رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في عالمٍ لا يفهم إلا لغة المصالح، يمكن لكل سياسةٍ أن تتغير، ويمكن لكل قرارٍ أن يتبدل إذا كانت المصلحة تقتضي حصول ذلك. ولكن من الممكن أيضاً حصول كل ما نتصور أنه مستحيل حين تغيب تلك المصلحة، أو حين يكون في حصوله شبهة مصلحة، بناء على حساباتٍ خاطئة أو مغلوطة.. لم يكن الشعب السوري بحاجةٍ لـ (مهزلة الضربة)، وهما كلمتان تكفيان للتعبير عن كل الدلالات المتعلقة بالموضوع، لكي تتأكد قناعتهُ بكل ما آمن به من قبل فيما يتعلق بموقف النظام الدولي الحقيقي منه ومن ثورته. وهو في جميع الأحوال يبدو سائراً في طريق الآلام لتحقيق هدفٍ واحد لم تعد، منذ زمن، ثمة إمكانية ليكون له بديل. وقد يكون عدم حصول الضربة سبباً لاستعادته زمام المبادرة. لكن مسرحية (الضربة) بكل تطوراتها ونتائجها ومآلاتها البعيدة تفرض على القوى الإقليمية ذات العلاقة أن تُعيد قراءة المشهد، وأن تبني حساباتها على المعطيات الجديدة التي أفرزها، وهي مُعطياتٌ في غاية الحساسية والخطورة، وتُرسل رسائل تتعلق بمصير المنطقة بأسرها على مستوى إعادة رسم الخرائط. فبغضﱢ النظر عن كل الكلام المُنمق والشعارات النظرية عن التحالف الإستراتيجي والشراكات طويلة المدى والصداقات التاريخية، تُظهر التطورات أن أمريكا وأوروبا على استعداد كامل لإهدار المصالح الإستراتيجية لبعض القوى الأساسية في المنطقة، بوقاحةٍ تكاد لا تعرف الحدود، حتى لو كانت هذه المصالح تصل إلى أن تتعلق أحياناً بالوجود نفسه، وليس أقلﱠ من ذلك.. وفي هذا الإطار، يتم تجاهلُ كل الالتزامات، بل والتضحيات، السياسية والاقتصادية التي قدﱠمتها هذه الدول على مدى عقود. وقد قدﱠمتها انسجاماً أولاً مع أعراف العلاقات الدولية التي تَحكمُ منظومة المصالح المُشتركة للدول، ثم انطلاقاً من الحرص على القيام بما يمكن لتأكيد مقومات السلم والاستقرار في المنطقة.. من المُعيب ابتداءً ادعاءُ التجاهل لما بات يعرفه الصغير والكبير في منطقتنا عن معاني ودلالات الدخول مع النظام السوري في نفق المناورات الطويل المتعلق بالأسلحة الكيميائية. وبإشرافٍ وتنسيق روسي إيراني. لا نتحدث هنا عن المعاني الأخلاقية التي ربما يكون خيرُ من وصفها، وبعاميةٍ مُعبرة، مثقفٌ سوريٌ قد يكون اليوم أكثرَ من يمكن توصيفه بأنه ليبرالي ومُعتدل وعقلاني، من أهل سوريا، هو ياسين الحاج صالح، حين قال: "في شي حقير جدا بهالعالم الوسخ. صارت كل القصة قصة سلاح ما، مو قصة مجرم يستخدم هالسلاح وغيرو. كل الحكي صار عالساطور، مو عالمجرم الحامل الساطور، ولا عالدم اللي عالساطور، ولا عالناس اللي قتلهم المجرم بالساطور، ولا عالعدد الأكبر اللي قتلهم بالمسدس والمدفع... وصار مصير الساطور هو موضوع البحث العالمي، مو مصير المقتولين ولا مصير القاتل. عالم مفلوج بضميرو". لا. لا نتحدثُ عن معاني ما جرى من حيث انهيار المنظومة الأخلاقية الدولية التي تسمح باستمرار أبشع مجزرةٍ في العصر الحديث أمام بصر العالم بأسره، شعوباً وحكومات. فهذا حديثٌ لم يعد من ورائه طائل، وإن كنا نؤمن بأن تلك الممارسة سترتدﱡ على كثيرين في العالم المذكور لعنةً بشكلٍ من الأشكال، تبعاً لقوانين وسُنن الاجتماع البشري، وبعيداً عن التفكير الرغائبي. لكن لهذا الحديث مقاماً آخر. وإنما الحديثُ هنا عن حساباتٍ سياسيةٍ تسمح بحدوث خلخلةٍ كُبرى في موازين القوى الإقليمية، اختصرها الناشط السوري نجاتي طيارة حين قال، إنها تعني: "ببساطة، انفلات حلف النظام الإيراني الروسي من أي عقال، واستشراسه لا في سوريا وحسب، فلم يعد هناك أفظع مما ارتكبه فيها حتى اليوم، بل انفلاته في المنطقة العربية والعالم أيضاً، وهذا هو السبب الحقيقي لمشروع الضربة. إنه يعني موت القانون الدولي وخطوطه الحمراء كلها، ليس على استخدام السلاح الكيماوي فقط، بل على كل تدخل وانفلات آخر، لتجارة السلاح الروسية وعملائها، ولدولة ولي الفقيه وتعصبها الشيعي الفارسي أولاً وأخيراً أيضاً". ليس مهماً في هذا الإطار أن تكون تلك الحسابات مقصودةً أو نتيجة غباءٍ في الرؤية دفعت المنطقةُ، ومعها العالم، ثمنهُ أكثر من مرة في العقود الأخيرة. فالنتيجة في نهاية المطاف واحدة، ولا يمكن للدول صاحبة العلاقة أن تقف أمام هذا الموضوع موقف المُتفرج، لأنه أصبح موضوع مصيرٍ ووجود، وليس هزة سياسية عابرة. "لسان الحال أبلغُ من لسان المقال" كما قالت العربُ دوماً. والرسائل التي تُطلقها المهزلة الأخيرة في المشهد السوري تقول لكل أصحاب العلاقة: "ما حكﱠ جِلدكَ مثل ظفرك فتولﱠ أنت جميع أمرك"، أي "اقلعوا أشواككم بأظافركم". لا يُقالُ هذا للسوريين فقط، وإنما أيضاً لقوى إقليمية يُعرف أنها ستتضرر من تلك المهزلة بشكلٍ استثنائي. وحين يصبح الأمر أمرَ وجودٍ وبقاء يُصبح ممكناً، بل مطلوباً، تأجيلُ البحث في كل شيءٍ آخر في هذه المرحلة، والاتفاق جدياً على اقتلاع الشوك بقوة، مرةً واحدة وإلى الأبد. لكن الموضوع قد يحمل في طياته (مناورةً) ربما يجب الانتباهُ إليها، وتتمثل في أن صانع القرار في أوروبا وأمريكا يُدرك تماماً مصالحه الإستراتيجية مع القوى ذات العلاقة في المنطقة، لكنه يُمارس ما يُشبه لعبة (البوكر) سياسياً حين يُحاول الضغط عليها من خلال (الإيحاء) بإمكانية استغنائه عنها، وباستخدام مثل هذه الصفقات المحسوبة. ومفصلُ الطريق في المسألة يكمن في أن تُسارع هذه القوى تحديداً إلى إظهار جدﱢيتها في الدفاع عن مصالحها بكل ما فيها من حسمٍ ووضوحٍ وقوة، وبعيداً عن أي تردد، حفاظاً أولاً على (هيبةٍ) لا يمكن التفريط بها والتقليل من أهميتها البالغة في جملة الحسابات السياسية، ثم تأكيداً لجاهزيتها العملية في التعامل مع مدخل (كسر العظم) الذي تحاول إيران خصوصاً التركيز عليه. وفي مثل هذه الحالة فقط، تعود أوروبا وأمريكا للاعتراف، ليس فقط بمصالحها الإستراتيجية الحقيقية في المنطقة، بل وبضرورة العمل بمقتضيات مصالحها المشتركة مع دولها، بعيداً عن منطق المناورات.
