رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

في ملابسات "انتحار" القارة العجوز

قد يكون من المفارقات التاريخية أن يكون اسم "أوروبا" مستوردًا من سوريا منذ زمنٍ طويل. فالاسم، وفق أساطير ومرويات أوروبية، هو أصلًا اسمُ أميرةٍ سورية كانت ابنة أحد الملوك الفينيقيين. أما وجه المفارقة فيكمن في أن وصول القارة إلى الفوضى التي بدأت رسميًا منذ يومين فيها، مع قرار خروج بريطانيا منها باستفتاءٍ شعبي، يمكن أن يرجع في جزءٍ كبير منه إلى مسألة اللجوء. وهي مسألةٌ فاقَمها لجوء السوريين إليه خلال العامين الماضيين، ولو نفسيًا.نستخدم كلمة (نفسيًا) لأن ثمة نفاقًا كبيرًا يتعلق بالموضوع حين ننظر إليه بلغة الأرقام. فحسب الأرقام الأوروبية نفسها، هناك قرابة 150 ألف لاجئ سوري فيها بين من حصل على اللجوء ومَن ينتظره. وإذا قارنّا هذا الرقم بعدد اللاجئين السوريين في الخارج (أكثر من 5 ملايين) من ناحية، وبعدد سكان دول الاتحاد الأوروبي فقط، والبالغ أكثر من 508 ملايين إنسان، من ناحيةٍ أخرى، يمكن إدراك حجم النفاق وخلط الأوراق فيما يتعلق بهذه القضية.كان اللجوء أزمةً تخاف منها دول الاتحاد الأوروبي على الدوام، وقد بات شماعةً يتم تعليق مشكلاتها الاقتصادية والسياسية عليها. بدأ الأمر مع الشكوى من مهاجري شمال إفريقية، ثم تصاعد بشكلٍ حقيقي مع الأعداد الكبيرة التي لجأت إليه من أوروبا الشرقية، لكن لجوء السوريين أخيرًا، ومعهم عراقيون وعربٌ آخرون، كان العذر الذي ينتظره متطرفو أوروبا لتهييج شعوبهم.في تحقيقٍ لها منذ شهر من مدينة بيتيربورو شمال لندن، والتي تُعتبرُ أقل مدينة فيها شعبية تجاه الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، نقلت صحيفة الواشنطن بوست تصريحًا لأحد مواطنيها يعبر عن حالهم قال فيه مشيرًا إلى شارع المدينة الرئيسي: "كان هذا عادةً هو الجزء الراقي من بيتيربورو. انظر إليه الآن، الرومانيون يبولون في الحديقة، والليثوانيون يقارعون الكحول ويتعاطون المخدرات في الشارع. حتى الفئران هنا باتت مدمنةً على الهيروين".يجب الانتباه هنا إلى أن من يُسمَّون "متطرفين" يخدمون في الحقيقة أجندة الساسة الفاشلين في أوروبا، لأنهم يلفتون الانتباه عن المشكلات الحقيقية التي لا ينجح أولئك الساسة في حلها. هكذا، تبدو تصريحات رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، تعليقًا على الاستفتاء البريطاني، في سياقها حين قال إن تأييد البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي يُظهر أن على بروكسيل أن تستمع لصوت الشعوب وتقدم حلولًا ملائمة للقضايا المهمة مثل قضية الهجرة، مضيفًا أن مسألة الهجرة لعبت دورًا أساسيًا في النقاش البريطاني قبل الاستفتاء الذي أجري أمس، ليختم قائلًا: "على بروكسيل أن تستمع لصوت الشعوب. هذا هو أهم درس يمكن استخلاصه من هذا القرار". المعروفُ طبعًا أن الرجل وحكومته من أشد الناس تعصبًا ضد المهاجرين، وهما من تعامل معهم بوحشيةٍ غير مسبوقة.لم تفكر أوروبا يومًا، منذ بداية الثورة السورية قبل أكثر من خمس سنوات، بشكلٍ استراتيجي حقيقي في مآلات ما يحدث في سوريا. لم تتأمل في معطيات الجغرافيا السياسية والتاريخ المشترك بينها وبين الجوار العربي بشكلٍ عام. بقيت تتفرج على ما يجب أن يكون في نظرها، في أقل الأحوال، أكبر مأساةٍ إنسانية يشهدها العالم في التاريخ المعاصر، بكل تفاعلاتها الأمنية والديموغرافية والاقتصادية والثقافية، دون أن تقوم بجهدٍ حقيقي ينسجم مع تاريخها وثقافتها وإمكاناتها ومبادئها المعلنة لتتعامل مع قضيةٍ، بدا باضطراد، أن تأثيرها سيصل إليها.لا يحب السوريون محاصرة قضيتهم في كونها (مأساةً إنسانية)، وقد رأوا كيف تم تحويلها من ثورةٍ تبحث عن الكرامة والحرية إلى ما باتت عليه تحت أنظار (عالَمٍ متحضر) يُفترض فيه أن يُعلي من شأن تلك القيم، وأن يدعم الشعوب التي تضحي في سبيلها، ولو على سبيل (التورية) وادعاء الانسجام مع مبادئها وشعاراتها الكبيرة فيما يتعلق بتلك القيم. لكن أوروبا لم تقم بما يجب القيام به حتى على الصعيد الإنساني.الأسوأ من هذا، أن أوروبا فوضت أمر التعامل مع الوضع السوري بشكلٍ كامل للولايات المتحدة، وهي تعلم تمامًا أن هذه الأخيرة تعمل لمصالحها فقط نهايةَ المطاف. وحين يتعلق الأمر بالتبعات السلبية لمثل هذا الوضع المتفجر على كل مستوىً، فإن أمريكا ستلملم أوراقها وتنسحب إلى موقعها الآمن على بعد أكثر من عشرة آلاف كيلومتر من سوريا. وعلى سبيل التلاعب بالأفكار والكلمات، يُشاعُ القول بأن التهديد الأمني الذي تشهده أوروبا وأمريكا متشابه، ففي حين ينحصر ذلك التهديد في عمليات فردية عشوائية في أمريكا، تدخل أوروبا في خضم فوضى عارمة اقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا وسياسيًا. وها هي الدعوات تتصاعد في فرنسا وهولندا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي للاستفتاء على مغادرته كما فعل البريطانيون. وها هو اليورو، ومعه الجنيه الإسترليني، يهويان إلى قرابة دولار أمريكي بعد أن كانا يتشاوفان عليه منذ سنوات..ربما تكون كلمة (انتحار) دراميةً شيئًا ما، لكن مقارنة الوضع في أوروبا اليوم بالأحلام التي عاشها أهلها عندما بدأت مسيرة الاتحاد عام 1950، واحتمال ضياع الجهود والإنجازات التي حصلت على مدى عقود يبدو قويًا أكثر من أي يومٍ مضى، وهذا في حسابات قوانين الاجتماع البشري أقرب ما يكون للانتحار.

433

| 26 يونيو 2016

مصير السنية العربية في مواجهة سياسة (حافة الهاوية)

في مقال له الأسبوع الفائت، كتب الزميل حازم صاغية، في الزميلة (الحياة)، مقالًا بعنوان (إذلال السنية العربية!). وحين تصل الحال لأن يكتب مثقفٌ وإعلامي عربي مثله عن موضوع السنية العربية، وعن مشروعٍ لإذلالها، ويبدأ تساؤلاته حول الموضوع من عنوانه الذي أنهاهُ بإشارة تعجب، فإن هذا يعني وجود حالٍ لم يعد بالإمكان التعاملُ معها بالهروب والمداورة.من أول فقرةٍ في مقاله، يضع الزميل أصبعه على الجرح بكل وضوح قائلًا: "في ظل معركة الفلوجة في العراق، ومعركة منبج، وربما غدًا الرقة، في سوريا، لا يستطيع المتأمل أن يطرد المعطى الماثل أمام العينين بقوة تفقأ العينين. فما بين قاسم سليماني و(الحشد) الذي يجري تمويهه بألف طريقة وطريقة في الفلوجة، والحضور المركزي للأكراد في منبج، تتعرض السنية العربية، حضورًا ولونًا، لمذبحة كبرى، مذبحة ربما رسمت ممرًا إلى ما يوصف بالخرائط الجديدة، أو النظام الإقليمي الجديد. ويتبدى، والحال هذه، كأن هذه السنية مطالبة بدفع كلفتين في آن معًا، كلفة الواقع المديد في المنطقة، الذي شرع يتداعى قبل سنوات خمس، وكلفة الثورات التي هبت في وجه هذا الواقع وانتهى بها الأمر إلى الفشل والاحتراب الأهلي. فالسنة العرب، بالتالي، يحاكَمون بوصفهم الحكام، كما يحاكَمون بوصفهم المحكومين. وما القوى الإيرانية والشيعية والكردية التي تتصدى لتأديبهم سوى تذكير حاد بهذه القسوة الخارجية في إنزال العقوبة الجماعية".لا يعني هذا بأن المقال المذكور هو الذي (اكتشف) ما يبدو جوهرَ وحقيقةَ المشهد الذي يجري تشكيله بإشراف مخرجِين أمريكان وروس، وصمتِ آخرين وتجاهلهم، لكنه قد يكون وخزة صحوةٍ قوية لكتاب ومثقفين عرب، سنة وغير سنة، يتعاملون مع الموضوع حتى الآن بمثاليةٍ مُفرطة، مُتصنعة أو حقيقية. فإذا أمكن لهواة التصنيفات وضعُ صاغية في خانات محددة كالمسيحي الأرثوذوكسي، واليساري السابق، والليبرالي والعلماني والحداثي، إلا أن ما يستحيلُ في هذا المقام هو ربطهُ بالسنية العربية، مع ما توحي به الكلمة من مرجعيةٍ دينية وطائفية، لا علاقة للرجل بها من قريب أو بعيد.السنة العرب يُحاكمون إذًا، وثمة سيناريو لإنزال عقوبةٍ جماعيةٍ بهم، إن كان الإذلال أولَ مراحلها، فإن ما هو قادمٌ منها قد يتعلق بأصل الوجود، وعلى شكل مذابح باتت مألوفةً ومعروفة. ليس الكاتب هو من يقول هذا، وإنما الواقع بتفاصيله الكثيرة والواضحة والصريحة بحيث لاتحتاج إلى تحليلٍ، تُعفينا من الحاجة إليه أصلًا تصريحاتٌ وممارسات باتت تتكبر على التخفي وضروراته. لا مهرب من التفكير بهذه الطريقة، يقولُ الواقعُ لأهل السنية العربية، بكتابهم ومثقفيهم الذين يحاولون (التعالي) على منطق الطائفية والمذهبية، وبحكامهم، الذين ما زالوا يأملون في عودة بقيةٍ من عقلٍ وتوازن للسياسة العالمية في المنطقة. (رب ضارةٍ نافعة) كما يقولون في العربية. فقد جاءت تجربة نشر الأمم المتحدة لاسم (التحالف العربي) في قائمةٍ سوداء تُصدرها سنويًا لانتهاكات حقوق الأطفال في العالم، الأسبوع الماضي، مثالًا على ممارسات بهلوانية وقحة، تتغطى بالسياسة وباسم أكبر منظمة دولية، لكنها تدخل في إطار استفزاز السنية العربية تحديدًا بأي طريقة. ولتحاصر أهلها أخلاقيًا ودبلوماسيًا، إكمالًا للحصار العسكري والسياسي المتزايد حول عنقها.والذي ينظر إلى الحيثيات التي أخذتها الأمم المتحدة بالاعتبار يدرك حجم الافتراء والتغابي الكامن وراء مثل هذه القرارات والممارسات. فالقرار يقول مثلًا إن التحالف العربي في اليمن مسؤول عن 60% من حصيلة وفيات وإصابات الأطفال العام الماضي! لا توجد طبعًا مكاتب للأمم المتحدة في اليمن ولا مراقبون لها في أي منطقة من مناطق النزاع فيه، فكيف للأمم المتحدة أن تكون دقيقةً بهذا الشكل؟! هل يُصبح مُستغربًا أن يؤكد هذا استهداف السنية العربية؟ خاصةً حين لا نسمع أرقامًا دقيقة، بالمقابل، حول المذابح والانتهاكات التي تقوم بها القوات الإيرانية والشيعية في سوريا والعراق تجاه أطفال السنة العرب.ولكي تكتمل المهزلة، يجري ترشيح إسرائيل، بعد إصدار لائحة انتهاك الأطفال بأيام، لرئاسة اللجنة السادسة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة والمعنية بمكافحة الإرهاب وقضايا القانون الدولي، بما في ذلك البروتوكولات الملحقة باتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين في زمن الحرب والانتهاكات التي ترتكبها الدول! هل يمكن أن يكون لمثل هذا الدرك من الممارسات تفسير غير وضع السنة العرب أمام سياسة حافة الهاوية، ودفعهم في اتجاهها بكل طريقة وفي كل محفل؟ماذا يفعل هؤلاء في مواجهة هذا السيناريو؟ بشيءٍ من الدبلوماسية الفعالة، والحازمة، تم حذفُ اسم التحالف بعد بضعة أيام من القائمة المذكورة.. هذا النوع من الحزم في الإرادة السياسية، مقرونًا بفعلٍ عملي على أرض الواقع، وفي ساحات المواجهة الأكثر حساسيةً مثل سوريا، وبأيدي السوريين الجاهزين لأداء المهمة كونَهم يعانون أكثر من غيرهم، هذا وحده ما يبدو مدخلًا لإنقاذ مصير السنية العربية هذه الأيام.

408

| 12 يونيو 2016

مصير العرب مع هزيمة التنوير الإنساني في سوريا

في مقدمة كتابه "أساطين الفكر" الذي يتحدث عن عشرين فيلسوفًا أسهموا في صناعة القرن العشرين، يتحدث الكاتب والمفكر الفرنسي روجيه – بول دروا عن المفارقة بين الأمل الذي أثارته ثورة الثقافة في أوروبا مع نهايات القرن التاسع عشر بخصوص مستقبل البشرية في مقابل الواقع البشع الذي فرض نفسه عليها، عمليًا، خلال القرن العشرين. "في النهاية"، يقول المؤلف، "كلﱡ امرىءٍ يعرف أن الحروب والمجازر اخترقت القرن العشرين على مستوى لا يزال مجهولًا حتى الآن في تاريخ البشرية. والحال أن هذه الحروب مرتبطةٌ بالحضارة ذاتها، مما يُشكل الدرس الأقسى للفلسفة، بينما تنهار في الواقع فكرة أن الثقافة تحمل السلام. إذ اعتقدنا، من عصر الأنوار إلى عصر العلوم والصناعة، أن شعبًا يُطورُ المعارف والفنون والتقنيات، يُفضي إلى تقدمٍ إنساني، وأخلاقي، واجتماعي، وسياسي. هاهنا كان الأمل الكبير: كلما أصبح البشر علماء، ازدادوا تحضرًا. فهم مُسالمون بِحُكمِ ثقافتهم. الحرب العالمية الأولى هي التي بددت هذه القناعة: دمرت أوروبا نفسها في خنادق الحرب، بتكلفة ملايين القتلى، على حين أنها كانت تُعد الأكثر تحضرًا، وثقافةً، وعلمًا، وفلسفة من سائر مناطق العالم. لقد أكد صعود النازية، والحرب العالمية الثانية، والمحرقة، أن كون المرء مثقفًا لا يمنع الهمجية. والشعبُ الأكثر فلسفةً في أوروبا –شعب كانط، وهيغيل، وشيلينغ، وفيورباخ، وشوبنهاور، ونيتشه، وكثيرين آخرين– هو الذي سمح باللاإنسانية والجهل... حيثما التفتنا، لا نرى إلا مناظر الخراب: لم يبقَ إلا القليل من آمال الزمن الغابر، من القيم القديمة، والقواعد التي تبدو مُكتسبة. بات كل شيء مُفككًا ومُضطربًا. العلوم لا تكفﱡ عن اكتشاف مجالات جديدة. والتقنيات لا تتوقفُ عن صُنع سلطات جديدة. أما الشموليات والمجازر الجماعية فتُدمرُ السياسة والأخلاق. في هذه الزوبعة، حتى فكرة الحقيقة أصبحت معطلة، تتنازعها اتجاهات مختلفة".صدر الكتاب بنسخته الفرنسية عام 2011، قبل أن يشهد العالَم، متفرجًا، على مدى أكثر من خمس سنوات، مأساةَ لن يُكتب فقط أنها الأكبرُ في هذا العصر، بل إنها كانت شهادةً عملية على موت كل ما له صلةٌ بالتنوير الإنساني إلى أمدٍ بعيد.لا تنحصر قراءة المشهد السوري، استراتيجيًا، في تفاصيله الداخلية أيًا كانت، وإنما تمتد لتُصبح إعلانًا على هزيمة منظومة الأخلاق والثقافة العالمية، وكل ما له علاقة بها من فنون وآداب. تستطيع المنظومة المذكورة المعاصرة أن تكذب على نفسها بالتأكيد. يستطيع أهل تلك المنظومة أن يكذبوا على الناس، ويأخذوا أبصارهم بعيدًا عما يجري في سوريا، باعتبار ما يجري فيها حَدثًا هامشيًا لا يتوقف معه التاريخ. كيف لا، وهم يؤلفون المسرحيات وينتجون الأفلام، ويكتبون الشعر والروايات، ويرسمون وينحتون ويُغنون في كل مكانٍ آخر في العالم. بل إن الأمر ينجح عادةً في التاريخ البشري: أن يتم الهروب من علامات احتقان النظام الدولي، حتى تنفجر مشاكل الاحتقان المذكور بالجميع في نهاية المطاف. هذا ما يتحدث عنه الكاتب الفرنسي تمامًا.لا علاقة مباشرة، مثلًا، بين ما يجري في سوريا وبين ما يمكن أن يحصل في أوروبا، اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، في حال انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي بقرارٍ شعبي نتيجة استفتاءٍ قادمٍ بعد أسابيع. لا علاقة مباشرة أيضًا بين الحدث السوري وما يمكن أن يحصل في أمريكا، وبينها وبين العالم، في حال انتخاب شخص مثل دونالد ترامب رئيسًا لأقوى دولةٍ في العالم، وهو أمرٌ بات احتماله 50% على الأقل حتى الآن.ثمة سيناريوهات كارثية منشورة يطرحها المختصون بالتفاصيل، لكنها تنزوي لأن الوجه الآخر من هزيمة أهل النظام الأخلاقي والثقافي العالمي يتمثل في قدرة (السياسي) على تهميشهم بشكلٍ متزايد، إن لجهة إدراك دلالات مثل تلك الأحداث ابتداءً، أو لجهة البحث عن سبل مواجهتها قبل أن تؤدي إلى الفوضى الشاملة. ماذا يعني، مثلًا، أن تكون الأولوية الآن في البرلمان الألماني لقرارٍ يتعلق بأزمةٍ حدثت منذ قرنٍ من الزمان، في حين يتجاهل البرلمان نفسه أزمةً أكبرَ وأوضح، تجري منذ سنوات تحت أنظار أعضائه؟ هكذا يهزم السياسي منطق الأخلاق والثقافة، وهكذا يسخر من أهلها، وهكذا يُعلن اهتراءها، ليزرع بذور عالمٍ من دون ثقافةٍ وأخلاق. وهؤلاء ممثلوا "الشعب الأكثر فلسفةً في أوروبا" حسب بول دروا، فماذا نتوقع من الآخرين؟وحدهُ المشهد السوري الراهن يُعبر بوضوح عن المأزق الإنساني، الراهن والقادم، من خلال وقائع وأحداث لا يُفترض أن يسمح بها نظامٌ أخلاقي وثقافي عالمي، لو كان موجودًا حقًا: ظاهرة اللاجئين وتأثيرها في العالم، اتساع دوائر التطرف والإرهاب وتغذية أسبابها، الحروب الممكنة، إقليميًا ودوليًا، مع أي خطأ، ممكنٍ دائمًا، في الحسابات.هنا تحديدًا يظهر دور العرب لأنهم يرون المشهد بكل سلبياته من جانب، ولأنهم سيكونون الحلقة الأضعف والأسرع تأثرًا بأي فوضى قادمة تبدو سوريا مفصلًا رئيسًا في حدوثها. ولئن كانوا لا يملكون رفاهية التفكير في إنقاذ التنوير الإنساني، فإن جوهر مصيرهم ووجودهم بات على المحك بحيث يضحى عدم الفعل في سوريا، بحد ذاته، رفاهيةً لا وقت لها بجميع الحسابات.

372

| 05 يونيو 2016

المعارضة السورية: تحدي قراءة المشهد وأداء الدور

ثمة عبارتان في كلمة وزير الخارجية القطري، خلال الجلسة الافتتاحية لمنتدى الدوحة السادس عشر الأسبوع الماضي، يجدر بالسوريين، ومعارضتهم تحديدًا، التفكير فيهما بشكل جدي. في تلك الكلمة، قال الوزير: "إن الشعب السوري يستحق قيادةً موحدة لفصائله المعارضة بعيدًا عن المصالح الضيقة التي لا تُجدي نفعًا... الانقسامات لن تمكن الفصائل من تحقيق نظام سياسي ديمقراطي أو غير ديمقراطي". ليؤكد بعدها بقليل أن "الحل النهائي للأزمة السورية أصبح مرهونًا بإرادة واضحة للقوى الدولية الفاعلة، لتنفيذ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، لتكون هناك جدوى من المفاوضات بين المعارضة السورية والنظام".أن تأتي أولُ ملاحظة، وهي أيضًا الأولى من نوعها عَلَنًا، من وزير خارجية قطر، بعد هذه السنوات من العلاقة مع المعارضة السورية، أمرٌ لافت يجب أن يؤخذ بدرجةٍ عالية من الاهتمام الحقيقي، خاصة أنها جاءت بعد اجتماعات في الدوحة لبعض فصائل المعارضة كانت تهدف لتسوية خلافاتها، لم تتكلل بالنجاح.ثمة تفسيرات كثيرة لأسباب اختلاف فصائل المعارضة السورية فيما بينها، من البداية، يُمكن أن تبقى محل جدلٍ وحوار. لكن ما لا جدل فيه يتمثل في أن هذا الخلاف، مهما كانت أسبابه الأخرى، لم يكن له أن يستمر دون دورٍ رئيسٍ فيه للمعارضة نفسها، ولثقافتها السياسية. والذي جرى، ولا يزال يجري، في الأسابيع الأخيرة بين فصائل الثوار في الغوطة، مثالٌ فاقعٌ لا يترك مجالًا لنقاشٍ حول هذه الحقيقة.منذ ستة أشهر فقط، تفاءل السوريون باجتماع أطياف المعارضة في الرياض وما نتج عنه. وبغض النظر عن طروحات بعض المراقبين والخبراء، وقتَها، بعدم امتلاك المعارضة السورية الراهنة القدرة على الأداء السياسي المحترف المنوط بها، كان ثمة أمرٌ واقع في صيرورة الأحداث على الأرض لا يمكن تجاهله من خلال قبول ذلك الرأي. بل إن اجتماعات الرياض، وما تمخض عنها، كانت تحمل كمونًا لإحداث نقلةٍ عملية في عمل المعارضة، قد تؤدي، تدريجيًا، إلى نقلةٍ نوعية في الثقافة السياسية وما ينتج عنها من ممارسات.من هنا، تأتي ملاحظة الوزير مناسَبةً، ليس فقط لمراجعة مرحلة الأشهر السابقة، بل ولرصد المشهد الراهن بدرجةٍ أعلى من الإحاطة والواقعية. وتأتي ملاحظتهُ الثانية لتكون مدخلًا لهذا الرصد، عبر إدراك دلالاتها المتعلقة بالعوامل التي تؤثر في راهن الوضع السوري ومستقبله. فإذا كان في هذه العبارة إشارةٌ لحالة "الاستعصاء" الحالية لو تُرك الوضع في يد الفاعلين الدوليين كما هو الحال اليوم، فإن الجمع بين دلالات العبارتين معا يوحي بأن الأمل الوحيد في الخروج من ذلك الاستعصاء يكمن في أن تقرر المعارضة السورية تجاوز طريقة تفكيرها وعملها.في هذا الإطار، تأتي تصريحات وزير الخارجية السعودي على قناة (روسيا اليوم)، والتي تُعيد التأكيد على موقف المملكة ودول الخليج فيما يتعلق بالوضع في سوريا. فقد حرص الوزير على التوضيح بأن موقف بلاده إزاء مصير بشار الأسد لم يتغير، إذ أوضح الجبير قائلًا: "الفكرة أنه عندما تبدأ المرحلة الانتقالية يجب أن يرحل الأسد...هذا ما ينص عليه إعلان (جنيف ـ 1) وقرار مجلس الأمن 4225، بحسب تفسيرنا له، وبحسب المعارضة السورية المعتدلة".وأكد الجبير على أن هذا هو موقف السعودية ودول الخليج رغم أن موسكو تصر على تأجيل البحث في هذا الموضوع، معتبرًا أن "إرادة الشعب السوري أعلنت من خلال تصويت 12 مليون لاجئ شردهم الأسد وقتل 400 ألف سوري ودمر بلدًا بكامله". كما أشار أيضًا إلى استمرار التباين حول تشكيلة وفد المعارضة، مؤكدًا أن المملكة ومعها قطاع واسع من بلدان مجموعة دعم التسوية في سوريا تؤكد أن هيئة المفاوضات التي تشكلت في الرياض هي الوحيدة المخولة التفاوض باسم الشعب السوري، بينما تصر موسكو على إشراك أطراف أخرى، مع التوضيح بأن "الخلاف في وجهات النظر لا يمنع مواصلة الحوار وتعميقه مع روسيا، خصوصًا في هذه المرحلة الحساسة".بل إن الجبير كان حريصًا حتى على تأكيد استمرارية الموقف من إيران، إذ أكد أن الرياض تنظر لوجود قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني في بغداد بأنه "سلبي جدا"، مع التذكير بأن سليماني والحرس الثوري وفيلق القدس مدرجون على قائمة الإرهاب، وعلى أن "الحرس الثوري يحارب الشعب السوري، يحارب في العراق، ويقوم بأعمال تخريبية في أنحاء أخرى من العالم"، ليخلص إلى القول بأنه "لا يجوز لإيران أن تتدخل في شؤون الدول العربية، أو أن تدعم ميليشيات طائفية في الدول العربية، فهذا ما يزيد الفتن الطائفية ولا يساعد على إيجاد الأمن والاستقرار في المنطقة".بقية المشهد الذي يجب أن تتأمل المعارضة السورية أبعاده يكمن في أن التصريحات المذكورة جاءت خلال اجتماعات الدورة الرابعة لمنتدى "الحوار الاستراتيجي" لروسيا ومجلس التعاون، منذ أيام، وترأسها من الجانب العربي الوزير الجبير نفسه، وخُصصت للبحث في آفاق تطوير التعاون الثنائي في المجالات المختلفة ووضع آليات لتعزيز التنسيق بين الطرفين في القضايا الإقليمية والدولية.هل تتمكن المعارضة السورية من قراءة أبعاد المشهد الراهن بحيث تؤدي دورها الوطني المسؤول؟ رغم تشاؤم الكثيرين، لا تزال المبادرة، حتى الآن، ممكنةً في هذا المجال.

473

| 29 مايو 2016

الحل الممكن في سوريا: واقعيةٌ أم تفريط؟ (2)

من أسهل الأمور أن يتجنبَ المرء فتح هذا الملف، ويكتفي بالنظر إلى المشهد السوري الراهن بصمت. صحيحٌ أن كل مبادرةٍ أو اقتراح للفعل البشري في هذا الإطار سيكونان عرضة للخطأ والانتقاد، إما بوجه حق، أو على سبيل المزاودة وبيع الوطنيات. ولكن، لا حلﱠ مثاليًا في سوريا اليوم، خاصة لمن لا يزالون مؤمنين بأن جوهر ماجرى ويجري فيها هو ثورة، وأن أقل ما يمكن فعله لتأكيد ذلك الجوهر هو استمرارُ المحاولة والمبادرة. صحيحٌ، أيضًا، أن هذا قد يوحي بالعمل وفق مقولة "لابد أن نفعل شيئًا مهما كان" بمعناها التقليدي.. لكنه ليس كذلك. والحقيقة أن ثمة معنيين مختلفين، جدًا، لتلك المقولة، عندما نُغادرُ النظرية إلى التطبيق. في أحدهما، يختبئ إقرارٌ شنيعٌ بالهزيمة والاستسلام وراء الكلمات. لا قدرة على الفعل البشري هنا، على الإطلاق، وإنما شعورٌ بالعجز الكامل والنهائي يبحث فقط عن مخرجٍ للتعبير عن نفسه.بينما ينطلق المعنى الثاني من إيمانٍ عميق بالقدرة على الفعل البشري، مهما كانت الأحوال. أن نتجمد جميعًا، كسوريين، أمام الواقع، في حالةٍ من الذهول الجماعي، هو جوهر العجز الإنساني في هذا المعنى. هنا، نعترف بأخطائنا، ونتعلم من تجاربنا، وندرك ضعفنا، ولا نُخفي تَعَبَنا الكبير، لكننا لا ننكسر، بل نبقى نحاول.نعم. السوريون مُتعبون. وبملايينهم في الداخل والخارج، تحت جحيم القصف، أو في مخيمات النزوح، أو حتى في الشقق المكيفة لمنافيهم القسرية أو الطوعية، يشعرون جميعًا بقهرٍ إنساني لا يمكن أن يتخيله شعبٌ آخر. ثمة ألمٌ خاصٌ جدًا مسجلٌ باسم كل من يعاني في الداخل بالتأكيد، لكن من الإجحاف، والجهل بطبيعة الإنسان، الاعتقاد بأن المأساة السورية لم تتغلغل في مسام كل سوريٍ على هذه الأرض، بشكلٍ من الأشكال، وأنه يُعايشُ مذاقها الحاد والمؤلم، ليلَ نهار، بطريقته الخاصة.من هنا، يكاد يصبح طبيعيًا ألا تشعر بالحاجة لأن تلوم سوريًا إذا انتقدَ أو اتهمَ أو هاجمَ من يحاول أن يُبادر في مثل هذا المقام. فالواقع يضع أصبعه في عينيك مؤكدًا أن أي مبادرةٍ ستتقزم أمام ما يرى السوريون أنه الثمن الهائل الذي دفعوه.ومن هنا تحديدًا، نواصل الحديث عن عملية تقديم (البديل) لبشار الأسد ونظامه في سوريا، بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ، ولأطراف النظام الدولي ذات العلاقة. على الأقل، كملفٍ يجب فتحه والحديث فيه تحت ضوء الشمس. لا ينبعُ هذا من سذاجةٍ تُغفلُ وجود معادلةٍ أكبر من الأسد في خلفية الأحداث. وإنما على العكس من ذلك، يرمي الحديث إلى التركيز على هدفٍ مهمٍ ومحدد وممكن التحقيق، واستبدال عنصرٍ بعنصر، في تلك المعادلة التي لا يوجد فيها ثوابت. وبجميع الحسابات، سيكون وجود عنصر (سوريا من دون الأسد ونظامه) في المعادلة أفضل لسوريا والسوريين من بقاء عنصر (سوريا الأسد) فيها. وتصبح مهمة السوريين أن يُثبتوا أن هذا سيكون، أيضًا، أفضلَ للجميع. (سوريا من دون الأسد ونظامه) هي سوريا التي تساهم في محاربة التطرف والإرهاب الحقيقيين. وهي التي تعيش في رحابها الأقليات بأمنٍ وسلام، بعد صيرورة عدالةٍ انتقالية بالمقاييس العالمية. وهي سوريا التي تعيش حالة "اللاحرب" مع إسرائيل. لا نتهرب من كلمة السلام لأننا نصف الواقع أصلًا، ولأن إسرائيل تُفضل فيما يبدو تلك الحالة لحسابات معينة، وإلا، لقبلت "مبادرة السلام العربية" المطروحة منذ أكثر من عقدٍ من الزمان. وفي جميع الأحوال، ثمة إجماع بين السوريين على أولوياتهم لمرحلة ما بعد الأسد ونظامه. وإذ يُركزُون على إعادة بناء بلدهم من الخراب الكامل فسيبقونَ مستغرقين في هذه المهمة لعقود. وإذا احتمل الوضع أربعين عامًا من حالة "اللاحرب" في الماضي، مع أنظمةٍ تاجرت بالموضوع فوق جماجم السوريين، فإنه يحتمل الانتظار أربعين عامًا أخرى، تقرر بعدها أجيال ذلك الزمن ما تريد.الكلام حساسٌ جدًا وشائك. إنه "الفيل الذي لا يتحدث عنه أحدٌ في الغرفة" كما يقول المثل الإنجليزي. ولا أحد مفوضا بأن يتحدث باسم السوريين، ونحن لا نملك ادعاء ذلك هنا، لكن هذا ينطبق على سوريين يرون عكس الرأي المطروح هنا أيضًا. وبقدر ما سيرى بعض السوريين أن في هذا الطرح تفريطًا، سيرى فيه سوريون آخرون مواجهةً مع النفس والعالم آن لها أن تحدث، بمعرفة الجميع، وبعيدًا عن الغرف المغلقة، في محاولة للإجابة على الأسئلة الكبرى المتعلقة بحاضر سوريا ومستقبلها، وإنسانها قبل كل شيء. ومع التأكيد على ضرورة مشاركة جميع السوريين في الحوار بكل طريقة ممكنة، فإن مسؤوليةً كبرى تقع على عاتق المثقفين والكتاب والخبراء والنشطاء ورجال الدين السوريين، بعيدًا عن حالة الذهول الجماعي التي باتوا جزءًا منها. يمكن جدًا لهؤلاء أن يرفضوا مجرد مناقشة هذا الموضوع من أساسه، لكن عليهم، عندها، أن يطرحوا على السوريين ما يجب أن يحصل بدلًا من ذلك.

449

| 22 مايو 2016

الحل الممكن في سوريا: واقعيةٌ أم تفريط؟ (1)

ماذا لو قدمت المعارضة السورية (بديلًا) حقيقيًا لبشار الأسد؟ منذ لحظة (الثورة) الأولى وإلى اليوم، يعرف كل من اقترب، عمليًا، من دوائر السياسة الدولية المتعلقة بسوريا أن (كلمة السر) في الموضوع كانت تتعلق دومًا بالإجابة عن هذا السؤال. ندرك أن المعنى الحقيقي المتعلق بكلمة (البديل) يشمل جملةً من القضايا الحساسة والخطيرة التي يتطلب الحديثُ فيها، فضلًا عن تنفيذها، موازناتٍ هي أشبه بالمشي على حد السيف على المستويين النظري والعملي. وأن الأمر سيكون عرضةً لاتهامات ومذاودات على جميع المستويات. لكن ثمة حوارات وأفكارا وطروحات تُتداول في الساحة السورية خلال الشهور الأخيرة، بين أطراف العلاقة فيها، ساسة وعكسر ونشطاء ومثقفين، بل ومن جمهور السوريين، بشكلٍ حذرٍ وخجول وسري، ربما ينفع أن تخرج إلى الضوء، وأن تُناقش بشكلٍ علني.فمثل هذا الحوار الصريح يضمن أمرين: الوصول أولًا إلى ما هو أقرب للصواب، بحكم إمكانية مشاركة شريحةٍ واسعةٍ من السوريين في مناقشته، وبشكلٍ يضمن تكامل وجوه الرؤية من زوايا مختلفة. والأهم من هذا، ألا نستيقظ يومًا لنُفاجأ بحلٍ سريٍ مطبوخ في الغرف المغلقة، تتفرد به مجموعةٌ ضيقة من السوريين، ثم يُفرض عليهم جميعًا بحُكم الأمر الواقع.من هنا، يطرح المقال جملةً من الأفكار لمناقشة الموضوع على سبيل فتح الملف علنيًا، وأمام السوريين جميعًا، بكل ما له وما عليه. ربما على طريقة (تعليق الجرس) التي يجب القيام بها عاجلًا أو آجلًا.هل يأتي هذا الطرح وفق مقولة (أولوية حقن الدماء) بغض النظر عن كل شيء، الساذجة والسائدة أحيانًا؟ هل يدخل في إطار مشاعر (اليأس) من إمكانية استمرارية الثورة وانتصارها؟ هل هو مقدمةٌ وتسريب (خبيث) لمؤامرةٍ يجري تحضيرها؟ نأمل أن يجيب المقال بجزئيه عن هذه الأسئلة.منذ اللحظة الأولى للثورة، أدرك الأسد أن المفصل في استمرار حكمه يكمن في إقناع العالم بأن بقاءه (وظيفيٌ) بحت. ومع أحداث السنوات الماضية، عرفَ أنه لم يعد ثمة سياسيٌ في هذا العالم يرغب بوجوده في موقع الرئاسة حبًا أو إعجابًا بشخصه. فالرجل عمليًا نموذجٌ للإحراج السياسي والأخلاقي يندر مثيله في التاريخ المعاصر، حتى في نظامٍ دولي يفتقد للمبادئ ولايخجل من النفاق. لكنه استطاع، حتى الآن، اللعب على تلك الازدواجية بين المبادئ والمصالح، وترسيخ مقولة غياب البديل له، من خلال التأكيد على قضايا محددة يناور في تفاصيلها: محاربة الإرهاب والتطرف، حماية الأقليات، تأمين مصالح روسيا، ثم القضية الأكثر حساسيةً: استمرار حالة (اللاحرب) مع إسرائيل.لنناقش هذه القضايا، وننظر في إمكانية تقديم المعارضة لبديلٍ يتعامل مع هذه القضايا بتوازنات دقيقة، تأخذ الواقع السوري والإقليمي والدولي بعين الاعتبار من ناحية، وتحاول، مع ذلك، القيام بعملية أرباح وخسائر تتعلق بتحقيق ما يمكن تحقيقه من أهداف الثورة، وفق الأولويات من جهة، وبناءً على حسابات مستقبلية على المدى المتوسط والطويل من جهةٍ أخرى. مع التأكيد من البداية بأن المقال لا يفترض بالضرورة إمكانية هذا الأمر، نظرًا للوضع العملي والفكري والنفسي السائد بين السوريين، وإنما يحاول طرح الأسئلة المتعلقة بتلك الإمكانية بصراحة وتحديد، بدلًا من بقائها تُناقشُ بفوضوية في الظلام.بكل شفافية يتطلبها الموضوع، تتضمن قضية (محاربة الإرهاب والتطرف) محورين، أحدهما معلن يتمثل في التعاون مع النظامين الإقليمي والدولي في مواجهة (داعش) و(النصرة). وهذا أمرٌ ثمة إجماعٌ عليه بين السوريين، بما في ذلك الفصائل الإسلامية التي حسمت رأيها تجاه الأولى، وهي في طريقها إلى الحسم تجاه الثانية، نظريًا بالاجتهادات الفقهية، وعمليًا من خلال التجربة التي أدركت من خلالها نية الجبهة لالتهامها جميعًا في نهاية المطاف. المحور الثاني حساسٌ أكثر، ويتمثل في عدم رغبة النظام الدولي في وجود جهةٍ عسكرية قوية بصفةٍ إسلامية في مستقبل سوريا نهاية المطاف. من المعروف أن كل الفصائل الكبرى غادرت مواقع الوهم القائل بإمكانية (إقامة دولة إسلامية) في سوريا، لكن السؤال هنا: هل يمكن أن تصل الفصائل الإسلامية إلى رؤيةٍ تستطيع التعامل من خلالها مع (الفيتو) المذكور أعلاه؟ مثلًا، بتبني برامج وطنية حقيقية تحقق مصالح السوريين، جميعًا، من خلال هوية محافظة تستبطن قيم الإسلام ومقاصده؟أما فيما يتعلق بـ(حماية الأقليات)، وبغض النظر عن دلائل (النفاق العالمي) المتعلق بها، فالأرجح أن تكون -بحكم الترتيبات العملية الواقعية في حال الانتقال من نظام الأسد- أمرًا لا يصعب التعامل معه. ورغم المشاعر الجياشة الآن، فإن في رصيد السوريين الديني والثقافي والاجتماعي من جهة، وفي حتمية وجود آليات العدالة الانتقالية تجاه المجرمين من جهة أخرى، ما يُظهر إمكانية تحقيقه كأمرٍ واقع.في الجزء التالي من المقال نعالج العنصرين الأخيرين في المعادلة، ونتحدث عن إمكانات المعارضة السورية، بوضعها الراهن، على تقديم بديل، والتحديات والملابسات والأسئلة الأخرى المتعلقة بالموضوع.

497

| 15 مايو 2016

العرب في نظام دولي بلا خطوط حمراء

منذ أسبوع، أنتج البيت الأبيض تسجيلًا هزليًا يسخر فيه الرئيس الأمريكي باراك أوباما من نفسه، حيث يمثل هو شخصيًا بشكلٍ كوميدي باحثًا في مشاهد متتابعة عن إجابةٍ لسؤال يُحيرهُ، يتعلق بما سيفعله بعد انتهاء فترته الرئاسية مع نهاية هذا العام. هذا نموذجٌ عما يشغلُ وقت الرجل الذي يملك أقوى منصبٍ سياسي في العالم في فترةٍ من تاريخ الإنسانية قد تكون الأكثر خطورةً وفوضى وحساسية، على الأقل في التاريخ المعاصر. وإضافةً إلى ما تحدثنا عنه سابقًا عن انهماكه في التحضير لمكتبته الرئاسية الخاصة، سيكون مُعبِّرًا أن نعرف بعضًا من نشاطاته خلال الأسبوعين الماضيين، من خلال موقع البيت الأبيض على الإنترنت، والذي يحتوي بابًا لنشاطات الرئيس اليومية، بمعنى أنه لا يمكن أن يُغفل ما يمكن أن يكون نشاطات مهمة.بشيءٍ من البحث سنرى أن السيد أوباما كان على مدى الأيام الماضية يقوم بما يلي: استقبال المعلمة الفائزة بلقب أفضل معلمة وطنية للعام 2016، العشاء الرئاسي الأخير لإدارة أوباما احتفالًا بعيد الفصح، المعروف في أمريكا بأنه "يوم العبور" اليهودي، تقديم "كأس الرئيس" لفريق كرة القدم الخاص بالبحرية الأمريكية، تقديم الخطاب الرئاسي الإذاعي الأسبوعي كل يوم سبت للشعب الأمريكي بما لا يتجاوز 4 دقائق لكل خطاب، إرسال رد مكتوب على رسالة فتاة أمريكية عمرها 8 سنوات من مدينة فلينت بولاية ميتشيجان، التي تعاني مشكلة تتعلق بالمياه، تطلب فيها لقاءه، مع وعدٍ لها بأنه سيزورها قريبًا، كتابة قائمة تتضمن رأيه حول ما هي أفضل 8 اختراعات أمريكية، جمع مراسلين وصحفيين من مختلف أنحاء البلاد وإبداء الشكوى لهم من إعاقة الجمهوريين لعقد جلسة اجتماع رسمية بخصوص مرشحه للمقعد الشاغر في المحكمة الدستورية العليا، وأخيرًا، زيارة مدينة فلينت للبحث في موضوع مشكلة المياه، المذكورة أعلاه، مع المسؤولين فيها شخصيًا.ثمة مواضيع عن نشاطات أخرى سيجدها زائر موقع البيت الأبيض في الخانة ذات العلاقة، لكن غالبيتها العظمى تتعلق بفعاليات ومناسبات داخلية يقوم بها مسؤولون وموظفون في الإدارة والبيت الأبيض. ونعرف أن أوباما عاد قبلها من زيارةٍ خارجيةٍ وداعية لأوروبا والشرق الأوسط، ومن المؤكد أنه قام بنشاطات سياسية إضافية بشكلٍ أو بآخر خلال هذه الفترة، لكن هذه اللقطة من جدول نشاطاته المُعلن تعطي صورةً معبرةً عن وضع كل رئيس أمريكي في العام الأخير من فترته الرئاسية، حيث يُصبح رئيسًا شرفيًا لا تسمح له الأعراف والتقاليد السياسية الأمريكية باتخاذ أي قرارات حاسمة، سوى حالاتٍ طارئة قصوى تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، وبمفهومٍ ضيقٍ ومباشر.ليس مهمًا في هذا الإطار أن تسود في عالم اليوم درجةٌ من الهيولي لم تعد تُعرفُ معها حدودٌ وأعراف سياسية، وعسكرية وأمنية، يُصبح معها الوضع الدولي حقل تجارب لكل من اقتنص المعرفة بهذه الحقيقة، فشرب شيئًا من (حليب السباع) وامتلك الجرأة على الاقتحام والاختراق هنا وهناك.ثمة نقدٌ جاهزٌ دومًا لكل من يصف الواقع العالمي الغريب الراهن على حقيقته. فهذه الحقيقة مخيفةٌ ومُفزعة ومدعاةٌ للقلق والتوجس والشعور بعدم الاستقرار، خاصةً لمن اعتاد على ضرورة أن يكون هناك (نظامٌ دولي) ، بجزئيه المكتوب والعُرفي. وأي إيحاءٍ باختفاء هذا النظام، ولو لمدةٍ محددة، ولظروف تاريخية استثنائية، كما هو حالُ عالمنا اليوم، قد يكون مدعاةً لخروجه من (نطاق الأمان) الذي اعتاد على الدوران داخل فلكه الآسر. وكما يصف علماء النفس والاجتماع هذه الحالة على أنها من أكثر ما يمكن أن يصيب الفرد بالارتباك والعجز، فإن هذا التشخيص ينطبق على الدول، وبشكلٍ أكبر أحيانًا.يصلحُ جدًا كمثالٍ، له علاقةٌ أيضًا بوضع أوباما، مقطعٌ من جلسة استماع في الكونجرس الأمريكي منذ عشرة أيام واجه فيه السيناتور ليندسي جراهام كلًا من وزير الدفاع آشتون كارتر والجنرال جوزيف دنفور، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، بخصوص سياسة أمريكا العسكرية في سوريا. في المقطع، الذي يستحق أن يسمعه كل مسؤولٍ عربي، أمطرَ الرجلُ المسؤولَين الحكوميين بأسئلةٍ صريحةٍ وواضحةٍ ومباشرة تتعلق بتخبط سياسة أوباما في سوريا والمنطقة، وما فيها من تناقضات وكذبٍ ونفاق وتهافت.يتساءل السيناتور مثلًا موجهًا الحديث لوزير الدفاع: "لقد أعلن الوزير كيري أن لدينا خطة (ب) في حال انهيار وقف إطلاق النار، فهل لدينا خطة (ب) ؟". "سأترك الجواب لوزير الخارجية حضرة السيناتور" يجيب آشتون. فلا يكون من جراهام إلا أن يعلق قائلًا: "هل لدينا خطة (ب) أم أنها (محضُ هراء) BS؟" مُستخدمًا اختصارًا للفظٍ أمريكي لا تليق ترجمته الدقيقة.هكذا، بإجابات مترددة، ولغة جسدٍ مرتبكة، وألوان من التهرب والتبرير، وشعورٍ واضحٍ جدًا بالتناقض بين رأيهم الحقيقي وما يجب أن يقولوه علنًا، حاول المسؤولان الإجابة على الأسئلة. ببساطة، لأنهما موظفان لدى أوباما، في حين أن السيناتور مُنتخبٌ من الشعب. فرغم شيوع المعرفة بأن موظفي الرئيس الأمريكي المسؤولين عن السياسة الخارجية، ساسةً وعسكر وأمنيين، لا يوافقونه الرأي كليًا، إلا أنهم لايستطيعون التصريح برأيهم. أما عضو الكونجرس المُنتخب، فيملك كل الحرية ليفعل ذلك.هو عالمٌ يعيش فيه العرب، أكثرَ من غيرهم، وفي منطقتهم، من دون قواعد ولا قوانين ولا خطوط حمراء حقيقية، مهما حاول موظفو الإدارة الأمريكية الإيحاء بغير ذلك. وليس أسعدَ من الأسد، مع الإيرانيين والروس، بهذا الوضع، وباستعداد العرب لتصديقه والقبول به.هل يكون هذا قدرًا لا يمكن الفكاك منه ومن نتائجه؟ الجواب لدى التاريخ بالتأكيد. وربما عند بعض العرب.

361

| 08 مايو 2016

هل يحتمل الواقع العربي استسلام السوريين للأسد؟

من القواعد الشائعة في التفكير الاستراتيجي أن عدم المبادرة بمشروع سياسي، ابتداءً، أفضلُ بكثير من إطلاق المبادرة، ثم التردد في إنهائها. خرج السوريون منذ خمسة أعوام إلى الشوارع محتجين على الظلم والطغيان. كان هذا شأنًا سوريًا يومذاك. لكن نظام الأسد أشعل معركة مع شعبه، ثم نقلها لتُصبح، بالتدريج، شأنًا دوليًا. من وقتها، وبالتدريج، أدرك العرب أن سوريا باتت، قبل كل شيء، شأنًا عربيًا محضًا لا يمكن الهروب منه.وشهرًا في إثر شهر، علموا أن تجاهل حقائق الجغرافيا السياسية مستحيل؟ كما هو الحال مع التاريخ والثقافة والاجتماع واللغة والاقتصاد، و..المصير المشترك، ليس بالمعنى التقليدي الرتيب الذي كان يُطلقُ يومًا شعارًا للاستهلاك في منابر الإعلام، وإنما نتيجة الوقائع الجديدة الأمنية والعسكرية والسياسية التي فُرضت على المنطقة خلال السنوات الخمسة الماضية.قد يحاول البعض الهروب من الحقائق والأسئلة السابقة، استسهالًا ومللًا، على المدى القريب. قد يرى آخرون أن ثمن مواجهتها كبير، على المدى القريب أيضًا. لكن حسبةً تاريخيةً سياسية جدية تُظهر أن ثمن الهروب سيكون أكبر من أي ثمنٍ آخر، وبما لا يُقاس، على المدى المتوسط قبل البعيد. ثمة تقاطعاتٌ مهمة في قواعد الاستراتيجيات بين عالمي السياسة والاقتصاد. من هنا، تصدقُ المقولة التي يؤكد عليها دائمًا مارك زوكيربيرغ، مؤسس موقع فيسبوك الذي يغير العالم، حين يقول: "إن أكبر مخاطرة تكمنُ في محاولة تجنب المخاطرة. ففي عالمٍ يتغير بسرعة، تتمثل الإستراتيجية الوحيدة المحكومة بالفشل في عدم القيام بأي مخاطرة".منذ أعوام، تقود السعودية جهدًا عربيًا لدعم الشعب السوري محورهُ الإصرار المتكرر على حلٍ سياسي تؤكد دومًا باستحالتهِ "في ظل بقاء الأسد". ولإدراكها العميق، المبني على الحسابات، بالتأثير السلبي الاستثنائي لبقائه في موقعه، على وجود ومصير المنطقة بأسرها، وليس فقط على سوريا، فإنها تَذكرُ بين آونةٍ وأخرى أن "ذهابهُ" يجب أن يكون حتميًا، إن لم يكن بالوسائل السياسية فبغيرها.واستمرار هذا الموقف الحاسم، طوال الفترة السابقة وإلى الآن، ليس ردة فعل أو فرقعةً إعلامية تتلاشى بعد وقتٍ قصير. وإنما هو نتيجةٌ منطقية لحسبةٍ إستراتيجيةٍ معقدة لا تنحصر في النظر إلى الأسد كلاعبٍ في المعادلة السورية الداخلية، وإنما تتسع لتدرك دوره الأداتي والوظيفي الخطير والمركزي في ترتيبات إقليمية وعالمية لا يمكن وصفُ تَبِعاتها سوى بعبارة "التهديد الوجودي"، وتحديدًا، للدول العربية القليلة التي لا يزال بإمكانها أن تتصدى لتلك الترتيبات. والمؤهلة، بالمقاييس الاستراتيجية أيضًا، للمساهمة في فرض ترتيبات جديدة تأخذ مصالحَها بعين الاعتبار، وبلغةٍ وأدوات يفهمها تمامًا أهل الترتيبات المذكورة.نقولها مرةً أخرى: مايجري خطيرٌ جدًا. وهو يستهدف كل المكونات، دون استثناء.. ولا تنفع معه لا التطمينات السرية، ولا الوعود الزائفة، ولا التنازلات الجانبية، ولا التفاهمات المُنفردة. فهذه كلها تدخل في تكتيكات (الاستفراد)، وهي جزءٌ من اللعبة الجديدة التي انطلق مسارُها، ولن يوقفها إلا تفكيرٌ استراتيجي حقيقيٌ لا يزال موجودًا دون شك.لا مفر هنا من مصراحةٍ اعتادها القارىء في هذا المقام. وفي قلب المصارحة إجماعُ السوريين على أن رحيل الأسد، وانتقال سوريا لتُصبح دولةً تضمن الكرامة والحرية لمواطنيها، لن يُشكلا تهديدًا لأحد.. وإذ يركزُ أهلها على إعادة بناء بلدهم من الخراب الكامل فسيبقونَ مستغرقين في هذه المهمة لأجيال.. وسيكون أقل واجبهم ردُّ الجميل، لمن وقف معهم فعليًا في محنتهم، على جميع المستويات، ليس فقط بالكلام والشعارات، وإنما بالتنسيق والتعاون والتحالفات على جميع المستويات. وهذا أمرٌ لن ينبع فقط من اعتبارات أخلاقية، وإنما انسجامًا مع جوهر الواقعية السياسية.ثمة اعتقادٌ بأن التعامل مع المسألة سيكون أسهل بعد رحيل أوباما من البيت الأبيض، وهذا يُجانبُ الصواب من أكثر من وجه. فمن ناحية، إن فازت كلينتون مثلًا كما هو مُرجح، سيجري استنزافها لشهور في معارك داخلية يخطط لها الجمهوريون منذ الآن.ومن ناحية أخرى، يعرف الجميع أن الرئيس أوباما دخل الآن فيما يُسمى مرحلة (البطة العرجاء) في السياسة الأمريكية. بمعنى أنه أضعف من أي وقتٍ مضى في إدارته حين يتعلق الأمر بصنع السياسات، داخليةً كانت أو خارجية. فالرجل، مثلًا، يحاول منذ شهرين تعيين قاضٍ في المحكمة الدستورية العليا بعد شغور مقعدٍ فيها. ورغم أنه رشّحَ قاضيًا أقل ليبراليةً مما توقع المراقبون، لمحاولة إرضاء الجمهوريين، ورغم أن من حقه دستوريًا ترشيح القاضي بحيث يمضي الكونجرس في عملية التعيين، إلا أنه لم يستطع مجرد إقناع الجمهوريين بعقد جلسات استماع رسمية لمرشحه. لهذا، يكتفي الرجل اليوم بزيارات وداعية داخلية وخارجية، وقضاء الوقت مركزًا على تحضيرات بناء وتجهيز المكتبة الرئاسية الخاصة به.هذا يعني أن ثمة نافذة فرصة خلال الأشهر القادمة لتشكيل أمرٍ واقعٍ جديد في سوريا، من خلال جملةٍ من الإجراءات التي تندرج في إطار الدبلوماسية والسياسات، المُعلنة وغير المعلنة، كما هو الحال دائمًا في ساحة العمل السياسي الدولي الراهن. ويدعم إمكانية النجاح في هذه الممارسة الهوة المتزايدة بين الرجل ومُجمل مؤسسة صناعة السياسة الخارجية، من الساسة والدبلوماسيين والأمنيين والعسكر، داخل إدارته نفسها وخارجه.لا دعوة لمواجهاتٍ طفولية في هذا المقام. كل المطلوب هو الاعتماد على القوة وكأنه لا يوجدُ شيءٌ اسمه دبلوماسية أو سياسة، واستخدامُ الدبلوماسية والسياسة وكأنه لا يوجد شيءٌ اسمه القوة، دون تضاربٍ موهوم بين الأمرين. ويأتي معه الفهم العميق والمستمر لمعادلات موازين القوى والمصالح العالمية، وتحقيق الأهداف، بإبداع، من خلال استيعاب وتوظيف مناطق الخلخلة والتغيير المتكررة في تلك المعادلات.

354

| 01 مايو 2016

العرب..والتخطيط لما بعد أوباما

كثُر الحديث منذ أسابيع في العالم العربي عن مقال "عقيدة أوباما" الذي كتبهُ الصحفي الأمريكي جيفري جولدبيرغ عنوانًا لمادةٍ مطولة نشرها في مجلة The Atlantic، استخلصها من أكثر من حوار أجراه مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما. الظاهر أن الرئيس يحب إرسال رسائل تتعلق بالسياسة الخارجية، خاصةً مع العرب والمسلمين، من خلال حواراته مع هذا الصحفي. نذكر هذا لأن الرجل أجرى مع أوباما لقاءً آخر، في نفس المجلة، في مثل هذه الأيام منذ عامين كاملين، سيكون مفيدًا العودة إليه بسرعة لأن فيه عنصرًا هامًا يؤخذ بعين الاعتبار في دراسة مقاييس الرجل ومداخل تقويمه لمسائل السياسة الخارجية.فعندما سأله جولدبيرغ عن رأيه فيما إذا كان يرى خطورةً أكبر في التطرف السني أو التطرف الشيعي، طرح أوباما وجهة نظر لا يمكن الهروب من دلالاتها الإستراتيجية الخطيرة على مستوى الرؤية السياسية وعلى مستوى القرارات العملية التي يمكن أن تُبنى عليها. ذلك أن الرجل تهرب من الإجابة المباشرة على السؤال، لكنه أجاب عليه بطريقة معبرةٍ جدًا قال فيها: "ما سأقوله هو أنك إذا نظرت إلى السلوكيات الإيرانية فستجد أنها إستراتيجية، ولا تأتي على شكل ردود الأفعال. إن لديهم رؤية متكاملة للعالم، وهم يدركون مصالحهم، ويستجيبون لمعادلة الأرباح والخسائر..إنهم دولة كبيرة وقوية ترى نفسها كلاعب مهم على المسرح العالمي".التخطيط الإستراتيجي الحقيقي، البعيد عن ردود الأفعال، والمنبثق من المصالح، ومن امتلاك رؤيةٍ متكاملةٍ للعالم هو مدخل الفعل السياسي لمن يرى نفسه لاعبًا مهمًا على المسرح العالمي. لسببٍ ما، أعطانا الرئيس الأمريكي هذه (المحاضرة) بشكلٍ صريح، لكن مضمونها يبقى منسجمًا مع واقع العلاقات الدولية في عالم اليوم.رغم التحديات، يحاول العرب منذ عامٍ مضى، بقيادةٍ سعودية، بناء منظومة سياسيةٍ إقليمية وعالمية تتمحور حول ذلك العنصر تحديدًا. والمفارقة، أنه بعد عام من اليوم، حين يكون العرب ماضين في مواجهة التحديات، سيكون أوباما خارج البيت الأبيض يستمتع بتقاعده كرئيسٍ سابق. الأهم في الموضوع، كما تشير كثيرٌ من المعطيات، أن رؤية أوباما الخاصة للسياسة الخارجية، أو ما تبرعَ جولدبيرغ بصياغته كـ(عقيدة)، ستكون بدورها شيئًا من الماضي، لا تتجاوز علاقة مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية به إلا كأرشيفٍ على أحد رفوف مكتبةٍ خاصة، تحوي متحفًا، تُبنى لكل رئيسٍ أمريكي بعد انتهاء ولايته (في الحقيقة، يعمل أوباما بحرص على تنفيذ الفكرة منذ زمن، وبتكلفة تتراوح بين 800 مليون إلى مليار دولار حسب مصادر حكومية، مقارنةً بـ300 مليون دولار، تكلفة متحف ومكتبة جورج بوش الابن) .من هنا، وخروجًا من ملابسات اللحظة الراهنة، وانسجامًا مع دلالات ما هو (إستراتيجي) في التخطيط والرؤية، يُضحي طبيعيًا تركيز التفكير في عناصر أخرى تساعد العرب على التعامل مع أمريكا بعد أوباما.يمكن الإشارة، بدايةً، إلى حقيقةٍ تتمثل في أن اختزال مداخل وقنوات العلاقة بين الطرفين في الجهات الرسمية والحكومية يصبح أحيانًا جزءًا من المشكلة. ذلك أن أي علاقةٍ صحية بين جماعتين حضاريتين ضخمتين بهذا الحجم والتأثير يجب أن تكون مبنيةً في جانبٍ أساسي منها على جهد ونشاط المؤسسات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني ومراكز الدراسات والأبحاث والمؤسسات التعليمية. أما الاقتصار على القنوات الرسمية لبناء العلاقة المذكورة فإنه سيُغيّب بالضرورة المرونة والحيوية المطلوبة لمثل هذه العمليات الحضارية. وسيؤدي في كثير من الأحيان إلى طرق مسدودة، أو إلى مآزق آنية مزعجة في حال حصول أحداث كبرى، كما جرى مثلًا بعد هجمات سبتمبر المعروفة.من الضرورة بمكان، ثانيًا، التأكيد على انتقال العلاقة بين الطرفين إلى درجةٍ أعلى من الندية، تقوم على الإدراك المتجدد لقوة وحجم الأوراق التي يملكها الطرف العربي، والخليجي بشكلٍ رئيس، في خضم عملية (التدافُع) التي تحكمُ مجال العلاقات الدولية. أما العامل الرئيس في الموضوع فيكمن في ظهور (الإرادة السياسية) لاستعمال تلك الأوراق، وفي التعبير عن تلك الإرادة عمليًا، وليس التلويح بها نظريًا فقط. وإذ نُدرك، كعرب، كل الحقائق المتعلقة بقوة أمريكا ودورها المحوري والقيادي في العالم، ونتعامل مع تلك الحقائق بعقلانيةٍ وموضوعية. لكننا ندرك أيضًا، بشكلٍ متزايد، أن ثمة ساحات ومداخل للتعامل الندي المذكور هي من صُلب طبيعة النظام الدولي، وفي مجال العلاقات مع أمريكا تحديدًا. المفارقةُ أن أمريكا نفسها تعرف هذه الحقيقة بكل وضوح، وتبني سياساتها الخارجية بناءً عليها. لهذا، يُصبح ساذجًا التفكيرُ بوجود تناقض بين إدراك دور أمريكا في العالم والإقرار به من جانب، وبين البحث على الدوام عن سياسات خلاقة ومُبتكرة تُمارسها الدول الأخرى للتعامل مع ذلك الواقع بما يُحقق مصالحها، من جانبٍ آخر.وأخيرًا، من الواضح أن مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية أدركت، منذ بدء (عاصفة الحزم)، أن العاصفة المذكورة لا تتعلق باليمن فقط، بل بالمنطقة بأسرها. وأنها عاصفةٌ تهدف لإحداث نقلةٍ في العلاقة معها من كونها مجرد (إدارة) قائمة على الرؤية الأمريكية النمطية، لتصبح علاقة نديةً قائمةً على وجود (الإرادة): المرادف الأقرب لـ(حزمٍ) أحدث اختراقات في السياسات العربية غير مسبوقة، ولم تكن أمريكا، بحكومتها ومراكز دراساتها وأبحاثها، تتوقعُ حصولها. هكذا هي أمريكا، وهذه هي (واقعيتُها). يفرض (الواقع) نفسه عليها، فتركض لاستيعابه ومحاولة فهمه. وهو ما ستؤكده مؤسسة السياسة الخارجية بشكلٍ يختلف جذريًا عن رؤية رئيسٍ يحاول أن يترك لنفسه ذكرًا في التاريخ آخرَ أيامه في البيت الأبيض.في هذا الإطار، يأتي استمرار الحزم المذكور، بكل مساراته، خاصة في سوريا الآن، ليصبح أهم عاملٍ في إقناع تلك المؤسسة، المتشككة في رؤية أوباما وقراراته أصلًا، بضرورة بناء علاقةٍ إستراتيجية جديدة مع المنطقة، بواقعية، وبعيدًا عن أوهام المجد الشخصي على جدار الذكريات.

687

| 24 أبريل 2016

ترتيب البيت الإسلامي: تركيا والسعودية بين الدور والمسؤولية

كنا نعرف، ومعنا العالم بأسره، أن منظمة التعاون الإسلامي هي ثاني أكبر منظمة دولية في العالم، وأنها تمثل 57 دولة يبلغ عدد سكانها 1.5 مليار إنسان يمثلون أكثر من 20% من تعداد البشرية، وأن مساحتها مجتمعةً أقلُ بقليل من مساحة روسيا وأوروبا والولايات المتحدة سويًا، فيما يقترب معدل ناتجها القومي من معدل الناتج القومي للاتحاد الأوروبي.لكن ما كنا نعرفه، ويعرفه العالم أيضًا، يتمثل في حقيقة العجز المخزي لتلك المنظمة، بكل تلك الأرقام، على إيجاد مكانٍ لها في هذا العالم يليق بحجمها ووزنها السكاني والجغرافي والاقتصادي، وموقعها الجيوسياسي."أن تصل متأخرًا خيرٌ من ألا تصل أبدًا". ثمة أملٌ بأن تنطبق هذه المقولة على حاضر المنظمة ومستقبلها بعد انعقاد القمة الثالثة عشر في إسطنبول منذ يومين. ورغم كثرة التحديات وصعوبة الواقع، داخل دول المنظمة وخارجها، إلا أن عنصرًا وحيدًا، دون اختزال، سيساعد في حصول النقلة المطلوبة: الإرادة السياسية.واليوم، تظهر تلك الإرادة بشكلٍ واضح لدى أكبر قوتين مؤهلتين، سويًا، لتُصبحا رافعة العمل في المنظمة بحيث تبلغ كمونها المطلوب، والممكن يقينًا: السعودية وتركيا. فمع التغيرات العاصفة التي أصابت المنطقة العربية، ولا تزال تحيط بها. ومع ارتداداتها الإقليمية والعالمية التي تأثرت بها دول المنظمة بأشكال متفاوتة، تَشَكل واقعٌ جديد، سياسي وأمني وثقافي واقتصادي، يفرض على البلدين التعاون والتنسيق في أعلى أشكاله تنظيمًا وفعالية، ليس فقط لتطوير واقع دول المنظمة، وواقعهما عطفًا على ذلك. وإنما، الأهم من هذا، لمواجهة التحدي الوجودي الذي يكاد يعصف بالجميع، في حال الاستسلام لتوجهات النظام العالمي الجديد الذي يتشكل في السنوات الأخيرة.لا يمكن أن تكون القضية حصرًا في البلدين على وجه التأكيد، لأن هذا التفكير يناقض بذاته معنى وجود المنظمة وحتمية صعودها في العالم بجهود أعضائها دون استثناء. لكنّ ثمة عاملين يجب أخذهما بعين الاعتبار. أولًا، أهلية القيادة، بكل ما تتطلبه من قدرات وإمكانات بمقاييس العصر المعروفة، وثانيًا، الخيار الذاتي، ويمكن هنا أيضًا استعارة مفهوم الإرادة السياسية.فواقعنا المعاصر يُظهر بوضوح أن حجم الدولة وتاريخها لم يعودا حاسمين، وحدهما، لاحتلال دورٍ متقدم يعطي زخمًا إضافيًا لموقعها ودورها في هذا العالم بشكلٍ عام، وفي ترتيب البيت الإسلامي الذي نتحدث عنه تحديدًا. فكم من دولةٍ تُصرُ، وأحيانًا بعنادٍ غير مفهوم، على الاستقالة من دورها وتقزيم موقعها، مهما تناقضَ ذلك مع حجمها وتاريخها. وكم من دولةٍ تصعد كالصاروخ في تأكيد دورها وموقعها، مهما تناقض ذلك، أيضًا، مع حجمها وتاريخها.ثمة حقيقةٌ أخرى يجدر الحديث عنها بصراحةٍ ووضوح. فالحديث عن تطوير منظمة المؤتمر الإسلامي، وكل ما له علاقة بذلك من صفةٍ (إسلامية)، لا يتضارب بالضرورة مع (عربية) الدول العربية وثقافتها، تمامًا كما لا يتضارب مع (إفريقية) أعضاء المنظمة من القارة السمراء، ولامع (آسيوية) أعضائها من آسيا، بكل تنوعها الكبير إثنيًا ولغويًا وثقافيًا.هذه (تناقضاتٌ) موهومةٌ ومُفتعلة، يمكن أن تُصبح مجال تضارب وُفق فكرٍ تقليديٍ لم يعد صالحًا للعصر، لكنها في حقيقتها مصدرُ تنوعٍ ثريٍ وهائل. وبشيءٍ من التفكير المعاصر، سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، تبني الخلفية السابقة أطرًا حديثة ومعاصرة من التداخل والتكامل الإيجابي لدوائر الهوية والانتماء، بعيدًا عن الشعور بأنها مداخل تنافرٍ وتنافسٍ وعداءٍ.أكثرُ من ذلك. يمكن أن تُصبح هذه الطريقة في التفكير، نهايةَ المطاف، مدخل حلٍ أكثر فعاليةً لمشكلة الطائفية، بكل ما ينتج عنها في واقعنا المعاصر، من ارتكاسٍ إلى هوياتٍ ضيقةٍ بدائيةٍ غرائزيةٍ أحادية البُعد. وهذه مُقاربةٌ لمحاربة الطائفية وعنفها القاسي المعاصر يجدر أن تكون مجال دراسةٍ وتفكيرٍ، إن كنا نبحث حقًا عن حلول شاملة وغير تقليدية للظاهرة.وهذا كله يُغلق، بالتالي، باب الادعاءات، على المستوى الدولي، بأن هذه النشاطات تشكل نوعًا من العُزلة والانغلاق والتقوقع داخل أطرٍ دينية ومذهبية. فالحقيقة أن النظام الدولي المعاصر يبدي عجزه المتزايد، مع كل مشكلةٍ جديدة تواجه العالم، في معالجة تلك المشاكل من جذورها. ويَظهر واضحًا باطراد، للمراقبين الجديين في كل مكان، أن عقلية (إدارة الأزمات) أصبحت جوهر الرؤية السياسية لهذا النظام الدولي. فمن السياسة إلى الاقتصاد، ومن الأمن إلى الاجتماع والثقافة، ومن المنطقة العربية إلى أوكرانيا، مرورًا بأزمات أوروبا وإفريقيا والشرق الأقصى، يبدو النظام العتيد مكتوف اليدين حين يتعلق الأمر بحلول جذرية تُرسخ الأمن والسلام والاستقرار والتنمية في أي منطقة بشكلٍ مستدام. وحين نصل إلى أمريكا، نجدها تقدم لنا مثالًا على ما يمكن أن تهديهِ للعالم في المستقبل القريب: دونالد ترامب، وهذا أمرٌ لا يحتاج لتعليق.بالمقابل، تقدم منظمة التعاون الإسلامي تحت شعارها الراهن (الوحدة والتضامن من أجل العدل والسلام) حلولًا لمشكلات يعتبرها النظام الدولي أساسية وخطيرة، وهي كذلك فعلًا، لكن حلوله المشوهة لها تزيدها اشتعالًا. مَن هو، مثلًا، المتضرر الأكبر من ظاهرة الإرهاب؟ ومَن هو بالتالي الأقدر على التعامل معها بشكلٍ جذريٍ حاسم؟ تَعرضُ المنظمة ترياقها الخاص لهذا المرض. وإذا نجح في شفاء البشرية منه، كاحتمالٍ غير مستبعد، سيكون معيبًا، مع هذا المثال، ومع حديثنا السابق عن عجز النظام الدولي، عدم الاستجابة لأردوغان في دعوته لإعادة هيكلة مجلس الأمن، وصولًا لنظامٍ دولي أكثر تنوعًا وتمثيلًا وقدرة حقيقيةً على حل مشكلات هذا العالم.يعيد هذا التحليل التذكير بالمسؤولية الكبرى المُلقاة على تركيا والسعودية ليكون العمل الفعلي بعد القمة الأخيرة خطوة انطلاق حقيقية، ليس فقط لإعادة ترتيب البيت الإسلامي، وإنما البيت العالمي الذي ملأته الفوضى ولم يعد بعض ساكني غرفه الراقية قادرين على وقف اهتراء أساساته.

412

| 17 أبريل 2016

ماذا بعد الجولة الثانية من مفاوضات جنيف؟ 3 (3)

بعد مرحلةٍ طغت عليها أجواء إيجابية بالنسبة للمعارضة السورية في الأسابيع السابقة، تواجه الآن جملة مناورات مكثفة لإلغاء مكتسباتها، وإعادة خلط الأوراق وصولًا لمحاصرتها في زاويةٍ تدفعها لتقديم التنازلات."خطوة إلى الخلف، خطوتان إلى الأمام". بهذا عبر الزعيم الصيني ماو تسي تونغ عن معنى مهم للسياسة لايُتقنها، بحرفية، من يغفل عنه. فبحكم أنها تتفاعل دومًا مع متغيرات الواقع، وما يُصاحب ذلك من تغيير دائم في موازين القوى لمختلف اللاعبين المنخرطين فيها، لا يمكن لأي منهم، ولو كان قوةً عظمى، الاعتقاد بأن كل شيءٍ سيكون في صالحها في كل مرحلة. وفي الحقيقة، يصبح هذا الاعتقاد، نفسهُ، فخًا يوقع صاحبه في كثيرٍ من الأخطاء، لأنه ينتج عن الوهم ويُجانب الواقع الذي لا يمكن التعامل معه إلا بمرونة بالغة.بالمقابل، يستوعب السياسي المرن، بواقعية، إمكانية وصوله إلى نقطة يجب أن ينحني فيها أمام ريحٍ معاكسة، لكن قمة المهارة تظهر حين يتعامل مع الأمر بطريقةٍ تُظهر للآخرين أنه يتراجع، بما يُشعرهم بالرضا، وربما الغرور، ممزوجًا بالاسترخاء، في حين يستغلها فرصةً لهجوم مباغت لا يعوض فيه تراجعه فقط، وإنما يكسب معه المزيد. قد يعبر هذا التحليل عن خطةٍ (بعيدًا عن منطق المؤامرة) تُواجه المعارضة السورية في هذه المرحلة.أول عناصر هذه الخطة يتمثل فيما سماه إعلاميون ونشطاء سوريون بعملية "إغراق وفد المعارضة". بدأت التحرك بتصريحات (بريئة) قال فيها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا ما معناه أن "السوريين هم الذين يقررون مستقبلهم"، وهو مصطلحٌ يكرره الروس والنظام كثيرًا.هذه المقدمة السياسية / النفسية ضروية لما سيليها من عناصر في خطة محاصرة المعارضة عبر إغراقها. وهنا يأتي الدور الحقيقي لكل تلك الوفود التي كان المبعوث الدولي يحرص على رعايتها ووجودها في جنيف، مع تطوير أدوارها بشكلٍ مدروس ومتدرج بدءا من تأكيده (البرىء أيضًا) في بداية عملية جنيف3 بأنها مجرد وفود استشارية له شخصيًا. فبعد التصريحات الجديدة المتكررة عن ضرورة قيام (السوريين) بتقرير مستقبلهم يتم الانتقال الآن إلى التنفيذ العملي لمخطط الحصار عبر الإغراق، مع عودة الزخم المفاجىء والمتصاعد لتصريحات المسؤولين الروس وفي مقدمتهم نائب وزير الخارجية بوغدانوف الذي وجه، كما نقل الزميل إبراهيم حميدي في (الحياة)، "انتقادات حادة لـ (الهيئة) [العليا للمفاوضات] باعتبارها تضم إسلاميين أو شخصيات محسوبة على دول إقليمية أو شخصيات منشقة عن النظام، والتنويه ببقية المعارضين بما في ذلك الشخصيات التي زارت القاعدة العسكرية الروسية في اللاذقية غرب سورية". مع ما في هذا المنطق من استغباءٍ، أو غباء، سياسي بكل المقاييس. علمًا بأن هذا يُناقض بشكلٍ واضح تصريحات ووقائع سابقة للروس وغيرهم أظهرت أن تمثيل المعارضة أصبح محسومًا، ومحصورًا رسميًا في الهيئة العليا للمفاوضات. في نفس الإطار ذكر الزميل أحمد كامل، في حوارٍ جانبي، أن "دي ميستورا دعا مايقرب من 100 سوري إلى جنيف لتقرير مصير سوريا. من بين الـ 100 شخصية، حوالي 20 فقط متمسكون بإسقاط النظام، و80 إما يمثلون نظام الإبادة الأسدي وإما مُهادنون له". ثم فصَّلَ في الأمر أكثر فيما يتعلق بالوفود وأحجامها قائلًا: "وفد المعارضة 17 شخصًا / وفد الجعفري 15 / وفد المستشارات النسائية لدى ميستورا 12 / وفد [قاعدة] حميميم [المُسيطر عليها روسيًا] 18 / وفد موسكو والقاهرة والأستانة 11 / وعدد غير محدد ممن يُسمون ممثلي المجتمع المدني". أخيرًا، علقَ الزميل بما استخلصه من تلك الحسبة بقوله: "قريبًا ستكون هناك تسويةٌ سياسية تُكبل غالبية الشعب السوري لسنين طويلة قادمة، وما زالت مسأله تمثيل الشعب السوري لا تحظى بالوعي اللازم، ولا بالحزم اللازم".وفي تأكيدٍ عملي لسير الأمور في الاتجاه المرسوم، لاحظ الزميل حميدي في مقاله المذكور أعلاه "حصول تغيير في نص الدعوة إلى ممثلي (إعلان القاهرة) الذين كانوا حصلوا على ثمانية مقاعد في وفد مشترك من 15 عضوًا مع (مجموعة موسكو) برئاسة قدري جميل. ووفق الدعوة التي بعثها المبعوث الدولي، فإن أعضاء (إعلان القاهرة) مدعوون إلى "الانضمام في جنيف في مسار المفاوضات التي تشمل مشاورات حول كيفية إنهاء النزاع ووضع أسس لتسوية مستدامة، بموجب بياني فيينا".إذا أضفنا لهذا تحركات بوغدانوف الجديدة مع أطراف محسوبة على المعارضة، وتصريحات الأمريكان، ومعهم دي ميستورا، أنهم استلموا من الروس مقترحات بناءة فيما يتعلق بالدستور، والتلاعب المستمر في الحديث عن (المرحلة الانتقالية) وعن (رحيل الأسد)، يبدو واضحًا أن العملية بأسرها تهدف إلى تشويش المعارضة، وشَغلها عن التفكير بجدول أولويات سياسي محترف يمكنها من استلام المبادرة مجددًا. وهو أمرٌ لا يمكن أن يحصل في معزلٍ عن التركيز المكثف على جملة عناصر أساسية تُشكل مجال تأثيرها الفعلي.باختصار يأتي تفصيله لاحقًا. تتمثل العناصر المذكورة فيما يلي: 1(حسمُ القول باستحالة وضع دستور في هذه المرحلة والإصرار على (إعلان دستوري مؤقت)، قدم مثاله المحترف الحقوقي السوري أنور البني). 2(الرفض الحاسم لعملية إغراق المعارضة، مع التحضير لعمليةٍ مقابلة تتمثل في تحضير وفود، متعددة الاختصاصات والتمثيل، تدعم وفد الهيئة الرئيس عند الدخول في عملية (عد الأصوات). 3 (عدم الفصل بين المسارين السياسي والإنساني بشكلٍ كامل). 4(ترسيخ وتوسيع آليات وممارسات المؤسسية والشفافية في عملية اتخاذ القرارات داخل الهيئة، لأن هذا ما يضمن ضبط أولوياتها فعليًا، ويحافظ على شرعيتها الشعبية الضرورية في مواجهة ما تتعرض له الآن من ضغوط.

805

| 10 أبريل 2016

ماذا بعد الجولة الثانية من مفاوضات جنيف؟ 3 (2)

بغض النظر عن (جزئية) الانسحاب الروسي من سوريا، من الواضح، بحسبةٍ بسيطة، أن تَبِعاته كانت وستبقى سلبيةً بالنسبة للنظام، وستصب في مصلحة قوى الثورة، إن أتقنت التعامل مع المعطيات الراهنة والقادمة.لكن المؤكد أن الموقف الروسي بالنسبة للقضية السورية يمثل جانبًا واحدًا فقط من صراعٍ تحاول روسيا أن يكون (إستراتيجيًا) مع الغرب، وأمريكا تحديدًا. وهذا صراعٌ كانت أوروبا، وستبقى الموقع الأساسي له. وليست سوريا سوى هامش مناورات تكتيكي جيوسياسي فيه.ثمة حقيقةٌ يجب استحضارها على الدوام فيما يتعلق بهذا الموضوع بعيدًا عما هو شائع. فبمقاييس (القوى العظمى) الحقيقية اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا وحتى عسكريًا، لم يعد ثمة مجالٌ للمقارنة بين أمريكا وروسيا منذ سقوط الاتحاد السوفيتي السابق، والأرقام والشواهد العلمية المتعلقة بهذا الموضوع أكثر من أن تُحصى بالنسبة للمتخصصين. بين عامي 1990 - 1995 فقط انخفض الناتج المحلي الإجمالي والإنتاج الصناعي لروسيا بنسبة 50%، وشهد معدل الوفيات ارتفاعًا كبيرًا، وهوى ملايين الناس في براثن الفقر بحيث ارتفعت نسبة الفقراء من 1.5% في ظل الدولة السوفيتية إلى قرابة 50%، مع انتشار الفساد والفوضى والمافيات وارتفاع نسب الجريمة والبطالة بشكلٍ مخيف، فضلًا عن النتائج الكارثية لتمرد الشيشان والحرب فيها.كان هذا واقعًا مُعترفًا به، عمليًا، من قِبلِ روسيا قبل أمريكا. لكن الطرفين لم يمانعا، أيضًا، في استمرار الحديث النظري عن كون روسيا (دولةً عظمى) إعلاميًا ودبلوماسيًا، حيث كان هذا (الانطباع) يحقق لكلٍ من الدولتين أهدافًا تناسب طبيعتها ودورها في النظام العالمي الجديد الذي ظهر بعد سقوط المعسكر الشرقي.وصل الرئيس فلاديمير بوتين إلى الحكم عام 1999، وبحكم خلفيته الأمنية، خلال وجود الاتحاد السوفيتي وبعد زواله، ومع شخصيته الطموحة القوية، طبق الرجل سياسات تضمن وجوده واستمراره رئيسًا قويًا لروسيا قوية تحت سيطرته المباشرة. وخلال 14 عامًا، منها 4 بشكلٍ غير مباشر تحت رئاسة صورية لديميتري ميدفيديف، استطاع تحقيق إنجازات اقتصادية أعادت للبلاد شيئًا من التوازن الداخلي المضبوط، لكنه استثمر بشكلٍ كبير في الصناعات العسكرية. وبالنتيجة، بدأ الرجل يبحث عن دورٍ أكبر لروسيا بوتين، الأمر الذي بدا، من بعيد، خرقًا للتفاهم الروسي الأمريكي.في إطار التفاهم المذكور، كان المجال الحيوي الجيوسياسي لروسيا يتضمن السيطرة السياسية غير المباشرة على الدول المجاورة لها بما فيها أوكرانيا. بدأت المشكلات في هذا البلد الحساس بالنسبة لروسيا عام 2004 واستمرت في التصاعد حتى انفجرت بشكلٍ كامل عام 2014، لتُصبح العامل الأهم في تذكير بوتين بالتفاهمات الأصلية، وبضرورة ضبط طموحاته لتبقى في إطارها.ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال واقع الحصار العسكري والاقتصادي والدبلوماسي الكثيف الذي تعرضت له روسيا، ولاتزال، خلال العامين الماضيين. من هنا، جاء قفز بوتين، المؤقت دائمًا، إلى سوريا في أواخر العام 2015 كهامشٍ أراد الحركة فيه بدرجةٍ مقبولةٍ أمريكيًا لأنها تُساعد على تحقيق أهداف تكتيكية لها تتعلق بحساباتها في المنطقة، وبحيث يمكن اعتبارها أيضًا حركةً تتطلب ثمنًا يتعلق بالصراع الأصلي، مع كونها تدخل في سياق روح التفاهم الأصلي الذي يسمح بالاستعراض الإعلامي والدبلوماسي، والعسكري في هذه الحالة فقط، لروسيا. من هنا، وبعيدًا عن مقولة (الانسحاب) الأمريكي من المنطقة، وهو أمرٌ ليس في يد الرئيس أوباما، حتى لو أراده حقًا، وهذا أمرٌ يحتاج لمزيد تحليل، فإن الدور الروسي في سوريا يتعلق بالصراع الأساسي المذكور في جزءي هذا المقال. ولايجب أن يكون مصدر تشويشٍ كبير لحسابات المعارضة بعد الجولة الأولى من مفاوضات جنيف3. قد يُفسر هذا التحليل، مثلًا، التناقض الذي يكاد يكون هزليًا فيما يتعلق بمصير بشار الأسد خلال الأيام التي تلت انتهاء الجولة المذكورة. فبعد اجتماع كيري ببوتين عشية انتهاء المفاوضات يصرح نائب لافروف أن "واشنطن تفهمت موقف موسكو بأن مستقبل الأسد يجب ألا يُبحث في الوقت الراهن". وفي اليوم التالي، يَصدر بيانٌ رسمي عن مايكل راتني، مبعوث أمريكا الخاص لسوريا، يؤكد فيه أن "نوع الانتقال السياسي الذي نتحدث عنه ليس شيئًا غامضًا وإنما هو انتقالٌ بعيدٌ عن بشار الأسد". وبعدها بيوم، تنقل رويترز عن وكالة الإعلام الروسية أن السفارة الأمريكية في روسيا ذكرت أن مدير المخابرات المركزية الأمريكية جون برينان أثار مسألة رحيل بشار الأسد مع المسؤولين الروس، وحصل هذا خلال زيارة له في أوائل شهر مارس، أي قبل قرار سحب القوات الروسية من سوريا. ورغم استمرار التشويش، وربما التناقض البناء، في هذا الموضوع تحديدًا، فإن انتباه المعارضة السورية يجب أن يكون مركزًا على ما تستطيع هي فعلهُ، وعلى ما هو في مجال تأثيرها العملي، بدلًا من ضياع الجهد والوقت في محاولات تفسير الموقف الروسي، وتفكيك ألغاز خلفياته وارتباطاته.هل من الحكمة القبول بمسألة كتابة الدستور في هذه المرحلة كما في مقترح دي ميستورا؟ هل يمثل الفصل بين المسارين السياسي والإنساني الطريقة الأمثل فعلًا لتحقيق مصالح الثورة والسوريين؟ ما هي المكاسب التي تحققت حتى الآن فعلًا مقابل الذهاب إلى جنيف؟ ماذا عن قضايا الشفافية والمؤسساتية في عمل الهيئة العليا للمفاوضات؟ هذه أمثلةٌ على ما يجب أن يكون أجندة اهتمام المعارضة في هذه الفترة. وهو ما سنعود له بالتفصيل في الجزء الأخير من المقال.

1170

| 03 أبريل 2016

alsharq
الكرسي الفارغ

ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...

4791

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
النعش قبل الخبز

لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...

3477

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
معرفة عرجاء

المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....

2865

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
العنابي يصنع التاريخ

في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...

2670

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
نموذج قطر في مكافحة المنشطات

يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...

2595

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
أين ربات البيوت القطريات من القانون؟

واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...

1428

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
ملف إنساني على مكتب وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة

في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...

1407

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
وجبات الدايت تحت المجهر

لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...

1038

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
وجهان للحيرة والتردد

1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...

954

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
القيمة المضافة المحلية (ICV)

القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...

831

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
دور معلم الفنون في مدارس قطر

في قلب كل معلم مبدع، شعلة لا تهدأ،...

807

| 17 أكتوبر 2025

alsharq
العنابي يحلّق من جديد

في ليلة كروية خالدة، صنع المنتخب القطري "العنابي"...

765

| 17 أكتوبر 2025

أخبار محلية