رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، سحب "الجزء الرئيس" من قواته من سوريا في أول يومٍ من الجولة الثانية من مفاوضات جنيف3، والتقى بوزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، عشية اليوم الأخير من الجولة.ثمة كلامٌ كثير عن (اتفاقٍ) أمريكي روسي يتعلق بالوضع الراهن والمستقبلي في سوريا. لكن فهم الصورة بشكلٍ أوضح لا يكون ممكناً إلا إذا عرفنا ماذا جرى في الأسابيع السابقة للإعلان الروسي، وما يجري بعدها إلى اليوم، وفي كثيرٍ من الأحيان في غياب ربطٍ واضح للأحداث في أذهان عامة الناس يفسر التطورات بصورةٍ أقرب للدقة. خاصةً فيما تواجهه روسيا جدياً، في الجوانب الاقتصادية والعسكرية، بغض النظر عن كل تصرفات (الماتشو) التي يُظهرها الرئيس بوتين.ففي حين كانت وسائل الإعلام تركز، في مؤتمر ميونيخ، يوم 13 شباط (فبراير) على ما يُسمى قضايا التعاون المشترك، مرر ينس ستولتينبرغ، الأمين العام لحلف الناتو تصريحات تتهم موسكو بزعزة الاستقرار والأمن في أوروبا، مع التأكيد على الحاجة لحوارٍ بناء معها، موضحاً "أننا في واقعٍ جديد مع روسيا".. قبلها بيومين، كانت الأهداف الحقيقية لاجتماع الناتو واضحة في اجتماع قادة الحلف في بروكسيل. حيث وافق وزراء دفاع الحلف على تعزيز وجود الحلف على طول حدوده الشرقية. واعتبر الأمين العام للحلف أن الموافقة على تعزيز وجود الناتو شرقا يستهدف ردع العدوان الروسي، و"سيبعث برسالة واضحة مفادها أن الحلف سيرد على أي اعتداء على أي حليف". ووجّه الرجل – خلال مؤتمر صحفي في بروكسل عقب اجتماع لوزراء الدفاع بالحلف- انتقادات لروسيا وحمّلها مسؤولية المساس بالتوازن الإستراتيجي في المنطقة، وضرب الجهود المبذولة لإيجاد حل سلمي في سوريا، وطالبها بتخفيف التصعيد. جدير بالذكر أن قيمة هذا الكلام من هذه الشخصية في هذا المقام، يؤخذ بجديةٍ أكثر بكثير من بعض (المناكفات) السياسية لكيري وغيره من ساسة أوروبا التي لا تؤخذ على محمل الجد.وقال الأمين العام إن ما تقوم به روسيا يتطلب ردا من الناتو، دون أن يوضح طبيعة هذا الرد. وسيكمل قرار الناتو تعزيز تواجده شرقا، ضمن الجهود التي تبذل منذ 18 شهرا لتمتين قدرتي الرد والردع لدى قوات الحلف، ردا على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في مارس/آذار 2014 وهجوم الانفصاليين الموالين لموسكو في شرق أوكرانيا.وفي هذا السياق، ستعزز "قوات متعددة الجنسية" إجراءات سبق أن اتخذت لطمأنة الدول الحليفة في شرق أوروبا منذ ربيع 2014، على غرار إقامة مراكز لوجستية ونشر معدات وإرسال مقاتلات إلى دول البلطيق أو نشر مزيد من البوارج في بحر البلطيق أو البحر الأسود، وفق ما أوضح ستولتنبرغ.وستضاعف أمريكا أربع مرات – حتى سقف 3.4 مليارات دولار- النفقات الهادفة إلى تعزيز الوجود الأمريكي في أوروبا، وذلك عبر نشر معدات قتالية ثقيلة (دبابات وقاذفات صواريخ) تلائم فرقة أمريكية من 15 ألفا إلى عشرين ألف عنصر. وإضافة إلى ذلك، سينشر الحلف ما بين 3200 وأربعة آلاف جندي في دول شرق أوروبا لعمليات تمرين وتدريب.بعد أقل من ثلاثة أسابيع، في 4 مارس (آذار)، بدأ حلف شمال الأطلسي مناورات عسكرية ضخمة في محافظة "تروندلاغط" وسط النرويج. وشارك في هذه التمارين حسب بيان لحلف الناتو في بروكسل أكثر 15000ألف جندي والعديد من البوارج والسفن الحربية والغواصات والوحدات البرية.أطلق على هذه المناورات اسم "الرد البارد" وتستمر عشرة أيام. وتجمع التمارين وحدات من ألمانيا وبلجيكا وكندا والدانمارك وإسبانيا وفرنسا والولايات المتحدة ولاتفيا والنرويج وهولندا وبولندا والمملكة المتحدة والسويد. وقد نشر الناتو في النرويج، التي تحد روسيا، ثلاث قاذفات إستراتيجية من طراز "بي-52" للتدرب على تنفيذ ضربات نووية ضد أهداف أرضية.على سبيل الرد، وفي نفس اليوم، صرح مدير جهاز الإعلام التابع للأسطول الروسي في البحر الأسود، أن الأسطول حصل على سرب من طائرات مقاتلة جديدة من طراز "سو-30إس إم". وشرعت روسيا في تحديث أسطولها في البحر الأسود منذ عام 2014، عندما استعادت شبه جزيرة القرم التي ترابط فيها وحدات أسطول البحر الأسود البحرية والجوية، الهوية الروسية.كانت هذه الحرب الباردة الدبلوماسية والسياسية والإعلامية بين أمريكا وروسيا تحصل على هامش الأضواء والكاميرات المسلطة على تعاون البلدين، الذي قيل لنا إنه متناغمٌ ولطيف، فيما يتعلق بالوضع السوري، يعمل على تهيئة الأجواء بشكلٍ مشترك ومتناغم، لدعم المسار السياسي والجهود الدبلوماسية. لكن قلةً قليلة، من العرب والسوريين بالتأكيد، كانت في صورة ما يجري في الخلفية العسكرية والأمنية بين البدين الكبيرين، من وقائع تكاد تكون ملامح حربٍ باردة.وما من شكٍ أن ربط هذه الظواهر بشكلٍ متقدم ومدروس هو ما يعطي صورةً تفسيرية لما يجري، وهذا أمرٌ يستحق جهداً مستمراً نتابعه الأسبوع المقبل.
908
| 27 مارس 2016
"عندما تفكر بأنك أذكى شخص في الغرفة، سيكون مغريًا أن تخلق استراتيجياتك الكبرى". بهذا التعليق بدأ نيل(نيل فيرغستون) المؤرخ البريطاني، وأستاذ التاريخ في جامعة هارفرد، تعليقه الوافي على ما يحسبهُ البعض مقابلة للرئيس الأمريكي باراك أوباما مع مجلة The Atlantic الأمريكية، في حين أن المادة تمثل تقريرًا شاملًا كتبه (جيفري غولدبرغ)، الصحفي فيها، نتيجة لقاءات مطولة مع الرئيس، ثم نشرهُ بعنوان (عقيدة أوباما).لوضع الأمور في نصابٍ أوضح، غولدبرغ صحفي أمريكي إسرائيلي الجنسية، ترك الولايات المتحدة في شبابه للخدمة في الجيش الإسرائيلي أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، عاد بعدها إلى أمريكا وعمل في عدة صحف، وهو الذي اقترح عام 2008 إحدى الخرائط الشهيرة التي تقترح تقسيمات جديدة للشرق الأوسط(خارطة غولدبرغ)، كما أنه كان من أكبر مؤيدي ودعاة الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، فضلًا عن قيامه بكتابة مقالات استفزازية شهيرة منها واحدةٌ، عام 2015، بعنوان "هل آن الأوان ليغادر اليهود أوروبا؟"، كانت إجابته فيها "نعم".لا تهدف هذه المقدمة للحكم على الرجل بإيحاءات الوقائع أعلاه، وما يمكن أن توحيه للبعض من(تفسير المؤامرة) والخبث في النية، فالرجل كما اتُهم بأنه (صهيوني) و(يميني مُتطرف) في بعض الأوساط، وُصفَ بأنه مُعادٍ لإسرائيل في أوساط أخرى، وكتب مقالة بعنوان (كيف أخطأتُ فيما يتعلق بالعراق). المهم في المسألة ألا نقرأ الظاهرة بسذاجة وأحادية، فالمؤكد أن آراء الرجل وَجَّهت طريقة كتابته للتقرير، سواء من خلال اختيار وانتقاء ما نَقلهُ عن أوباما، أو من خلال تعليقاته على تلك النقولات.هذا مشهدٌ مُعبرٌ عن طريقة صناعة رأي النخبة في أمريكا، وكيفية تحويل ذلك الرأي إلى سياسات، بكل ما فيه من تعقيد. لاشك بأن تقرير غولدبرغ يُعبرُ بشكلٍ صريح عن آراء الرئيس الأمريكي في نهاية المطاف، كما يقول الكثير عن شخصيته، وعن رؤيته، ليس فقط لشؤون السياسة الخارجية، بخلفياتها الثقافية والتاريخية، وإنما أيضًا عن تقويمه لمؤسسة صناعة السياسة الخارجية في واشنطن، والتي أوحت بمعان لا نُبالغ إذا قلنا إنها تُختصر بـ(الاحتقار).لكن المشهد يحمل أيضًا دروسًا مهمة عن التفاعل بين أداء وعلاقات النُخب الأمريكية، السياسية والإعلامية والأكاديمية والاقتصادية، ذات الأجندات المختلفة، عندما يتعلق الأمر والتوظيف المتبادل فيما بينها، لتنفيذ تلك الأجندات. ففي حين ظلت آراء أوباما، بهذه الصراحة مثلًا، طي الكتمان على مدى سبع سنوات من رئاسته، تمكن غولدبرغ من بلورتها بشكلٍ مُحكَم، ثم تجاوزَ ذلك إلى وضعها، إعلاميًا ونفسيًا، في إطارٍ أسماهُ هو (عقيدة أوباما)، بحيث باتت هذه الصورة من الآن فصاعدًا جزءًا من تاريخٍ وسيرةٍ للرئيس الأمريكي لا يمكن إغفالُها. بمثل هذا الجهد، ليس بعيدًا أن يكون من أهداف الصحفي المخضرم أن يُرسِّخ تلك (العقيدة)، بعناصرها الحساسة، في مؤسسة السياسة الخارجية، باعتبارها باتت ركيزةً لا يمكن تجاوزها من قبل تلك المؤسسة، يُفترض فيها أن تؤثر في، إن لم تَحكُم، قرارات الرئيس القادم تحديدًا، وهو إنجازٌ استراتيجيٌ يتعدى الأجندات الشخصية بدرجةٍ واضحة.