440
| 15 سبتمبر 2013
لم أجرؤ على أن أجعل عنوان المقال (سأخون وطني) كما فعل الراحل محمد الماغوط عندما كتب كتاباً بهذا العنوان منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً! حاولتُ صادقاً أن أفعل، لكنني لم أستطع، وفي نهاية المطاف حملتهُ المسؤولية.. لايمكن لكلماتٍ أن تصف مشاعر السوريين في هذه الأيام. يعجز كل نثرٍ وشعرٍ وتحليل أن ينقل ما يعيشونه وهم يترقبون (الضربة) التي يُقال أنها ستحدث ضد نظام الأسد. عامان ونصف، والسوريون يَفدون أرضاً يُسمونها وطنهم، لكن الوطن ليس صنماً يُعبدُ، وإنما هو مقرونٌ بالإنسان الذي يعيش فيه. وإذا استولت على أرضه وحوشٌ ضارية أصبح غابة، وفي أحسن الأحوال، وطناً مؤجلاً. منذ عامين، وبعد شهور طويلة من بدء الثورة كتبتُ مقالاً بعنوان (حين يندسُ الشعب السوري في فراش وطنه الطاهر)، وكان مما قلتُ فيه: "كثيراً ماتقول العرب: (اندسّ) فلانٌ في الفراش. وحين تبحث في المعاجم تجد فعلاً أن لهذا الاستعمال أصلاً أصيلاً في اللغة العربية. تُفكّر، من هذا المنطلق، فيما يجري في سوريا هذه الأيام، فتفهم المعنى الحقيقي لما يردده الإعلام السوري عن الشعب السوري المندسّ. تُدركُ أن هذا الشعب البطل وجد أخيراً، وبعد عقودٍ من الصبر والمعاناة والتعب، فِراشهُ الأصلي الذي كان يبحث عنه. فراش الكرامة والحرية والوحدة الوطنية. وأنه بدأ يندسُّ في هذا الفراش الممتدّ على مساحة الوطن بأسره. يشرح الله من عليائه صدر الشعب السوري اليوم، فيرمي عن ظهره وزر أثقالٍ أنقضته من القهر والذلّ والهوان، ويندسُّ في ذلك الفراش، ملتحفاً بكل مافي طاقة الإنسان على هذه الأرض من معاني العزّة والشجاعة والبطولة والتضحية والفداء. يشعر بالدفء بعد بردٍ قارسٍ طويل، فتنفجر عبقريته بألف طريقة وطريقة لتُظهر للعالم نموذجاً فريداً عما يمكن أن تفعله الشعوب حين يشتعل شوقها إلى الحرية. كلمةٌ واضحة هي مناطُ التكريم الإنساني الفريد على هذه الأرض، ولاتحتاج إلى تعريفٍ تطلبه أبواقٌ تافهة لاتستحق أن تُذكر بأكثر من هاتين الكلمتين. يندسُّ الشعب السوري في فراش الكرامة والحرية، فتظهر فيه طاقةٌ أسطورية على مواجهة الرصاص والمدافع والدبابات بصدورٍ عارية، وبشعارٍ واحدٍ لايتغير يؤكد على سلمية ثورته. يمضي اليوم وراء اليوم، والأسبوع خلفه الأسبوع، وإرادة هذا الشعب لاتتزعزع. يتساقط الشهداء مثل ورود ربيعٍ قطفتها يدٌ آثمة. تُعتقل آلافٌ في إثرها آلاف. تُحاصر مدنٌ ومناطق بكل مافيها ومن فيها. تُستخدم كل أنواع الإرهاب والترويع والتعذيب والإهانة لكسر النفوس قبل الأجساد. فلا تجد إلا الإصرار على متابعة المسيرة، ولاتسمع إلا قصص الصمود والتحدي والتصدي. كلماتٌ حَسِب الناسُ أنها صارت محض شعارات تلوكها الألسن زوراً وبُهتاناً، وإذا بالشعب السوري يبث فيها روحاً تنبض بالحياة". كانت تلك قصة الشعب السوري الحقيقية مع (وطنه) لفترةٍ طويلة، لكن حجم الوحشية الذي تعرض له كان يفوق طاقة البشر على الاحتمال، ولايزال. ثمة إصرارٌ على متابعة المسيرة اليوم، وقصصُ الصمود والتحدي والتصدي لاتزال تتوالى من كل بقعةٍ من أرض سوريا، وإرادةُ الحياة تهزم محاولات التركيع المتتالية، والتي كان آخرها قصف الغوطة بالسلاح الكيماوي. في تقديمه لكتاب الماغوط المذكور أعلاه، قال الروائي السوري (المَنفي) زكريا تامر: "محمد الماغوط أديبٌ طريفٌ، مثيرٌ للعجب، فهو قبل أن يخون، يؤلف كتاباً يُكرسه للإنذار بأنه يعتزم أن يخون وطنه وفي زمانٍ تتم فيه أفعال الخيانة سراً. فأيُ وطنٍ هو ذلك الذي سيخونهُ وعلناً وبفخر؟ الأوطانُ نوعان.. أوطانٌ مزورة وأوطانٌ حقيقية. الأوطانُ المزورة أوطانُ الطُغاة، والأوطان الحقيقية أوطانُ الناس الأحرار. أوطانُ الطُغاة لاتمنح الناس سوى القهر والذل والفاقة. ومُدُنها وقُراها لها صفاتُ القبور والسجون، ولذا فإن الولاء لأوطان الطغاة خيانةٌ للإنسان، بينما عصيانُها والتمردُ عليها إخلاصٌ للإنسان وحقه في حياةٍ آمنة يسودها الفرح وتخلو من الظلم والهوان، لاسيما أن الولادة في أي وطنٍ هي أوهى جذرٍ يربطُ الإنسان بوطنه، ولن يقوى ذلك الجذر وينمو ويكبر إلا بما يُعطيه الوطن من حريةٍ وعدل". هو الإنسانُ إذاً يعطي للمكان، أي مكان، قيمتهُ ومكانته. وحضورُ الإنسان، بحريةٍ وعدلٍ وكرامة على أرضه هو، وهو وحدهُ، الذي يمنح المشروعية لأن تُصبح هذه الأرضُ (وطناً). فهذه الكرةُ الأرضية بأسرها كانت موجودةً، لكنها لم تكن وطناً لأحد إلا بعد أن وُجد الإنسان فيها. انظر إلى موقع هذه الكرة الضئيلة من هذا الكون المهيب. كرةٌ مرميةٌ في فضاءٍ لانهاية له. لايميزها موقعٌ استراتيجي خاص، ولاحجمٌ كبير، ولاحدود استثنائية، ولاتمثل قلب الكون، ولا تُعتبر صلة وصلٍ بين أجزائه الأخرى. وإنما تفردت بشيءٍ واحدٍ فقط هو وجودُ الإنسان عليها. وإذا كانت هذه القاعدة تنطبق على الأرض بطولها وعرضها، فهي أحرى بأن تنطبق على بُقعةٍ صغيرة من بقاعها تُسمى سوريا. هكذا يفهم السوريون العلاقة بين الإنسان وبين الوطن. هكذا يُدركون في أعماقهم أنهم قادرن على صناعة الأوطان إذا بقي الإنسان. هكذا يؤمنون بقُدرتهم على إعادة بنائها مهما حصل، تماماً كما بنوها أول مرة، إن لم يكن بشكلٍ أفضل. من هنا، يُصبح سخيفاً وممجوجاً وإنشائياً كل كلامٍ يَصِفُهم بعدم الوطنية إذا لم يُعارضوا مايُسمى بالضربة التي يُقال أنها ستستهدف المجرم وعصابته. (خاين يللي بيقتل شعبه). هذا هو مفرق الطريق بين الخيانة والوطنية كما حددهُ السوريون منذ اللحظة الأولى في ثورتهم. وبغض النظر عما إذا حصلت الضربة أم لم تحصل، فإن تعريف الوطن عندهم سيبقى متمحوراً حول كرامة الإنسان، ففي غيابها، لاتفقد الكلمة معناها فقط، بل تنتحر الأوطان، ولاتعودُ إلا مقبرةً كبيرة للعمران البشري بكل أشكاله وتجلياته.
4134
| 08 سبتمبر 2013
"صباح الخير. نحن بخير، كانت ليلةً صعبة وما زال الضرب علينا شغال. ادعولنا قد نموتُ في أي لحظة".. هذه هي الرسالة المُختصرة التي وصلت صباح الجمعة من إحدى القريبات الرابضات على إحدى ثغور الجبهة في سوريا: الغوطة. القريبةُ، وسأناديها (سوريا)، تعمل منذ أكثر من عام ممرضةً مع الطواقم الطبية في تلك المنطقة، بعد أن هجرت كل اهتماماتها وانخرطت في دورة تمريضٍ ميدانية في ذلك الوقت لتتفرغ للعمل في هذا المجال. يوم الأربعاء الأسود، شاءت الأقدار أن تنجو عائلتُها من الموت لأنها صعدت، لسببٍ ما، إلى أعلى طابقٍ في البناء. "أما الذين نزلوا إلى القبو والملاجئ فلم ينجُ منهم أحد" قالت سوريا: "لأن الغاز ثقيل ويكون أقرب إلى الأرض". لكن سوريا نفسها أبت إلا أن تضع كمامتها وتهرع إلى الشوارع لإسعاف من يمكن إسعافهُ من المصابين. ولذلك، لا يزال صدرها يحرقها بشدة بعد عشرة أيام من ذلك اليوم الحزين، وقد صغُر بؤبؤ العينين لديها بدرجةٍ تُتعب نظرها إلى حدٍ كبير. رغم هذا، ورغم طلبها بأن ندعو لها وللأهل جميعاً لأنهم قد "يموتون في أي لحظة"، لا تزال سوريا تعمل مع الطواقم الطبية إلى لحظة كتابة هذه الكلمات. لا تزال سوريا مصرةً على الحياة، ولا تزال مصرةً على أن يبقى الناسُ أحياء. لا يحصل هذا خوفاً من الموت، فالموتُ في بلادي اليوم أسهلُ بكثير من الحياة، وهو أقصر طريقٍ للراحة الأبدية. وإنما يحصل لأن سوريا، قريبتي، ولأن سوريا، وطني، يرفضان ببساطة الاستسلام. قَدَرُ سوريا أن تعيش. قدرُ سوريا أن تُغالب. قدرُ سوريا أن تدافع عن مستقبلٍ أفضل لأبنائها، ولكثيرٍ من بني البشر. قدرُ سوريا أن تقاوم لتكون في مكان القلب من دورةٍ حضاريةٍ إنسانيةٍ جديدة على مستوى العالم، انطلقت شرارتها من الربيع العربي، والثورة السورية تقع في مركزها الحساس. وكلُّ من لا يستطيع النظر إلى ما يجري على هذا المستوى لن يتمكن أبداً من فهم هذه الظاهرة. الثورة السورية حدثٌ تاريخيٌ حضاريٌ فريدٌ ومتميز. نعيدُها ألف مرة، رَضِيَ من رضي وكَرِهَ من كره. قلناها من قبل، ونكررها الآن بمناسبة الحديث عن (الضربة) العتيدة.. لم يعد ثمة مكانٌ لفذلكات فكريةٍ تتهم هذه المقولة بالشوفينية والتعالي، فالواضح أن أصحاب هذه الفذلكات يعيشون في كوكبٍ آخر، لأنهم لا يرون حقائق تفقأ العين بوضوحها الصارخ، وتُضفي بمجموعها على الثورة السورية خصوصيةً كبرى لا توجد لغيرها. لا حاجة للدخول في التفاصيل هنا، وتكفي الإشارة إلى أربعة جوانب من تلك الخصوصية: خصوصية الشعب والثورة، وخصوصية النظام وممارساته، وخصوصية موقع سوريا بمقياس الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيكس)، وخصوصية موقف النظام الدولي من الثورة. بكلماتٍ أخرى. نحن بإزاء شعبٍ يرسم ملحمةً من الصمود والإصرار والتضحية والعطاء والابتكار ليس لها مثيل، إلى درجةٍ حيّرت معها عالَماً نجزم أنه ليس مستعداً للتعامل مع مثل هذه الظاهرة، لا أخلاقياً ولا قانونياً ولا سياسياً، وهذا يحتاج لتفصيلٍ في مقامٍ آخر. ونحن بإزاء نظامٍ سياسي له خصوصيةٌ طائفية في غاية التعقيد، ويمارس درجة غير مسبوقة من الوحشية والإجرام. ونحن بإزاء موقعٍ إستراتيجي نادر يمثل بؤرةً لتقاطع وتضارب المصالح العالمية الاقتصادية والسياسية. ونحن بإزاء نظامٍ دولي مهووسٍ عملياً بالوضع السوري، لكن هذا الهوس يُنتج ممارسات محورها الارتباك الكامل، وهو ارتباكٌ ناجمٌ عن ذلك التضارب في المصالح قبل كل شيء. وحين تجتمع هذه الجوانب من الخصوصية سوياً في المسألة السورية لا يكون غريباً أن نتحدث عن خصوصيةٍ كُبرى تُميز الثورة السورية. منذ عامٍ على وجه التمام صدر تصريحٌ من سوزان رايس سفيرة أمريكا في الأمم المتحدة، في ذلك الوقت، تتخوف فيه من أي تدخل عسكري بدعوى أن نظام الدفاع الجوي السوري "يُعتبر من الأكثر تطوراً في العالم"!. ومنذ عامٍ على وجه التمام قلنا مايلي: ثمة درجةٌ من النفاق الدولي فيما يخصُّ الثورة السورية لا تتجاوز فقط حدود العقل والمنطق، بل إنها باتت تدخل في خانة (الاستغباء) للسوريين، بشكلٍ لا يجوز أن يبقى مقبولاً من جميع شرائحهم على جميع المستويات وفي جميع المجالات. فمن يقرأ التصريحات عن نظام الدفاع الجوي السوري (المُخيف)، يُخيّلُ إليه أن الحديث يجري عن قوةٍ عُظمى، وليس عن نظامٍ سياسيٍ مهترئٍ ومنخورٍ بالفساد أفقدته الشرعيةَ صدورٌ عارية وصرخات حناجر تُطالب بالحرية، وفقدَ سيطرته على كثيرٍ من أنحاء البلاد بأسلحةٍ خفيفة تحملها أيادٍ تؤمن بقضيتها العادلة. أكثرَ من هذا، يعتقد من يسمع التصريح أنه يصدر عن جمهورية موز لا حول لها ولا قوة، ولا تملك من القدرات العسكرية المتطورة ما يُمكّنها من جعل النظام السوري يتردد ألف مرةٍ في القيام بما يقوم به بمجرد التلويح باستخدام تلك القدرات، ولو من خلال تحرّكات بسيطة على الحدود البرية والبحرية. ومن يقرأ تحذيرات الدول الغربية عن إمكانية حصول مذابح في حلب يظنّ أيضاً أنها تصدر عن قوىً هامشية ليس لها وزنٌ ولا تأثير، ولا تملك عملياً أن تقوم بأي شيءٍ يمنع حصول مثل تلك المذابح، وأن أقصى ما يمكن أن تفعله هو المناشدة والمُطالبة والتحذير!؟. هزُلت. هذه هي الكلمة الوحيدة التي يمكن أن تصف باختصارٍ الموقف الدولي. قلنا هذا بالأمس. أما اليوم، فهناك حديثٌ عن (ضربة). حسناً، لا نعرف إن كانت الضربة ستحدث أم لا. ولا نعرف، إن حدثت، تأثيرها مع التأكيد والإصرار الذي نسمعهُ على أنها ستكونُ ضربةً محدودة، وعلى أنها لا تهدف لإسقاط النظام! لكن ما نعرفه أن الشعب السوري الذي بدأ هذه الملحمة سيكون في النهاية صاحب القرار في تحولاتها ومصيرها. وأن المسؤولية تقع على المخلصين من أبناء سوريا ليقوموا بكل ما يجب القيام به حتى تبقى مصرةً على الحياة وعصيةً على الاستسلام.
335
| 01 سبتمبر 2013
لم يبقَ في سوريا صغير أو كبير إلا وتحدث عن أزمة المعارضة السياسية السورية، وعن عجزها وتخبطها، وعن عدم قدرتها على القيام بدورها في أي مجالٍ من المجالات. ونحن منذ البداية نبصمُ بالعشرة، كما يقول المثل السائد، على هذه الحقيقة. لكيلا يُضيع أحدهم الوقت ويلفت الانتباه عن موضوع هذا المقال بدعوى أن هدفهُ يتمثل في الدفاع عن هذه المعارضة. أما وقد بتنا نعيش زمن ما بعد مجزرة الغوطة، فقد صار لزاماً علينا وعلى كل صاحب قلم فتحُ ملف القوى العسكرية التي يُفترض أنها وُجدت لإسقاط النظام. وهي قوى دافعنا كثيراً عن غالبيتها العُظمى، وأكدنا مرة تلو الأخرى أنها تحاول القيام بدورها ومهمتها وسط ظروف صعبة ومعقدة. لكن حجم المعلومات المؤكدة المتواترة، وفي الأشهر الأخيرة تحديداً، عن الوضع الإجمالي لهذه القوى يدفعُنا لوضعِها عند مسؤوليتها أمام الله والشعب والوطن والتاريخ. فإذا كانت المعارضة تفتقر إلى مقوماتٍ تُمكنها من إحداث أي تأثيرٍ إيجابي في مجرى الأحداث لأسباب يغلب أن تكون ذاتية قبل أن تكون خارجية، فإن القوى العسكرية، أو شرائح كبيرة ومهمة منها على الأقل، تملك بكل تأكيد ما تستطيع أن تؤثر به على الأحداث بشكلٍ أو بآخر. فالمعلومات تؤكد أن مجموعة من الألوية والكتائب الكبيرة تملك كمياتٍ كبيرة من السلاح، وأن هذا السلاح توفرَ لها كدعمٍ من الخارج أو كغنائم من الداخل. والمعلومات تؤكد أن هذه القوى تملك الكثير من الأموال، وهذه الأموال إما أنها جاءت من مصادر داخلية مثل السيطرة على بعض فروع البنك المركزي، أو أنها تتدفق عليها من المتبرعين الخارجيين من هنا وهناك. والمعلومات تؤكد أن كثيراً من هذه القوى باتت تحتفظ بأسلحتها وأموالها ضمن قطاعات جغرافية محددة، بحيث بات همُها الوحيد يتمثل في الحفاظ على تلك المناطق و(ممارسة الحُكم) فيها تحت أسماء وهياكل متنوعة. وإذا كان لها شيء من المشاركة في العمليات ضد قوات النظام، فإنما هي مشاركة رمزية مُتقطعة تحصل بين فترةٍ وأخرى لإثبات الوجود فقط لا أكثر ولا أقل. والمعلومات تؤكد أن بعض القوى تقوم بهذا التخزين لقواتها وأسلحتها، وأحياناً بدفن كمياتٍ ضخمةٍ منها تحت الأرض، انتظاراً لما بعد سقوط النظام!؟ بمعنى أن إسقاط النظام لم يعد الأولوية الأساسية لهذه القوى. وفي حين يَظهرُ جلياً أن السقوط المطلوب لن يحصل إلا بجهودها، يبدو موقفُها أقرب إلى الخيال، لأنه يعني انتظار سقوط النظام بمعجزةٍ ما، لا يعلم أحد كيف ومتى يمكن أن تحصل! والمعلومات تؤكد أن بعض هذه القوى مشغولة منذ الآن بكيفية قيامها بحكم البلاد، وبالتفكير بطرق وأساليب إقامة الخلافة، أيضاً بعد سقوط النظام، بينما تؤكد سننُ الله في الأرض وقوانينُ الاجتماع البشري عليها أن مثل هذا التفكير والانشغال في ظل الظروف الحالية يمثل حياة في الأوهام والظنون والآمال أكثر من كونه تفكيراً واقعياً يأخذ بعين الاعتبار الوقائع والحقائق على أرض الواقع. والمعلومات تؤكد أن هناك فُرقة وتنافساً وانقساماً بين أطراف هذه القوى يكاد يكون على كل شيء، وأن هذا يحصل رغم أنها تنطلق بشكلٍ عام من نفس المنطلقات الفكرية والدينية، ورغم أن المفروض أن هدفها مُشترك. فالماضي القريب يُظهر كيف فشلت محاولات التوحيد حتى بعد تنفيذها، وكيف انفرط العقدُ بعد العقد، وكيف زادت عمليات التشظي والانقسام. كيف يستطيع قادة الألوية والكتائب تفسير كل هذه الظواهر شرعاً أو ديناً أو عقلاً؟ أين يجدون المبررات التي تسمح بوجود هذا الواقع وترسيخه في ظل ما يجري لأهلهم وإخوتهم من أبناء سوريا؟ كيف يمكن لأي إنسان أن يواجه قطرة دم شهيدٍ واحد يوم القيامة حين يرى أن تقصيرهُ في أداء واجبه كان سبباً لوفاته؟ نعرفُ أن الأعمار بيد الله وأن لكل أجلٍ كتاباً، لكن هذه المعرفة لا تتناقض مع يقيننا بأنه سبحانه وتعالى يعلم النيات والقدرات الحقيقية لكل إنسان، وأنه مؤتمن على ما لديه من إمكانات، وأنه مسؤول عن الأخذ بعالم الأسباب، ومُحاسب على تقصيره في القيام بمسؤوليته وأداء الأمانة التي اؤتمن عليها. لا ننتظر من القوى العسكرية الكبيرة والقادرة في سوريا القيام بمعجزات، لكننا ننتظر منها أن ترتقي إلى أداء ما يمكن لها أداؤه في مهمتها الأصلية والمحددة بالدفاع عن شعبنا والمساهمة المستمرة قدر الإمكان في إسقاط النظام، أولاً وقبل أي شيء آخر. ولا نريد أن نلجأ في هذا المقام إلى استخدام كل النصوص التي توجب الدفاع عن الأهل والأرض والعرض، وعن الإثم الذي يُترتب على التقصير في نصرة المظلوم، فهي كثيرة ومعروفة. كل ما في الأمر أن هناك خلطاً في الأولويات، ربما يجري تبريرهُ بشكلٍ أو بآخر، لكن المشكلة أنه يؤدي إلى بلاءٍ عظيم على أصحابه وعلى البلاد والعباد. إن أرواح شهداء الغوطة تنادي كل ما تملكه قيادات الألوية والكتائب المقتدرة من معاني النخوة والكرامة والإنسانية لكي تتجاوز كل خلافاتها الحالية، وتتناسى طموحاتها المستقبلية، بحيث تُركز اليوم على هدفٍ واحدٍ ووحيد يتمثل في إسقاط الأسد وعصابته. وليتأجل كل مشروع آخر إلى ما بعد تلك المرحلة، فإن كان ينفع الناس مكثَ في الأرض وحاز على رضا الناس وقبولهم. وأثابَ الله أصحابه على تجردهم وإخلاصهم قبل سقوط النظام بركةً يجدون خيرها وحلاوتها بعد سقوطه. سوريا تنادي أيها الرجال. وشعبكم الذي باعه الغرب والشرق ينتظر منكم صادق العطاء ويراكم معقد الأمل والرجاء لتكونوا أسباب النصر والتمكين. فمن يكون لها من قادة الألوية والكتائب؟ ونقولها بكل صراحة، لقد تشابهَ الجميعُ اليوم في نظر هذا الشعب الصابر، فمن يكون المثال المختلف الذي يستحق القيادة بالأفعال لا بالأقوال؟ هذا هو السؤال الكبير.
398
| 25 أغسطس 2013
ثمة خطورة بالغة في الاعتقاد السائد لدى البعض بإمكانية الفصل بين مصير الشعب ومصير السلطة. بمعنى الظن أن بإمكانية التعايش بين استمرار حالة الاهتراء الاجتماعي والاقتصادي والثقافي التي يعاني منها الشعب من جهة، وقدرة النظام السياسي العربي على الاستمرارية والاستقرار من جهة أخرى. الخطير في الموضوع أن توحي بعض الأطراف الدولية، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، بإمكانية العيش في ظل المعادلة السابقة. والأسوأ من هذا كله أن تتكرر الإشارات بأن النجاح في التعامل مع القضية ممكنٌ من خلال آلياتٍ تقليدية قديمة تُزاوج بين الحلول الأمنية والترغيب المادي. أما وجه الخطر في الموضوع فيتمثل في أن تلك الأطراف الدولية لا تأبه في نهاية المطاف لمآلات الأمور على مستويي الشعب والسلطة، ببساطة، لأنها تؤمن بأن أيّ وضعٍ جديد تتمخضُ عنه الأحداث في المنطقة قابل للاحتواء سياسياً أو عسكرياً، أو بالمدخلين كِليهما. من هنا، يبدو توزيعُ الأدوار الذي تُمارسه بعض أطراف النظام العالمي في هذه المرحلة، وبشكلٍ يكاد يكون مُبتذلاً وفاقعاً في دلالاته، أشبه بالفخّ الذي يُنصب للجميع. وإذا كان استمرار الفوضى في بلدان (الربيع العربي) هدفاً من الأهداف التي يبدو أن هناك اتفاقاً عليها، تبدو (زعزعة الاستقرار) في البلدان الأخرى وكأنها هدف آخر لما يجري حالياً في كثيرٍ من المجالات. وهذا يؤكد الحاجة الماسّة لانتباه أصحاب العلاقة في النظام السياسي العربي إلى دلالات نوعٍ خاص من الحراك العربي السائد اليوم في معظم أرجاء الأرض العربية. فهذا النظام الذي يفتخر بقدرته الكبيرة على إحكام القبضة على أنواع النشاط الجماهيري وعلى استيعابها يبدو غافلاً عن جملة حقائق: 1) إن شرائح متزايدة من المجتمعات العربية خاصة الشابة منها أصبحت سباقة إلى فهم تكنولوجيا العصر بكل أنواعها واستخدامها لتحقيق ما ترى أنه طموحاتها ومطالبها، وهي تكنولوجيا تتغير وتتطور بشكل انفجاري من ناحية، وتكاد تصبح في أنحاء العالم بأسره المحرّك الأساسي لتغيير المجتمعات والأنظمة. 2) إن أجهزة الضبط والربط والمتابعة والرقابة للنظام الرسمي العربي تغرق تدريجياً في نفس الدرجة من الاهتراء التي يعاني منها النظام بأكمله، وأنها تنطلق في عملها في النهاية من ثقافة بيروقراطية بحتة، قد يمكن تنشيطها بين الحين والآخر بحوافز مادية، لكنها لا تملك في النهاية البُعد الرسالي الذي يتلبّس الشرائح المجتمعية بشكلٍ متزايد. كما أن القدرات الكمّية والنوعية لتلك الأجهزة لا يمكن أن تُقارِب في عطائها وإنجازها وفعلها قدرة الشرائح الجديدة التي تكبر مساحاتها على شكل متوالية عددية وتزداد إمكاناتها بشكلٍ غير مسبوق. 3) إن هذه الشرائح تعلّمت وتتعلم بشكل كبير من التجارب، الماضية منها والراهنة للأحزاب والمجموعات المعارضة التقليدية على صعيد الوسائل والأفكار، وإنها تتجاوز تلك التجارب تدريجياً وبشكلٍ لا يمكن رصده بالوسائل التقليدية. 4) وأخيراً، إن هذه الشرائح باتت تمارس نقلة في طبيعة عملها، من كونه رد فعلٍ على حدث معين، إلى أن يصبح (حالة) رفض ومقاومة شعبية للواقع ترمي إلى تغييره من الجذور بأساليب تختلف كليا عن تلك التي أتقن النظام الرسمي التعامل معها. إن نظرة شاملة إلى الوسائل والأساليب والأفكار التي ظهرت في السنوات الأخيرة، ولكنها تكثّفت وازدادت نوعياً وكمياً بدرجة كبيرة خلال العامين الماضيين، تُظهر تطوراً ملحوظاً وإستراتيجياً في قدرة الشعوب على التعامل بشكل فعال مع أجهزة الدولة وأساليبها في استيعاب أي بذور للتغيير. ولابد في هذا الإطار من الإشارة إلى ظاهرة جديدة تبدو ملامحها في هذه المرحلة، وقد تلعب دوراً حاسماً في عملية الفرز القادم، وما قد يترتب عليه من انحسار المشروعية السياسية والقانونية والشرعية عن النظام السياسي. فللمرة الأولى تمكن ملاحظة المحاولات الكثيرة والواضحة لإظهار التميز بين مواقف أطراف شعبية ونخبوية من خلفيات متنوعة من جانب ومواقف أصحاب القرار من جانب آخر، وفيما يتعلق بقضايا كبرى ومصيرية. ربما لا تكون هذه الظاهرة جديدة، لكن حجمها ونوعيتها وقدرة أصحابها على ابتكار أساليب ووسائل جديدة للتعبير عنها يُعتبر مؤشراً هاماً على النقلة التي تشهدها. وتتراوح تلك الأساليب من الشكل المباشر الذي يعتمد أسلوب المواجهة الصريحة. إلى المزاوجة، المضحكة أحياناً، بين مقدمةٍ تثني على موقف النظام الرسمي، ثم أنها لا تلبث أن تقدم طروحات ومداخلات مطولة لا تتناقض كليًا مع ذلك الموقف فقط، وإنما تهدمُ بُنيانه وتنسف أسسهُ من القواعد. كما أن البعض يعتمد إستراتيجية هدفها المعلن إفساح المجال للرأيين بشكلٍ يرفع المسؤولية عنه، لكن الطرح بمجمله يُمرّر في النهاية ما لا يمكن تمريره إطلاقاً بغير تلك الطريقة. والمؤكد أن جميع تلك الأنواع المبتكرة من التعامل مع الموقف الرسمي العربي تلعب دوراً حساساً في خَصم وتضييق رقعة المشروعية السياسية والأخلاقية والأدبية. فالمواجهة المباشرة من قِبل البعض، وإن كانوا قلة، تشجع على رفع سقف المحرمات والممنوعات. أما الأنواع الأخرى فإنها توسع دوائر المعرفة والوعي بحقيقة ما يجري، ثم أنها تهدم في النفوس والمشاعر مع التراكم أي مقومات للهيبة والمشروعية والاحترام. وفي نهاية المطاف، فإن الإنسان العربي يبدو وكأنه يتعلم حين يُوضع في مثل هذه الظروف الضاغطة كيف يبتكر قوانين جديدة للعبة مختلفة يقوم هو نفسهُ بوضع سياقاتها وتوازناتها ويفرضُها تدريجياً على الواقع. وهذا في حدّ ذاته إرهاصٌ لفرزٍ بين السلطة والمجتمع تُمكن رؤية ملامحه على أكثر من صعيد، خاصة ثقافياً وسياسياً. لا مفرّ من المصارحات والمراجعات للحفاظ على ما تبقى من استقرار في منطقة ملتهبة كالعالم العربي. لا مفرّ من التفكير بحلول إبداعية تتجاوز كل أشكال الفكر السياسي التقليدي القديم. فالشعوب لا تحبُّ الفوضى ابتداءً، وهي تبحثُ عن أيادٍ ممدودةٍ لها لتُصافحها بلهفة كلِّ من يعشق الأوطان ويريد لها أن تحيا بعزٍ وكرامةٍ واستقرار.
661
| 18 أغسطس 2013
ثمة مقولة تصفُ بعض الأحوال في الواقع الإنساني تؤكد بأن "من يعرفُ لا يتكلم ومن يتكلمُ لا يعرف". وربما تنطبقُ هذه المقولة اليوم أكثر ما تنطبق على الواقع المتعلق بما يتحدث عنه البعض من إقامة الدولة الإسلامية في سوريا. فالمؤسف، بكل صراحةٍ ووضوح، أن الغالبية العُظمى من (العلماء) مُقصّرون، وبدرجةٍ كبيرة، في مجرد التطرق للموضوع، فضلاً عن تبيان الحقائق المتعلقة به على جميع المستويات. ففي حين تمضي بعض الأطرافُ في سوريا اليوم على طريق محاولة إقامة مثل هذه الدولة، وتعتمدُ في حركتها وتفكيرها وعملها بناءً على بضاعةٍ مُزجاةٍ من العلم الشرعي، ومن العلم بالواقع المعاصر سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، نجدُ من يُفترض بهم أن يكونوا أصحاب القول الفصل في الموضوع صامتين. ينظرون إلى الأحداث والتطورات المتسارعة والخطيرة وكأنها لا تتعلق بحاضر ومستقبل بلادهم وأهلهم، أو كأن الموضوع بعيدٌ عن محال اختصاصهم وعلمهم، في حين أن هذا الأمر تحديداً يُمثل أولوية الأولويات بالنسبة لهم ولكل ما يتعلق بدورهم ووظيفتهم في الحياة. فضلاً عن أنه مسؤوليةٌ شرعيةٌ وأخلاقية لا يمكن التهرب منها بأي عذرٍ من الأعذار. لا يكفي هنا أبداً القولُ بأن شيئاً من (النقد) المطلوب يتمُّ في الغرف المُغلقة والاجتماعات الجانبية بنوعٍ من الخصوصية، لأن الأمر بات متعلقاً بمصير شعبٍ بأكمله. وإذا كان لابدّ من وجود شيءٍ من الخصوصية المذكورة من باب (الحكمة) في معالجة الأمر هنا وهناك، وهو ما نأملُ أن يكون حقيقياً.. فإن هناك أبعاداً أخرى للموضوع يجب أن تُعالج بكل ما في الوسع من علانيةٍ ووضوح وشمول. فأهل سوريا كلهم أصحاب هذه القضية، وهم برأيهم الجمعي من سيؤثر في اتجاهها ومسارها في نهاية المطاف، بغض النظر عن قوة السلاح التي يتوهمُ البعض أنها ستكون مصدر القول الفصل في هذا المجال. لكن من لطائف الأقدار أن ما نطرحه أعلاه لا يسري على ثلةٍ، قد تكون قليلة، من سوريين يملكون بضاعةً في هذا المقام لا يرضون بإخفائها، ويرون في كتمانها خيانةً للأمانة وللأمة والوطن والشعب. من هنا، بات واجباً أن يتم نشرُ آراء هؤلاء ما أمكن، والمساعدة على إيصال (صرختهم) لتبلغ أسماعَ الناس في أوسع ما يمكن من دوائر وشرائح. لهذا، ننقل في هذا المقال بعض ما يطرحه على مدونته حفيدُ الشيخ علي طنطاوي يرحمه الله وسليل مدرسته الوسطية الأخ والصديق مجاهد ديرانية. وكما هو الحالُ في مثل هذه المجالات، فإننا نرجو أولاً ألا يكون النقلُ مُخلاً بكل ما كتبه الرجل لأننا في وارد الانتقاء من مادته إلى مقالٍ لا تسمح حدودهُ بالمطولات، وعسى أن يعود إليه من يريد الاستزادة. ثم إن النقل لا يعني التوافق الكامل في كل فكرةٍ ورأيٍ بين الناقل والمنقول عنه، لأن هذا ليس من طبائع الأمور أصلاً في حقل الفكر والثقافة. ومما يقوله الأخ مجاهد في هذا المجال: "مشكلة الذين يقولون إن دولة الإسلام مطلب فوري في سوريا هي أنهم لا يضعون أي تصور عملي لتحقيق رؤيتهم سوى أن يحكم المجاهدون بالإسلام في المناطق التي يسيطرون عليها، فيرفعون راية إسلامية ويُصدرون قوانين تَفرض على الناس الالتزامَ بالأحكام الشرعية. لكنهم لا ينتبهون إلى حقيقة مؤلمة هي من ثمرات الأمر الواقع: إن هذا التصور النظري المبسط يعني أن سوريا لن تصبح دولة إسلامية، بل ستتحول إلى عشرات الدول الإسلامية الافتراضية، إن لم يكن إلى مئات! إذا أردنا الحكم على أمر بالصلاح أو الفساد فعلينا تعميمه، وإذا عمّمنا رأي القائلين بتقديم الدولة والحكم على الدعوة والإصلاح فسوف نجد أن كل كتيبة (أو مجموعة كتائب متقاربة) ستنشئ "سلطة عسكرية سياسية" في منطقة نفوذها، وهذه السلطة هي صورة بدائية مبسّطة من أشكال الكيانات التي تُسمَّى دولاً. إذن سوف تتعدد الدول بتعدد الكتائب والجماعات، وبما أن أحداً لم يستطع جمع الكتائب في كيان واحد فإن أحداً لن يستطيع توحيد تلك "الدول الإسلامية" في دولة واحدة، وسوف نكتشف سريعاً أنه لا سبيل إلى تحقيق تلك الغاية والوصول إلى "دولة سورية إسلامية واحدة" إلا بالاقتتال، فلا يزال بعضها يصفّي بعضاً حتى ينتهي الأمر إلى الفرقة الفائزة فتصبح هي المسيطرة على سوريا ويصبح قائدها هو حاكم سوريا الجديد. الخبر المرعب هنا هو أن الاقتتال يُعتبَر في نظر "بعض" من يحملون السلاح اليوم أمراً مشروعاً تحت غطاء فتوى "التغلّب" التي نقدتها في مقالة سابقة، وهذا المنهج كارثي، لأن طريق التغلب العسكري محفوف بثلاث سيئات كبرى، كل واحدة منها شَرٌّ من الأخريات: يسبب الكثير من الموت والدمار، ويأتي بالأقوى وليس بالأصلح، ويفتح باب الملك الجبري وحكم الاستبداد، لأن المتغلب يستبد بقوته وشوكته فلا يتنازل لغيره ولا يتخلى عن السلطة حتى الموت، بل ربما نقلها لورثته من بعده". ثم يسأل الرجل نفسَه عن "البديل" في هذا المقام، ويجيب بما يلي: "ما البديل؟ البديل هو الاعتماد على الانتخاب العام بعد التحرير، فيختار الناس ممثليهم (نوّابهم) ثم يختار النواب حكومة لحكم البلاد. الطريق الآمن الوحيد هو اللجوء إلى صناديق الاقتراع، وكلما كان الناس أكثر وعياً وصلاحاً وتديناً كلما كانت مجالسهم النيابية وكانت حكوماتهم أقرب إلى الدين والصلاح. من هنا فإنني أدعو دوماً إلى عدم فرض التدين على الناس بقوة السلاح، وإلى الاعتماد على الدعوة التي أجدها أهم المهمّات بعد تحرير الأرض. وليس يُشترَط للدعوة أن يقوم بها أعلم العلماء بل يكفي أن يُعلّم كل مَن عَلِم مَن لم يَعلم، وأن يكون الأصل فيها الرفق واللين والإقناع ومخاطبة القلوب والعقول وليس قهرَ الجوارح والأبدان". بمثل هذا الوضوح والصراحة يجب أن يُخاطَبَ كل السوريين عندما يتعلق الأمر بقضيةٍ هي في الصميم من مصيرهم في الحاضر والمستقبل. أما السكوت والمواراة والبحث عن الأعذار فلن تكون جميعاً إلاً سبباً لاستمرار حياة البعض في الأوهام، بل وفي توسيع دوائرها، ولن يكون معناهُ إلا التهرب من المسؤولية ومن أداء الأمانة. لأن الأوهام المذكورة ستخلق للأسف واقعاً مؤلماً لم يكن يوماً هدفاً للسوريين عندما خرجوا يطلبون الكرامة والحرية.
447
| 10 أغسطس 2013
لقد بات واضحاً أن جوهر الإصلاح السياسي في البلاد العربية لا يكمن دائماً كما يظن البعض في استبدال أفراد بأفراد، لأن هناك موروثاً سياسياً / ثقافياً مشتركاً بين أفراد وجماعات النخبة السياسية التقليدية العربية بجميع ألوانها الأيديولوجية، سواء كانت في داخل إطار السلطة السياسية أو في صفوف المعارضة، وهو موروثٌ يغلب أن يُفرز لنا قياداتٍ سنُفاجأ كلّما وصلت إلى موقع صناعة القرار بأنها تشترك مع غيرها في كثير من الصّفات التقليدية، بغض النظر عن شعاراتها التقدمية في مراحل ومواقع المعارضة العتيدة. ثم إن أي عملية إصلاح سياسي في البلاد العربية لا يمكن إلا أن تحصل في إطارٍ يأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الواقع السياسي الراهن إضافة إلى الإرث السياسي التاريخي للبلاد العربية. وهذا يتطلب، حتى في زمن الثورات، سلسلةً معقدةً وطويلةً من الإجراءات، لأن الإصلاح نفسُهُ أكثرُ تعقيداً وطولاً مما يعتقد البعض بناءً على الحماسة وردود الأفعال. فهو يتطلب وضعَ قواعد جديدة للحياة السياسية مختلفة كلياً عن القواعد المألوفة السابقة، ويتطلب أيضاً بناءَ هياكل ومؤسسات قد تختلف إلى درجةٍ كبيرة عما هو موجودٌ ومُتعارفٌ عليه في الحاضر. وهذا كله يحتاج إلى كوادر سياسية تستطيع استيعاب تلك القواعد والعمل من خلال تلك المؤسسات. لكن الأصعب من هذا كله هو أن عملية الإصلاح السياسي تتطلب تشكيل ثقافة جديدة في المجتمع بشكل عام، وهي ثقافةٌ يمكن أن تتضارب مع كثيرٍ من الأعراف والتقاليد السائدة التي اختلطت فيها إلى درجةٍ كبيرة الثوابت بالمتغيرات. إن السبب الأول والأساسي لحصول البلبلة في عمليات الإصلاح السياسي يتمثل في تفكّك وعدم تماسك الهياكل الأساسية للبنية العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل وأحياناً في عدم وجود الهياكل أو البنية المطلوبة من الأساس. فما هو قائم من تلك الهياكل تمّ بناؤُه وفقاً لمعطيات مرحلةٍ سابقة، تختلف بشكل شمولي عن معطيات المرحلة الراهنة. الأمر الذي يعني أن صلاحية تلك الهياكل انتهت، ليس فقط بفعل التآكل والاهتراء الذي طرأ عليها من خلال هيمنة نفس الأشخاص ونفس طرق التفكير والعمل لفترة طويلة، وإنما أيضاً من واقع أنها لم تعد تصلح لتحقيق الوظائف المطلوبة منها في خضمّ المعطيات الجديدة التي تفرض نفسها على جميع المستويات. والخطورة في المسألة أن يقوم البعضُ بعمليات قياسٍ خاطئة على بعض تجارب وأحداث سابقة، والتي استطاعت الهياكل التقليدية استيعابها بأقل حدٍ ممكن من التكاليف. أما مكمن الخطر فيكمن في التجاهل، عمداً حيناً وعن غير قصد حيناً آخر، لحجم التغيير الذي أصاب البنية السياسية والثقافية العالمية في السنوات الأخيرة. بحيث يُصبح الإصرار على معالجة الواقع والمستجدات بالهياكل القديمة وطرق التفكير القديمة مدخلاً للفشل، آجلاً إن لم يكن عاجلاً، لأن فيه معاندةً للتاريخ ولسنن وقوانين الاجتماع البشري. وهنا، ينبغي الانتباه أيضاً إلى خطورة الإعلام ودور من يمكن تسميتهم بـ (تُجار النزاعات) ومصالحهم الكامنة في غياب الإصلاح والمصالحة. فاشتعالُ النزاعات يعني اشتعال المنافسة بين المصالح. وكلما كانت النزاعات كبيرةً وشاملة كانت المصالحُ أكبر. وكلما كبُرت المصالح ارتفع حجم المكافآت والعوائد التي يجنيها مَن يخدمون تلك المصالح. وبما أننا نعيش في عالمٍ أصبح الإعلام يُعتبر السلاح الأول في معاركه السياسية والثقافية، فإن هناك إغراءً شديداً لأهل الإعلام للاستفادة من هذا الوضع، ولتحقيق مكاسب لايمكن تحقيق جزءٍ منها في أوقات الاستقرار والسلام. والمفارقةُ في الإعلام الجديد تكمن في قدرته على أن يكون مدخلاً لتعميق وترسيخ الفرز الثقافي والاجتماعي بشكلٍ متزايد، بسبب مرونته وإمكانياته الهائلة، وتمكّنه من تقديم منابر وقنوات تُمثّلُ جميع أنواع الانتماءات والمدارس الفكرية. لهذا، يمكن أن تمتلك كل مجموعةٍ عرقيّة أو أيديولوجية وكل قبيلة أو منطقة موقعاً على الإنترنت وقناةً فضائية تُعبّر عن أفكارها وتوجهاتها وتركّز على اهتماماتها وتخدم حاجات أفرادها. إلى هنا يكون الأمر طبيعياً ويمكن أن يدخل في إطار مفاهيم التنوع والتعارف. غير أن المشكلة تظهرُ حين تصبح الأداة الإعلامية وسيلةً للمبالغة في التمايز عن الآخر، وأحياناً إلى درجة التهجم عليه والحطّ من قدره. ثم تبلغُ المشكلة أَوجَها حين تتحول الأداة المذكورة إلى قوقعةٍ أخرى، ولكن بتكنولوجيا حداثيّة هذه المرة. بمعنى أنها تُصبح فرصةً لخلق فضاءٍ داخليٍ مُغلقٍ على أفراده، يغلب عليه التلقين، وتتضاءل فيه مساحة التساؤل والنقد والمراجعة، ويُعاد فيه تجميعُ الأتباع حول منظومةٍ نمطيةٍ مُوَحّدةٍ من الأفكار والآراء. هنا يبدو الإعلام الجديد في أغرب صوره، ويَظهر حجم التعقيد الكامن في تركيبته العجيبة. وتتبيّن القدرات الهائلة التي يحملها معه للتأثير في الحياة البشرية. ففي مثالنا المذكور، تُصبح وسيلةُ الانفتاح نفسُها أداةً للانغلاق والانعزال ربما يكون مفعولُها أقوى من مفعول العزلة الجغرافية. وتضحى أداةُ التواصل بين المجتمعات أو بين شرائح المجتمع الواحد وسيلةً للانقطاع ولتوسيع مسافات التباعد بحيث تُصبح شاسعةً في تأثيرها، حتى لو كان أصحابُها يقطنون في نفس الحيّ!.. كثيرةٌ هي تحديات الإصلاح، ومسيرتهُ طويلة. لكنه يبدو حتمياً في جميع الأحوال. والخيارات في هذا المجال واضحة وصريحة. فإما أن يكون ذلك الإصلاح خارجاً عن نطاق السيطرة من خلال مزيجٍ من الانفجارات الداخلية و الضغوط الخارجية، ويكون بالتالي في غير مصلحة أحد، أو أن يكون مبرمجاً ومضبوطاً ومستوعِباً لجميع القوى الفاعلة في المجتمع، ويكون بالتالي قادراً على تحقيق مصلحة الجميع.
385
| 04 أغسطس 2013
من المؤكد أن إيجاد الإجابات للأسئلة المتعلقة بالثورة السورية لن يأتي من فراغ، وإنما من منظومات للحياة والتفكير والثقافة تمت بِصِلةٍ لعناوين مثل الإسلام والديمقراطية والليبرالية. لكن ما يجري في كثير من الأحيان على أرض الواقع يأتي في خانة ما يمكن أن نسميه مَنطق تأزيم الحلول. بمعنى أن ثقافتنا وممارساتنا تضع تلك العناوين في مصائد متنوعة تصبُ في باب تعميق الأزمة بدلاً من المساهمة في حلها. تحدثنا في مقال الأسبوع السابق عن أزمةٍ في فهم النصوص الإسلامية وفي تنزيلها على أرض الواقع لدى البعض. لكن البحث عن إجابات لأسئلة الثورة السورية لايقف عند ذلك الموضوع. وعلى سبيل المثال، ثمة خلطٌ للأوراق لدى البعض عند الحديث عن الليبرالية والليبراليين يجب توضيحهُ والحوار فيه. فالمفارقةُ أن المضمون يكاد يكون مقلوباً عند المقارنة بين معنى الليبرالية وممارسات أغلب الليبراليين في البيئة التي استُورد منها المفهوم، وهي الغرب عموماً. وبين معنى الليبرالية وممارسات بعض الليبراليين في بيئتنا السورية تحديداً، والعربية إجمالاً، وهي البيئة التي تَستورد إليها المفاهيم دون ضوابط ويتم التعامل معها بفوضويةٍ لامثيل لها. يوجد بطبيعة الحال في الواقع السوري والعربي مثقفون ونُشطاء وإعلاميون يَصِفون أنفسهم أو يَصِفهم الآخرون بالليبرالية، ممن يتمثّلون في تفكيرهم وحركتهم المعنى الحقيقي الأصيل لليبرالية. والطريفُ أن هؤلاء هم أقلُّ الناس تركيزاً على الشعارات والتصريحات والصخب الإعلامي، وأكثرُ الناس عملاً على خدمة بلادهم وشعوبهم من خلال معاني ذلك المفهوم. لكن ذلك الصخب والضجيج يبدو من نصيب شريحةٍ أخرى تُصرُّ على رفع الشعارات وعلى تأكيد صفتها (الليبرالية) في كل مناسبة، وأحياناً من غير مناسبة. رغم أن طروحات هؤلاء وممارساتهم تبدو أبعدَ ماتكون عن كلّ مايمتُّ لليبرالية الحقيقية بِصِلة. كَتبنا سابقاً ونُعيدها مرةً أخرى. قد يكون هذا مقصوداً، وجزءاً من عملية خلط الأوراق الكبيرة التي تجري في المنطقة. وربما يكون جهلاً، أو مجرّدَ بحثٍ عن لافتة جديدة تقدّمية تُرفع لتبرير تقلّباتٍ فكريةٍ عشوائية، أو لتمرير ممارساتٍ هدفُها تحقيق المصالح الذاتية. لهذا، يبدو التوضيح ممكناً بالمقارنة مع النموذج الأكبر الذي يلعب مفهومُ الليبرالية دوراً رئيساً فيه، والمتمثل في الولايات المتحدة. فأنت إذا تحدّثتَ عن الليبرالية والليبراليين في أميركا، فالمقصودُ هم تلك الشريحة من المثقفين والأكاديميين والإعلاميين والنُشطاء والساسة التي لازالت تؤمن بمبادىء العدل والمساواة بين الناس، وترفضُ تعميم الاتهامات على الأقليات وعلى (الآخر)، وتواجهُ أخطبوط المؤسسة العسكرية / الصناعية، وتحاربُ محاولات تلك المؤسسة للهيمنة على أميركا، ومن خلالها على العالم، بإشاعة الحروب والنزاعات والصراعات والأزمات. وهي الشرائح التي ترفض القوانين التي تحدّ من الحريات، والممارسات التي تُشيع الخوف بين الناس وتزرع الشقاق بين أبناء المجتمع الواحد حيناً، وبين المجتمعات المختلفة حيناً آخر. ليبرالية أميركا هي التي حشدت المظاهرات ضد الغزو الأمريكي للعراق، وأخرجت إلى الشوارع ملايينَ لم تشهد مثلها مدينةٌ عربيةٌ أو إسلامية. وهي التي شكّلت عشرات المنظمات لمناهضة التوجه اليميني الانعزالي المتطرف الذي كان ولايزال يحاول أن يختطف أميركا والعالم بناءً على مصالح شخصية عملاقة لقلةٍ من الناس. وهي قلةٌ تتلاعب بعواطف ملايين من البسطاء الأمريكان يعيشون حياتهم بناءً على رؤيةٍ دينيةٍ خرافيةٍ غرائبية، هي لمن يعرفُ تفاصيلَها أقربُ إلى الجنون من كلّ مايوجد في العالمين العربي والإسلامي من آراء شاذة يطرحها البعض تحت شعارات الدين والتديّن. ليبراليو أميركا من الصحافيين والإعلاميين الحِرفيين الباحثين عن الحقيقة هم الذين كشفوا فضائح أبو غريب وغوانتانامو والسجون السرية الأخرى في أوروبا وغيرها من بلاد العالم. لأن هؤلاء في غالبيتهم يمتلكون درجة من الالتزام بالمبادئ والأخلاقيات من جهة، ولأنهم يحترمون مهنتهم ولا ينظرون إليها على أنه وسيلةٌ للانتهازية وتسلّق المناصب وعقد الصفقات وبناء الثروات وتصفية الحسابات الشخصية والأيديولوجية. لم يكشف تلك الفضائح صحافيونَ يتلقّون التقارير من الجهات الأمنية وينشرونها على أنها آراء رأي ومقالات وتحليلات. ولا إعلاميونَ يتلاعبون بشرف المهنة فيمارسون أبشع أنواع التزوير والكذب والاحتيال بأساليبَ تقنية متقدمة، وبتوظيف أسوأ ما في نظريات الإعلام والاتصال البشري من مكونات تتعلق بالتأثير على الأفكار وغسيل الأدمغة وتحديد أجندة مايتلقاه الناس من معلومات ومعرفة. ليبرالية أمريكا هي التي أفرزت أشخاصاً ومنظمات ترفض قوانين التمييز ضد المسلمين والعرب، وتحارب قوانين مراقبتهم والتنصت عليهم أجمعين تحت حجة تعميم الشبهة بانتمائهم للإرهابيين فقط لكونهم عرباً ومسلمين. لم يكن ليبراليو أمريكا ولن يكونوا من جنس الملائكة، ورغم التقصير في إيصال الصورة الحقيقية للثورة السورية في أميركا والعالم، إلا أن المرء ينتظر منهم موقفاً ينسجم مع مواقفهم المذكورة أعلاه. لكن المقصود أن مبادئهم كانت معروفة وممارساتهم كانت واضحة لكل من يريد أن يرى ويفهم. والسؤالُ هنا، ما علاقة الليبرالية بتوجهٍ يعتاشُ على التخويف من كل ماله علاقة بالإسلام وأحياناً العروبة، وعاد الآن يُشجّع على وجود السياسات الأمنية كحلٍ وحيد لإشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع، ما علاقة توجهٍ تلك هي أفكاره وتلك هي ممارساتهُ بالليبرالية؟ لانريد الدخول هنا في حوارٍ أيديولوجي وفلسفي عن مفهوم الليبرالية، لكن من الواضح أن هذا المفهوم بمعظم عناصره الفكرية، وبتطبيقات أهله المخلصين لمعانيه الحقيقية، لا يتناقضُ مع تطلعات ومطالب السوريين والعرب. كما أنه يتقاطع مع جوانب عديدة في منظومتهم الفكرية والثقافية. من هنا تنبع مسؤولية الليبراليين السوريين الحقيقيين في حماية المفهوم من الاختطاف كما تمّ اختطافُ مفاهيم أخرى. بحيث يعود ليُصبح من المشترك الثقافي الذي يدفعُ عمليات الإصلاح، بدلاً من أن يكون أداةً في يد الخاطفين للهدم والتخريب وزراعة الفوضى الفكرية والعملية.
404
| 28 يوليو 2013
هذا موضوعٌ من المواضيع الحساسة التي يضحى الكلام فيها أشبهَ بالمشي في حقلٍ من الألغام. لكن ملابساته تتعلق بحاضر ومستقبل سوريا، فلا مفر من فتح ملفه، على قاعدة أنه لابد مما ليس منه بُد. ذلك أن خلطاً كبيراً يجري في محاولات تنزيل ما تُسمى بأحاديث الملامح والفتن ونهاية الدنيا على الثورة السورية وأحداثها. وهو خلطٌ يزيد مساحات طريقةٍ في التفكير ليست في مصلحة الشعب السوري وثورته، ويظهرُ فيها ربطٌ لما ورد في الأحاديث المذكورة بوقائع الثورة وملابساتها الداخلية والخارجية بشكل فيه الكثير من التعسف أحياناً، ويبدو فيه التناقض بين الرواية والواقع، بطريقةٍ لاتنسجم ابتداءً مع المنهج الإسلامي الأصيل الذي يجب أن يتحرى الدقة والأمانة في التعامل مع مثل هذه القضايا المتعلقة بحاضر الشعوب ومستقبلها. لن ندخل هنا في جدالٍ يتعلق بعلوم الحديث النبوي وأهمية دراسة العلاقة بين المتن والسنَد، وكيفية تنزيل الأحاديث النبوية على واقع البشر، وأولوية فهم الأحاديث في ضوء ماورد في القرآن الكريم، وما إلى ذلك مما لا يتسع له مقالٌ صحافي يهدف كما ذكرنا إلى فتح الملف قبل أكثرَ من أي شيءٍ آخر. ثمة دلائل كثيرة على وجود المحاولات للربط بشكلٍ وثيق بين الأحاديث المذكورة وبين الثورة السورية، وهي تهدف في خضم الحماس والعاطفة إلى تأجيج المشاعر وزيادة الدعم للثورة فيما نحسب. لكنها لاتنتبه مع ذلك الحماس والتركيز على المشاعر إلى مافيها من أخطاء منهجية أولاً. والأهمُ من ذلك أنها لا تُلقي بالاً إلى حجم الفوضى الفكرية التي يمكن أن تنتج عنها، ومايترتبُ على ذلك من فوضى عملية على جميع المستويات. هناك على سبيل المثال مقطعٌ على موقع اليوتيوب يتناقله الناس، والسوريون تحديداً، يتعلق حصراً بعلاقة أحاديث الملاحم بالثورة، ويمكن أن يكون نموذجاً يستحق الدراسة في هذا المجال. يبدأ المقطع بمشاهد من أحداث الثورة السورية تَظهر على جانب الشاشة، في حين يقول الشيخ المتحدث على الجانب الآخر لها مايلي: "إن ماترونه الآن بأعينكم وماتستمعون إليه الآن في وكالات الأنباء وعبر الفضائيات ونشرات الأخبار قد تحدث عنه النبي المختار الذي لاينطق عن الهوى". هكذا، يلغي المُعلِقُ نهائياً ومن اللحظة الأولى أي احتمالٍ آخر، ويقطعُ جازماً بالعلاقة الكاملة بين الرواية النبوية وبين الحدث الراهن. وهو تحت الضغط النفسي الراهن يستعملُ احترام الناس للنبي الكريم لتأكيد تفسيره الشخصي للقضية، بحيث يُصبح الحوارُ والنقاشُ فيها من البداية مشبوهاً إن حصلَ، ومقروناً بتهمة تكذيبه عليه الصلاة والسلام. بعدها، يظهر خطيبٌ آخر وهو يشرح حديث "لاتقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو قال بدابق"، وبينما يؤكد الخطيب أن دابق هي قرية في شمال سوريا تظهر صورة جانبية فيها خارطة سوريا الجغرافية، ثم تبدو بضعة أسهم وهي تتحرك من أوروبا وقبرص باتجاه المنطقة المذكورة، ليتابع المتحدث قائلا بالعامية: "لاحظ ماقال (حتى تأتي) بل (حتى تنزل) وهذا دليل أنهم يأتون من الشمال". ثم يظهر متحدثٌ ثالث يكرر بداية الحديث المذكور ويقول "مَن الروم؟ الروم أو بنو الأصفر، امتدادهم الآن في العصر الحديث الأوروبيون والأمريكيون، نسلُ بني الأصفر. أوروبا وأمريكا". ولتأكيد الصورة الذهنية، تظهر على الشاشة الجانبية أثناء الكلام مشاهدُ لاجتماع إحدى القمم الأوروبية ثم مشهد للرئيس الأمريكي أوباما. المفارقةُ أن وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو يظهر في منتصف الصف الأول من لقطة الاجتماع! لكن منتج المقطع لايقف عند دلالة هذه اللقطة وكيف يمكن أن تُظهر التعقيد الكبير المتعلق بالموضوع، فالمهم هو استحضار شاهدٍ بصري يؤكد التفسير المُراد بغض النظر عن (التفاصيل). وتكتمل التركيبة بظهور متحدثٍ رابع يذكر حديث "تصطلحون أنتم والروم صلحاً تاماً فتقاتلون عدواً من ورائكم". وفي هذه اللحظة تُظهر الشاشة الجانبية الرئيس السابق للائتلاف الوطني السوري أحمد معاذ الخطيب وهو يتجه لمصافحة الرئيس الفرنسي أثناء استقبال الأخير له في باريس! ثم يكمل المتحدث قائلاً: "والسؤال: مَن هو هذا العدو؟" لتأتي الإجابة من متحدثٍ آخر يحكي عن إجماع السوريين كلهم على أن "بعض من يقاتلنا يتكلمون اللغة الفارسية"، ثم يذكر إيران وروسيا والصين. وللتأكيد، يظهر متحدثٌ سابق يؤكد على قضية الحِلف مستخدماً هذه الكلمات: "يعني الأمريكان والبريطانيين والأوروبيين، يكون بينكم حلف". وهنا تظهر مرة أخرى مشاهد للقاء معاذ الخطيب هذه المرة مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري؟! في حين يُكمل المتحدث بقوله: "فتغزون عدواً من ورائكم. قال فتُنصرون". هكذا، وبكل بساطة، يُصبح مؤكداً أن أوروبا وأمريكا، ومعها تركيا عَرَضاً، ستتدخل لمصلحة الثورة السورية إلى درجة التحالف معها.. بل إن هذا الحلف سيحارب إيران وروسيا والصين.. وينتصر عليها. وتكون لقاءات رئيس الائتلاف السابق الذي لم يعد رئيساً وقت نشر المقطع في أوائل شهر يوليو الحالي مع بعض المسؤولين الغربيين دليلاً على صِحة الأحاديث المذكورة. ويجري تجاهل كل الحقائق التي بات القاصي والداني يعرفانها عن المواقف الدولية من الثورة السورية. ويتم القفز فوق التناقض بين هذه الحقائق وبين تفسير الروايات بشكلٍ يظلم الثورة والرواية والرسول والإسلام نفسه إلى أبعد الدرجات. لكن الموضوع لايقف عند هذا الحد، إذ يظهر أحد المتحدثين السابقين وهو يقول: "وتبدأ علامات الساعة الكبرى في الظهور وكأن المسبحة قد انقطعت وبدأت الخرزات تتساقط. فيغدرُ الروم بعد النصر. يغدرون بالمسلمين كعادتهم. ينكثون العهد. يبدأون بقتال المسلمين وتبدأ الملحمة الكبرى.. فيقتلهم المسلمون". بعدها، يظهر متحدثٌ سابق أيضاً ليذكر حديثاً آخر ويشرحه قائلاً: "فيخرج عليهم جيش من المدينة. المقصود بالمدينة دمشق بإجماع الشُراح وليس المدينة النبوية لأن المدينة النبوية تكون في ذلك الوقت خراباً بإجماع الشُراح. خلص، مايكون فيها أحد". هكذا، يُمَرَرُ الموضوع دون التساؤل عن علاقة مايجري الآن من أحداثٍ في الثورة بصراعٍ كوني مع الأوروبيين والأمريكان يحصلُ وقد أصبحت المدينة المنورة (خراباً)، وبإجماع الشُراح!؟ أخيراً، ينتقل الموضوع إلى خروج المهدي ثم الحديث المعروف عن المراحل التي تحدث عنها الرسول وتتعلق بالخلافة الراشدة ثم الملك العضوض ثم الحكم الجبري وصولاً إلى "خلافة راشدة على منهاج النبوة". نفهم أن يتفاعل البعض مع حرارة الثورة السورية، ونؤمن بأنها ستكون تمهيداً لتغييرٍ حضاري كبير، لكن هذه الطريقة في (استعجال) الملاحم والفتن ونهاية الدنيا لاتصلح مدخلاً للبحث عن خلافةٍ على منهاج النبوة. فهي حين تكون مليئةً بالتعسف والتناقضات لن تترك فسحة للعقل والفهم والتخطيط للتعامل مع التعقيد المحيط بالثورة السورية، وإنما ستصبح سبباً لذبحها بالفوضى والخلاف والاستعجال، والاعتماد على القوة العسكرية وحدها. ناهيك عن أن تسمح مثلُ تلك الرؤية مجالاً لإعمار الأرض والحكم الرشيد فيها بغض النظر عن التسميات.
522
| 21 يوليو 2013
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...
4791
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...
3477
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....
2865
| 16 أكتوبر 2025
في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...
2670
| 16 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...
2595
| 21 أكتوبر 2025
واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...
1428
| 21 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...
1407
| 16 أكتوبر 2025
لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...
1038
| 20 أكتوبر 2025
1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...
954
| 21 أكتوبر 2025
القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...
831
| 20 أكتوبر 2025
في قلب كل معلم مبدع، شعلة لا تهدأ،...
807
| 17 أكتوبر 2025
في ليلة كروية خالدة، صنع المنتخب القطري "العنابي"...
765
| 17 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية