على نظام تعليم المستعمر، عن حلمه، الذي وعد والدته ألا يوفِّر جهدًا لتحقيقه، وهو أن يتعلَّم، رغم ظلال الحرب العالمية الثانية وأزماته الأسريَّة. غير أن صاحبنا هزم الحرب والشدة، وحقق حلمه حتى أصبح يُعدُّ من بين أكبر كتَّاب إفريقيا.
699
| 27 مايو 2024
ترى ماذا كان شعور «كليفورد مايكل» وهو يحزم حقائبه في عام 1972، بعد أن أقنع زوجته ماري أن ينتقلا وابنتهما «إيميلي» من ولاية كاليفورنيا حيث يعيشون، إلى ولاية ألاسكا - بمناخها الصعب- بحجة البحث عن الذهب؟ هل كان مجنوناً أم جامحاً؟ هل كان ضحية حكايات جدِّه عن المغامرات، أم أنها كانت حافزاً له؟ أو ربما هو حلم مواطن أمريكي عادي - يعمل مهندساً - أراد أن يتبع قلبه ويبحث عن الكنز؟ لا أظن أنه أنصت كثيراً لتلك الأسئلة التي رماه بها أقاربه وأصدقاؤه وجيرانه، لقد أخذ قراره وانتهى الأمر، لا شيء يُرضي الناس، وبعضهم لا يملك إلا الإحباط، صحيح أن الفشل وارد، لكن خوض المغامرة - في حد ذاته - نجاح. (2) يصل وعائلته إلى ألاسكا، يواجهون ظروفاً مناخية صعبة، وفترات طويلة من الظلام الشديد، وصعوبات مالية، تجعلهم يعيشون في كوخ خشبي بسيط بدون تدفئة كافية، وفي ليلة باردة تصاب ابنته «إيميلي» بحمى شديدة، يُجن جنونه وهم بعيدون عن أي مساعدة طبية، غير أن الله لطف بها وبهم. يتعرف “كليفورد» على جاره «جورج»، عجوز تقاعد عن مهنة البحث عن الذهب، التي امتهنها لأكثر من 30 عاماً، وهو لا يبخل عن تقديم نصائحه لصاحبه الجديد «كليفورد»، بل ويشاركه وعائلته بعضاً من مؤونته، مما أضفى دفئًا على حياة «كليفورد» وعائلته الباردة. تمر سنوات من الجهد دون نتيجة، غير أن صاحبنا يتمتع بقدرة عجيبة على المثابرة، إلى أن يحل صيف عام 1976، وفي يوم مشمس ونادر في ألاسكا، وبينما كان يعمل على ضفاف نهر «كوجروك»، بيديه المجروحتين والمكدومتين من الحفر المستمر، ووجهه المغطَّى بالغبار والعرق، وبشعور بالإرهاق الشديد، وقع ما كان يحلم به. كانت الساعة تقترب من الغروب، و»كليفورد» يفكِّر في العودة إلى كوخه، وبينما كان يغسل آخر مجموعة من الحصى في النهر بمقلاة الغسل، لاحظ بريقاً غريباً. توقَّف قلبه لوهلة، جمع كل طاقته، وأخذ نفَساً عميقاً قبل أن يغمر المقلاة في الماء مرة أخرى ويهزها برفق وببطء، بدأت الرمال والحصى تنفصل، وتبقى قطعة صغيرة لامعة في القاع، رفعها بحذر إلى ضوء الشمس المتبقي، وعيناه تلمعان بالدهشة، كان ذلك بريق الذهب الحقيقي. لم يستطع كليفورد تمالك نفسه، فاندفع -بفرحة طفولية- يصرخ ويقفز، وينادي بأعلى صوته زوجته «ماري» وابنته «إيميلي» اللتين كانتا في الكوخ القريب، وللتو هرعتا إلى النهر، ورأتا «كليفورد» واقفاً هناك، ووجهه متلألئاً بالفرح وهو يمسك قطعة الذهب الصغيرة في يده. انهارت «ماري» بالبكاء، بينما قفزت «إيميلي» في حضن والدها، تحتضنه بقوة، كانت تلك اللحظة تجسيدًا لكل الجهود والأحلام التي عاشوها معاً. كانت تلك القطعة الصغيرة من الذهب ليست فقط بداية لثروة مادية هائلة، بل رمزاً لانتصار الإصرار والعزيمة، وتأكيداً على أن الأحلام يمكن تحقيقها بالصبر والعمل الجاد. كانت اللحظة مشبعة بالعواطف، حيث اجتمع أفراد العائلة في حضن واحد، وعرفوا أن رحلتهم لم تكن عبثاً. (3) يراودني سؤال قبل أن ننهي حكايتنا، هل بحثت أنت عن كنزك؟ «الكنز الحقيقي بداخلك»، ليست هذه عبارة حماسية خيالية غير واقعية، ولكنها الحقيقة إن شئت أن تعترف بها. تماماً كما اكتشف «كليفورد» الذهب مدفوناً في الأرض، يمكن لكلٍّ منا أن يكتشف الكنوز المخبأة في داخله. قد تكون هذه الكنوز مواهب، أو شغفاً معيناً لم نكتشفه بعد، أو قدرات خاصة يمكن أن تغيِّر حياتنا وحياة الآخرين. في رحلة البحث في النفس، وعما يختبئ داخلنا ولا نعرفه، كل ما على المرء أن يؤمن بنفسه، يؤمن أن الله -تعالى- لم يخلقه عبثاً، وأن عليه مهام في هذه الحياة الدنيا منوط بتحقيقها، وأن المولى منحه قدرات وإمكانات ومواهب من الضروري اكتشافها. لا ينال الناس مرادهم إلا من يثابر منهم ويصبر في مهمته؛ فالأمر ليس أن تجلس ساعة برفقة فنجان قهوتك وتفكِّر وتصل إلى ما تريد، لكنه التفكير العميق، والبحث عن الدعم من المحبين، واستغلال كل الفرص المتاحة، ثم ما أن تكتشف كنوزك، لا تكنزها لنفسك؛ استفد بها أنت، وأفد بها مَن حولك.
1026
| 20 مايو 2024
(1) يصل ماريو سافيو إلى عالمنا في الثامن من الشهر الأخير لعام 1942، والداه المتدينان يحلمان بأن يصبح ابنهما قسيسًا في مدينتهم نيويورك. يتدرج الطفل في دراسته حتى يتم مرحلته الثانوية متفوقًا، ليحصل على منحة دراسية كاملة. ينتقل في العام 1963 مع والديه إلى لوس أنجلوس ليلتحق بجامعة كاليفورنيا. يسمع عن تظاهرة داخل الجامعة ضد جمعية فنادق سان فرانسيسكو التي تستعبد السود وتشغلهم في وظائف وضيعة بظروف عمل صعبة، فيقرر المشاركة. تلقي الشرطة القبض على مجموعة من الطلاب المتظاهرين، هو واحد منهم. يخرج من سجنه ليبدأ مسارًا جديدًا في حياته الطلابية، يشارك زملاءه فيه مظاهراتهم من أجل الحقوق المدنية، ومنها حق السود في التصويت. (2) صاحبنا لا يتوقف عند التظاهر، ولا يريد أن يكون ذلك أقصى ما يفعله، فيبادر إلى تدريس الأطفال السود في «مدرسة الحرية». يستفز نشاط ماريو عددًا من العنصريين البيض، ينتظرونه وزميلاً له يشاركه المهمة في الطريق، ويوسعانهما الضرب، فيتقدم ببلاغ إلى الشرطة، ليكتشف بعدها أن المباحث الفيدرالية متورطة في الجريمة، وأنها دعمت المهاجمين وساعدتهم في جريمتهم. يصبح الأمر بالنسبة لماريو أكبر من مجرد تظاهرات للحقوق المدنية، بل مواجهة حقيقية يجب خوضها ضد العنصرية والتطرف، ليعود بعدها إلى جامعة كاليفورنيا، وينضم إلى اعتصام طلابي، يطالب بالمساواة العرقية بين كافة الأمريكيين دون تفرقة بين أبيض وأسود. تقتحم الشرطة الاعتصام الطلابي، وتحاول إلقاء القبض على أحد القياديين المنظمين له، وتحاصر الطلاب سيارة الشرطة، فيصعد ماريو رفقة آخرين فوقها لمنع رجال الأمن من اعتقال أي مشارك في الاعتصام، ينجح تجمعهم في طرد رجال الشرطة خارج الاعتصام. تعد رئاسة الجامعة الطلاب بالتفاوض، إذا قرروا فض الاعتصام، صدَّق المنظمون الوعد، وطالب ماريو ورفاقه بقية الطلاب بفض الاعتصام، إلى أن اكتشفوا أن الوعد ليس سوى كذبة، ولا نية لمفاوضات حقيقية. (3) نحن الآن في الثاني من الشهر الأخير لعام 1964، والمكان قاعة سبرول بمدينة باركيلي بولاية كاليفورنيا حيث يحتشد 4000 شخص، يقف أمامهم ماريو ليلقي خطبة وصفت بالأهم في تاريخ الحركة الطلابية الأمريكية، وتحمل اسم: «الأجساد على التروس». هاجم ماريو السياسات الأمريكية ووصفها بالبغيضة، تتعامل مع البشر باعتبارهم ماكينات لا مشاعر لهم. يستفز التجمع الطلابي وخطابه سلطات الولاية، لتداهم شرطتها مقر الاجتماع وتقبض على 800 من الحاضرين، بالتأكيد هو أحدهم، ليحكم عليهم بالسجن لمدة 120 يومًا. ولأن السجون لا تغير المخلصين المؤمنين بقناعاتهم، فإن ماريو يُسأل عما إن كان سيكرر ذلك لو عاد به الزمن للخلف، فيرد بحزم: لو عاد الزمن لعدت. ينهي عقوبته ويخرج من السجن، ويستمر في المشاركة في الفعاليات الطلابية حتى الشهر الرابع من عام 1965، ليكتشف أن فجوة كبيرة باتت بين أعضاء الحركة الطلابية وأفكارهم، فيقرر الاستقالة. لكن ذلك لم يكن كافيًا لإزاحة الأنظار عنه؛ فقد اكتشف لاحقًا أن المباحث الفيدرالية وضعته تحت المراقبة، منذ واقعة صعوده فوق سيارة الشرطة، باعتباره الوجه الأهم للحركة الطلابية في الولايات المتحدة، مما يعني أنه خطر على أمن البلاد، ومصدر مهدد لإشعال التظاهرات في أي وقت. (4) يتنقل ماريو بين عدة وظائف ما بين موظف مبيعات ومدرس بالجامعة، ويتزوج رفيقة له في تظاهرات الحركة المدنية، وبعد شهرين من زفافهما يحصل على منحة دراسية من جامعة أكسفورد، فيسافر إلى بريطانيا رفقة زوجته، وهناك ينجبان طفلهما الأول. لم يكمل ماريو دراسته في أكسفورد وعاد إلى كاليفورنيا مع زوجته في 1966، وبعدها بعامين يقرر الترشح لعضوية الكونجرس الأمريكي لكنه يخسر الانتخابات. ينجب بعد عامين طفله الثاني، لكنه ينفصل عن زوجته بناء على طلبها، مما أدخله في حالة شديدة من الاكتئاب. (5) العام 1980 كان نقطة انطلاق جديدة لتغيير مهم في حياة ماريو حيث تزوج للمرة الثانية من إحدى معارفه القدامى من الحركة الطلابية، ومعها يعود للدراسة في جامعة سان فرانسيسكو، ويحصل على بكالوريوس الفيزياء ثم الماجستير في نفس التخصص، حتى أن اسمه أُطلق لاحقًا على نظرية فيزيائية؛ تقديرًا لتفوقه. في العام 1990 يصبح أستاذًا في الجامعة، فيستمر في المشاركة في تظاهرات طلابه، ويدعم مطالبهم بتخفيض مصروفات الدراسة، ومراعاة الظروف الاقتصادية للطلاب، ويستمر في ذلك رغم إصابته بمرض قلبي مزمن. (6) يشهد العام 1996 السطر الأخير في الحكاية، حين يخوض ماريو مناقشة حادة مع رئيس الجامعة لم يعرف محتواها بسبب إصابته بنوبة قلبية عقب انتهائها بوقف قصير، ويدخل في غيبوبة تستمر وقتًا ليس بالقصير حتى أيقن الأطباء أن جسده دخل في حالة موت إكلينيكي لترفع عنه الأجهزة لاحقًا، وتنتهي معه قصته الطويلة المليئة بالأحداث والمفارقات، ليموت ماريو شريفًا.
582
| 13 مايو 2024
(1) لا تجلدوا أنفسكم، وإنما أشعِروها بالعجز. أنتم عاجزون تمامًا عن فعل أي شيء. ليس كحكومات وأنظمة، وإنما كشعوب وأفراد. لا حول لكم ولا قوة. «نحن عاجزون».. «نحن عاجزون».. «نحن عاجزون». ضعوا ذلك في أذهانكم، وردِّدوه ليل نهار. تذكروا أن الفعل همُّ المخلصين. وأن المخلصين لا ينتظرون أن يُؤذَن لهم ليفعلوا. ولأنكم تعشقون البكائيات، فاستمروا إذن في النحيب. إياكم ومن يقول لكم: إن النار تأتي من مستصغر الشرر، وإن الجبال من الحصى، وإن كل ثورة بدأت بصرخة، وإن التاريخ لا يخضع للخانعين. (2) أقول لكم: إن اليأس سيمنحكم راحة البال. إذا تملَّككم لن يصيبكم القلق، ولا التوتر، ولن تحتاروا حينها فيما عليكم فعله. فلا فعل بعد اليأس. اليأس يعني أن تشعروا شعور الميت. تقلِّبه يمنة ويسرة، ترفعه.. تخفضه، تضربه.. تربت عليه، فلن يشعر بشيء. وأنتم من قال: لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها. لا تنصتوا لمن يقول لكم: وفِّروا جهدكم المبذول في الحزن واليأس واستعدوا لليوم الثاني بعد النصر. أتريدون أن يفتح أهل غزة عيونهم بعد الحرب فيجدوكم أقوياء أسوياء جاهزين لمعركة ما بعد المعركة؟ (3) لا تسمعوا لمن يقول لكم: استمروا في المقاطعة. ما جدوى المقاطعة؟ لقد فعلتم ما في وسعكم وانتهى الأمر. لن تفعل المقاطعة شيئًا، ولن تحرِّر شبرًا. والشركات التي تقاطعونها هي من أفضل الشركات جودة في منتجاتها. والذين يديرونها قادرون على التغلب على آثار المقاطعة. هم أذكياء جدًّا، حتى إنهم يقتلونكم بأموالكم. هل تتخيلون أن منتجاتكم المحلية يمكن أن تكون بديلاً؟ أنسيتم أن شعوبكم تهوى المستورد، حتى لو كان قهوة؟ (4) لا تجعلوا أمر غزَّة ينسيكم خلافاتكم المذهبية والطائفية والقومية. لا تثقوا إلا فيمن هو مثلكم تمامًا. يقول ما تقولون، ويفعل ما تفعلون. نفس المعتقد، بل نفس المذهب، بل نفس القومية، بل نفس الحركة، بل نفس المدينة، بل نفس البناية! لا بأس أن تتشرذم قواكم، فهذا أفضل من أن تتحدوا على عدوكم. دعوكم ممن يقول: فلنلتقِ في غزَّة ولنفترق في غيرها، أصروا أن من يتفق معكم في غزَّة يجب أن يتفق معكم في كل شيء، صحيح أن هذا أمر مستحيل، وليس من طبيعة الأشياء، لكن لا بأس، هكذا هي الحياة. (5) لا تسمعوا لمن يقول لكم: قد انتصرت غزَّة، يحدثكم عن اعترافات قيادات عدوكم بأن هدفًا واحدًا من أهداف عدوانه لم يحققها، يخبركم أن العالم قد تغير، وأن الطوفان قد وصل إلى أبواب البيت الأبيض وكل بيوت الغرب، وأن العداوة التقليدية للإسلام ها هي تتلاشى، وأن الناس يدخلون في الإسلام، وأن النساء اللائي كنَّ في الثقافة الغربية هن نقطة ضعف الإسلام أصبحن أكثر من يدخل في الإسلام، وأن الحرب قد أيقظت قضية فلسطين برمتها لدى الشباب الذي كاد ينساها، وأن أبناءكم المبتعثين في الغرب لم ينحرفوا، بل وضعهم الطوفان على الطريق المستقيم، وأن الحركة الطلابية في العالم تنهض من جديد، ليس فقط من أجل فلسطين، بل من أجل التحرر من قبضة الصهاينة الذين يتحكمون في السياسة والمال، وأن الحرية والكرامة لا ثمن لهما، وأن العبيد لا يعرفون هذا المعنى. لا تسمعوا لمن يقول لكم: قد انتصرت غزَّة، وكلما حدثكم أحد في هذا الشأن، أغمضوا عيونكم عن كل ما حققه رجال الأنفاق، وتذكروا عدد الذين ماتوا، وعدد البنايات التي دُمرت. ولتقنعوا أنفسكم بذلك، حاولوا أن تتخيلوا أن الناس قبل السابع من أكتوبر كما لو أنهم لم يكونوا في حصار، وأنهم كان بوسعهم السفر والتنقل، ولم يعانوا، ولم يسقط لهم شهيد، ولا وقع منهم أسير، وأن غزَّة كما لو كانت مثل باريس حتى وقع الطوفان. (6) الآن ماذا عليكم فعله إذا سمعتم أن وقفًا لإطلاق النار قد بدأ؟ انسوا القضية تمامًا، اكذبوا على أنفسكم وانصرفوا إلى شؤونكم الخاصة، فما من سبيل لأن يقف عدوكم على أقدامه من جديد بعد ما لحق به من عار سوى أن تنسوا، انسوا وكأن شيئًا لم يكن، وحذار من الذين يستعدون لطوفان يغرق كل المستبدين والطغاة من كل لون ومن كل صنف.
1137
| 06 مايو 2024
(1) في العشرين من الشهر الثاني لعام 1910، وفي قلب العاصمة المكسيكية، تعلن الانتخابات الرئاسية في بلد مثقل بأزماته الاقتصادية والاجتماعية، بلد يتطلع إلى رئيس جديد يخرجه منها، وها هي البشائر، «فرانسيسكو ماديرو» يفوز على الرئيس الحالي «بورفيرو دياز»، الذي -بالطبع- لا يرغب في مغادرة القصر، ولذا قرر التلاعب بالقصة كلها. احتدمت الأجواء، وعود الثقاب على وشك الاشتعال في أي لحظة. «فرانسيسكو» الفائز يدعو إلى انتفاضة شعبية، وهو ليس بحاجة للكثير من الجهد لتعبئة الناس؛ فقد خرج السهم من القوس، ولا يستطيع أحد منعه من التحرك بعد الآن، وكأنها الثورة. (2) يلقي النظام القديم القبض عليه ويزج به في السجن، غير أن الرئيس الفائز ينجح بدوره في الهرب بمساعدة بعض الحراس، ويصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومن هناك يعلن نفسه رئيسا شرعيا للمكسيك، غير مدرك أن سنوات قليلة تفصله عن تحول الدولة التي هرب إليها إلى عدوه الأكبر. وهنا سنسمع عن مجموعة «زاباتا»، الرقم المهم في الثورة، تلك التي أسسها «إيمليانو زاباتا»، الضابط السابق بالجيش الذي أصبح مقاتلا ثوريا متمردا، وقد التف حوله كثير من المقاتلين، وأصبحت حركته بمثابة رمانة الميزان، التي حركت الأمور من جديد، وفرضت عودة «فرانسيسكو ماديرو» إلى المكسيك لتسلم الحكم، محاطا بالفلاحين الذين وجدوا فيه أملهم الجديد. ينتصر الرجل لهم، ويبدأ في توزيع الأراضي عليهم، لكن الجارة العظمى ليست سعيدة بالأمر، إذن فليتدخل العسكر، يتفق قائد القوات المسلحة في المكسيك مع الولايات المتحدة على إزاحة الرئيس الفائز من الحكم. الجنرال «هويرتا» قائد القوات المسلحة المنتسب إلى عصر الرئيس السابق، وبرفقة ابن أخي الرئيس الراحل، يدبران المؤامرة. وفي الثامن عشر من الشهر الثاني لعام 1913، يلقى القبض على الرئيس المنتخب «ماديرو»، وما أن تمر أربعة أيام، إلا وتقع المفاجأة، فقد قرر العسكر إعدامه، ونفذ الحكم بالفعل، ليستيقظ المكسيكيون على خبر قتل الرئيس المنتخب بالرصاص. (3) لكننا ما زلنا نذكر اسم «زاباتا»، المجموعة المنقذة التي سلمت العاصمة بكلتا يديها للرئيس المنتخب العائد، ها هي الأقدار تعيدها إلى المواجهة من جديد، ترفض المجموعة الاعتراف بالرئيس العسكري الجديد، تضع خطة لتنصيب رئيس مدني للبلاد. لم يكن الفلاحون على استعداد لفقدان ما تغير في حياتهم، لكنهم -هذه المرة- لم يخرجوا وحدهم؛ لقد قررت النساء المشاركة، وبعد أن كان دورهن منحصرا في تسهيل حياة المقاتلين والاعتناء بهم، والحصول على الطعام في المقابل، رغبت بعضهن في الانضمام للمعسكرات كمقاتلات في هوية رجال من بينهن «بيترا هريرا»، التي لم تكن تمتلك أي خلفية عن السلاح، لكن انضمامها غير كل شيء؛ فقد قررت أن تدخل الحرب بزي رجل حرب؛ لاستعادة السلطة من الانقلاب. (4) بدأت «بيترا هريرا» ذلك المعترك بهوية رجل هو «بيدرو هريرا»، لم يشعر أحد ممن قاتل بجوارها بشيء غريب؛ فهي المقاتل الشرس القادر على تنفيذ التعليمات باحترافية عالية. ظلت تتنقل من مكان لآخر ومن مواجهة لأخرى، حتى صارت قائدا لكتيبة مؤلفة من مائتي جندي، ربما لم تكن «بيترا» نفسها تتخيل أن يصل بها الأمر إلى تلك النقطة. كان الجميع متيقنا أن الجندي «بيدرو هريرا» الذي ينتقل من نقطة قتال لأخرى هو بمثابة حدث فارق وسط المعارك. وفي تلك اللحظة قررت «بيترا» أن تقلب الطاولة على الجميع؛ فبعد أن صارت قائدة كتيبة كاملة، أعلنت عن هويتها الحقيقية للجميع «المقاتلة بيترا هريرا»، صاحبة النفس الطويل، ولأن دورها كان هاما، لم يكن من السهل أن تستبعد أو يلقى بها إلى خارج صفوف القتال. (5) عند استراحة المحارب، تتذكر «بيترا» ما جرى لها سابقا، هذا الصدام الأول الذي خاضته لإنقاذ الرئيس المنتخب «ماديرو»، والذي كان الخطوة الأصعب في نظر الجميع، حينها سقطت أسيرة في يد قوات الرئيس السابق، فلم يكن منها سوى أنها صرخت في وجه من أسروها بصوت عال: «ليحيا ماديرو.. ليحيا ماديرو»، جاءتها العناية الإلهية وتعرض مكان أسرها للهجوم، فهربت ليكتب لها النجاة. على كل حال صارت شجاعة «بيترا» قصائد وأغاني يرددها المكسيكيون في جلساتهم، إلى أن وصلنا إلى عام 1914، وها نحن في مقاطعة توريون، حيث معركة فاصلة تركت آثارها العميقة على حياة «بيترا»؛ فقد قادت في هذه المعركة أربعمائة امرأة ومائتي رجل، لتقع المدينة في أيدي الثوار. لم تسع «بيترا» إلى أن يحيط بها الجميع بعد نهاية الموقعة، لكنها فوجئت برفض قائد القوات الذي حاربت تحت لوائه، أن يرقيها إلى رتبة جنرال كما كان متوقعا، وهنا تغير الكثير في مسار «بيترا»؛ فقد بدأت قصة أخرى بالفعل. كونت مجموعتها الخاصة، فقط من النساء، وضمت تحت قيادتها ألف امرأة، تتحرك نحو الشمال، لكنها ها هي تلقى حتفها، برصاص ثلاثة جنود مخمورين، لترحل عام 1917. تمر سنوات طوال حتى تحصل اسمها على التقدير، وتقلد رتبة كولونيل، لتكون تلك الصفحة الأخيرة في حياة مقاتلة شجاعة قد نسيها كثيرون.
501
| 29 أبريل 2024
(1) لا يكاد يمر يوم، إلا وأقرأ مكتوبًا يحذِّر من أن الأحوال في الأيام المقبلة بهذا البلد أو ذاك ستنهار إلى حدٍّ لا يتصوره أحد، أو يخرج علينا مسؤول دولي يحذِّر من وباء جديد أكثر فتكًا مما مررنا به، أو ينشرون خبرًا مفاده: أن ذاك النيزك سوف يصطدم بالأرض ويُحدِث دمارًا شاملاً، وأن الإنترنت ومصادر الطاقة ستنقطع. هل ثمة رابط بين تلك التحذيرات كلها؟ هل ثمة أمر مقصود؟ (2) الخوف هو أفضل وأقوى سلاح لهم. ولأننا صدَّقناهم من أن القادم أسوأ، فعلينا إذن القبول بالأمر الواقع مهما كان سيئًا. ولنستسلم لما هو عليه الوضع، لا نحتج ولا نتمرد ولا نثور، إنما نرضى بما هو قائم مهما كان سيئًا. ولنترحم على ديكتاتوريات انهارت، ولنرضى بديكتاتوريات قامت. ولنقبل بأي قرارات وقوانين يفرضونها علينا؛ فنحن في حالة استثنائية، والقادم -على حد قولهم- أسوأ. ولنتوقف عن المقاومة؛ فإذا كنَّا لا نستطيع هزيمة العدو ونحن على هذه الحالة، فكيف نهزمه عندما نكون في وضع أسوأ؟ ولأننا خائفون جدًّا، فإننا لن نستطيع التفكير، ولن نتمكن من توحيد صفوفنا، وليسعَ كلٌّ منَّا إلى النجاة منفردًا بنفسه؛ فالقادم أسوأ. ولأننا خائفون جدا، فلا مجال الآن للحديث عن العدل والمساواة وحرية التعبير. ولندع مسألة أحلامنا الشخصية جانبًا؛ فالوقت غير مناسب. وهكذا يتسنى للأعداء أن ينتصروا. (3) الأعداء هنا ليسوا فقط هؤلاء العسكر، أو الساسة، أو تلك الأنظمة المستبدة. الأعداء أحيانًا هم أنفسنا! ثمة جانب مظلم في نفوسنا يحبطنا، ويخوِّفنا، ويعرقل مسيرتنا. وهو أشد تأثيرًا؛ لأنه بداخلنا. وهو أشد تأثيرًا؛ لأننا لا نراه. عندما يتملكك الخوف فلن تفعل شيئًا، ولن تقدم على شيء، وستدفن أحلامك، وسيكون كل همِّك أن يمرَّ اليوم على سلام، وفي اليوم التالي ستكتشف أنك في حالة أسوأ بالفعل؛ لأنك لم تُنجز شيئًا بالأمس، فيزداد خوفك، وسيفرح هذا الذي بداخلك، وسيخبرك: ألم أقل لك؟ ويزداد خوفك، وتتفاقم حالتك. شخصيًّا، فإن أحلك مراحل حياتي هي تلك التي تملكني الخوف فيها، وسيطر على تصرفاتي. وأشدها بهجة تلك التي تخلصت فيها منه. الخوف عدو جبار، يثير الشك والهواجس في نفسك، ويزيد وساوسك. تظن أن كلَّ ما تشعر به إنما هو نذير لمرضٍ أصابك سيعلن عن نفسه قريبًا. تشك أن كلَّ تصرف ممن حولك إنما يدبر لك شيئًا. الخوف وحش مخيف يلتهمنا التهامًا. لقد صدق فرانسيس بيكون -الفيلسوف الإنجليزي الشهير، المتوفى عام 1626- حين قال: «إن المعركة الأشد ليست ضد الأعداء الذين يقفون في مواجهتنا، بل ضد الخوف فينا». (4) ليس عيبًا أن نخاف؛ فالخوف يظل مشاعر طبيعية، لكن العيب كل العيب أن نسمح لهذا الخوف بالسيطرة علينا، والنتيجة أن نصبح أسرى له، لا حول لنا ولا قوة، فنعيش في عالم غير حقيقي، نحيا في كذبة كبرى، حتى إذا مرَّ عمرنا اكتشفنا أن معظم مخاوفنا لم تكن حقيقية. الفوز هو أن نحرِّر عقولنا من الوهم والخوف. أن نتحلى بالشجاعة اللازمة. ألا نكترث بأسوأ السيناريوهات المحتملة. أن ندرك أنه حتى الفشل ليس إلا جزءًا من رحلتنا نحو النجاح. وعندما تعود بالذاكرة إلى الوراء في نهاية رحلتك ستضحك من نفسك: لماذا انتابك الخوف من النهايات وأنت كنت ما زلت في البدايات؟ رحم الله نجيب محفوظ وهو القائل: الخوف لا يمنع من الموت، ولكنه يمنع من الحياة. (5) لا يبقى المرء على حال، حتى قناعاته قد لا تحميه أحيانًا من أن يقع في نفسه بعض الخوف، وكلما مررت بهذه الحالة تذكرت ما كتبته رضوى عاشور في ثلاثية غرناطة: من بين كل صحابته اصطفى الرسول خالد بن الوليد؛ ليحمل رسالته إلى المهلهل، قال النبي صلوات الله عليه: يا أخي خالد، إذا طلعت جبلاً فاذكر الله، وإذا مررت بواد فكبِّر الله، وإذا فطر الحزن قلبك فاتلُ من القرآن؛ فإن القرآن شفاء للصدور المحزونة، وإذا بلغت هؤلاء القوم فلا يدخل قلبَك الفزع ولا الخوف منهم. صحيح فعلاً: استعن بالله وتذكر أن الخائف محروم من النصر. الخائف لا ينتصر أبدًا.
1224
| 22 أبريل 2024
(1) يجلس الكاتب أمام ورقته أو شاشته، وهو لا يستطيع أن يكتب حرفًا واحدًا؛ لقد هربت الأفكار كلها منه، وهو الذي -على مدى عمره- كتب الكتب وحرَّر المقالات، يشعر في هذه اللحظة أنه خاوٍ تمامًا، لا قدرة له على الكتابة أو الإبداع، كل الأبواب في وجهه مغلقة، وكل الطرق أمامه مسدودة، وهو كما لو أنه أصيب بشلل تام. هذه هي قفلة الكاتب التي نعرفها. فما هي قفلة المواطن العادي؟ (2) سمعت أن الشوكولاتة الداكنة تُحسِّن المزاج، فالتهمت منها ما التهمت، غير أني لم أشعر بفارق ملحوظ، ما زال المزاج غير رائق، وما زال الإلهام ممتنعًا، وما زالت صفحتي البيضاء بيضاء كما هي، فهل المشكلة في ذاتي، أم في الشوكولاتة، أم في المعلومة بحد ذاتها؟ لم أنتظر أن يجيب الأطباء، تذكَّرت أن الحلول تكون أحيانًا حولنا ولا نراها، ربما لأننا نبحث عن أمور عظيمة، بينما الحل يمكن أن يكون في أمر صغير. وقد فعلت؛ قرَّرت أن أنجز أمرًا صغيرًا، أي مسألة كانت يجب أن أقوم بها وأرجأتها كثيرًا، فالانتصارات الصغرى تنعش القلب -أيضًا، وقد فعلت، ورويدًا رويدًا يتحسَّن المزاج. كل مرة تطيح بي قفلة الكاتب ألجأ إلى حيلة ما، حيلة تخرجني من الضيق إلى السَّعة، أرمي بحجر في البحيرة الراكدة لتتحرك، وكل مرة أفهم الدرس جيدًا: على المرء أن يسعى إلى الإلهام، ولا ينتظر أن يأتيه الإلهام! (3) يعتقد الناس أن الكاتب هو ذاك الشخص الذي يجلس شاردًا، أمامه فنجان قهوته، كلما فرغ مُلئ، وفي يده سيجارته، كلما انتهت استبدلها بأخرى، ساعات طويلة تمضي، وهو هكذا، حتى يعتدل فجأة، وينطلق يكتب ويكتب دون توقُّف، فقد نزل عليه الإلهام. صورة خيالية غير واقعية. الإلهام يأتي الناس الذين يستيقظون مبكرًا، ويرغمون أنفسهم على الجلوس أمام طاولتهم وليس في رأسهم -ربما- أي فكرة عمَّا يمكن أن يكتبوه، ولكن كأن الأمر رسالة إلى الإلهام، نحن جندك، أَتينا طائعين، لقد تركنا أسِرَّتنا الدافئة، وها نحن نجلس في انتظارك. الإلهام -يا سادة- لا يسقط علينا من السماء، دون جهد منَّا، وإنما علينا أن نسعى إليه سعيًا، أن نبذل الجهد، أن نطرق الأبواب كلها، أن نختبر كل السبل، الإلهام يأتي لمن أتى إليه مهرولاً. (4) المواطن العادي، الإنسان البسيط مثلي ومثلك، يحْدث أن يجد نفسه فجأة عالقًا في حياته، لا يعرف ماذا يفعل، أي القرارات صحيحة، وأي مسار يجب أن يتخذه، وأي اختيار يجب أن يميل إليه؟! لقد شلَّ تفكيره تمامًا، رغم مروره بتجارب عديدة، إنها القفلة -ليست في الكتابة، ولكن- في الحياة. نحن متخشبون، أحمالنا ومسؤولياتنا تثقل كاهلنا، نكاد لا نستطيع الحركة، ولا نُحسن التفكير، وننتظر الإلهام -أو قل: الحلول- أن يسقط علينا من السماء. لا تبحث عن حل كامل شامل في هذه اللحظة، اعمل على إحداث ثغرة في الحصار المفروض عليك؛ لتخرج من هذه القفلة. أنجز عملاً ولو بسيطًا، أو حل مشكلة كانت عالقة ولو هي صغيرة، افعل كما يفعل من على وشك الغرق، اضرب البحر بكل قوتك، لا تفكِّر في مسألتك العويصة الآن، أرجئ التفكير قليلاً، غيِّر الأجواء، قدِّم قربانًا إلى الحل ليأتيك، والقربان هو الفعل وليس الانتظار هائمًا. لقد قلت لك: إن الإلهام يأتي لمن أتى إليه مهرولاً، الحل ليس في السكون والانتظار، الحل في الحركة. (5) شخصيًّا فعلتها عدة مرات، نظارة القراءة في يدي، وأنا أبحث عنها في كل مكان، توتري واستعجالي جعلاني لا أُحسن التفكير، ولا أعي أن نظارتي بيدي. ثم لا ترفض ما يأتي على خاطرك؛ لأنه حل غير كامل، الحل الكامل يولد غير كاملٍ، صغيرًا ضعيفًا، ثم ننميه نحن ونكبِّره، فلا تبحث عن الكمال من أول لحظة. الكُتَّاب يفعلون ذلك -أيضًا، تلك الروايات التي أذهلتك، لم تولد هكذا، لو تسنى لك أن تقرأ مسودتهم الأولى لدهشت، غير أنهم يعملون كثيرًا على تطويرها وتعديلها حتى تصل إلى النسخة الأخيرة التي تقرؤها. تقول الكاتبة إيما هيلي: المسودة الأولى بالأبيض والأسود، التحرير يلون القصة، أي أن محاولاتك المتكررة للتعديل بالحذف والإضافة هي التي تجعل قصتك ملونة. لوِّنوا حياتكم أيها الأصدقاء.
1044
| 15 أبريل 2024
(1) ماذا إذا شخص سبقك إلى المكان الذي تنوي الذهاب إليه، ثم عاد من هناك محملاً بالمعرفة والخبرات؟ أليس من الأفضل لك أن تسأله أن يمنحك شيئًا من كنزه، يوفر عليك به الكثير من الجهد ويختصر عليك الطريق؟ تمامًا هذه هي وظيفة النصيحة. فأي ذكاء يدَّعيه المرء إن وجد بين يديه دليلاً يرسم له خطواته المطلوبة بدقة، ثم يتجاهله؟! مثل هذا الذي قرر أن يقطع غابة، وقد تحاشى أن يقرأ خريطة تجنبه أخطار الطريق وعثراته، ويصر أن يكتشف دربه بنفسه، فإما أن ينجو، وإما أن يصيبه الأذى. الحقيقة ليست مشكلة أن يقع الضرر؛ فالحياة - في حد ذاتها - مغامرة كبرى، لكن المشكلة أن يهلك دون مقابل يستحق، خصوصًا وقد كان لديه فرصة لتجنب الخسارات. (2) في المقابل فإن هناك لذة، لا تعادلها لذة، في أن تخوض تجربتك الخاصة، بطريقتك أنت، بذوقك أنت، ببصمتك الخاصة؛ لتحصل -في النهاية- على مرادك، كأنه صناعة يدوية، وليس جاهزًا على طبق من فضة، وقد صنعه غيرك لك. يقولون: إن لذة الرحلة في الطريق وليس في الوصول. اللذة تقبع فيما تواجهه في طريقك من عثرات تتغلب عليها، فتتعرف على نقاط ضعفك ونقاط قوتك، وفيما تشاهده فيزيدك معرفة، وفيمن تلتقيهم فيحكون لك حكاياتهم بما تحمله من عبرات، وما تشعر به بأن هذا الكون أكبر من بيتك وشارعك وحيِّك الذي تسكنه، وأن الإنسانية تجمعنا. كأن الطريق البريَّ الذي تقطعه أفضل من طائرة تستقلها، تجلس في مقعدك الوثير، وقد تنام إلى أن تهبط في المكان الذي ترغب في الوصول إليه. ومن ثَم فإن معاناتك وعثراتك وخساراتك وانتصاراتك في الطريق لن تذهب هباء، بل إنها تصنع خبرتك، التي ستخوض بها رحلة أخرى لك في الحياة. وهكذا دواليك، وما المرء إلا خبرات متراكمة، ونتفاوت -نحن البشر- فيما بيننا، بما لكلٍّ منا من خبرة. (3) هل من حل وسط يجمع هذين النقيضين؟ أننصت للنصيحة أم نخوض تجربتنا الخاصة؟ أجيبك وأعطيك مثلاً. عندما ترغب في أن تخوض في عالم الكتابة، فإنك ستبحث عن الكتب والمقالات العديدة التي تورد نصائح كبار الكتَّاب في العالم الذين سبقوك في الكتابة، وحفروا مكاناتهم بجدارة في التاريخ. سيخبرونك كيف يجب أن تبدأ قصتك، وكيف تخوض فيها، وكيف تنهيها، لكنك في النهاية ستكتب قصتك بأسلوبك أنت، بطريقتك أنت، بمذاقك أنت، بحسك وشعورك وانفعالاتك أنت. وهذه هي فكرة التدريب، فأنت تستمع إلى نصائح شخص سبقك في هذا المجال، في التصوير، في الرسم، في عالم رجال الأعمال، تأخذ منه أقصى ما بوسعك أن تأخذه، لكنك في النهاية ستصنع تجربتك الخاصة. هذه هي المعادلة. لا ترفض النصيحة، بل احرص عليها جيدًا، أنصِت لها باهتمام، واعلم أنها ليست بقوانين نافذة، أو حقائق علمية دامغة، هي ليست أكثر من خبرة من سبقوك، وهي قابلة للصواب وللخطأ، ثم خذ منها ما يروق لك، وخض تجربتك أنت. (4) سيتكرر الأمر في حياتك كثيرًا، تخرج من تجربة لتخوض أخرى، بعض التجارب ستكون من اختيارك، وبعضها الآخر ستفرض عليك، ستنتصر أحيانًا، وستهزم أخرى، كإنسان طبيعي يعيش في هذه الدنيا، وستمر سنون طويلة لتكتشف أنه بات لديك وفرة من التجارب، وخبرات متراكمة، تتمنى معها لو عدت شابًّا واستفدت منها. وستجد أنك انتقلت من مربع إلى نقيضه، فبعد أن كنت ممتعضًا من أن تسمع نصائح الآخرين، بت مندهشًا من هذا الجيل الجديد الذي لا ينصت لنصائحك القيمة، ولا يسمع خلاصة تجاربك في الحياة. غير أنك ستصر على أن تموت فارغًا، أي لا تصحب معك في قبرك كنوزك المعرفية، ستكون حريصًا على توزيعها على الآخرين الذين ما زالت الحياة ممتدة أمامهم، وستجتهد لتنقل للشباب خلاصة ما وصلت إليه، وتترك لهم أن يأخذوا بها كلها، أو بعضها، أو يدعوها كلية. سيكون إصرارك منبعه امتنانك لله -عز وجل- الذي أهداك كل هذه الخبرات في الدنيا، وهو امتنان يستوجب أن تدفع ثمنه، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «زكاة المعرفة»، أن تزكي عما منحه الله لك من علوم ومعارف وخبرات، ربما لم يمنحها لآخرين. وسيتبقى على الشباب ألا يهدروا فرصة أهداهم الله إياها يمكن أن يستفيدوا منها في حياتهم.
936
| 08 أبريل 2024
هل مِن الحكمة أن تتفاءل بينما الواقع يشير إلى الأسوأ؟ نعم الواقع سيئ، لا يمكن أن ننكره، لكن ما تدَّعي أنه يشير إلى «الأسوأ» إنما هو محض اجتهاد منك، وليس حقيقة مؤكدة، حتى تبني عليها رأيًا، أنت الذي تتوقَّع، فيما الواقع ما زال أسير «اليوم»، ولم يصبح «الغد» بعد. ما فائدة العقل إذن، إذا لم نُعمله في الواقع؛ لنستنتج ما سيؤول إليه المستقبل؟ وأين الفارق إذن بين الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون؟ وما دخل الإيمان هنا؟ للإيمان دخل في كل شيء، سواء امتلكت هذا الإيمان أو لا؛ فأنت تنظر للأشياء إما من خلاله، أو بتجاوزه، بمعنى آخر: إن رؤيتك للأمور إما أنها بناء على إيمانك، أو بناء على عدم إيمانك. لكن اليأس هو اليأس سواء كنت مؤمنًا أو لا؟ صحيح، لكنْ ما الذي أوصلك إلى اليأس بالأساس؟ كما قلتُ لك: أقيس بناء على الواقع. والمؤمن يقيس بناء على قناعاته العقائدية والفكرية، أنت ترى الأمور في أسبابها، والمؤمن يرى أن الأسباب كلها في يد الخالق، وأن كل شيء يمكن أن يتغير في لحظة، مما هو عليه إلى ضده، ولذلك لا يصيبه اليأس أبدًا. والاحتمال الثاني: ألا يتغير، وربما يزداد سوءًا. لا خلاف، غير أن المؤمن يرى في كل احتمال خيرًا، سواء تغيرت الأمور أم لم تتغير، هو يرضى بخيارات الله تعالى. إذن ما مصدر التفاؤل؟ الثقة في خيارات الله؛ فالتفاؤل ليس فيما سيحدث، وأن ما نرغب به، حسب تصوراتنا، سيحدث، ولكن التفاؤل في قَدَر الله، تمامًا كما لو أنك سلَّمت قيادة مركبتك لمن تثق به، ولله العظيم المَثَل الأعلى، صحيح قد يصيبك بعض القلق أو الخوف في الطريق، لكنك تظلّ واثقًا في اختيارات مَن تركت له مهمة القيادة، إنْ سار إلى الأمام، أو انحرف قليلاً أو كثيرًا إلى اليمين، أو اختار الانحياز إلى اليسار، أنت مطمئن في كل الأحوال، صحيح أن نفسك تُحدِّثك - أحيانًا- بأن القادم أسوأ، ثم تتذكَّر أنك لطالما مررت بصعاب كثيرة أخرجك الله منها على خير، وربما بحسابات مختلفة عن حساباتك. وعلى هذا الأساس نحصر دورنا في المشاهِد الذي يُتابع ما يجري، وهو صامت، وعليه أن يصبر، حتى لو رأى الجحيم على مرمى البصر. على العكس تمامًا، فيتحتم عليك أن تفعل أقصى ما في وسعك، الآن وفي هذه اللحظة، ثم تترك أمر المستقبل للخالق، اليأس نوع من الخيانة، خيانة الرابط الذي يجمعك مع مَن خَلَقَك، خيانة الثقة به - عز وجل - وباختياراته وبأقداره. لكنَّك تعتمد هنا على الغيبيَّات. نعم، وهو أساس الدين؛ فنحن لم نر ربنا، لكننا نؤمن به عن غيب، بل أنت أيضًا تؤمن بالغيب؛ فتفترض ما سيحدث في المستقبل، رغم أنه في علم الغيب. لديَّ مؤشِّرات. هذه رؤية وليست رياضيات، واحد زائد واحد يساوي اثنين، الفكرة كلها في أنك كيف تنظر للأمور، يمكنك أن ترى دمار غزة هلاكها، ويمكنك أن ترى أن المكاسب العسكرية التي حققتها المقاومة غير مسبوقة في تاريخ العرب، وأن جيلاً كاملاً في الغرب بدأ يرى قضية فلسطين برؤية مختلفة، وأن صيحة الحرية لفلسطين التي تتردد الآن في أنحاء العالم لن تذهب سُدى، صحيح قد لا يُسعفنا هذا في اللحظة الراهنة، لكن ربما بعد عقد أو أكثر سوف تختلف الصورة تمامًا، في كل الأحوال يجب أن ترى الأمور بشقيها: السلبي والإيجابي؛ لتكوِّن رؤيتك الشاملة، مسلِّمًا بأن للحرية ثمنًا. إذن تعتمد على عقلك. نعم، تعتمد عليه وقد يُضلُّك، وقد يَدلُّك على قوانين مَن خَلَقَه. وكيف أعرف؟ تجرَّد بحثًا عن الحقيقة؛ أخرج من قلبك كل هوى، من تحب ومن تكره، تجرد فإن المتجرِّد يصل. أخشى أن التفاؤل يفعل فعل المخدِّر، فلا تحرِّك ساكنًا. بل العكس تمامًا، ولذلك قيل: «لا تيأس فتقنط فلا تعمل»، التفاؤل يحثُّك على أن ترسم خططك لليوم التالي بعد الحرب، وقد خرجت منها منتصرًا بإذن الله. وإذا لم يحدث؟ لا ضمانات في هذه الحياة؛ الحياة ليست سوى مجموعة من المغامرات، وعليك أن تُحسن اختيار مغامرتك، واليأس كفيل بهزيمتك من الخطوة الأولى، بينما الأمل يدفعك دفعًا للأمام.
552
| 01 أبريل 2024
(1) ما يحاول قادة الكيان فعله الآن في غزة، من تهجير قسري لشعبها، يذكِّرني بما فعله ستالين يومًا مع شعب كامل؛ نفس السلوك الهمجي، نفس البشاعة والإجرام، وإليكم الحكاية من أولها. (2) منذ قديم الزمان، كان القياصرة الروس على قناعة بأن من يحكم القرم يحكم البحر الأسود، فعملوا على ذلك، حتى نجحت الإمبراطورة كاترين الثانية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في هزيمة العثمانيين، والسيطرة على القرم. ومنذ ذلك الحين سعى القياصرة إلى محو هوية القرم، عبر عمليات الترحيل القسري للتتار حتى تناقص عددهم من حوالي ستة ملايين نسمة، زمن كاترين الثانية، إلى أقل من ثلاثة مائة ألف نسمة حين اندلعت الثورة البلشفية. تلك الثورة التي منحتهم ستة أعوام من الاستقلال الذاتي، قبل أن ينالهم ما نال كافة شعوب الاتحاد السوفيتي من قمع ستالين. تندلع الحرب العالمية الثانية، يكتسح الألمان شبه جزيرة القرم في أواخر السنة الثانية للحرب، صحيح أن بعض التتار انضم إلى صفوف الألمان كرهًا في الشيوعية، وسعيًا إلى الخلاص منها، إلا أن أعدادًا كبيرة من التتار انخرطت في صفوف الجيش السوفيتي، ربما طمعًا في تقدير الرفاق، الذين لا بدَّ وأن يمنحوهم شيئًا من الحرية. تتوالى الأحداث ليبدأ الجيش السوفيتي هجومه المعاكس ويُلحق الهزيمة بالألمان، ويسيطر على القرم، وفورًا يباشر الشيوعيون في تنفيذ أحكام الإعدام بحق كل من اشتبه به التعاون مع الألمان. غير أن الأمر استفحل فأصبح عقابًا جماعيًّا، وقرارًا بالتهجير القسري، يصدره ستالين في الثامن عشر من الشهر الخامس لعام 1945. فتهاجم قوات الجيش السكان في بيوتهم، وتأمرهم بالتوجه في الحال إلى محطات القطار، وليجري شحن ما يزيد عن ربع مليون نسمة منهم في قطارات شحن البضائع والماشية في رحلة دامت حوالي أربعة أسابيع، ليصل من بقي منهم حيًّا إلى المنفى، سيبيريا والأورال وآسيا الوسطي، والأربعون ألف مقاتل تتري الذين حاربوا في صفوف الجيش السوفياتي ضد الألمان حينما يعود من ظل منهم حيًّا يجد أهله قد تم نفيهم. تمر السنوات بطيئة متشابهة. وفي عام 1956 يعترف خروتشوف بجرائم النفي والتهجير التي ارتكبها سلفه ستالين، يطلق سراحهم من المناطق المغلقة التي كانوا معزولين فيها، غير أنه لا يسمح لهم بالعودة إلى ديارهم. وفي عام 1968 يصدر إعلان رسمي بتبرئة تتار القرم من تهمة خيانة الوطن. يخوض التتار نضالاً سلميًّا، مظاهرات واحتجاجات لم تكن معهودة في ذاك الحين، إلى أن تحل اللحظة المناسبة مع بوادر انهيار الاتحاد السوفيتي، ليعلن غورباتشوف حق التتار في العودة إلى ديارهم. (3) عام 2006 ذهبت إلى القرم، على أمل اللقاء بمن عاد من منفاه ليحكي لي الحكاية، لألتقي بعجوز محمل بالمستندات والخرائط، ليخبرني أنني سأجدهم في أطراف القرى وعلى سفوح الجبال، يسكنون فيما استطاعوا امتلاكه بعد أن عادوا ليجدوا بيوتهم مسكونة بمستوطنين روس. ألتقي بعجائز تزيد أعمارهم عن الثمانين عامًا، يسترجعون من الذاكرة أحداثًا وقعت قبل أكثر من ستين عامًا، من حملات جماعية للتهجير، وأحكام إعدام بالجملة، ومساجد ومدارس دينية تهدم، وأوقاف تصادر، وأراض زراعية تستباح. يصفون رحلة العذاب التي امتدت لأربعة أسابيع، كان الناس فيها أسرى العربات الحديدية للقطارات التي أقلتهم. لا طعام ولا ماء ولا رحمة لطفل أو عجوز أو امرأة، كتل بشرية من اللحم والدم متكدسة في هذه العربات الصدئة، فإذا مات منهم من لم يحتمل، فإن الجنود يفتحون الأبواب ويقذفون بالموتى في الممرات المائية التي يمر بها القطار. وفي المنفى يتركونهم في العراء، أو يسكنونهم في الحظائر، يجبرونهم على العمل في المزارع، يتركونهم دون طعام، يموت منهم من يموت إرهاقًا أو مرضًا، ممنوعون من مغادرة المناطق التي نقلوهم إليها، ممنوعون من التعليم، أو ممارسة شعائرهم الدينية. كانوا يجلسون معي، يرغبون بشدة في سرد كل ما مرَّ بهم، غير أن السنين الطويلة وما لاقوه هناك أثر على ذاكرتهم. ولأنه لا وثائق مصورة تثبت ما جرى، فإن رسامًا ماهرًا منهم، وُلد في المنفى، جمع حكايات ورسمها في لوحات تسجل الحدث المرعب. (4) انصت لحكاياتهم، وأتخيل في ذهني المشهد عند الترحيل القسري، صرخات العسكر وسياطهم تفزع الصغار والكبار، ينسون كل شيء سوى أن يصحبوا معهم مفاتيح بيوتهم، ووثائق تثبت ملكيتهم لأراضيهم، ومصاحفهم العتيقة.
732
| 25 مارس 2024
(1) الرجل نصفه بورمي ونصفه هندي، وما إن تشن اليابان هجومها على بورما عام 1942 حتى يهرب إلى الهند؛ ليواصل تعليمه هناك، ومن ثم يهاجر إلى بريطانيا ويستقر بها -تحديدًا في ويلز- طبيبًا للعظام، يتزوج من ممرضة تنجب له صبيًّا جميلاً اسمه: ديفيد مالكوم نوت، سيكون هو صاحب حكايتنا. (2) يكبر الطفل وهو يسمع ذكريات والده عن الحرب، يدرك أنها أقبح ما على الأرض، تمر السنون ويتخرج طبيبًا عام 1981، ويصادف بعد مرور ثلاث سنوات أن يذهب مع والده لمشاهدة فيلم: «ساحات القتل»، الذي يحكي ما جرى في كمبوديا على يد الخمير الحمر، حيث قتل وسجن وعذب حوالي ثلاثة ملايين. غير أن بعض الأفلام لا تنتهي بانتهاء العرض، وهذا ما حدث مع ديفيد، الذي شده بشدة مشهد الطبيب الذي يعمل على إنقاذ المصابين، فيعاود الذهاب إلى السينما في اليوم التالي لمشاهدة الفيلم من جديد، ولتلمع في رأسه الفكرة: سأكون جراح حرب، وأنذر حياتي لذلك، وسأتخصص في جراحة الأوعية الدموية، أكثر ما تحتاجه الحرب. (3) في عام 1993، تثيره مشاهد العدوان الصربي على أهل البوسنة والهرسك، فيقرر طلب عطلة غير مدفوعة الأجر، ويحمل حقيبته ويذهب إلى سراييفو؛ ليخوض تجربته المؤلمة في العاصمة البوسنية، مستشفيات تعاني قلة العاملين، وندرة المواد الطبية، ومصابون يأتون على شكل موجات، ليعود بعدها -إلى بريطانيا- شخصًا مختلفًا غير الذي ذهب. واصل ديفيد متابعة أخبار الحروب، والأوضاع الصحية في مناطقها، وراح كل حين يفرد خريطة العالم أمامه؛ ليحدد وجهته السنوية، جراحًا متطوعًا، يرتب مواعيد عياداته، وعملياته الخاصة والتزاماته المختلفة ليتحصل على عطلة بدون أجر؛ لينقذ الضحايا بدون أجر، لا يعنيه معتقد الضحايا ولا ألوانهم السياسية والطائفية، فهو معني فقط بإنقاذ أرواحهم. وعلى مدى عشرين عامًا، يسافر في سبع وعشرين مهمة بمناطق مستعرة: سيراليون، وساحل العاج، والكونغو، وتشاد، وليبيريا، وأفغانستان، والعراق وغيرها، وفي كل بلد له حكايات وحكايات. (4) في صيف عام 2012 يصل إلى إسطنبول، ومنها إلى الريحانية. تعبر سيارته الحدود السورية، تتوقف في نقطة متفق عليها، لتأتي سيارة أخرى تقله إلى «أطمة»، ليبدأ في خوض عملياته الجراحية. تصل إلى المستشفى سيدة محمولة على النقَّالة، انفجرت في مطبخها قنبلة بدائية، صنعها زوجها، قتل هو، ودمر البيت، وأصيبت هي أسفل الساق اليسرى. تعاني السيدة من نزيف حاد، مع مساعده السوري يباشر هو عمليته الجراحية لإنقاذها بعمل شق تحت العصابة في أعلى الساق؛ حتى يتمكن من سد الوريد بإحكام، قبل استكشاف الجرح، بعدها يضع إصبعه ببطء وبحذر في داخل الجرح، يلاحظ وينتبه إلى أنه لم يتحسس معدنًا مسننًا، أو شظية كما هو المعتاد، وإنما يجد جسمًا أسطوانيًّا ناعمًا فيجذبه نوت للخارج، ممعنًا النظر فيه عن كثب. يصرخ مساعده إنه مفجر ويركض خارج الغرفة، ويتراجع طبيب التخدير وقد تملكه الرعب، وينزوي خلف الخزانة في زاوية الغرفة. سرعان ما يعود مساعده السوري، حاملاً دلو ماء في حذر، يضعه على الأرض، وينسحب بهدوء، بينما يغمر صاحبنا يده بحذر في الماء، إلى أن يلمس قاع الدلو، ليترك المفجر داخله، ثم يحمل الدلو إلى الخارج، لينتهي مشهد افتتاح تجربته في سوريا. (5) يعود ديفيد إلى بريطانيا، بعد أن عالج مصابين، ودرَّب جراحين. وفي عام 2013 يعاود التجربة، هذه المرة إلى حلب، يندهش من صمت العالم إزاء الوحشية المفرطة التي يتعرض لها الأبرياء، معظم الإصابات من الأطفال الذين يحتمون مع أهاليهم في بيوتهم، ولا ترحمهم البراميل المتفجرة، حتى بلغت نسبة الوفاة بين المصابين ثمانين بالمائة. يسجل في أوراقه: «إنه من الواضحِ أن القناصة، يمارسون لُعبة ما، فمثلاً في أحد الأيام، نجد عندنا مرضى يعانون جميعهم من جروح في الفخذ، وفي يوم آخر تكون الإصابات في الصدر -أو في المعدة- فقط، ثم في اليوم التالي نجد أن ضحايا القناصة نساء حوامل اقترب موعد ولادتهن، كان بإمكاننا انطلاقًا من حالة المريض الأول الذي نستقبله صباحًا، أن نقول ما سنرى خلال بقية النهار تقريبًا، وقد علمت أن الأمر بمنزلة لعبة، يتراهن فيها القناصة على إصابة مناطق معينة من أجساد ضحاياهم، سمعنا أنهم يتراهنون على علب سجائر! (6) يعود بعد ستة أسابيع من حلب، يتحدث لصحيفة عن خطر تجربته في سوريا: «ليس خطرًا واحدًا، بل أخطار، خطر القتل. والأسوأُ منه هو الاختطاف، والتعذيب، وقطع الرأس، سوريا مختلفة عن الحروب الأخرى التي شهدتها، البلاد مَقبرة كبيرة للأطفال، لكن لو يرى الناس ما رأيته سيدركون أهمية المخاطرة وجدواها». لكن ثمة حدثًا شخصيًّا سعيدًا، ما إن يبلغ عام 2015 ثمانية وخمسين عامًا، حتى يتخذ قراره المؤجَّل بالزواج، بعد أن ظل مصرًّا أن يكون وحيدًا بعد وفاة والديه؛ لعله يمنح عمره للمرضى ومصابي الجروح، وحتى لا يشعر بالذنب تجاه عائلته، عندما يضع نفسه في خطر. ينشئ مع زوجته مؤسسة خيرية، يعمل على تدريب طواقم طبية تعمل في الحرب، ويواصل رحلاته الإنسانية. (7) تذكرت حكاية ديفيد نوت وأنا أتابع محاولات بعض الأطباء العرب التسلل إلى غزة المحاصرة، يبدو أننا نحتاج يومًا أن نوثق حكايات الأطباء الفلسطينيين ونظرائهم العرب في هذه الملحمة التي ستنتهي بإذن الله بانتصار مؤكد.
564
| 18 مارس 2024
(1) جرى هذا الحديث بيني وبين نفسي، احتدَّ النقاش، وأثيرت الأسئلة، وتباينت الإجابات، ووجدت من الضروري أن يخرج الحديث إلى العلن. (2) - تحت تهديد ظالم خارجي يسمى بـالمستعمر، أو ظالم داخلي في شكل حاكم، فإن الحل الوحيد للمواجهة هو العمل الجماعي، أي أن يجتمع الناس على قلب رجل واحد، يفكِّرون ويخطِّطون، ثم يباشرون إلى التحرك، وسوى ذلك فلا حلَّ له قيمة أو تأثير. - صحيح، لكن منافذ العمل الجماعي مغلقة، فلا أحزاب، ولا تجمعات، ولا قيادة رشيدة، ولا زعماء يحملون أفكارهم وتصوراتهم ولديهم القدرة على القيادة، ومن ثَم فلا حلَّ إلا العمل الفردي. - لماذا لا يكون الصمت خيارًا؟ السكون إلى حين تُتاح الحركة، بدلاً من حركة يدفع أصحابها ثمنًا باهظًا، ولا تُؤتي الثمار المرجوة. - الصمت ليس سوى قوة دعم إضافية إلى الظالم، هو لا يريدك أن تؤيده، لا يحتاج إلى قوتك، لكن يحتاج إلى صمتك، يريد أن يعمل في هدوء، والعمل الفردي حتى وإن لم يكن ذا أثر عظيم، إلا إنه يزعج الظالم، يبطِّئ مسيرته المجرمة، يستهلك قوته، يستنزف تفكيره، وحتى يحافظ على صمتك، يُشعرك بالعجز، رسالته واضحة لك: أنت عاجز عن فعل أي شيء، فالزم الصمت ودعْنا نعمل ونُكمل جريمتنا، وهذا -للأسف- شعور أغلبنا، فنردد: نحن عاجزون، نحن عاجزون، ومن ثَم نصمت، ونلزم السكون. - أعرف هذا، وأعرف أن هذا هو سؤال الفرد منَّا، لا ليس كل فرد، وإنما الفرد الذي لا يَقبل بالحياة ذليلاً، الفرد الذي يعرف معنى الحرية ومعنى الكرامة، الفرد الذي يُدرك أن صمته أشبه بالوقوف في الصف، في انتظار أن ينتهي عدوه ممن سبقه؛ ليفعل به ما فعله مع سابقه، بينما مَن وراءه يقف صامتًا في انتظار دوره هو كذلك، دائرة لا تنتهي. (3) - شاب أمريكي في عنفوان شبابه، يحرق نفسه أمام سفارة الكيان، وآخر يعارض مؤسسته الداعمة لبرنامج تجسس يستخدمه العدو، يعرف أنه سيُفصل حتمًا من وظيفته لكنه يفعل، فنانون يفقدون مواقع تدر عليهم ثرواتهم الطائلة؛ لأنهم تضامنوا مع فلسطين، لماذا يلجأ أحرار الغرب إلى المبادرات الفردية، بينما نحن لا نفعل إلا ما رحم ربي؟! - نعم هذا في الغرب، والغرب على عيوبه لديه مساحة أفضل بكثير من المساحات التي لدينا، فقدان المرء لوظيفته تبدو أهون كثيرًا من السجن والاعتقال والتعذيب، ليس للفرد فحسب، ولكن لعائلته، وربما لأصدقائه. - لكن في كل الأحوال ما جدوى ذلك؟ - نفس السؤال الذي يوجِّهه المرجفون كلما أقدم أحدنا على أي فعل بسيط فيقول: وهل ذلك يحرر فلسطين؟ - أظن أن الفرد إنما يقوم بما يقوم به من أجل نفسه أولاً، قبل أن يكون نصرة لآخرين، يعذر نفسه أمام ربه، فيقول له -تعالى- يوم الحساب: فعلتُ ما بوسعي. نعم يفعل ذلك من أجل نفسه؛ لعله يستطيع أن ينظر إلى صورته في المرآة ولا يخجل، لعله يستطيع أن يحدِّق في عيني امرأته ويقول لها: أنا لها، سأبذل ما في وسعي إن وقع الأذى، يفعل ما يفعل حتى لا يموت من العار والشعور بالخيانة والخذلان. - لا جدال في أن كل واحد منَّا يرغب في عملٍ ما لكنه ربما لا يستطيع. - حتى هذا القول مشكوك فيه، الذي لا يستطيع الصبر على المقاطعة، كيف يدَّعي أنه حزين لأهل غزة ويرغب في مساعدتهم، أليس هذا ضربًا من النفاق؟ ثم لماذا تريد إجابات جاهزة عن سؤالك: «ماذا بوسعي أن أفعل»؟ والإجابة واضحة: «افعل ما في وسعك». عندما تعتقد أن السفر إلى الخارج والعمل هناك يحل كل مشاكلك المالية ويحقق لك أحلامك، فإنك لن تقف ساكنًا، ستبذل كل ما في طاقتك للسفر، سوف تتحايل على الأمر بكل الطرق. فلماذا في حالة غزة تريد أن يُقدَّم لك الحل جاهزًا على طبق من فضة؟! ابحث وفكر، اجعله همَّك الذي لا يجعلك تنام ليلاً، وتشقى به نهارًا إلى أن تجد الحل. (4) أحيانًا يتحتم عليك أن تبدأ وأنت لا تستطيع أن تتبين ملامح الطريق، لكنك تختار أن تبدأ؛ لأنه أخف الضررين من أن تقف ساكنًا، تبدأ ثم رويدًا رويدًا يتبين لك الطريق، هكذا -أيضًا- العمل الفردي، تؤدي ما يمكن أن تؤديه، وأنت لا تعرف ما جدواه، وما أثره، ثم شيئًا فشيئًا، يبدأ أصحاب المبادرات الفردية في التجمع، أو في إحداث فرق، أو في إزعاج المراد إزعاجه، فيبدأ هو كذلك في حساب خطواته الإجرامية، والتقليل منها، تحسبًا لهذه الأفعال «الفردية»؛ خشية أن ينفجر المجتمع. العمل الفردي -مهما صغُر أو قل أثره- هو أفضل وأشرف من السكون.
564
| 11 مارس 2024
مساحة إعلانية
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا...
7920
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت...
6987
| 14 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....
2853
| 16 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...
2373
| 20 أكتوبر 2025
في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...
2001
| 16 أكتوبر 2025
قمة شرم الشيختطوي صفحة حرب الإبادة في غزة.....
1605
| 14 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...
1395
| 16 أكتوبر 2025
الوقت الآن ليس للكلام ولا للأعذار، بل للفعل...
1212
| 14 أكتوبر 2025
لا يخفى على أحد الجهود الكبيرة التي تبذلها...
1122
| 14 أكتوبر 2025
بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، وبمشاعر يعتصرها الحزن...
834
| 13 أكتوبر 2025
في قلب كل معلم مبدع، شعلة لا تهدأ،...
780
| 17 أكتوبر 2025
مع أننا نتقدّم في العمر كل يوم قليلاً،...
768
| 13 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تابع الأخبار المحلية والعالمية من خلال تطبيقات الجوال المتاحة على متجر جوجل ومتجر آبل