قد يكون في هذا التحليل ما هو أدعى للتفكير من الغرق المُبالغ فيه بخصوص تصريحات أوباما، ومحاولة التعامل معها إعلاميًا على المدى القصير. فبدلًا من القبول بسحبِ تفكيرنا واهتمامنا وتركيزنا نحو تفاصيل ظواهر(تبدو) إستراتيجية، سيكون من الأجدى تحليلُ جذور تلك الظواهر وإدراك ما فيها من عناصر هي حقًا إستراتيجية. هكذا، لا يصبح ممكنًا معالجة التفاصيل بفعاليةٍ أكبر فقط، بل تتطور القدرة على فهم المنظومة المعقدة نفسها، وصولًا إلى إدراك آليات ومداخل التعامل معها، أيضًا بشكلٍ جذري. وعلى كثرة الحديث عن هذا الموضوع، والعمل عليه، يبدو إحداثُ النقلة النوعية فيه مطلوبًا، أفكارًا وكوادرَ ومؤسسات.في التفاصيل، ثمة دلائل على أن تقرير (غولدبرغ) أصبح (القشة) الأوبامية التي قصمت ظهر (بعير) مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية التي يتصاعد انزعاجها"ديمقراطيين وجمهوريين وعسكر وخبراء ودبلوماسيين"، من طريقة الرجل في التفكير، وقراراته الناتجة عنها. بل إن ثمة تذمرًا وتململًا من طريقة الرئيس في التعامل المُستخِّف، بلغة اللسان والجسد، حتى بأقرب مساعديه، وفي مجال الشؤون الخارجية تحديدًا. فما أن يرى في يد وزير الخارجية كيري ورقةً عن سوريا حتى يقول له بلهجة متعالية:"اقتراحٌ آخر؟"، وينفجر في وجه مندوبته في الأمم المتحدة، سامانثا باورز طالبًا منها السكوت بكلمة:"كفى". ليكمل قائلًا:"حسنًا حسنًا، تعرفين أنني قرأت كتابكِ"، هذا فضلًا عن كلامه المسيء تجاه حلفاء آخرين منهم ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني.وبالإضافة إلى مقال (فيرغستون) المذكور أعلاه، ثمة مقالٌ موسوعي أيضًا نشره في (الواشنطن بوست) قبل أقل من أسبوع (ستيفن هايدمن)، الباحث في مركز بروكنغز لسياسات الشرق الأوسط، والمقالان يحللانِ بشكلٍ متكامل الأخطاء والتناقضات السياسية والأخلاقية المتعلقة بتفكير أوباما في مجال السياسة الخارجية.لهذا، وغيره من أسباب تتعلق بالخلط في قراءته للواقع والتاريخ والتناقض في مقاييس الأخلاقية لديه، يبدو القلقُ العربي من تصريحات أوباما مبالغًا فيه. والأرجحُ أن إرث وسياسات و(عقيدة) هذا الرئيس الذكي، الذي وضع عليه العرب الآمال يومًا، ستخرجُ معه في الصناديق التي سيحملها يوم مغادرته البيت الأبيض، وقد يكون من أسباب هذا ما ذكره المؤرخ (فيرغستون)، في إشارةٍ إلى ما يمكن أن يفعلهُ غرور القوة والذكاء بالإنسان، حين قال إن قراءته لتقرير (جولدبرغ) أعطته انطباعًا قويًا بأن"الرئيس يشعر "في الحقيقة" أنه ليس فقط أذكى رجلا في الغرفة، وإنما أذكى رجلا في العالم، عرفهُ التاريخ".
907
| 20 مارس 2016
ثمة زخمٌ غير مسبوق في الحراك السياسي الإقليمي والدولي فيما يتعلق بالقضية السورية. ورغم كثرة السيناريوهات المطروحة، بما تحمله معها من إشارات وإيحاءات، متضاربة أحياناً، حول حل ما، تمﱠ أو يتم الاتفاق عليه، تبقى الحقيقةُ بعيدةً عن ذلك، ويبقى الموقف في سوريا اليوم مفتوحاً على جميع الاحتمالات.الثوابت المتعلقة بالقضية السورية قليلة، ومنها أن الموقف الدولي انقلب خلال العام الفائت، 2015م، من حالة التوافق على (اللاقرار) بالنسبة لسوريا إلى إدراك ضرورة وجودة (قرار) فيما يخصها. حصلَ هذا بعد أخذ العِلم، من قِبل أوروبا، بطبيعة (التهديد) الديمغرافي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأمني عليها، مع تصاعد أزمة اللاجئين. ثم مع ظهور ملامح إفلات (وحش) داعش، الذي خُلِقَ لأغراض استراتيجية، من قبضة السيطرة المُحكَمة. ففي حين يمكن توظيف (تنظيم) بهيكليةٍ معينة وفي بقعةٍ محددة من المكان، سوريا والعراق، تُصبح تلك المهمة مستحيلةً إذا تحول التنظيم إلى (فكرة)، يمكن أن يظهر من يريد التعبير عنها في أي مكانٍ في هذا العالم، من باريس إلى عمق جنوب كاليفورنيا.وتزامنَ مع تلك التحولات النقلة الجديدة في السياسة السعودية في المنطقة، بكل شمولها المتعلق بالرؤية والأدوات والإرادة. فأصبحت الحاجة ملحةً دولياً وإقليمياً لإخراج الحالة السورية من جمودها السابق.هكذا وُلدت (فيينا) ومعها (مجموعة الدعم الدولية لسوريا). وللتعامل مع الوضع الجديد، بما يُحقق مطالب السوريين، جاء مؤتمر الرياض الذي نشأت عنه (الهيئة العليا للمفاوضات).لم يكن انعقادُ المؤتمر ووجود الهيئة، بأدائها السياسي والإداري المتقدم نسبياً على أجسام المعارضة السورية، منسجماً مع التفاهمات الجديدة، وتحديداً الأمريكية الروسية منها، فجاء الرد سريعاً من خلال القرار 2254 الذي كان محاولةً للالتفاف على بيان جنيف الذي يقتضي إنشاء (هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات).اتكأت الهيئة على المواد 12 و13 و14 من القرار المذكور وتمكنت من المناورة، بدعم سعودي قوي، ساندتهُ دول الخليج العربي وتركيا، فتجاوزت فخ المرحلة الأولى من جنيف3 دون تنازلات. بل وببعض مكاسب تمثلت في إلغاء فكرة وفد المفاوضات الثالث، ثم ترسيخ مبدأ رفض المفاوضات في ظل استمرار العدوان العسكري من قبل روسيا وإيران والنظام.ولاحتواء الموقف ظهرت فكرة وقف إطلاق النار في نسختها الروسية. أدركت الهيئة أن المقترح المذكور، بتلك النسخة، فخٌ آخر قد يُصبح التعامل معه بسذاجة نوعاً من الانتحار الذاتي لقوى الثورة. لكن التعاطي مع جوهر الموضوع كان ضرورياً سياسياً وواقعياً، فجاء عرضُ البديل المتمثل في هدنةٍ مؤقتة يجري من خلالها تحديد معنى مصطلح وقف إطلاق النار عملياً، عبرَ رصد درجة التزام النظام وحلفائه به، إن لجهة وقف الأعمال العسكرية أو لجهة تنفيذ (البنود الإنسانية).وعلى مدى أسبوعين، ظهرت مؤشراتٌ يتأكد معها أن القرار القادم من قبل الهيئة، بخصوص استمرار المفاوضات، لا يحتاج فقط إلى دراسةٍ جدية، بل إنه يحتاج أيضاً إلى مزيدٍ من ترتيب صفوف المعارضة السورية، وإلى الاستقواء بكل ما لدى السوريين من طاقات وقدرات.فهؤلاء وبلادهم اليوم أمام لحظة حقيقةٍ قد يتقرر فيها مسارٌ محدد للقضية السورية. ورغم كل الإيحاءات والمناورات الإعلامية والسياسية، لا تزال ملامح هذا المسار قيد التكوين، ولم يُصبح بعد في طور الاكتمال بأي درجة. لكن هذه النافذة لن تبقى مفتوحةً طويلاً. فكل القوى المؤثرة في القضية تتحرك جدياً للتأثير فيه، وثمة أفكار عديدة مُبتكرة وجديدة يجري تداولها، وطبيعة المسار في النهاية ستكون مُحصلةً لمجموع تلك الجهود كما هي العادة في عالم السياسة.من هنا تأتي تصريحات الروس وغيرهم بخصوص الفيدرالية في سوريا. ثم تصريح الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، منذ يومين للصحافيين أن الحفاظ على وحدة سوريا هو "حجر زاوية" لكثير من الدول كما أنه أولوية بالنسبة لروسيا. وحديث المبعوث الدولي دي ميستورا يوماً عن حكومة وحدة وطنية، ثم حديثهُ في اليوم التالي عن أن بيان جنيف يُعتبر "الكتاب المقدس" للمفاوضات السورية. إضافةً لقوله إن "كل السوريين يرفضون التقسيم ولكن يمكن نقاش الفيدرالية في المفاوضات". مع تأكيده أن حظوظ التوصل إلى تسوية للأزمة السورية هي الأعلى منذ أي وقت مضى في ظل الزخم الراهن. وأخيراً، تصريحاته الأخيرة بأن سوريا ستشهد انتخابات رئاسية في غضون 18 شهراً، وأن الاتفاق النهائي على هذا سيحصل خلال مفاوضات جنيف القادمة.وفي نفس الإطار تأتي محاولة وزير الخارجية الروسي لافروف منذ يومين لإعادة التلاعب بوفد المفاوضات من خلال المزاودة على السوريين باسم الأكراد قائلاً إن "إطلاق المحادثات من دون مشاركة هذه المجموعة سيكون مؤشر ضعف من جانب الأسرة الدولية". هذا فضلاً عن تسريب أخبار تتعلق بمرونة روسية حتى مع (جبهة النصرة) بحيث يُمكن فتح المجال للسوريين من أعضائها بالخروج عليها والانضمام لعملية الهدنة.هناك انطباعات تقليدية سائدة، بطبيعة الحال، حول محدودية قدرة السوريين على التأثير في المرحلة الراهنة. لكن الاستسلام لهذه الانطباعات، نفسياً وعملياً، خطيرٌ بنفس درجة الخطر الذي يقع فيه البعض حين يتعامل مع الموضوع بعقلية الأوهام، بعيداً عن مُقتضيات الواقعية. ففي ظل التأكيد السعودي المستمر على أن حل القضية يتمثل في "سوريا بلا بشار الأسد"، ومعرفة المملكة، مع دول الخليج وبعض الدول العربية وتركيا، بدرجة تأثير مستقبل سوريا في مستقبل المنطقة، وفي ضوء الاحتمالات الإيجابية الممكنة التي تفتحها التصريحات والمواقف المذكورة أعلاه، يمكن لهيئة المفاوضات أن تبلور رؤيةً يكون لها تأثيرٌ وازن في رسم تفاصيل (الحل)، بما يحقق المصالح المشتركة ومطالب السوريين.
1077
| 13 مارس 2016
منذ سنة، رفعت الإدارة الأمريكية اسم حزب الله، وإيران معه، من لائحتها الخاصة بالإرهاب! حصلَ هذا في وقتٍ بلغ فيه انغماس الحزب المذكور قمةً غير مسبوقة في قتل السوريين على أوسع دائرةٍ ممكنة من الأرض السورية، بعد أن كانت أفعاله قبل ذلك تقتصر على مناطق محددة بعينها.ولكي نفهم هذه الظاهرة، ونفهم معها الأهمية الاستراتيجية لخطوة دول مجلس التعاون الخليجي في تصنيفه الحزب كمنظمةٍ إرهابية الأسبوع الفائت، يجب أن نعود إلى ملابسات التعريف الأمريكي للإرهاب، ومقاييسه.فالتقرير الذي يقدمه سنوياً مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية يقوم بشكلٍ حصري على إعداد "قائمة التحديات الإرهابية التي تواجه الولايات المتحدة". والمعنى الواضح من ذلك يتمثل في أن الحسابات المتعلقة بمن يكون أو لا يكون على قائمة الإرهاب تتعلق حصراً بتقديرات المصالح الأمريكية، حسبما تراها الجهات المختصة. وهذا يعني أن تهديد مصالح الدول الأخرى، بما فيها دولٌ يمكن اعتبارها حليفة في كثير من الأحوال، لا يدخل في حسابات تركيب القائمة المذكورة. أي أن على هذه الدول، في نهاية المطاف، أن "تقلعَ شوكَها بأيديها" ولا تعتمد، عملياً، على ما يمكن أن يترتب على القائمة الأمريكية من قرارات وسياسات.يجب الانتباه هنا إلى أن التقرير المذكور، المقدم من هيئة استخباراتية كبرى، لا يمكن أن يعتمد على مجرد عملية إحصاء واستقراء من بعيد لحالة التنظيمات وتصرفاتها وعملياتها، فلو كان هذا الحال لأضحى حذف اسم حزب الله، وإيران، من القائمة في التقرير المقدم بتاريخ 26 فبراير / شباط من العام الماضي 2015 غريباً وغير مفهوم. ببساطة، لأن التقرير نفسه أوردَ الحزب على قائمة التنظيمات الإرهابية عام 2014، وقَبلَها منذ عام 2011 باستمرار، مبرراً هذا بأن "نشاطه الإرهابي العالمي في السنوات الأخيرة زاد إلى مستوىً لم نشهده منذ التسعينيات" بالحرف.ماذا تغير إذاً في سنةٍ واحدة؟ يُظهرُ الاستقراء المنطقي أن حذف اسم الحزب، وإيران، من القائمة عام 2015 جاء في معرض ترتيباتٍ أكبر تتعلق بمُجمل التفاهمات الأمريكية مع إيران وأدواتها في المنطقة. وليس من قبيل المبالغة أن تكون ثمة تعهداتٌ جدية، بكل مقتضياتها العملية، من قبل الحزب وراعيته، هي العاملَ الرئيسَ في هذا التغيير الغريب في الموقف خلال عامٍ واحد. توخياً للدقة، يجب التنبيه إلى أن حزب الله لا يزال يُعتبرُ إرهابياً على القائمة التاريخية لوزارة الخارجية. ورغم أن من الواضح أن ثمة أسباباً تكتيكية لوجود قائمتين أمريكيتين، إلا أن الوقائع تؤكدُ أن السياسات العملية المتعلقة بهذا الموضوع تُبنى وفق القائمة الأولى المذكورة أعلاه.المفارقة أن التقرير لم يأتِ على ذكر حزب الله إلا مرةً واحدة، وجاءت في معرض القول بأن الحزب يواجه تهديدات من جماعات متشددة سنية مثل (داعش) و(جبهة النصرة). مع الإشارة إلى جهود إيران في محاربة "المتطرفين السنة"، ومن بينهم مقاتلو "تنظيم الدولة الإسلامية" الذين لا يزالون يُشكلون أبرز تهديد إرهابي على المصالح الأمريكية في العالم" حسب التقرير.المفارقة أيضاً أن أوروبا لم ترغب في وضع الحزب على قائمة التنظيمات الإرهابية على مدى السنوات السابقة، وكان أقصى ما فعلته، بعد مناقشات طويلة، وضع ما سُمي "الجناح العسكري لحزب الله اللبناني" على قائمة المنظمات الإرهابية، وكأن الفصلَ الدقيق ممكنٌ بين هذا الجناح والمنظمة الأم! وتمﱠ هذا في منتصف عام 2013، أي بعد شيوع العلم بالممارسات الإرهابية للحزب في سوريا والعراق وغيرهما.باختصار، كلٌ يبحث عن مصالحه في هذا العالم، حتى حين يتعلق الأمر بموضوع الإرهاب الذي يُجيَشُ العالَمُ للتوحد حول محاربته. ورغم ضرورة أن يحصل هذا عملياً، لكن درجة الشعاراتية والتوظيف من جهة، والازدواجية والنفاق من جهةٍ أخرى، في التعامل مع الموضوع لا تترك مجالاً للدول العربية، بقيادة السعودية ودول الخليج، سوى التعامل معه بما تقتضيه، ليس فقط مصلحتها، بل الحد الأدنى من مبادئ الإنسانية وأخلاقياتها.فمنذ أقل من عشرة أيام، صَنف من يُسمى "مرشداً" للثورة الإسلامية في إيران الشعب السوري كله بالكفر قائلاً: "إن جنودنا يطلبون الإذن للقتال في جبهة الإسلام ضد جبهة الكفر هناك". فأيﱡ شيءٍ يمكن أن يكون توصيفاً للإرهاب بالكلمة والفعل، وسبباً له، ومدعاةً لمحاربة أهله، أكثر من هذه التصريحات.للقرار الخليجي، والعربي، إذاً تبعات ودائل كثيرة على المستوى الآني والاستراتيجي، وفيه رسائل يجب أن تصلَ إلى المعنيين.فالحرب على الإرهاب في سوريا، والعراق وغيرهما، باتت رسمياً وقانونياً تتضمن الحرب على حزب الله وعصاباته الموجودة فيها بأسماء مختلفة، وهذا ما سيحصل عاجلاً أو آجلاً. والدولة التي ترعى، جهاراً نهاراً، تنظيماً إرهابياً يجب ألا تتوقع سوى الردع والعقوبة بكل الطرق والوسائل. والدولة التي ترضى بأن يكون تنظيمٌ إرهابي أحد مكوناتها السياسية يجب أن تراجع كل ما له علاقة بالموضوع. والدولة التي تستقبل وفداً لمنظمةٍ إرهابية وتقيم علاقات معها يجب أن "تتحسس البطحة التي على رأسها". وعشرات الآلاف الذين يأكلون من خير الخليج ثم يُرسلون أموالهم لدعم منظمةٍ إرهابية بشكلٍ مباشر وغير مباشر يجب ألا يلوموا إلا أنفسهم في مصيرهم القادم.بل إن كل الحركات والتنظيمات التي تعمل في المنطقة، بشكلٍ ميليشياوي، حتى لو كانت حركتُها مشروعةً الآن لسببٍ أو آخر، إلا أنها مدعوةٌ لإعادة النظر في طريقة عملها في المستقبل القريب قبل البعيد، حيث لم يعد ثمة مكانٌ لمثل هذا النوع من الوجود الذي لا يحفظ أمناً ولا يوفر استقراراً للشعوب، ولا يؤدي إلا إلى الفوضى الشاملة. ومن المنطقي للجميع التركيز على مفهوم (الدولة) كهيكلٍ سياسي ناظمٍ لحركة المجتمعات، وهو ما يضعُ، بدورهِ، مسؤولياتٍ كبرى على الدول نفسها لترتقي إلى القيام بمقتضيات هذا الدور.
1110
| 06 مارس 2016
على المدى الاستراتيجي، تبدو العبارة السابقة من تاريخنا، الردﱠ الأمثل على درجة الابتذال والقذارة التي تميز السياسة الدولية اليوم تجاه المنطقة العربية عموماً، وفيما يتعلق بالقضية السورية تحديداً.لا مفرﱠ، فيما يبدو، من إعادة التذكير في هذه الصفحة بالجملة التي لخَّص الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان رأيه في السياسة من خلالها قائلاً: "من المفترض في السياسة أن تكون ثاني أقدم مهنة في العالم، لكنني أدركت مع الوقت أن هناك شبهاً كبيراً بينها وبين أقدم مهنة"!لكن تصريح ريغان بـ"اكتشافه" منذ ثلاثة عقود ونيف يدفعنا للتساؤل عما كان له أن يقوله في معرض وصف المشهد السياسي العالمي، والأمريكي تحديداً، في هذه المرحلة.حصل هذا أبكرَ بكثير من زمن وجود النصرة وداعش، وفي غياب الفصائل الإسلامية قاطبةً، وقبل خطوط أوباما الحمراء عن الكيماوي، وقبل الاتفاق الأمريكي/ الدولي مع إيران والسماح لميليشياتها الإرهابية باستباحة سوريا، وقبل التفرج على روسيا تحتل أرضها وسماءها.ما يجري، تلخيصاً، هو التعبير عن وصول النظام الدولي، أخيراً، إلى التماهي الكامل مع أقدم مهنةٍ في العالم دونما الشعور بحاجةٍ للمناورة أو التمويه. وبمعزلٍ، حتى، عما قد يكون لدى أهل تلك المهنة أحياناً من أعذار. وفي مقابل تلك الممارسات ومعانيها، لا غريب أن يُوصف العاملون في تلك المهنة بأنهم شرفاء.نُعتت ممارسات أمريكا، ومعها النظام الدولي بصفات كثيرة، وقوبلت تلك الممارسات بالهجاء والنقد والشتيمة أحياناً. لكن ما يجري يتجاوز التفكير بالموضوع والتعامل معه بتلك المداخل. ببساطة، لأن الممارسات، تلك، تتجاوز النفاق، وازدواجية المقاييس، واستغباء السوريين والعرب، وممارسة التذاكي عليهم وعلى والعالم، وتجاهل شعارات حقوق الشعوب في تقرير مصيرها. بل تتجاوز أسوأ عمليات خلط الهزل بالجد، والتي كثيراً ما تتلبس السياسة الدولية.من هنا، فالتعامل مع هذا الواقع القبيح والمعقد يتطلب مقاربةً أخرى مختلفةً عن كل مقتضيات الفكر السياسي السائد تاريخياً وحتى الآن، لأنه بدوره واقعٌ مختلفٌ كلياً عن كل ما سبق أن رآه تاريخ العلاقات الدولية.ثمة حقائق في هذا الإطار يجب الحديث فيها بوضوح وشفافية. إذ تبدو الثقافة السياسية السائدة لدى كثير من الشعوب العربية غير قادرة على التصديق بأن العرب يمكن لهم يوماً أن يدفعوا بجديةٍ لتحقيق مصالحهم، ولو تناقضت في جوانب معينة مع إرادات الدول الغربية، وأمريكا تحديداً. لا يقبل العقل العربي بغير منطق الثنائيات الحادة والمتقابلة بشكلٍ ضدي. فإما أن تكون السياسة تبعيةً كاملةً لأمريكا، أو تصبح مواجهةً غوغائية ومباشرةً و(عنيفةً) معها. لا فُسحة لدى هذا العقل خارج هذين الخيارين. فعلى هذه القاعدة، فقط، يجري تفسير الأحداث السابقة والراهنة، ووفق مقتضياتها يجب أن تكون السياسات المستقبلية."الإرادة الدولية" أشبه بحتميةٍ قَدَريةٍ في الأرض، لا مردﱠ لها، وفق تلك الرؤية. وإذا شوهدت ممارسةٌ تلوح فيها شبهة (مدافعة) تلك (الحتمية) ورفضُ مقتضياتها، فالأمر ليس كما يبدو عليه إطلاقاً، ولابد أن ثمة أمراً خفياً يجعل عملية المدافعة نفسها جزءاً من (الخطة) التي رسمتها تلك الإرادة الدولية. هكذا، تتجلى الثقافة السياسية المذكورة في عبارات شعبية مألوفة:"مستحيل أن تفعل الدولة الفلانية كذا لو لم تكن أمريكا موافقة"، "أصلاً الدولة الفلانية تفعل ذلك لأن أمريكا تريده جزءاً من الخطة على المستوى البعيد ولو لاحَ أنه ضدها"، إلى مثلها من الأقوال التي كثيراً ما تتردد، وتُعبر عن درجةٍ خطيرةٍ من فقدان الثقة بالنفس أو بمن يحاول فعل شيء جدي عربياً، بل تعبر عن هزيمةٍ داخليةٍ كُبرى. أما الخيار الآخر لدى هذا العقل في حال سألتَهُ عن أسلوب المواجهة والمدافعة فينحصر تحديداً في المجابهة المباشرة الحماسية الاندفاعية بتجليها العسكري تحديداً، وبغض النظر عن كل الحسابات والنتائج الممكنة.لا حلﱠ لدى أصحاب هذه الطريقة في التفكير سوى في تصرفاتٍ هي في نهاية المطاف، للمفارقة، أشبه بالعمليات الانتحارية التي تُلغي النفس و(الآخر/ العدو) من هذا الوجود، على أملٍ يُعزي النفس بأن مثوا(نا) بعد ذلك هو النعيم، ومثوا(هُم) هو الخسران.ثمة معنى خطير في نمط التفكير هذا، وهو سائدٌ بشكلٍ واسع، من مدخلين. فهو يُحيل، من ناحية، إلى منهج حركات الغلو والتطرف ويتطابق معها. فضلاً عن أنه يفرض هذا المعنى السطحي للـ(الخلاص) الموهوم على المستوى الفردي قاعدةً للتفكير والعمل، ويريد تعميمه على الدول والمجتمعات.بهذا الاختزال والتسطيح، يغدو طبيعياً ألا يشيع التفهم السياسي لمواقف تركيا والسعودية، مثلاً، من التدخل البري في سوريا بشكلٍ فردي أو ثنائي. وتُسمع مقولات خيبة الأمل وحتى التندر على الموضوع بين شرائح متحرقة، بشكلٍ محق، على مآسي الشعب السوري، لكنها تغفل عن طبيعة السياسة الدولية بالمعنى (الريغاني) الذي تحدثنا عنه، وعن مقتضيات التعامل معه بحكمةٍ وتدرج ومرحلية. ورغم الاتفاق الكامل على حجم المأساة التي يعاني منها الشعب السوري، لكن الطبيعة القذرة للسياسة الدولية تفرض درجةً عالية من الحسابات، بحيث لا تضحى القرارات والممارسات السياسية سبباً لانتحارٍ ذاتي للجميع، لا يتحقق معه أصلاً هدف إنقاذ الشعب السوري من مأساته، فضلاً عن مساعدته على تحقيق طموحاته.ثمة عملٌ سياسي وعسكري وإعلامي ودبلوماسي حقيقي ومحترف تقوده السعودية في المنطقة، بغض النظر عن كل الأحكام السطحية. فهي، ومَن معها، تُدرك طبيعة التهديد الوجودي الذي يواجهها جميعاً. ورغم إلحاح العمل في مرحلةٍ معينة وفق القواعد السائدة في العلاقات الدولية، ورغم أنها تُحاول جاهدةً أن (يسمع) الآخرون ويفهموا.. إلا أنها تتحضر لما قد يكون أسوأ، ولسان حالها يقول: "الجواب ما سترونه، وقتها، لا ما ستسمعونه".
1815
| 28 فبراير 2016
ثمة (موجةٌ)، غريبةٌ ومتصاعدة، يزداد ركوبها من قبل بعض السوريين، في الآونة الأخيرة، تتمثل في ممارسة الغمز والهمز واللمز فيما يتعلق بدور الهيئة العليا للمفاوضات حيناً، وبأصل وجودها أحياناً.لا جدل بأن انتقاد الهيئة والرقابة عليها، بشكلٍ موضوعي، ليس حقاً للسوريين فقط، وإنما هو واجبٌ عليهم. بل سيكون من المحبذ ظهور جهدٍ شعبي / مؤسسي يؤدي هذه المهمة بطريقةٍ علمية ودورية (قد يبدأ العمل عليه قريباً)، بحيث تكون هذه الممارسة إحدى مظاهر النقلة في التفكير السياسي للمعارضة السورية. وهي نقلةٌ إيجابية بدأت من مؤتمر الرياض وما تلاه من وقائع وقرارات، رغم ما حصل من أخطاء طبيعية بحكم الواقع. ومن مصلحة السوريين وثورتهم وبلادهم استمرار تلك النقلة الإيجابية، واستمرار نقدها الموضوعي، لضمان الاستفادة من التجارب السابقة، وعدم الوقوع في أخطائها من ناحية. ثم لترسيخ ونشر ثقافة الرقابة الشعبية على العاملين في السياسة، الأمر الذي يساعد هؤلاء للمحافظة على توازناتهم الشخصية والفكرية والتنظيمية والإدارية، ويضمن في النهاية قيامهم بأداء دورٍ محترف للمعارضة، كان مطلوباً منذ زمن، وآن لها أن ترتقي إليه.لكن هذا كله شيء، وما يجري في الآونة الأخيرة شيءٌ آخر. لا يهدف هذا التحليل إلى الدخول في النوايا، لأن هذا، ببساطة، يُخرج الموضوع كله من أطر التفكير المنهجي الذي يحاول الالتزام به، لكن هذا لا يتناقض مع طرح التفسيرات الممكنة والمحتملة للظاهرة التي نتحدث عنها، لأن فهم الظواهر ضروريٌ في معرض تحليلها ثم التعامل معها.السياسة فنﱠ الممكن، هذا التعريف البسيط (والمختزل) للسياسة بات معروفاً لدى السوريين جميعاً، ورغم شيوع استعماله إلى حد الابتذال، لكن العمل وفق دلالاته في ساحة الواقع مازال، لدى كثيرٍ من المنخرطين في الشأن السياسي السوري، أصغرَ بكثير من آفاقه الحقيقية. فحدود (الممكن) الوارد في العبارة الصغيرة محكومةٌ بدرجة المعرفة النظرية بحقل السياسة، وتاريخها، ومداخل العمل فيها، وإبصار فسحة البدائل والخيارات المتعلقة بها، ومدى القدرة على رصد متغيراتها المتسارعة والكثيرة، والتوازنات الدقيقة بين (مصالح) و(سقوف) القوى الإقليمية والعالمية، ومعادلات التداخل الموجودة دائماً بين تلك المصالح، والإرادات الممكنة دائماً في رفع القرارات لتلامس تلك السقوف.. وما يمكن أن ينتج عن إدراك هذا كله من أفكار ومشاريع وقرارات سياسية يمكن أن تكون خلاقةً وجديدة وخارجةً على المألوف.. إلى غير ذلك من العناصر.من هنا يُصبح (الممكن) في نظر البعض محصوراً في خيارٍ واحد، لأن الواقع في نظرهم (يفرض علينا) أصلاً خيارين لا ثالث لهما. ونتيجة مزجٍ بين الإخلاص من ناحية، وخبرةٍ عمليةٍ محدودة من ناحية ثانية، ورصيدٍ علمي قليل من ناحية ثالثة، تأتي الطروحات، رغم حرارتها أحياناً، أضيقَ بكثير من أن تُحيط بدائرة الواقع العملي على مستوى التحليل، ومن أن توفر، بالتالي، أي فسحةٍ للتعامل معه بما يحقق مصلحة حقيقية على المستوى العملي.ورغم الوقوع في وهم القدرة على قراءةٍ إستراتيجية للحال السوري، والاعتقاد، بل والإيحاء، بأن الجميع يغفل عن هذه القراءة (البديهية في حقيقتها)، إلا أن تلك القراءة تأتي (مُبسطةً) إلى حدٍ كبير، لأنها تبقى قراءةً (عُنوانيةً) غارقةً في (العمومية). لهذا، قد تُحدث ضجيجاً مؤقتاً، من الواضح أنه ينخفض تدريجياً، لكنها لا تفيد عملياً في استيعاب الواقع ولا تُولد، كما هو واضح، فعلاً بشرياً حقيقياً يؤثر في هذا الواقع بأي مستوى وفي أي مجال.لكن الأخطر من هذا يكمن في التشويش الذي ينتج عن مثل هذه الظواهر في أذهان السوريين فيما يتعلق بدور الهيكل السياسي الفاعل للمعارضة السورية في هذه المرحلة، والمتمثل في الهيئة العليا للمفاوضات. فبغضﱢ النظر عن أدائها الذي ذكرنا أنه متقدمٌ، أو يحتاج لتطوير، وبغض النظر عما أحدثه وجودُها من بعض تغييرٍ في المواقع والأدوار، على مستوى الأشخاص والهياكل.. إلا أنها تبقى حالياً الجهة السياسية الفاعلة في المسار السياسي المتعلق بالموضوع السوري، وبإجماعٍ إقليمي ودولي.وبحدٍ أدنى من المنطق، السياسي والواقعي وحتى الأخلاقي، يغدو العمل لدعم، وترشيد، الحركة من خلال الهيئة هو الأمر الطبيعي لمن يصر على التواجد في الساحة السياسية على الأقل. وهذا يُلغي مشروعية المناورة بطريقة الاحتفاظ بقدمٍ فيها من ناحية، ثم تقديم طروحات تتناقض جذرياً مع رؤيتها وتوجهها وسياساتها من ناحيةٍ ثانية.يلفت الانتباه أيضاً في مجال التشويش الذي نتحدث عنه تصاعدُ بعض الطروحات من هنا وهناك، وبأساليب مختلفة، وتناغمٍ غريب، عن الحاجة لتغيير كل الطاقم السياسي الحالي للمعارضة السورية بدعوى انتهاء صلاحيتهم تحت مقولة (لكل دهرٍ دولةٌ ورجال). والمفارقة أن أصحاب هذه المقولات يبحثون عن هذه الشريحة (الفريدة) و(الجديدة)، متناسين دورهم (القديم) والتاريخي المعروف والموثق في التجارب الماضية.ثمة جديةٌ في المواقف وطرق التفكير كانت تقتضيها الثورة السورية دائماً، وهي تقتضيها اليوم أكثر من أي وقتٍ آخر. وثمة تشويشٌ على عمل الهيئة العليا للمفاوضات المُكلفة اليوم بتصدر المسؤولية، وهو تشويشٌ يأتي من خارجها لأسباب متنوعة تبدأ بقلة الرؤية النظرية والخبرة العملية ولا تنتهي ببحث البعض عن دورٍ جديدٍ أو مفقود.. لهذا، تُصبح الهيئة نفسها مُطالبةً بالمراجعة الدائمة وتطوير آليات عملها الداخلية التنظيمية والإدارية والبحثية، بما يضمن أداء دورها الذي يهدف لعدم ضياع تضحيات السوريين، عملياً، وليس فقط بالمواقف والتصريحات الإعلامية.. فالخلط في هذه القضية بسبب القراءة الخاطئة لبعض الوقائع والأحداث هو وحدهُ الذي سيهدد دورها ووجودها إلى حدٍ كبير.
945
| 21 فبراير 2016
كان الرئيس الأمريكي، السابق، ثيودور روزفلت معروفاً بأنه (صانع سلام)، لكن هذا الرجل نفسه قال: "لا تضرب على الإطلاق إذا كان تجنّبُ الضرب ممكناً بشكلٍ مُشرِّف. ولكن إياك أن تضرب بنعومة [حين يقتضي المقام]".منذ شهور. طالبَ الرئيس الأمريكي أوباما، علناً، الدول القادرة في المنطقة بأن تأخذ هي المبادرة، وألا تنتظرَ من بلده القيام بما يجب عليها هي القيام به. ومنذ أسبوعين، خرجت الأنباء من السعودية تؤكد استعدادها للمشاركة بقوات برية في سوريا لمحاربة الإرهاب وداعش. وفجأةً، ظهرت درجةٌ جديدة من النشاط فيما يتعلق بالوضع في سوريا وصلت، منذ يومين، إلى حد إعلان اتفاقيةِ قيل إن الهدف منها هو "وقف الأعمال العدائية"، وإيصال المساعدات للمحاصرين والمُحتاجين، واستئناف مفاوضات جنيف.بالمقابل، خرج رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف يحذر من خطر نشوب "حرب عالمية جديدة" في حال حصل هجوم بري خارجي في سوريا، في مقابلة نشرتها صحيفة "هاندلسبلات" الألمانية. فقد قال مدفيديف إن "الهجمات البرية عادة تؤدي إلى أن تصبح أي حرب دائمة"، مضيفاً أنه "ينبغي إرغام جميع الأطراف على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بدل التسبب باندلاع حرب عالمية جديدة".ولشدة حرصهِ على الشركاء العرب، وعلى المنطقة والعالم، لا لأي شيءٍ آخر.. شدد على أنه "يجدر بالأمريكيين وشركائنا العرب التفكير ملياً: هل يريدون حرباً دائمة، وهل يعتقدون أن بوسعهم تحقيق انتصار سريع في مثل هذه الحرب؟ إن أي شيء من هذا القبيل مستحيل، خصوصا في العالم العربي".ما من شكٍ في طبيعة الرسائل المُرسلة إلى دول الخليج العربي وتركيا بلسان الحال وبلسان المقال. والإشارات التي تُطلقها المهزلة الدولية المستمرة في سوريا تقول لكل أصحاب العلاقة: "ما حكﱠ جِلدكَ مثل ظفرك فتولﱠ أنت جميع أمرك" أي "اقلعوا شوككم بأظافركم". وهذا لايُقالُ للسوريين فقط، وإنما أيضاً لقوى إقليمية يُعرف أنها ستتضرر من تلك المهزلة بشكلٍ استثنائي. وحين يصبح الأمر أمرَ وجودٍ وبقاء يُصبح ممكناً، بل مطلوباً، تأجيلُ البحث في كل شيءٍ آخر في هذه المرحلة، والاتفاق جدياً على اقتلاع الشوك بقوة، مرةً واحدة وإلى الأبد.تدرك مراكز القرار الدولية أن المهزلة المذكورة تضع كثيراً من الدول في المنطقة أمام التحدي الوجودي، لكنها تمضي فيها بشكلٍ قد يحمل في طياته (مناورةً) يجب الانتباهُ إليها. فتلك المراكز تُدرك تماماً مصالحها الاستراتيجية مع القوى ذات العلاقة في المنطقة، لكنها تُمارس ما يُشبه لعبة (البوكر) سياسياً حين تُحاول الضغط عليها من خلال (الإيحاء) بإمكانية القطع معها. ومفصلُ الطريق في المسألة يكمن في أن تُسارع هذه القوى تحديداً إلى إظهار جدﱢيتها في الدفاع عن مصالحها بكل ما فيها من حسمٍ ووضوحٍ وقوة، وبعيداً عن أي تردد، حفاظاً أولاً على (هيبةٍ) لا يمكن التفريط بها والتقليل من أهميتها البالغة في جملة الحسابات السياسية، ثم تأكيداً لجاهزيتها العملية في التعامل مع مدخل (كسر العظم) الذي تحاول إيران وروسيا التركيز عليه.وفي مثل هذه الحالة فقط، تعود مراكز القرار المذكورة للاعتراف، ليس فقط بمصالحها الاستراتيجية الحقيقية في المنطقة، بل بضرورة العمل بمقتضيات مصالحها المشتركة مع دولها، بعيداً عن منطق المناورات. ليس مهماً في هذا الإطار أن تكون تلك المناورات ناجمةً عن حسابات مقصودة أو نتيجة غباءٍ في الرؤية دفعت المنطقة، ومعها العالم، ثمنهُ أكثر من مرة في العقود الأخيرة، فالنتيجة واحدة في نهاية المطاف، ولا يمكن للدول صاحبة العلاقة أن تقف أمامها موقف المُتفرج.باختصار. في عالمٍ لا يفهم إلا لغة المصالح، يمكن لكل سياسةٍ أن تتغير، ويمكن لكل قرارٍ أن يتبدل إذا كانت المصلحة تقتضي حصول ذلك. ولكن من الممكن أيضاً حصول كل ما نتصور أنه مستحيل حين تغيب تلك المصلحة، أو حين يكون في حصوله شبهة مصلحة، بناءً على حساباتٍ خاطئة أو مغلوطة..خطة "وقف الأعمال العدائية" التي خرج بها اجتماع ميونيخ الأخير غامضةٌ في أحسن الأحوال، وليس من مصلحة أحد أن تقبل بها المعارضة السورية، وأن تعود إلى جنيف بناءً على وجودها ورقياً كما تريد روسيا، دون أي اختبارٍ حقيقي على الأرض لمعنى تلك الخطة ونتائجها. خاصةً أن وجود المعارضة في جنيف هو، بحد ذاته، غطاءٌ لاستمرار مجمل عملية خلط الأوراق الجارية في المنطقة. وإذا كان مجرد التلويح بالوجود على الأرض السورية برياً خطوةً كافيةً لتحريك الوضع بالطريقة التي رأيناها، فإن استمرار عملٍ يوحي بجدية تلك الخطوة سيكون ورقة الضغط التي تضع الجميع أمام مسؤوليتهم بوضوح.
993
| 14 فبراير 2016
يخطئ بخطورة من يحصرُ الرسائل المتعلقة بـ (إفشال) روسيا والنظام السوري وآخرين، لمحادثات جنيف 3 على أنها تتعلق بالمعارضة السورية أو السوريين عموما ربما كان الشعب السوري، ومعارضته، في واجهة الأحداث، إعلامياً على الأقل، خلال الأسبوع الماضي. لكن الدلالات الحقيقية للحدث تتجاوز هؤلاء بكثير. وهي تندرج حتماً في إطارٍ إستراتيجي يتعلق بتفاهمات أمريكية روسية تتعلق بالإقليم بأسره.ليس خفياً أن المخطط التنفيذي لهذه التفاهمات بدأ، عملياً، منذ لقاءات فيينا التي أنتجت قراراً أممياً يتميز في أغلب فقراته بأنه غامضٌ وحمَّالُ أوجُه.. غير أن هذا القرار حوى أيضاً بضع عناصر، مثل البنود 12 و13 و14، لم يكن ثمة بدٌ من إيرادها لتمريره تحت ضغط الدول العربية المؤيدة للشعب السوري بقيادة السعودية.. ومع حسابات تتعلق بالتوازنات الدولية والإقليمية الراهنة والمستقبلية، اندرج العرب، ومعهم الأتراك، في مسار فيينا الذي أفضى إلى بدء محادثات جنيف أخيراً.ثمة واقعيةٌ سياسية لابد من العمل وفق مقتضياتها في ذلك القرار. لكن العملية بمجملها كانت أيضاً فرصةً لـ (اختبار) حقيقة التفاهمات المذكورة أعلاه. ومن أوراق السياسة أن يحسبكَ الطرف الآخر غافلاً عن نواياه، فتتضخمَ ثقتهُ بقوته وذكائه من ناحية، وبضعفك وقلة حيلتك في فهم الظواهر من ناحية أخرى..في هذا السياق نفسه، جاءت مشاركة المعارضة السورية في محادثات جنيف، بغض النظر عن أي حديث يتعلق بـ (ضمانات) من السيد ديمستورا يعرف الجميع أنها لا تساوي الحبر الذي كُتبت به، أو من السيد كيري، بكل السجل التاريخي الذي يعرفه السوريون عنها. والأرجح أن هذا كان وراء التصريح الدقيق، الذي لم ينتبه إليه كثيرون، لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير.. فحين خلطَ البعض الأمور وتحدث عن ضمانات سعودية، قال موضحاً: "نحن لا نعطي ضمانات للمعارضة السورية، نحن معهم في نفس الفريق"..وكما توقع المراقبون، لم يستغرق الأمر أكثر من بضعة أيام لتنكشف حقيقة (الضمانات) المزعومة، ومعها فحوى التفاهمات المتعلقة بالمنطقة وأهلها، شعوباً وحكومات وخرائط، وهذا يشمل تحديداً العرب وتركيا. ثمة تفاصيل كثيرة لايتسع لها المقام، ونأمل أن هناك مَن يرصدها بشمولٍ ودقة وربطٍ مُحكم للوقائع والأحداث.. لكن تلخيص النتيجة بأنها تتمثل في إشاعة (الفوضى) في المنطقة ليس مُبالغاً فيه على الإطلاق. خاصةً حين تتوزع الأدوار بين من تمﱠ إقناعهُ بأنه قيصرٌ جديد.. وبين غربٍ لا يمانع تاريخياً أن يلعب بالنار، مادام اشتعالُها سيكون بعيداً عنه. غربٍ مقامرٍ بطبعه، ليس غريباً أن تقود مقامراته إلى واقعٍ يأخذ فيه نفسَهُ والعالم إلى الهاوية.باختصارٍ ووضوح.. تُظهر رسائل جنيف3 أن ثمة تفويضاً لروسيا، ومن ورائها إيران، لإعادة ترتيب الأمور في المنطقة، وبتوزيعٍ للأدوار بات مكشوفاً لدرجة أنه قد يكون وقاحةً مقصودة تشبه وضع الإصبع في العين..فَعلَ السوريون ما يمكن لهم أن يفعلوه سياسياً، فكشفوا أمام العالم بأسره حقيقة الروس والنظام، وأمام العرب والأتراك حقيقة التفاهمات الدولية. ورغم الضغط العسكري غير المسبوق للروس والنظام وميليشياته، واحتمالات محاصرة حلب، وقطع طريق الإمداد للثوار، تتوارد الأخبار عن مقاومةٍ منهم غير مسبوقة بدورها. وتلك مقاومةٌ يجب التعامل بجديةٍ بالغة مع موضوع دعمها بكل الوسائل والأساليب.. ففي نهاية المطاف لن تنحصر آثار ما سيجري في حدود سوريا، والمؤكد أن الوضع العربي والتركي لايحتمل استسلام السوريين، لأنه يعني قدوم الطوفان الكبير. هذه فكرةٌ يجب أن تبقى هاجساً يؤرقُ العرب، لأن النومَ عنها قد لا يكون بعدهُ استيقاظ.ماذا يمكن للعرب والأتراك أن يفعلوا؟ نكرر مرةً أخرى ما قالهُ يوماً ماوتسي تونغ: "القوة السياسية تأتي من فوهة البندقية".. وبعدهُ قال جورج أورويل: "ينامُ الناس بسلامٍ في أسِرﱠتهم ليلاً لأن هناك رجالاً أشداء يسهرون مستعدين للعنف من أجلهم".هذا لا يعني سذاجةً سياسية بطبيعة الحال. فليس المقصود هنا الخروج على (النظام الدولي) بعصبيةٍ وتشنج.. بل الأمر على العكس تماماً. لأن واقع ما بعد جنيف 3 يوفر للعرب والأتراك أوراقاً تجمع، بمهارةٍ وذكاء، بين القوتين اللتين تحدث عنهما الزعيم الصيني. علماً أن التخطيط لذلك، والعمل وفق مقتضياته، ينبع من ضرورةٍ قاهرة، وليس نوعاً من (الترف) الذي يمكن معه للطرفين أخذُ الوقت للتفكير. فالتهديد الذي يواجههما (وجوديٌ) كامل، وليس لديهما بعد الآن (رفاهية) التعامل معه بالتكتيك والمناورات الخفيفة والرؤية القصيرة النظر.صحيحٌ أن إيران تركز، في هذه المرحلة، على أن تقبض ثمن بضاعتها في سوريا تحديداً، لكن رهانها الكبير معروف، وطموحها الإستراتيجي لا يخفى على أحد، والفوز بسوريا أخطرُ خطوةٍ لتحقيق ذلك الطموح.. وقد يكون من سوء حظها، وحُسن حظ العرب والأتراك، كشفُ ما يُحاك للطرفين من خلال العمليات الإرهابية الأخيرة في السعودية وتركيا.هل تحسم هذه الوقائع الحيرة فيما يتعلق بإيران وروسيا، وما يمكن أن يفعلهُ البَلدان إذا سقط السد السوري في وجه جحافلهما؟ أسئلةٌ خطيرة تحتاج إلى جديةٍ في التفكير وحسمٍ في القرار، وبالتأكيد قبل تاريخ 25 فبراير الحالي.
1150
| 07 فبراير 2016
بعد الإجابة بنعم على سؤال الذهاب إلى جنيف، ثمة إجابةٌ، وجدَها السوريون، على سؤالٍ أكبر يتعلق بإمكانية عودة الروح إلى الثورة السورية وفق منطلقاتها الأصيلة، ويجب أن يحافظوا عليها. نعم كبيرة، قالها السوريون خلال الأسابيع القليلة الماضية لذلك السؤال الكبير.فمع اقتراب الذكرى الخامسة لثورتهم، أنجزوا اختراقاً قد يكون هو الأكبر منذ انطلاق الثورة. ورغم الكراهية الشائعة لكلمة (التصحيحية) في الأوساط السورية لارتباطها بانقلاب حافظ الأسد، إلا أن ما جرى ويجري يمكن أن يكون بمثابة ثورةٍ تصحيحية بكل معنى الكلمة.بدأ الأمر مع انعقاد مؤتمر الرياض للمعارضة السورية في التاسع من(ديسمبر) الماضي، حيث اجتمعت كل الفصائل السياسية والعسكرية المؤثرة للمعارضة، وتوافقت مجتمعةً على مسارٍ للحل السياسي، وفق مبادئ إعلان جنيف1، من خلال وثيقةٍ مكتوبةٍ وقعَ عليها الجميع. تلا ذلك بسرعة انتخاب هيئةٍ عليا للمفاوضات، ثم جملةُ ترتيبات تنظيمية وتحضيرات انتهت بتشكيل وفدٍ تفاوضي. وإلى مساء الجمعة، كان أداء الهيئة العليا للمفاوضات كافياً لاجتماع السوريين حولها بدرجةٍ غير مسبوقة.إلى هنا، كانت أجواء الحذر والترقب تسود السوريين الذين كانوا متخوفين من تكرار المظاهر السلبية في التجارب السابقة للمعارضة.. كان هذا هو الوضع رغم وجود مؤشرات على أن الوضع كان مختلفاً هذه المرة. يكفي مثلاً حضور ممثلي الجناح العسكري للثورة، خاصة الفصائل التي تُوصفُ بأنها (إسلامية معتدلة)، وهو الأمر الذي كان بدوره اختراقاً استراتيجياً محسوباً لها. ذلك أن الرهان الأكبر للنظام السوري وحلفائه، والروس تحديداً، على فشل المعارضة في مؤتمر الرياض كان يكمن في عدمِ حضور هذه الفصائل. فبالنسبة لهم، سيكون مثل هذا القرار مدعاةً لتأكيد الافتراق بين الجناحين السياسي والعسكري للثورة، ووسيلةً لإلغاء مصداقيتهما معاً. فمن جهة، كان سيُقال إن القرار كشف أن الفصائل (إرهابية)، وأنها لا تقبل بأي عمليةٍ سياسية، وأن العنف هو منهجها الوحيد. ومن جهةٍ أخرى، كان سيُقال إن المعارضة السياسية معزولة عن القوى الفاعلة على الأرض، وإنها تفتقد بالتالي لأي قيمةٍ ومشروعية، ولا يمكن لها، بطبيعة الحال، ضمان تنفيذ أي اتفاقٍ سياسي.هذا يُفسر الجنون الذي أصاب النظام والروس، إلى درجة محاولتهم استفزاز الفصائل من خلال عملية قتل الشيخ زهران علوش، قائد (جيش الإسلام). لكن إصرار الفصائل على استمرارها في العمل مع الهيئة العليا ومن خلالها كان عنصراً من عناصر عودة الروح، التي نتحدث عنها، إلى الثورة السورية. بمعنى إدراك الأثر الخطير لوحدة كل من يعمل لتحقيق أهداف الثورة، وامتلاك الإصرار والعزيمة على التعامل مع الضغوط بروح وطنية بعيداً عن الحسابات الشخصية أو التنظيمية أو الأيديولوجية.لكن أيام الأسبوع الماضي حملت معها تطورات أخرى مع اقتراب موعد الاستحقاق في جنيف، والذي كان السيد ستيفان ديميستورا يرغب أن يتزامن مع عيد ميلاده في الخامس والعشرين من هذا الشهر. فبعد المؤتمر الصحفي للرجل، بنفس التاريخ، والذي سبَقهُ لقاء هاتفي مطول بين المنسق العام للهيئة رياض حجاب ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري، كانت المؤشرات والمعطيات تُرجح قرار عدم المشاركة في جنيف لأسباب تتعلق بتركيبة الوفد ومحاولة فرض وفد ثالث أو أعضاء خارجيين، وعدم الاكتراث المُطلق بالبنود 12 و13 من القرار 2254، وغموض أجندة المفاوضات فيما يتعلق بموضوع تشكيل الهيئة الانتقالية كاملة الصلاحيات، وأخيراً التغاضي عن موضوع رحيل الأسد، بل وطرح إيحاءات بإمكان بقائه.وفوراً، عملت الهيئة على التصعيد في الموقف من خلال التأكيد بصعوبة حضورها في تلك الأجواء. ونتجَ عن هذا على مدى ثلاثة أيام موقفٌ شعبي سوري ملتفٌ حول الهيئة بشكلٍ كبيرارتفعت ثقة السوريين بالهيئة وتزايد توحيد الصف حول موقفها، وبالتالي أصبح لتفويضها الشعبي مصداقية، وتفككَ موضوع الوفد الثالث أو إضافة أعضاء خارجيين بشكلٍ مُهين نسبياً لكل من روسيا ومناع وأمثاله، وحتى لديمستورا، ثم جاءت رسائل أمريكية لتوضيح الموقف من رحيل الأسد والهيئة الانتقالية، وتعهدَ السيد ديمستورا في رسالته بأن البنود المذكورة أعلاه هي "حقوق غير قابلة للتفاوض"، وأصبحت لدى الهيئة وثيقة رسمية أممية تتعلق بالموضوع.بهذا التغيير، ومع الضمانات التي طرحتها المعارضة في قرار المشاركة، خاصةً فيما يتوقف بموقف المملكة، وغيرها من الأطراف، تغيرت المعطيات إلى حد كبير، وصار بالإمكان إيجاد مخرج يُحرج النظام، ويحافظ على الالتفاف الشعبي، ويكون مؤشراً على أن الهيئة تتصرف بطريقة عمل رجال الدولة. بدل حصار النفس في موقف (إما) (أو) الخانق.هذا المخرج معقدٌ ومتعدد الحسابات والبدائل والمخارج المُشرفة، ولا يمكن الحديث فيه هنا لأنه يتعلق ببعض خصوصيات العملية التفاوضية وتكتيكاتها..في هذا الإطار، يجب أن يحافظ السوريون على التفافهم حول الهيئة العليا، وأن تستمر ثقتهم بها وبقراراتها. لأن دعمهم لها هو مصدر شرعيتها الحقيقية، ومصدر قوتها لمتابعة الأداء الجيد الذي رأوه منها حتى الآن. ويجب أولاً وأخيراً تجاوز أن موقف (لا) هو الموقف السياسي الصحيح بغض النظر عن كل شيء. ثمة فرصةٌ كبيرة لاستعادة روح الثورة الأصلية، بل ولتحقيق أهدافها، لكن هذا يحتاج إلى حسابات دقيقة تخرج عن عناصر الثقافة السياسية السورية التقليدية التي كانت سائدةً حتى الآن.
1038
| 31 يناير 2016
"لا تتدخل أبداً عندما يقوم خصمك بممارسات تؤدي به إلى تدمير نفسه".جديرٌ جداً بالمعارضة السورية أن تتذكر المقولة التي تُنسب إلى نابليون بونابرت. فالمؤكد أن السياسة السعودية، ومعها الأشقاء السوريون من العرب، يُدركون تماماً دلالاتها في معرض تحليل الوقائع.يوم الخميس الماضي، أعلن دبلوماسي روسي أن بلاده ستدعم وفداً بديلاً من المعارضة السورية للتفاوض مع الحكومة في محادثات السلام في جنيف، في وقتٍ لاحق هذا الشهر، إذا لم يتم تعديل فريق المعارضة الحالي أو إذا قاطع المحادثات. وقال الدبلوماسي "ما نحاول تحقيقه هو إما توسيع وفد الرياض ليضم المعارضة المعتدلة، أو أن يكون هناك وفدٌ معارض منفصل". وأضاف أنه في حال مقاطعة المعارضة للمحادثات "فسوف يأتي الوفد الثاني، سيتفاوضون مع الحكومة".غرور القوة قاتلٌ على الدوام، إن لم يكن عاجلاً فبعد حين. يصدقُ هذا على الدول والأفراد رغم كل ما يعتقدونه حسابات مضبوطة. يصدق هذا على القيادة الروسية، التي تصر بعناد على إظهار صدقية تلك الحقيقة في سياستها المتعلقة بوفد المعارضة السورية للمفاوضات. والذي كانت آخر مشاهده التصريح المذكور.إلى ما قبل التصريح الوارد أعلاه، كان ممكناً الاستمرار في وصف التصريحات والمواقف الروسية بـ (العنجهية). بمعنى أنها صادرةٌ عن شيءٍ من الثقة بقوة الموقف. لكن تدهور الفكر السياسي الروسي، بسقوطٍ عامودي مذهل، وصولاً إلى هذا التصريح (السوريالي)، يربطه بطريقةٍ في التفكير، لا يمكن إلا أن تُذكر كثيراً بالطريقة (الداعشية) في التفكير السياسي. وإذا كان بعض المراقبين هنا وهناك لا يزالون غافلين عن هذه الحقيقة، فإن لدى السعوديين والإماراتيين والقطريين، وغيرهم من أشقاء وأصدقاء، من الخبرة والمعرفة ما يُمكنهم من رؤية هذه الحقيقة، مهما كانت صادمة، ورغم كل إدراكهم للتوازنات والحسابات الدولية في معرض العلاقة بين السياسة والقوة.. الأرجح، بالتالي، أن ثمة عملية إعادة حسابات للتعامل مع الموضوع بناءً على هذا المُعطى الجديد.روسيا لم تعد تمارس السياسة بطريقة أنها (فن الممكن)، وهي باتت تحت ضغطٍ نفسي، ناتجٍ عن غرور القوة، بحيث تمارسها على طريقة (فن المستحيل) [المصطلح مُستعار من مقالٍ للزميل وليد أبي مرشد في معرض حديثه عن الواقع اللبناني]. ويبلغ الأمر حد الهزل حين يُنقل عن مبعوث روسي أن المندوب الأممي الخاص ستيفان دي مستورا لم يختر 25 يناير موعداً لعقد المؤتمر من قبيل الصدفة، فهذا الموعد يصادف عيد ميلاده. وكان بوده أن يحتفل به يوم بدء المفاوضات وإطلاق عملية التسوية السياسية في سوريا!.ما من شكٍ أن تعقيدات الوضع الدولي الراهن سمحت لروسيا، لأسباب عديدة، باحتلال موقعٍ متقدم في الساحة السورية.. لكن هذا لم يكن يعني، ولن يعني، قدرة روسيا على السيطرة والتحكم بغض النظر عن كل منطقٍ سياسي، فهذه درجةٌ من المبالغة والتهويل. وإذا سُمحَ لها بالقيام بدورٍ (تشبيحي) مرحلي في سوريا لأسباب سياسية وأمنية، إقليمية ودولية.. فإن هذا لا يعني أن (تُصدق نفسها) وتعتقد أنها باتت الأمر الناهي في كل صغيرةٍ وكبيرة. بوضوحٍ أكبر، ربما سمحت تطورات الواقع الدولي بطرح الدور الروسي على أنه مهم، ثم تكبيره بشكلٍ مدروس، وعلى أساس أنه (كِذبةٌ صغيرة) لها وظيفتها.. لكن الظاهر أن روسيا صدﱠقت الكذبة.. و(لَبِسَت) الدور.. وأنها تتصرفُ في الأسابيع الأخيرة بناءً على ذلك. قد يكون هذا ما اضطر الوزير كيري إلى التنبيه للموضوع برسالةٍ غير مباشرة، بعدما رفض الظهور مع لافروف في المؤتمر الصحفي بعد لقاء جنيف الأسبوع الماضي. ويبدو أن الأخير فهم الرسالة، مؤقتاً، حين ظهرَ في المؤتمر وحيداً ومُتجهماً وأقلﱠ عنجهيةً بكثير في تصريحاته بخصوص سوريا.لكن هيمنة منطق القوة، وتحديداً عندما تغيب المؤسسات وتنحصر صناعة السياسة في الأفراد، تبدو مُطلقةً من ناحية، وقصيرة الذاكرة من ناحيةٍ ثانية. وهذا ما يُفسر عودة الموقف الروسي إلى مسرح (اللامعقول) فيما يخص المسألة السورية.ثمة منطقٌ خاصٌ لمنطق القوة يجب اتّباعُ الحكمة في التعامل معه، لأن هناك كموناً فيه يكون تدميرياً للذات. لكن ثمة قوةً للمنطق يجب، أيضاً، استذكارُها، وتوظيفُها، في التعامل مع ذلك المنطق وأهله. وهو ما يُذكرنا بمقولةٍ أخرى، ذات علاقة، لنابليون نفسه، يقول فيها: "عندما يكون الخصم في معرض القيام بحركات خاطئة، فإن عليك أن تكون حذراً جداً من أن تُقاطِعه"..يمكن لأمريكا وغيرها التعاملُ مع القضية بطريقتها وحساباتها لمصالحها. لكن مصالح السعودية، وأشقاء السوريين معها، تنبع من رؤيتها الخاصة لمصالحهم، وحساباتهم النابعة من ذلك في نهاية المطاف.
928
| 24 يناير 2016
لسببٍ ما، يبدو الروس متخوفين جداً من جلوس وفد النظام السوري أمام وفد المعارضة، المنبثق من لقاء الرياض، خلال مفاوضات جنيف3 التي كان يُفترض أن تُعقد بعد أقل من عشرة أيام.والأرجح أن أسبابهم قويةٌ إلى درجة توريط أنفسهم بشكلٍ واضح في إفشال إمكانية انعقاد المفاوضات في توقيتها الأصلي. وقد جاءت الخطوة الأخيرة المتمثلة في وضع ما بات يُسمى (القائمة الروسية) على الطاولة من قِبَلهم، بحيث تضم 15 اسماً من اختاروها للمشاركة في المفاوضات، ليكون بمثابة الخطأ السياسي والدبلوماسي الأخير في هذا الإطار.لم يفطن الروس، في غمرة اعتدادهم الراهن بالنفس، إلى أن الفقرة الثامنة من مقدمة القرار المشهور 2254 نفسه، والذي يحاولون تفسيره بما يناسب أجندتهم دائماً، تقول ما يلي: "وإذ يضع المجلس في اعتباره الهدف المتمثل في جمع أوسع نطاقٍ ممكن من أطياف المعارضة، باختيار السوريين، الذين سيقررون من يُمثلهم في المفاوضات ويُحددون مواقفهم التفاوضية..".. لم ينتبهوا على الأقل إلى عبارة "باختيار السوريين"، ولم يطلبوا من (مُعارضتهم المُصنَّعة) أن تقوم هي بتقديم اللائحة رسمياً، على الأقل من باب حفظ الوجه، بل قاموا، أي الروس، بطرحها مباشرةً، وبحيث أصبح اسمها في وكالات الأنباء ووسائل الإعلام (القائمة الروسية)، كما ذكرنا أعلاه.الأدهى في الموضوع هو ادعاءُ الروس أن القرار المذكور (2254) نصﱠ على تكليف دي ميستورا على تشكيل الوفد من مؤتمرات الرياض وموسكو والقاهرة. هنا يُخطئ الروس مرتين. الأولى لأن في هذا تعسفاً في قراءة القرار الذي قال إنه "يُحيط علماً بالاجتماعات التي عُقدت في موسكو والقاهرة وبما اتُخذ من مبادرات أخرى تحقيقاً لهذه الغاية، وإذ يُلاحظُ على وجه الخصوص جدوى اجتماع الرياض، المعقود في الفترة من 9 إلى 11 ديسمبر 2015، الذي تُسهم نتائجه في التمهيد لعقد مفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة". ولو كان الروس يفهمون العربية جيداً لقرأوا أن الفقرة، المنقولة من الترجمة الرسمية المُعتمدة للأمم المتحدة، وفي موقعها على شبكة الإنترنت، تستخدم عبارة "الذي تُسهم نتائجه" مُحيلةً على مؤتمر الرياض، ولو كانت الإحالةُ إلى جميع المؤتمرات لكانت العبارة المستخدمة هي "التي تُسهم نتائجها"!أما الخطأ الآخر فيما يتعلق بهذه القضية فيتمثل في أن المعارضة، والسعودية قبل ذلك، احتاطت لهذا الموضوع ابتداءً، حيث تم دعوة عدد ممن حضروا مؤتمرات موسكو والقاهرة إلى لقاء الرياض، وحضروهُ فعلاً. بل يبدو أن معلومات الروس ناقصة، إلى درجة أنهم لم يعلموا أن المعارضة قدمت قوائم رسمية بأسماء 28 شخصاً من هؤلاء إلى السيد دي ميستورا خلال لقائها معه في الرياض منذ قرابة أسبوعين، وأن هذا كان ورقةً سياسيةً مُحترفة أمامهُ منعته من اقتراح أسماء إضافية كان من المعروف أنه يريد اقتراحها للانضمام إلى وفد المعارضة.قبل هذا وبعده، أظهرت روسيا، ولا تزال تُظهر، أنها ستكون المُسبب الأكبر في عدم انعقاد مفاوضات جنيف3 بأكثر من طريقة.فعلى سبيل المثال، كان وزير خارجية روسيا هو الذي صرح بأن الأردن "سيشرف على عملية تحديد من الجماعات التي يمكن عدها جماعة إرهابية"، ثم إن روسيا رفضت اللائحة بعد صدورها، بصراحةٍ أولاً من خلال إيران، ثم مواربةً، بعد ذلك، بنفسها.. حيث أشارت وزارة الخارجية الروسية إلى أن وضع القائمة "يواجه صعوبات". هكذا، تضع موسكو نفسها بكل وضوح في موقع التناقض مع كل البيانات والقرارات والتصريحات الدولية، التي وافقت هي عليها وكانت جُزءاً منها، فيما يتعلق بالمسار السياسي وعملية المفاوضات في سوريا.أما الأسوأ من هذا كله فيتمثل في نقض روسيا، التي يُفترض أن تكون شريكا راعياً في تلك العملية لمقدماتها الأساسية في أكثر من مجال، وتحديداً فيما يتعلق بالفقرات 12 و13 من القرار 2254. من قصفها للمدنيين، ولفصائل مشاركة في العملية السياسية، بشهادات دولية، إلى عدم ضغطها على النظام لإيصال مساعدات كما تفترض بها القرارات الدولية.لا تحتاج المعارضة السورية إلى خبراء دوليين في مهمتها لإظهار حقيقة الموقف الروسي من المفاوضات. ببساطة، لأن روسيا باتت تضع نفسها الآن، بكل ممارساتها، في موقع المُعيق الأكبر لانعقادها. وسيكون سهلاً، لنفس السبب، على السعودية التي تحملت عبء جمع السوريين المعارضين بشكلٍ غير مسبوق، وعلى المعارضة السورية، رفض الاقتراحات الروسية (السخيفة)، مثل مشاركة ثلاثة وفود في العملية التفاوضية!هل يحصل هذا لأن روسيا اكتشفت، متأخرةً، أن كل القرارات والبيانات المتعلقة بالعملية السياسية تُحيل إلى بيان جنيف1 بشكلٍ أو بآخر، وبأكثر مما يتصور القارئون العابرون لتلك القرارات؟ وبحيث وَجدَت أن النظام سيكون محاصراً في الزاوية من اللحظة الأولى في المفاوضات، مهما كانت المناورات التي تسبقها.هذا سببٌ مقنعٌ جداً لأن تُورطَ روسيا نفسها بهذا الشكل المفضوح. لكن الفضيحة الكبرى تبقى من نصيب أفراد (محسوبين) على الشعب السوري، باعوا أرواحهم للشيطان، لشراء أي موقعٍ سياسي وإعلامي بثمنٍ بخس.
936
| 17 يناير 2016
"التفكير الرغائبي" خطير في الفكر السياسي، فتحليل الأحداث وفق الأمنيات والرغبة بما يجب أن تكون عليه مدخل للأخطاء في فهم الواقع ثم في البحث عن سبل التعامل معه. لكن الغرق في السلبية والغفلة عن رؤية ما لديك من أوراق، ومساحة الحركة الممكنة، وتأثير المتغيرات المستمرة في فاعلية أوراق الطرف الآخر، كل هذا خطيرٌ بالدرجة نفسها. وهو مدخلٌ لتقزيم النفس واستصغارها، ويقتلُ الإبداع في العمل السياسي، ويُحاصر أصحابه نفسيًا وفكريًا وعمليًا في زاويةٍ وهمية، تُسيطر عليها مشاعر العجز والاستعصاء. هذه إحدى المقدمات التي يجب أن يذكِّر السوريون بشكلٍ عام - ومعارضتهم تحديدًا - أنفسهم بها في كل حين. وهذا مهمٌ خاصةً في هذه المرحلة الحساسة. لننظر إلى بعض أحداث الأسبوع الماضي ونقرأ دلالاتها العملية. في الجانب الروسي، ينقل "رائد جبر" في الزميلة "الحياة" تقريرًا عن المشهد الروسي من الداخل، بعد مضي فترة المائة يوم التي كان الحديث عنها شائعًا في أوساط القيادة الروسية، على أساس كونها الفترة المطلوبة لإنجاز مهمةٍ محددة في سوريا. تقول الوقائع أن هذا لم يحصل بطبيعة الحال، لكن ثمة مغزى في كيفية تقديم تقرير عن هذا الموضوع للشعب الروسي، حيث يذكر الزميل "جبر" في تحليله أن "الناطق العسكري الروسي يحرص على تقديم تقريره إلى وسائل الإعلام وكأنه يؤدي التحية أمام قائده، فتغدو "الانتصارات" في حديثه مرتبطة بعدد الغارات الذي تجاوز 5500 منذ بدء الحملة العسكرية الروسية، وتضيع الأخطاء في لفظ أسماء المدن السورية عندما ينطقها بين تفاصيل كثيرة، منها أن في سوريا - كما تبيَّنَ للحملة - آلاف المراكز لتدريب المقاتلين الأجانب وعشرات الآلاف من مصانع القنابل ومئات من غرف القيادة الميدانية لتنظيم داعش، وكلها دُمِّرت بدقة كاملة". هذه الطريقة "الأسطورية" في التعامل مع الحقائق ليست مؤشرًا على طريقة تفكير "دولة"، فضلًا عن أن تكون "دولةً عُظمى". وهي بالحسابات مؤشرٌ إلى أن الأمور ليست على ما يرام على المدى المتوسط والبعيد بالنسبة للروس. والطرح الروسي الرسمي أعلاه يدل على الحاجة إلى تقديم "إنجازات" لشعبه، وليس بعيدًا عن أن يكون تمهيدًا لإعادة النظر في الوجود الروسي داخل سوريا بدعوى قُرب انتهاء المهمة، مع مثل تلك الإنجازات. في المحصلة، تريد القيادة الروسية شراء ما يمكن من وقت، مع تسريع العملية السياسية في سوريا بشكلٍ يحفظها من غرقٍ كامل في "مُستنقع"، واستنزافٍ طويل المدى تبدو ملامحهُ واضحةً يومًا بعد يوم. وقد يتأكد هذا حين يقترن بالشعور بالحاجة لإعادة "توظيف الدين" من قِبَل تلك القيادة، عبر تصريحات جديدة لبطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية يقول فيها إن العمليات الروسية في سوريا هي "دفاعٌ عن الوطن". بالمقابل، تبدو ترتيبات المعارضة السورية في التحضير لعملية المفاوضات أكثر قربًا لقواعد المنهجية في العمل السياسي من أي فترةٍ سابقة. فبعيدًا عن "التفكير الرغائبي" وعن رفع سقف التوقعات، تشير الوقائع إلى أن الهيئة العليا للمفاوضات تثابر بقوة للجمع بين ثلاثة أمور: الثبات على المواقف المبدئية، وأن يكون هذا من خلال توظيف القرارات الدولية، وليس بالطريقة الشعاراتية، مع ضبط محددات وهياكل العمل الإداري والتنظيمي بشكلٍ متقدم. وهذا ما لاحظه المبعوث الدولي "دي ميستورا" نفسه، إضافةً لفريق عمله، في اجتماعاته الأخيرة بالرياض مع الهيئة العليا. وهو بالتأكيد ما دفعه إلى تأجيل سفره وعقد أكثر من اجتماع مع الهيئة، في سياقٍ عامٍ ظهرت فيه مشاعر "المفاجأة" من موقفها وطريقة عملها. وبقدرِ ما يبدو هذا "إنجازًا" للمعارضة السورية، فهو في الحقيقة يرفع سقف مسؤوليتها في تجاوز أي ملابسات داخلية، والاستمرار في رفع مستوى أدائها، وهذا أمرٌ ممكنٌ على الدوام. من الواضح أيضًا أن موقف الدول الداعمة للسوريين، بقيادة السعودية، عنصرٌ أساسي في حسابات المشهد قبل المفاوضات التي "يُفترض" حصولها نهاية هذا الشهر. وأحداث الأسبوع الفائت تُظهر عمل السياسة السعودية على الجمع بمهارة أيضًا بين ثلاثة أمور: إصرارها على سيادتها الوطنية فيما يتعلق بالتصرفات الإيرانية، وتوظيف رعونة الإيرانيين لتحييد دورهم في سوريا والمنطقة، مع الالتزام بدعم موقف المعارضة السورية والشعب السوري. وكان لافتًا في هذا الإطار المضمونُ والطريقة لتصريح الوزير "الجبير" بعد لقائه "دي ميستورا"، حين أعاد بالإنجليزية ما قاله بالعربية قبلَها، موجهًا الخطاب إلى الرجل مباشرةً، قائلًا: "أود التأكيد على ما سبق أن تناولتهُ في اجتماعنا، وهو أن المملكة العربية السعودية ملتزمة بدعم الشعب السوري لنيل حقوقه وحريته، وجلب التغيير الذي يطمحون إليه في بلدهم. وسنواصل تقديم أشكال الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي كافةً للشعب السوري. وسنواصل العمل معكم ومع المجتمع الدولي على أمل بلوغ الحل السياسي للأزمة السورية والمبني على مبادئ "جنيف -1" ومحادثات فيينا ونيويورك الأخيرة، التي تسعى إلى بلوغ الهدف ذاته".
935
| 10 يناير 2016
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...
4791
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...
3477
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....
2865
| 16 أكتوبر 2025
في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...
2670
| 16 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...
2595
| 21 أكتوبر 2025
واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...
1428
| 21 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...
1407
| 16 أكتوبر 2025
لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...
1038
| 20 أكتوبر 2025
1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...
954
| 21 أكتوبر 2025
القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...
831
| 20 أكتوبر 2025
في قلب كل معلم مبدع، شعلة لا تهدأ،...
807
| 17 أكتوبر 2025
في ليلة كروية خالدة، صنع المنتخب القطري "العنابي"...
765
| 17 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية