رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

في أن العالم يتغير جذرياً.. وأن العرب لايُصدقون ذلك

من الديمقراطية إلى الليبرالية، مروراً بالحداثة، يصعب أن تجد عربياً يعيش في هذا العالم اليوم، ولايعتقد أن هذه المفاهيم والأنظمة المتولدة عنها، والتي تحكم معظم الاجتماع البشري الدولي الراهن، تمثل حتميةً تاريخية لامهرب منها. قد يكون البعض على قناعةٍ كاملةٍ بها، وربما يرفضها آخرون بشكلٍ مُطلق، لكنها تبقى في الخلفية الذهنية للجميع (الوضعَ الطبيعي) الذي وُلدوا جميعاً وهو موجود، والأرجحُ، في ظنهم، أنه سيبقى كما هو عند مغادرتهم هذه الحياة.بمعنىً من المعاني، نوضحه بعد قليل، تُظهر أحداث العالم ووقائعهُ، وبشكلٍ متزايدٍ وسريع، أن المقولة السابقة تُجانبُ الصواب. وأن هذه الأنظمة التي وُجدت وتطورت منذ قرابة قرنين من الزمان تتعرض لهزاتٍ عنيفة على الصعيد العملي، تَدفع جموعاً من الباحثين والمفكرين والخبراء لمُراجعات كبيرة في أصولها النظرية، بما يؤدي إلى النتيجة التي نتحدث عنها: العالم يتغير، وهو يتغير بشكلٍ شاملٍ وسريعٍ وعميق.لكن العرب لايصدقون. نتحدث عن التصديق، ليس بمعنى الموافقة على التحليل نظرياً، وإنما بمعنى وجود (أو غياب) الفعل البشري الذي يؤكد، وَحده، إيمان الإنسان بأي حقيقةٍ من حقائق الحياة.نعم. ثمة، في العرب، مَن (يشمت)، بالغرب تحديداً، بدعوى أنه مَن (اخترع) هذه الأنظمة، وهاهو اليوم "يقع في شر أعماله". وهناك، بالتأكيد، من ينظر إلى مايجري في العالم، من فوضى، ببهجةٍ وسرور على أساس أنها ستقوم بالواجب بدلاً عنا كعرب، فتنتقم مما فعله هذا العالم بنا، أخيراً. وتوجد حتماً شرائح تعود إليها مشاعر الثقة واليقين، بعد أن تزعزت طويلاً، باعتبار أن الواقع يُثبت ماكانوا يرددونه منذ زمن بأن مالديهم هو الحل، بغض النظر عن حقيقة أنهم لم يفعلوا شيئاً سوى ذلك التكرار.هكذا، وفيما عدا التعامل مع متغيرات العالم الحساسة من مدخل المشاعر والأحاسيس والعواطف والأحكام العامة والفوقية، لايقوم العرب بممارسةٍ عمليةٍ إراديةٍ واعية تُظهر إدراكهم بأن العالم يتغير، وبطبيعة هذا التغيير، وبتأثيره الخطير على وجودهم، فضلاً عن أي اهتمامٍ بأن يكون لهم دورٌ وقولٌ فيه.بالمقابل، يكاد يكون من المستحيل حصر أدبيات (الآخرين) التي تتحدث عن التغيير في جميع مجالاته ومساراته، وعن التغيير الحاصل في الأنظمة المذكورة أعلاه تحديداً (الحداثة، الليبرالية، الديمقراطية). نضرب بضع أمثلة من الأسابيع القليلة الماضية فقط. فقد نشرت صحيفة The New Yorker العريقة مقالاً بعنوان: "هل نحن حقاً حداثيون / متمدنون جداً؟" يَشرح فيه آدم كيرش، الأستاذ في جامعة كولومبيا الأمريكية، كيف أن البشر اليوم مهمومون بنفس الأسئلة التي كانت تشغل بال الفلاسفة والمفكرين منذ قرنٍ وقرنين، بغض النظر عن كل مظاهر الإنجاز التقني المعاصر.أما مجلة (السياسة الخارجية / Foreign Policy) فإنها تُعنون موضوعها الرئيس على الشكل التالي: "انهيار النظام الليبرالي العالمي". وفيه يقول ستيفن والت، الأستاذ في جامعة هارفارد: "يدخلُ العالم مرحلةً باتت فيها ديمقراطياتٌ كانت راسخة وقوية، في يومٍ مضى، هشةً وضعيفةً الآن. هذا هو الوقت لننظر فيما جرى من أخطاء".وفي نفس الإطار، تنشر مجلة (شؤون خارجية / Foreign Affairs) مقالها الأساسي بعنوان: "كيف تنهارُ الديمقراطيات: لماذا تصبح الشعبوية طريقاً إلى الاستبداد والدكتاتورية؟". في المقال الذي عملت عليه كلٌ من أندريا كيندل تيلور، الخبيرة في مجلس الاستخبارات القومي، وإيريكا فرانتز، أستاذة العلوم السياسية في جامعة ميتشيجان، تُعرضُ إحصاءات تُظهر كيفية تحول 44% من الأنظمة الاستبدادية (الجزئية) إلى نُظم ديكتاتورية كلية بين عامي 1999-1946، ثم كيف زادت تلك النسبة إلى 75% بين عامي 2010-2000.وأخيراً، هاهو مركز كارنيجي للدراسات، الشهير جداً في العالم العربي، يقيم مؤتمراً، وفي بيروت، بعنوان: "نظامٌ عالمي في طور التفكك: آفاق العام 2017".العالم يتغير جذرياً. والأمريكان يقولون ذلك. ما ألطف الأقدار. قد يُصدق العرب تلك الحقيقة الآن.

833

| 11 ديسمبر 2016

ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب: تقرير التنمية الإنسانية العربية 2016

الجزء الأول من العنوان أعلاه جزءٌ من حديث نبوي يتحدث عن بعض مؤشرات نهاية الزمن. ولئن كان هذا المقالُ يُحاول مقاربة الموضوع من زاويةٍ أخرى، ثمة دلالات سريعة في روايته تستحق الإشارة إليها. إذ يتابع شارحو الحديث دائمًا بذكر الحديث الآخر: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يَعمَّهم الله بعقابه"، ويختمون الشرح بالإشارة إلى آيةٍ قرآنية تتحدث عما أصاب بني إسرائيل تاريخيًا حين {كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه}.ليس هذا مقام الحوار في المعاني التقليدية للشرور والمعاصي، ويكفينا الاتفاقُ مع رؤيةٍ إسلاميةٍ تحترم قوانين الوجود الاجتماعي، وتؤمن بعالم الأسباب، وتربط المقدمات بالنتائج احترامًا لكرامة الإنسان وعقله، وتأكيدًا لمنطق العدل في حياة البشر من جميع الأنواع والأجناس.منذ أيام، صدر عن الأمم المتحدة (تقرير التنمية الإنسانية العربية 2016: الشباب وآفاق التنمية في واقعٍ متغير). والمؤكد أن دراسة التقرير كاملًا، وبشكلٍ دقيق، ضرورةٌ استثنائية لكل مُهتمٍ بواقع العرب ومستقبلهم، أفرادًا وشعوبًا وحكومات. لكن المجال محدود هنا، فنكتفي ببضع أرقام وفقرات معبرة، يفهم الألبابُ دلالاتها بالإشارة.شباب العرب بين عمر 15- 29 يمثلون 30٪ من السكان، أي قرابة 105 ملايين شاب عربي. وعام 2014 كان معدل البطالة بينهم 30٪، أكثر من ضعف المتوسط العالمي البالغ 14٪. وجميع المؤشرات تؤكد عجز الاقتصادات العربية عن توليد 60 مليون وظيفة مطلوبة إلى عام 2010.للمفارقة، يقول التقرير: "مع أن المنطقة كانت إلى ما قبل قرن سوقًا مشتركة تحت العثمانيين، من الأسهل الآن على رجال الأعمال والطلبة الحصول على فيزا إلى أوروبا منها إلى العديد من الدول العربية. مع أن إنشاء اتحادٍ جمركي وتسهيل العبور بين دول المنطقة يمكن له أن يرفع ناتجها القومي بمقدار 760 مليار دولار"، وهذا واحدٌ فقط من عشرات الإجراءات الممكنة، لو توافرت نية الإصلاح وإرادته في المنطقة.لكن هذا لا يحصل. من هنا، لا يعود مستغربًا أن يُشكِّلَ العرب فقط 5٪ من سكان العالم، وبالمقابل، يَشهد عالمهم 45٪ من أحداثه الإرهابية، و68٪ من قتلى الحروب في العالم، و47٪ من المهجرين الداخليين فيه، و58٪ من المهجرين منه.وفي ملاحظة قائمة على التحليل، يلاحظ التقرير أن الشباب العرب انتفضوا في أعوام 2001 و2006 و2011، وأن كل انتفاضة كانت أعنف من سابقتها، محذرًا حسب المعطيات أن الانتفاضة القادمة قد تكون قريبة. يُبرر هذا أحمد الحناوي، مبعوث الأمم المتحدة للشباب في المنطقة حين يعلق قائلًا: "نحن [في المنطقة] أسوأُ حالًا بكثير مما كان عليه الوضع قبل الربيع العربي"! ومع الانسداد الكامل لأفق الإصلاح الاقتصادي والسياسي والمشاركة بكل أنواعها في صناعة مستقبله، وانعدام الأمل بكل ذلك، يصف التقرير الشباب العربي بأنه "ربما بدأ يفضل وسائل أكثر مباشرةً وعنفًا".قد يحاول بعض العرب، من صُناع القرار، تجاهل هذا الواقع، لكنه موجود. وربما يفضل بعضهم الآخر عدم سماع هذه الأرقام، لكنها ظهرت وباتت معروفة، وستفرض تأثيرها في الواقع. فماذا ينتظر هؤلاء؟رغم هذا، تأتي المفارقة الكبرى حين يؤكد التقرير "أن الغالبية الساحقة من الشباب في المنطقة العربية ليست لديهم الرغبة في الانخراط في جماعات أو أنشطة متطرفة أو عنيفة، كما أنهم ينبذون العنف ويعتبرون الجماعات المتطرفة جماعات إرهابية". لكنّه يلاحظ "أن الأقليةَ التي تتبنى العنف، وتُقبل على المشاركة في جماعاته التي تدّعي النضال من أجل التغيير، قد تزايدت أنشطتها". رأينا عمليًا كيف أن هذه الأقلية يمكن أن تُحدث فوضى عارمة، لكن توصيف الأكثرية يدفعك لتقدير وعي الغالبية العظمى من شباب العرب، وصبرهم، رغم كل هذا الواقع البئيس، إلى حين.هكذا، يُذكّرنا التقرير أنه في شهر ديسمبر من عام 2010، قبل شهر من انطلاق الثورة المصرية، ناقشت الحكومة المصرية، آنذاك، تقريرًا عن شباب البلاد واستنتجت، بعد دراسةٍ مطولة، إمكان تلخيص وضعهِ في كلمةٍ واحدة: "جيلٌ لامُبالي"! بعد أسابيع تدفق الملايين منهم في الشوارع والميادين، وكان ما كان، مما أصبح تاريخًا يقول تقرير الأمم المتحدة إن العرب "لا يتعلمون من دروسه".

1118

| 04 ديسمبر 2016

انتخاب ترامب تعبيراً عن قوة "سياسات الهوية" في العالم.. ولكن..

"في المجتمعات الأقل تديناً، أو مجتمعات (ما بعد المسيحية)، لم يعد التيار السائد (mainstream) في المسيحية قادراً على توفير هوية الجماعة الضرورية للناس. لكن هذا لا يعني أن أفكاراً أخرى لن تقوم بملء الفراغ".هذه فقرةٌ من مقالٍ كتبه شادي حميد، الباحث في معهد بروكينغز الأمريكي، ونُشرَ منذ أيام في مجلة السياسة الخارجية (Foreign Policy)، بعنوان "نهايةُ نهايةِ التاريخ، دونالد ترامب يُعيد السياسة الأمريكية إلى أصلها: صراعٌ على الهوية والأخلاق والدين". تساعدُ الفكرة الأساسية للمقال في فهم المشهد الأمريكي، والأوروبي، الراهن، بل إن الكاتب يسحبُها أيضاً لتحاول تفسير مايجري في عالمنا العربي، حيث يقول: "سواء في حالة العصبية لأجل مصالح السكان البيض في أمريكا، أو حالة القومية العرقية في أوروبا، أو حالة الإسلاموية في الشرق الأوسط، فإن الخيط الذي يجمع كل هذه التجارب المختلفة واحد: السعي الشرس نحو سياساتٍ لها معنى يتجاوز فكرة المصلحة الفردية وجودة المعيشة. ربما تبدو هذه الأيديولوجيات فارغة أو غير مترابطة، ولكنها جميعاً تطمح إلى نوعٍ من التماسك الاجتماعي، وترسيخ الحياة العامة من خلال هوياتٍ محددة بدقة... جوهر السياسة إذاً في هذه الحالة لم يعُد متعلقاً فقط بتحسين جودة حياة المواطنين، ولكنه يصبح في المقام الأول توجيه طاقات المواطنين لغاياتٍ أخلاقية أو فلسفية أو أيديولوجية".المفارقة، ذات المعنى الكبير، التي لايتحدث عنها الكاتب، تكمن في أن سيرة الرئيس الأمريكي المُنتخب لا توحي، من قريبٍ أو بعيد، بأنه يصدرُ في تفكيره وقراراته عن منطلقات تتعلق بالدين والأخلاق والهوية، ومن المؤكد أنه لم يفكر في أن تكون السياسة مصدراً لتوجيه طاقات المواطنين لغاياتٍ فلسفية. لكن فوزهُ، وتحديداً بتلك الصفات، يُظهر القوة الهائلة الكامنة في سياسات الهوية والمعنى، لأنه (استخدمها) فقط، وبشكلٍ أدواتي بحت، أوصله إلى البيت الأبيض بنوعٍ من "البساطة المُخيفة".يتعلق الأمرُ بالإنسان إذاً في كل مكان. ويُعبر عن بحثهِ الأزلي عن موقفٍ (وسط)، لا تتضارب فيه المصلحة الفردية وجَودة المعيشة من جانب مع حضور المعنى والشعور بالهوية من جانبٍ آخر. لهذا، يبدو انتخاب ترامب تجلياً عملياً لنقد نظرية "نهاية التاريخ" الهنتنغتونية، حيث تنتصر الليبرالية بشكلٍ نهائي.في هذا السياق نفهم كلام شادي حميد في المقال حين يقول: "مع ملاحظتي لانتشار التوجهات المعادية لليبرالية في كل مكانٍ تقريباً، من أوروبا إلى الشرق الأوسط إلى آسيا، إلا أنني كنت أرفض استنتاجاتي هذه حينما يتعلق الأمر بأمريكا، وكنت أقاوم فكرة أن معاداة ترامب لليبرالية تروق للشعب الأمريكي... [ولكن] ربما تكون هناك طريقةً أكثر تفاؤلاً للنظر إلى فوز ترامب بالانتخابات: ففوزه من الممكن أن يكون بمثابة التوبيخ الشديد لما أصبحت عليه الديمقراطية الليبرالية، شكلاً من التكنوقراطية الإدارية اليسارية المعتدلة التي تفتقر إلى الإلهام والقوة، على خلاف ما أراد لها مؤسسوها".لكن المبالغة في الاستهانة بعنصر "جودة المعيشة" للناس ستكون مدعاةً للفوضى، تماماً كما هي الحال عند المبالغة في النظر إليه كعنصرٍ وحيد، عندما يتعلق الأمر بصناعة السياسات. ومن يعتقد أن الشعوب ترفض رغدَ العيش، فضلاً عن الحد الأدنى من الحياة الطيبة، واهمٌ. هذا ما يبدو درساً آخر من دروس الانتخابات الأمريكية، حين لا نقف فقط عند لحظة الانتخاب. فهاهو ترامب الرئيس يبدأ في التراجع عن مواقف ترامب المرشح في عدة قضايا، مدركاً، بعد أيام من فوزه، استحالة العيش على سياسات الهوية نفسها، مصدراً لصناعة القرار.

474

| 27 نوفمبر 2016

عقلية الإنكار: المعارضة العربية جزءاً من المشكلة

في إحدى رواياته، يصف الكاتب الأمريكي جيم بوتشر حالة بطل روايته، المصرّ على تجاهل الواقع وحقائقه، على الشكل التالي: "كان كل شيء صحيًا وطبيعيًا هنا.. في أرضِ الإنكار".في نفس يوم كتابة مقال الأسبوع الماضي، وبينما كان العالم مصدومًا بالحدث الأمريكي، وغارقًا في حساب تداعياته، أطلعني صديقٌ، بتعجُّب، على رسالةٍ يبدو أنها تُرسل إلى قوائم عشوائية بالبريد الإلكتروني. عنوان الرسالة: "الإخوان دعوةٌ شاملة وجماعة عاملة"، وفوق ما فيه من معانٍ ودلالات تقليدية، تُظهر عقلية إنكارٍ غريبة لمجريات الواقع ومُقتضيات المنطق والتاريخ، إلا أن مضمونها أكثرُ غرابة.تستحق الرسالة / النشرة بأكملها التحليل، فهي، على قِصرِها، نموذجٌ مُعبرٌ عن واقع وطريقة تفكير ما يُفترُض أنها من أكبر جماعات المعارضة العربية الإسلامية. لكننا سنقتصر هنا على مقتطفات قصيرة يسمح بها المقام.تبدأ الرسالة، مثلًا، بفقرة اسمها "الواجبات العشر". وثمة دلالات لافتة في أن تبدأ الفقرة بـ"حَمْلِ شارَتِنا" ثم تمضي إلى "حِفظِ عقيدتنا" مرورًا بـ"كِتمان سريرتنا".لم تتمكن الجماعة، اليوم في نهاية عام 2016، وبعد التغيرات العاصفة التي اجتاحت المنطقة العربية، والعالم بأسره، خلال السنوات الماضية، من تجاوز أدبياتها التي تخلط فيها العقيدة بالسياسة، وتجعل "حمل الشارة" واجبًا أساسيًا يسبقُ في ذِكرهِ "حفظ العقيدة"، وتؤكد على واجب "السرية" و"الكتمان". لم يستطع وعيُها بالعالم، بل وبالدين نفسه، أن يصل بها إلى ضرورة أن يكون في تلك الواجبات شيءٌ يُشير إلى "وطنِنا" أو "شعبِنا" أو "إنسانيتنا".بل إن بقية النشرة تتمحور حول العودة إلى تعاليم المؤسس حسن البنا، وبشكلٍ انتقائي يُركز على أكثر ما هو شعاراتيٌ ؤإنشائي ومناقضٌ لروح العصر فيها مثل عبارة: "ولا يزال عمل البنا وأصحابه خميرة ونموذجا عمليا يصرخ فينا أن الإسلام الفكري إسلام مبتور"، وعبارة: "يجب أن تحترز القيادة من الاستغراق في الإداريات على حساب الجانب الدعوي والروحي الذي هو الأصل".ففي حين يبدو واضحًا، من واقع مثل هذه الجماعات، إهمالُ مفاهيم الإدارة المعاصرة ومتطلباتها، وأن هذا من أكبر العوامل التي تجعلها عُرضةً للمشكلات ذاتيًا، بل وتجعلها جزءًا من المشكلة حين يتعلق الأمر بالمجتمعات والدول، تحرص النشرة على التحذير من الاهتمام الزائد بالإدارة، وتجعل اقتران الفكر بالإسلام سببًا لبترِ الدين!ولأن الواقع العربي حرجٌ ومصيري، ولأن مشكلاته وقضاياه باتت مسائل وجودية، ولأن دورَ من يتصدون للمعارضة حساسٌ ومهم، سواء كانوا على شكل جماعات وأحزاب منظمة في بعض البلدان، أو مجرد أفرادٍ غيورين في بلدان أخرى، لكل هذا تحديدًا، فإن مثل هذه المصارحات ليست مشروعةً فقط، وإنما هي مُلحةٌ ومطلوبةٌ وعاجلة.لا مجال هنا للحديث، أو التفكير، بعقلية الثنائيات المتقابلة. فالحديث عن مسؤولية المعارضات العربية لا يعني، في قليلٍ أو كثير، رفع المسؤولية عن الحكومات. لا يُستثنى في هذا المقام إلا المواطن العربي المسحوق فعلًا. المواطن العربي المُحاصر الذي لم تترك القوى السابقة له أي قدرةٍ على الفعل. وفوق هذا، يحصل أحيانًا أن يكون هو المَلوم الأكبر في سوء الواقع!المقلق، في هذا الحال، أن من يرفض التغيير والتطوير والمراجعة، والتعلم من التجربة، الآن واليوم، وبعد كل ما شهده عالمنا العربي من أحداث، لن يتعلمَ في المستقبل من أي شيء آخر.

698

| 20 نوفمبر 2016

ترامب رئيساً: نظامٌ عالميٌ جديد وفوضوي

لم يكن ثمة بدٌ من انتخاب دونالد ترامب رئيساً لأمريكا ليكون هذا المشهدَ الأخير من مسرح الهزل الراهن في السياسة الدولية. وما لم تحدث معجزات لا يُعرف مصدرُها في مثل هذا الوضع، فالعالم مقبلٌ على شتاءٍ طويلٍ وقاسٍ، فيه الكثير من الفوضى. نحن اليوم أمام أربعة عناصر للموضوع نفتح ملفها هنا، والمطلوب أن تغدو مجالاً للبحث والدراسة من أصحاب العلاقة في المستقبل: شخصية الرجل، والعلاقة بينه وبين النظام السياسي الأمريكي، والوضع العالمي في سنوات حكمه، وحال العرب معه.شخصياً، الرجل يمثل أسوأ ما في أمريكا بشكلٍ غير مسبوق لشخصٍ يصل إلى قمة الهرم السياسي الأمريكي، ويمكن له أن يتحكم، أو يؤثر كثيراً، بمصير العالم. ومع الافتقار الكامل للخبرة السياسية العامة والمعرفة بأحوال هذا العالم، وغياب أدنى درجات الكياسة الدبلوماسية لديه، يمكن لزعماء العالم وقادته أن يتوقعوا منه أي شيء، ليس فقط على مستوى السياسات، بل وعلى مستوى التعامل الشخصي.ستحاول “المنظومة” التقليدية الأمريكية استيعاب النتوءات المتطرفة جداً في طروحات ترامب وسياساته المتوقعة. لكن هذه المنظومة نفسها تحاول أن تقلب كل تحدٍ إلى فرصة، وتصيدَ أكثر من عصفور بطلقةٍ واحدة. من هنا، سيتم إفساح المجال لبعض سياسات ترامب تجاه العالم، مما يُشكِّل ورقة ضغطٍ على الدول الكبرى والقوية فيه للحصول على تنازلات، بدعوى أن الرجل رئيسٌ شرعيٌ منتخب نهايةَ المطاف، ولا يمكن تجاهل آرائه وتوجهاته كلياً.هكذا، سنرى مسارين متوازيين في السياسة الخارجية الأمريكية. واحدٌ يمثله الرئيس الجديد بمواقفه المعلنة، وبسقفٍ عالٍ جداً. وآخر دبلوماسي سري، من خلال المبعوثين الخاصين والعسكر وأجهزة الأمن، يفاوض الدول الأخرى، طالباً منها التنازلات (الضرورية) لمحاولة تخفيض السقف المذكور. ومرةً أخرى، سيكون نصيب العرب كبيراً، وكبيراً جداً، من هذه الاستراتيجية.نحن الآن أمام مشهدٍ عالمي فريد. فبين ترامب في غرب الكرة الأرضية وماري تيريز في وسطها وفلاديمير بوتين في شرقها، لا يمكن للعالم بأسره إلا أن يتوقع الأسوأ. وحين نأخذ بالاعتبار تقاطعات حساسة في رؤى القادة الثالثة، تتمحور حول (الشعبوية) مصدراً لاتخاذ القرارات السياسية، وسبيلاً لتصدير مشكلات الداخل إلى الخارج، لن يكون مستبعداً حصول درجة من التنسيق والتعاون بينهم في هذا الإطار، بحسابات ستكون نتيجتها مُرعبةً للعالم.بالنسبة للعرب. ثمة نوعان من التغيير في عالَمهم دائماً، واحدٌ يحصل بناءً على تخطيطٍ ورؤيةٍ ودراسات. بينما يجري الآخر تحت ضرب المطارق. وفي كثيرٍ من الأحيان، يكون هذا الأخير أكثر جديةً وشمولاً وحسماً. لا مجال هنا لتصديق الكلام التصالحي الاستهلاكي في (خطاب الانتصار) بعد إعلان فوزه، فالواقعية السياسية تفرض الاستعداد للتعامل مع أسوأ الاحتمالات في جميع مسارات العلاقة العربية الأمريكية. ما من رؤيةٍ سياسية عربية، حالياً، للتعامل مع تلك الاحتمالات، لأن وصول الرجل للرئاسة نتيجةٌ لم يتوقعها أحدٌ أصلاً. وإذ تبقى الوقاية خيراً من العلاج، فإن ثمة استنفاراً مطلوباً لمحاولة تحضير ملامح تلك الرؤية في نافذة فرصة لا تتعدى الشهرين.هناك قاعدةٌ في أمريكا تقول إن يوم الانتخابات يكون، عادةً، نهاية مهرجانٍ تعود بعده البلاد لحياتها الطبيعية، لكن ثمة إجماعاً بين الإعلاميين والخبراء والمثقفين على أنه سيكون، بالعكس، بداية أزمةٍ كبرى فيها. إذا كان هذا هو الواقع، وكانت قاعدة (وجود العدو الخارجي يُؤمِّنُ الوحدة الداخلية) صحيحةً في علم السياسة وعالمها، فلا حاجة لكثير ذكاء ونحن نتوقع القادم من بلاد العم سام.

269

| 13 نوفمبر 2016

متى يفهم العرب وإسلاميوهم تركيا، رسمياً وشعبياً؟

"ما أسهل الحياة حين تُغمض عينيك عن الحقائق". عِبارةٌ تُنسب لأكثر من شخص، هي أصدقُ وصفٍ لحال العرب بشكلٍ عام مع تركيا، ولإسلامييهم على وجه الخصوص. منذ أسبوعين، نشر أرشد هورمزلو، المستشار الرئاسي التركي السابق، مقالاً معبِّراً في الزميلة (الحياة) بعنوان "العثمانية الجديدة"، أكد فيه "أنه لا توجد هناك عثمانية جديدة كما لا توجد أموية جديدة أو عباسية جديدة". ذكرَ الرجل بوضوح أنه يكتب هذا إجابةً على الأسئلة والاستفسارات والطروحات، العربية، التي تُحاول أن تُلبِسَ الدولة التركية، قسراً، لباساً لاتنوي ارتداءه من قريبٍ أو بعيد.لأكثر من عقد من الزمان، تحاول تركيا المواءمة بين المبادئ والمصالح، بشكلٍ مبتكر، في سياساتها الخارجية. وبِحُكم كونها تجربةً بشرية، فهي تنجحُ حيناً في ذلك بسلاسة، كما حدث في العشرية الأولى لحكم حزب العدالة والتنمية، وتفشل حيناً، كما كان الحال في السنتين الأخيرتين إلى لحظة الانقلاب الفاشل منذ شهور.أما اليوم، فالواضح أن تركيا تعلمت من دروسها بشكلٍ كبير، وهو مايجب أن يفهمه العرب شعوباً وحكومات.أولاً: لايمكن لبعض قوى المعارضة العربية أن تستعديَ تركيا ضد حكوماتها بدعاوى أيديولوجية. ثانياً: لامجال لممارسة الأمنيات، والهروب من الواجبات الذاتية العربية شعبياً ورسمياً، عبر تلبيس تركيا "طربوش" الخلافة التي ستحل، بالنيابة، كل المشاكل، وتعالج، بالوكالة، كل الأزمات. ثالثاً: لايمكن لأي دولة أن تتوقع من تركيا صداقةً ودعماً حقيقياً دون التعامل معها بنفس الطريقة. فعلى بساطتها، تُشكل هذه القواعد الثلاثة اليوم محور السياسات التركية تجاه العرب.مامن شكٍ في أولوية المسؤولية الواقعة على الدول العربية لفهم القواعد المذكورة بشكلٍ متكامل، والتعامل معها بحسمٍ وجدية، بعيداً عن التردد والتسويف والوساوس، وقبل الوصول إلى واقعٍ جيوسياسي لن ينفع معه، وقتَها، أيُّ تنسيقٍ أو تعاون.لكن ثمة مسؤوليةً كبرى تقع أيضاً على من يُفترض فيها أن تكون النخب العربية، سواءَ كانت تتلبس موقع المعارضة الشعبية بشكلٍ واضحٍ ومُعلَن، أو بشكلٍ هادئ مستور. تحاول تركيا أن تُعبِّر سياساتُها الراهنة بوضوح عن منطلقاتها الاستراتيجيتها الأساسية اليوم، لكن حال بعض العرب، الذين يصرون على حالة الإنكار، يبدو وكأنه يدفعها لأن "تبقّ البحصة" بصراحة على لسان بعض ساستها، وفي المنابر العربية مباشرةً.ففي نفس الفترة تقريباً، ظهر عمر كوركماز، كبير مستشاري رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، على شاشة قناةٍ خاصة مقربة من الإخوان المسلمين في مصر، لكنه فاجأ المذيع المعروف بقربه منهم حين قال أن هؤلاء ليس لهم تأثيرٌ في الداخل، ثم تابع قائلاً: "ربما أن بعض الأطراف المصرية، وأنت منهم، تفكرون أن الشغل الشاغل في تركيا هو موضوع مصر. هذا ليس صحيحاً. وكان حريصاً على أن يذكّر المذيع قائلاً: "أليس الإخوان هم الذين انزعجوا عندما تكلم أردوغان في القاهرة عن العلمانية؟". وعندما سأل المذيعُ المستشارَ في نهاية اللقاء عن نصيحته للمعارضة المصرية، أجاب إن عليها أن "تصنع مشروعاً حضارياً مصرياً موحداً لمُستقبل مصر، ويبلوروا ماذا يريدون في المستقبل القريب والبعيد لمستقبل مصر.. لابأس أن تكون لديها أمنيات عالية جداً جداً.. لكن يجب أن يتعاملوا مع الواقع. بمعنى، ألا نبقى في المثاليات دائماً ونتأخر في التدخل في الأحداث".ربما آن الأوان لنسمع حكمة جلال الدين الرومي: "إذا كنت تبحث عن الشفاء، فاشعر بمرضك حقاً".

287

| 06 نوفمبر 2016

في الحاجة إلى معالجة الاحتقان الشعبي عربياً

صناعة القرار السياسي عمليةٌ معقدة من أهم شروطها الانسجام والترابط بين عناصرها. ويصدقُ هذا تحديداً على عناصر السياستين الخارجية والداخلية لأي دولة، فالتداخل بينها موجودٌ إلى درجةٍ لايمكن فيها لصُنّاع القرار تجاهل أيٍ منهما، في غمرة التركيز على العنصر الآخر والانهماك فيه. وتزداد حساسية الموضوع عندما تكون بعض جوانب السياسة الخارجية من ذلك النوع المصيري، والمُعقّد، المفروض حالياً على العرب. ففي مثل هذا الواقع المتشابك والمتغير بشكلٍ مطرد، ليس شاذاً في عالم السياسة أن يحصل خطأ في الحسابات، قد يُولّدُ نتائج غير مرغوبة.تفادياً للوصول إلى مثل تلك النقطة، يفرض الظرف الراهن وجود (مبادرةٍ) على صعيد السياسة الداخلية تجاه الشعوب العربية، بحيث يُشكّل التكامل بين هذه الخطوة وبين السياسات الخارجية (غطاءً) استراتيجياً يحمي الجميع من التَّبِعات المحتملة.ويبقى مطلوباً على الدوام التفكير في الأسئلة الحساسة: كيف يتشكل الاحتقان الشعبي؟ ماهي أسبابه؟ وكيف يمكن معالجته؟ يتمثل السبب الأول في تفكّك الهياكل الأساسية لِبِنية الواقع العربي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، بل وأحياناً في عدم وجود الهياكل أو البنية المطلوبة من الأساس. فما هو قائمٌ من تلك الهياكل تمّ بناؤه وفقاً لمعطيات مرحلةٍ سابقة، تختلف بشكل شمولي عن معطيات المرحلة الراهنة. الأمر الذي يعني أن صلاحية تلك الهياكل انتهت، ليس فقط بفعل التآكل والاهتراء الذي طرأ عليها من خلال هيمنة نفس طرق التفكير والعمل، وأحياناً نفس الأشخاص، لفترة طويلة، وإنما أيضاً من واقع أنها لم تعد تصلح لتحقيق الوظائف المطلوبة منها، في خضمّ المعطيات الجديدة التي تفرض نفسها على جميع المستويات.إن مفرق الطريق يكمن في الخروج من عقلية: (بأي ثمن)، عند الحديث عن الاستمرارية والاستقرار. فهذه العقلية إن نفعت في زمنٍ مضى، لم يكن فيه المشهد المحلي والإقليمي والعالمي بهذا التعقيد سياسياً وثقافياً وإعلامياً واقتصادياً، إلا أن درجة نفعها مشكوكٌ بها في خضمّ الواقع الراهن. والأرجح أن استمرار هيمنة تلك العقلية التقليدية يفتح مساراً محفوفاً بالمزالق والأخطار نحو مصيرٍ غامض، إلى درجةٍ تطرح علامة استفهام حول قدرة بعض دوائر المصالح على المغامرة بمستقبل الأوطان، وعلى المقامرة بأي إنجازات تحصّلت في الماضي، وعلى الزج بكل ذلك في رهانٍ خاسر بأدنى مقاييس التخطيط، بغضّ النظر عن أي مكاسب تكتيكية مخادعة قصيرة المدى.إن المبادرة إلى الداخل، إلى إحداث نقلةٍ حقيقية، تلمسُها الجماهير، في عمليات الإصلاح الاقتصادي والإداري هي الفعلُ الوحيد المطلوب، الذي يُكمّلُ في هذه المرحلة أي مبادرات سياسية خارجية. وهذا أمرٌ لايحتملُ الانتظار. فمن المؤكد، بالرؤية الاستراتيجية، أن السياسة لا يمكن أن تتمحور لفترةٍ طويلة حول العموميات، أو الأهداف بعيدة المدى. ذلك أن الجماهير تعيش الحاضر بما فيه من متطلبات وهموم، تُشكِّلُ ضغطاً لايمكن التعامل معه بمجرد النظر إلى المستقبل أو انتظاره. وذلك التمحور، وإن أنتج بعض الإيجابيات في البداية، إلا أنه لا يلبث أن يقع بعد فترة في فخ الاجتهادات والتفسيرات والتأويلات المتضاربة. وبشكلٍ ربما يَستعجل فيه البعض حيث يجب التأني، ويتباطأ البعض الآخر حيث تنبغي العجلة. الأمر الذي يمكن أن يقود للانتكاس في أكثر من مجال. وإذ يحدث هذا وسط فوضى عالمية لم يعرف لها التاريخ المعاصر مثيلاً، فإن درجة المسؤولية تصبح واضحةً بحيث لاتحتاج إلى مزيد نقاش.

284

| 30 أكتوبر 2016

يكفي كلامًا وتحركوا للتغيير: القوة الداخلية أساسًا لمواجهة تحديات الخارج

الجزء الأول من العنوان أعلاه هو للمستشار المصري المخضرم طارق البشري. وكان قد نشرَ تحته مقالًا، منذ بضع سنوات، فيه أكثر من خصوصية تلفتُ الانتباه. فمن جهة، كان المقال فريدًا في أسلوب الرجل الذي عُرفت عنه الكتابة في عالم الأفكار، تحليلًا لواقع مجتمعه وعرضًا لتحدياته وطرحًا لأسئلته، مع الإشارة بشكلٍ غير مباشر إلى ملامح الحلول والإجابات. فالمثقف يرى في إشاعة هذا التفكير من خلال الجهد العلمي والإعلامي دافعًا يُحرك أصحاب العلاقة، في الشعوب والحكومات، لإصلاح الواقع عمليًا من خلال البرامج والخطط والقوانين.غير أن الرجل وصلَ وقتها، فيما يبدو، إلى مرحلة صدمةٍ باتَ فيها مضطرًا إلى الكلام بأسلوبٍ مختلف وبصراحةٍ أكبر. من هنا، بدأ كلامه قائلًا: "لقد تكلمنا بما يكفي وزيادة، واستنفد الكلام غرضه بما وَصلَ إليه من مقررات يكاد ينعقد عليها إجماعُ من تهمهم شؤون بلادهم، ولم تبق الآن زيادة لمستزيد في هذا الشأن، ولقد ذاع ذلك كله وتناولته الصحف والأحاديث بما صار به عِلمًا عامًا، ولم تبقَ إلا الحركة، والمطلوبُ هو تلك الأفعال التي تفضي إلى الإزاحة العملية لما هو ضارٌ ومخربٌ وظالمٌ ومستبدٌ وغير وطني، لا يرعى مصالح الجماعة السياسية في يومها ولا في غدها ولا في مستقبلها، ويمكّن أعداءها فيها، ويجعلهم المسيطرين عليها، والحاكمين لها وأصحاب القرار النافذ فيها"..أما الخصوصية الثانية المتعلقة بالمقال فتكمن في حقيقة أنه جاء قبل اشتعال الثورات في بعض البلاد العربية، وما تلاها من تغييرات غير مسبوقة، وَصَلت بالعرب جميعًا إلى واقع اليوم بكل ما فيه من مخاطر وتحديات. خاصة أنه تنبأ في المقال بحصول ما حصلَ فِعلًا بعد ذلك.لم يكن الرجل يعلم الغيب ولا "يضرب المندل" كما يقول المثل العامي، وإنما كان يقرأ قوانين الاجتماع البشري التي يجهل البعض أن قوتها وتماسُكها يُماثِلُ قوة القوانين الفيزيائية، وأنها كانت دومًا تحكم حركة ذلك الاجتماع عبر التاريخ، في كل زمانٍ ومكان، وستبقى تحكمهُ وتتحكم فيه، دون أن يجد أحدٌ مهربًا من هذه الحقيقة، تمامًا كما هو الحال مع قواعد الكيمياء والفيزياء. لهذا، يبدو التذكير بها واستحضارُها، اليوم، مسؤوليةً لا مفرَّ منها.لم يعد ثمة جدالٌ في وجود وطبيعة التحديات الخارجية الضخمة التي تواجه العرب اليوم، وتحديدًا، من لا يزال يملك أوراق الفعل البشري منهم. وفي حين يبقى مشروعًا، ومطلوبًا، التعاملُ مع تلك التحديات من خلال سياسات خارجية تستوعبها بكل شكلٍ ممكن، تظل القوة الداخلية للمجتمع والدولة، بعناصرها المعروفة، الأرضية الصلبة التي تتأكد في وجودها إمكانيةُ التعامل مع كل تحدٍ خارجي في نهاية المطاف.نعم، الكل يسمع ويقرأ عن نية الإصلاح والجهود المتعلقة به في أكثر من مجال. لكن استفراغ الوسع، عمليًا، في هذا المجال يبدو أولويةً قصوى لا يمكن التهاونُ فيها. خاصة أن "ما يجب فعله" لم يعد سرًا يحتاج لبحثٍ وتنقيب، تمامًا كما وصفَ البشري الحال منذ سنوات.في كتابه الشهير عن "فن الحرب"، يقول الإستراتيجي الصيني صن تسو: "يُعلمُنا فنُّ الحرب ألا نعتمد على احتمال عدم مهاجمة العدو، بل على استعدادنا لمنازلته، وعلى حقيقة أننا جعلنا أنفسنا في موقع من لا تُمكن مهاجمتهُ أصلًا". ثم يقول في موقعٍ آخر من الكتاب: "عامل رجالك كما تعامل أولادك المحبوبين، وسيسيرون تحت قيادتك إلى أعمق الوديان". ثمة علاقةٌ وثيقة بين المقولتين يجدر التفكير بها على الدوام.

320

| 23 أكتوبر 2016

التنسيق الخليجي التركي: مفرق طريق في مستقبل المنطقة

"لو أدركت دول الخليج، ومعها تركيا، درجة الغيظ التي تسود في بعض دوائر صناعة القرار السياسي المعادية للعرب في واشنطن من اجتماعات التنسيق الخليجي التركي لربما تضاعف عدد هذه الاجتماعات". لخّصت العبارة المذكورة تعليقَ صديقٍ أمريكي يعمل في حقل مراكز الأبحاث، القريبة بدورها من أجواء صناعة القرار السياسي في العاصمة الأمريكية، على الاجتماع الوزاري المشترك الخامس للحوار الإستراتيجي بين دول مجلس التعاون وتركيا في الرياض الخميس الفائت."ثمة تفضيلٌ لسياسة التعامل مع كل دولةٍ على حدة"، تابع الصديق المخضرم قائلًا: "من السهل جدًا لمن يتحدث باسم أمريكا، أيًا كانت درجة مشاركته الفعلية في صناعة السياسة الخارجية المتعلقة بالشرق الأوسط، وتحديدًا البلاد العربية، الإيحاء بأن ثمة خصوصية للعلاقة مع هذه الدولة أو تلك حين تكون اللقاءات فردية مع ساسة المنطقة وقياداتها. إنه ببساطة المنطق المعروف منذ بدء الإنسانية: فَرِّق تَسُد"، يؤكد الرجل في تحليله للموضوع. مع التركيز على أنه "حين يتعلق الأمر بالسيناريوهات العديدة التي يتم تداولها فيما يخص مستقبل هذه البقعة من العالم، فإن التشاور الحقيقي والفعال بين قيادات الدول فيها يُصبح واحدًا من أكبر التحديات هنا. خاصةً إذا حصلت هذه الممارسة بين الدول القليلة التي لا تزال تملك إمكانات حقيقية للتأثير في وضع المنطقة، بعدما تم تحييد غالبية الدول الأخرى وعزلُها عن التدخل فيما يجري خارج حدودها"!المؤكدُ أن الجهات ذات العلاقة في الخليج وتركيا ليست غافلةً عن هذه الحقيقة، لكن تأكيدها بهذه الصراحة من خبير متخصص يظل دافعًا لإعادة التفكير في دلالاتها الحساسة.وفي معرض الاستفاضة عن مكمن "الغيظ" وسببه، يأتي الحديث عن "الواقعية السياسية" التي باتت تبدو في خلفية مثل هذه الاجتماعات. ففي حين أن مجرد حصول التنسيق والتشاور والتعاون يكفي وحده سببًا للغيظ المذكور، تزيد نسبتهُ حين يتبين من التحليل أن تركيا من جهة ودول الخليج من جهةٍ ثانية تمضي قدمًا في تفعيل التنسيق والتشاور بناءً على المصالح المشتركة، وعلى إدراكٍ متقدم لحقيقة استهدافها جميعًا، ثم على قناعةٍ منها بأن التنسيق والتشاور يعطيها معا أوراقًا إستراتيجية تتعلق بصناعة حاضر المنطقة ومستقبلها.فمن مدخل الواقعية السياسية وإدراك المصالح المشتركة مثلًا، يبدو واضحًا تجاوزُ الهاجس المُبالغ فيه عن (تطلّع) تركيا للقيادة في المنطقة. ثمة مراجعاتٌ تركية في هذا الإطار تتعلق بدور بعض الجماعات والحركات الإسلامية خلال السنوات الماضية، خاصةً حين يتعلق الأمر بالمفارقة بين الشعارات من جهة، وتقويم درجة النضج السياسي والأداء المترتب عليه لدى تلك الجماعات من جهةٍ ثانية. بل إن ثمة مواقف صدرت من مسؤولين أتراك، منها ماهو علني، وأكثرُها هامس، تَطلب عبرها من الجماعات والحركات، وبعض رموزها، بألا تكون "ملكيةً أكثر من الملك" كما يقولون، حين يتعلق الأمر بتركيا ودورها في المنطقة، وألا يجري "تلبيسُها" بمواقع وأوصاف لا يفكر الأتراك في السياسة من منطِقها ولا بمُفرداتها.من جهةٍ ثانية، تُسهِّلُ الواقعية السياسية التنسيق بين الطرفين عبر إدراك حتمية الاختلاف في وجهات النظر حول بعض القضايا الجزئية، مع الإقرار بأن مثل هذا الاختلاف لا يتضارب إطلاقًا مع ضرورة التعاون المشترك حين يتعلق الأمر بالقضايا (الوجودية) الكبرى.من هنا، شمل البيان الختامي للاجتماعات توافقًا متقدمًا جدًا في مواقف الطرفين من قضايا المنطقة من العراق إلى ليبيا، ومن سوريا إلى اليمن. بل كان لافتًا مثلًا الاتفاق على إدانة محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا ودعم إجراءات حكومتها ضد تنظيم "جولن"، وإدانة الاعتداء الإرهابي على السفينة الإماراتية في مضيق باب المندب والمطالبة بإعادة جزرها المغتصبة من إيران، مرورًا بتهنئة السعودية على نجاح موسم الحج ورفض تسييس الفريضة المتعلقة به، والدعوة لإطلاق المختطفين القطريين في العراق، وصولًا حتى إلى المطالبة بإعادة الأرشيف الوطني الكويتي من العراق، هذا فضلًا عن تسريع مباحثات إنشاء منطقة التجارة الحرة بين تركيا ودول الخليج.وكان الموقف من إيران وسياساتها في المنطقة عنصرًا أساسيًا في التوافق الخليجي التركي، من باب الإدراك المشترك لحجم التهديد الذي تشكله تلك السياسات على المنطقة بشعوبها ودولها.لاشك أن هناك رمزيةً سياسيةً عالية في مثل هذا التوافق الوارد في البيان الختامي. لكن التحدي الكبير أمام الطرفين يكمن في التنسيق العملي على أرض الواقع، خاصة في القضايا الحساسة والحاسمة كما هو الحال في سوريا. فالواقعية السياسية من جهة، والبحث عن الفعالية الحقيقية من جهةٍ ثانية، يقتضيان التركيز على ماهو أكثرُ تأثيرًا في القضايا الأخرى. وحين نجد أصابع إيران وراء غالبية القضايا المتفق عليها، ونعرف، بتصريحات قياداتها أن وجودها في سوريا هو محورُ سياساتها الإقليمية، يصبح طبيعيًا أن يكون التعامل معها هناك مدخلًا لتقليم أظافرها في باقي أرجاء المنطقة بالشكل المطلوب.

398

| 16 أكتوبر 2016

الاختراق العربي الممكن جداً في سوريا

"صعود هتلر" هو الكتاب الذي وضعته صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية على رأس قائمتها الشهيرة المتعلقة بالكتب التي تنصح بقراءتها.ماعلاقة هذا بالموضوع السوري والعربي؟ يمكن فهم العلاقة من زاوية قراءة الواقع الأمريكي والأوربي، المتعلق بصعود شخصياتٍ فاشية قُدُماً على سلّم السلطة السياسية في القارتين، في ظل نظامٍ ديمقراطي. وهو مايزيد الحديث دولياً عن احتمالات فوضى عالمية قادمة.ثمة بُعدٌ آخر يجب أخذه أيضاً بعين الاعتبار. فمنذ يومين، نشرت الصحيفة نفسها مقالاً تحليلياً يتحدث عن محاولة روسيا بوتين لاستغلال الأسابيع القليلة الباقية إلى يوم الانتخابات الرئاسية الأمريكية لخلق أمرٍ واقعٍ جديد على الأرض في سوريا. وتنقل الصحيفة عن أندرو تابلر، أحد كبار الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أنه سمع شخصياً من ساسة وخبراء روس اعتقادهم بأن هيلاري كلينتون ستكون أقرب لسياسة استخدام القوة في سوريا من الرئيس أوباما، حالَ فوزها بالرئاسة. كما تنقل عن مسؤولين أمريكان يقينهم أن من السهل انزلاق روسيا إلى مستنقعٍ في سوريا "خاصةً إذا قامت الدول العربية المؤيدة للثوار بتزويدهم بأسلحة مضادة للطائرات"، كما أكدت الصحيفة.أما صحيفة (واشنطن بوست) فقد اهتمت بالموضوع من جانبٍ آخر، حين أشارت في تقريرٍ لها يوم الجمعة أنه، بعد أن أقر المشرّعون الروس إقامة قاعدة عسكرية دائمة لبلادهم في سوريا، فإن الحديث عاد في روسيا إلى مسألة فتح قواعد عسكرية في كوبا وفيتنام، وربما مناطق أخرى من العالم.ثمة فكرٌ سياسي قد يُقوّم الحقائق المذكورة أعلاه بشكلٍ تقليدي، وبهذه الطريقة في التحليل، قد تبدو احتمالات إقدام روسيا على فتح القواعد مُستبعدة. وقد يكون هناك نظر في حقيقة أن (الرئيسة) كلينتون ستلجأ إلى القوة في سوريا.لكن مايغيب في هذه المعادلة هو التفاعلات غير المحسوبة، التي يمكن أن تنتج عن قرارٍ (مجنونٍ) واحد يمكن للرئيس الروسي أن يتخذه في لحظة نشوةٍ (مافيوية)، ممزوجة بجرعةٍ من جنون العظمة، وغرور عقلية (الكي جي بي). فهناك شعورٌ سائد حتى الآن في واشنطن بأن "الأمور تحت السيطرة" فيما يتعلق بالتدخل الروسي، وكل ممارساته. وبأن هذا يدخل في إطار استجابة بوتين (اللاواعية) لفخّ الاستنزاف الذي تم سحبهُ إليه استراتيجياً، بغض النظر عن كل الكلام الاستهلاكي المُعلن عن الخلافات الروسية الأمريكية. لكن ثمة حديثاً يتصاعد في دوائر حساسة بأن الرجل بدأ "يُصدّقُ نفسه".. والأخطر من هذا، الإشارات إلى أن بعض جنرالاته صدّقوا الوهم الذي باعهم إياه الأمريكان، وصاروا يهاجمون أمريكا، لأول مرة منذ عقود، بأسلوب (قبضايات) الحارات الشعبية.فمنذ أيام مثلاً، أطلق الناطق باسم وزارة الدفاع إيغور كوناشينكوف، تصريحات بشكلٍ استعراضي قال فيها أن على الولايات المتحدة، وخصوصاً في مؤسستي الجيش والاستخبارات، أن "تدرس ملياً عواقب شن ضربات على مواقع الجيش السوري، لأن مثل هذه الضربات ستهدد بوضوح الجنود الروس"، ثم إن الرجل دعا من وصفهم بـ "ذوي الرؤوس الحامية"، في واشنطن، ليتذكروا أن روسيا نشرت صواريخ "إس-300" في طرطوس و "إس400" في قاعدة حميميم باللاذقية، داعياً للتنبه إلى أن "مدى النظامين وقدراتهما ستحمل مفاجآت تنتظر من يفكّر في الهجوم على سوريا".وفي خضمّ انغماس الروس في هذه الطريقة في التفكير، يحاولون، بشكلٍ محموم، استغلال الأسابيع العشرة القادمة، الحساسة جداً، لتغيير الوقائع على الأرض السورية.هنا تنفتح إمكانيات الاختراق العربي المقابل، وفي سوريا تحديداً. فـ "الظروف الاستثنائية تحتاج إلى تدابير استثنائية" كما يقول المثل الغربي. وحين ننظر إلى مايواجهه العرب بشكلٍ عام، ودول الخليج تحديداً، من الأوضاع في سوريا إلى مستتبعات قانون "جاستا" الأمريكي، يبدو واضحاً أن المشهد يندرج حتماً تحت عنوان الظروف الاستثنائية. بل إن ثمة تسريبات عن سيناريوهات (وحشية) يطرحها البعض في معرض السياسات الممكنة للتعامل مع المملكة والخليج في الفترة القادمة.. باختصار، ومع (الاحترام) لكل الحسابات الدبلوماسية في الحديث عما يجري.. نحن نعيش، دون شك، واقعَ وجود عدة محاور للمواجهة والمُدافعة الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية في هذه الفترة، ومن الخطأ القاتل الزهدُ في العمل الكثيف فيها جميعاً.وبين إمكانية أن (يضغط) الروس على الزر الخطأ في أي لحظة، والفوضى العارمة في السياسة الأمريكية هذه الأيام، واحتمالات دخول العالم بأسره في فوضى كبيرة، يبدو هذا الوقتَ المناسب لقرارٍ خليجيٍ حاسم، تقوده المملكة، لإحداث اختراقٍ على الأرض في سوريا، تُضاف نتائجه إلى الأوراق التفاوضية للخليج في هذه المرحلة المفصلية.مرةً أخرى، تتصرف الغالبية العظمى من القوى الدولية والإقليمية في هذه الأيام بعيداً عن الحسابات السياسية المُندرجة في إطار التوازنات التقليدية القديمة. وهناك شعورٌ عام بإمكانية خرق كل قواعدها. من هنا، سيكون من السذاجة بمكان أن تبقى دول الخليج الطرف الوحيد (المُهذّب) الملتزم بتلك القواعد حالياً. ماسيعود بضررٍ كارثي عليها في المدى المنظور.أخيراً، ثمة بالحسابات السياسية احتمالاتٌ عالية في أن تكون نتيجة الاختراق الذي ندعو إليه إيجابية. ولكن، مهما كانت النتائج في النهاية، فلن تكون أسوأ من الواقع الذي يبدو أننا كعرب سائرون إليه بشكلٍ مخيف. هذا إن كنا صادقين مع أنفسنا، وتذكّرنا الحكمة العربية العميقة والعملية: "أنا الغريقُ فما خوفي من البَلل".

472

| 09 أكتوبر 2016

هل تراجع أمريكا سياستها من (جاستا) إلى سوريا؟

قبل قرابة أسبوع، نشر أستاذان أمريكيان مرموقان متخصصان في القانون الدولي، كيرت برادلي وجاك غولدسميث، مقالًا تفصيليًا في صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية ينتقدان فيه قانون (جاستا)، مع التأكيد بأنه يخرق أحد المبادئ الرئيسة للقانون الدولي. نُشر المقال قبل قرار الكونجرس بنقض الفيتو الذي استخدمه الرئيس الأمريكي لمحاولة إيقاف القانون على أملٍ منهما بإضافة شيءٍ من (العقلانية) إلى تفكير المشرعين الأمريكان، دون جدوى، حتى الآن على الأقل. نضيف العبارة الأخيرة لأن ثمة كلامًا جديدًا يُسمع في دوائر الكونجرس في اليومين الأخيرين، حيث يبدو أن هناك من يهمس في آذان أعضائه بأنهم تصرفوا كأطفال يلعبون بلعبةٍ لا يُدركون أخطارها الكبيرة عليهم.لكن هناك من يصرخ علنًا بهذا الخصوص داخل أمريكا وخارجها في الأسبوعين الأخيرين. فتحت عنوان "لماذا يُشكل قانون جاستا خطرًا على بريطانيا وأجهزتها الأمنية؟"، كتب عضو البرلمان البريطاني توماس توغيندهات مقالا في صحيفة (التلغراف) البريطانية أعطى فيه الإجابة على سؤاله المذكور. "وفق هذا القانون" يقول الكاتب "يمكن لمواطنين أمريكان مقاضاة الحكومة البريطانية بدعوى الإهمال في التعامل مع الإسلام الراديكالي خلال العقود الماضية". ثم يتحدث أيضًا عن إدراك البيت الأبيض والخارجية الأمريكية "لاحتمال حصول دعاوى قضائية انتقامية ضد أمريكا في دوائر قضائية مختلفة حول العالم". لكن الكاتب والسياسي المخضرم يلمس وترًا حساسًا حين يشير إلى أن "النظام البنكي العالمي يتضمن حقيقة أن أغلب التعاملات المالية الدولية تتم عبر كمبيوترات توجد في أمريكا... ولن يطول الوقت حتى تسمح المحاكم الأجنبية برفع دعاوى ضد أمريكا على أساس الإهمال فيما يتعلق بقضايا تمويل الإرهاب".أما في أمريكا نفسها، فالخبراء يجدون حاجةً للحديث بصراحةٍ أكبر. ففي تحليلٍ مفصل في موقع The Daily Caller الإخباري مثلًا، يكتب عميل الاستخبارات الأمريكية السابق، شيت نايغل، شارحًا كيف أن "أمريكا تستفيد من الحصانة المنبثقة من سيادة الدولة أكثر من أي بلدٍ آخر لأن لدينا نفوذًا، ولأننا نتحرك، في عددٍ من الدول أكثر مما يفعله أي بلدٍ آخر. وقانون جاستا يعني ببساطة أن الجنود والدبلوماسيين الأمريكان سيكونون هدفًا للدعاوى القضائية في العراق وغيره من البلدان، الأمر الذي سيعيق قدراتنا في حقل السياسة الدولية وفي معرض الدفاع عن أمننا القومي... المفترض بأعضاء الكونجرس الذين فتحوا (صندوق باندورا) أن يدركوا أن مصالحنا سيتم التحكم بها في محاكم أجنبية توفر قدرًا من الحماية ضد الدعاوى القضائية غير المسؤولة هو أقل مما توفره المحاكم الأمريكية". وبعد أن يُذكِّر الأمريكيين أن "هذه المحاكم [الأمريكية] نفسها لم تجد السعودية مذنبةً بتمويل الإرهاب عدة مرات"، يعود للوم المشرّعين الأمريكان قائلًا: "رغم ذلك، نرى كيف أن أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، المشغولين بصورتهم السياسية في موسم انتخابات، استهدفوا حليفًا مهمًا وقويًا بدلًا من إيران. وبهذا، فإن خلاصة ما فعلوه يتمثل في أنهم وضعوا اقتصادنا وأمننا القومي في خطر".قد تكون مثل هذه المصارحات، إضافةً لهمسات الأذن الخافتة، هي ما فتح باب حديث القادة الجمهوريين لمجلسي الشيوخ والنواب، في اليومين الماضيين، عن إمكانية تعديل القانون. وكما يلومُ الأطفالُ الآخرينَ عند شعورهم بأنهم ارتكبوا الخطأ، يتكرر الحديث في أوساط الكونجرس الآن عن تقصير الرئيس أوباما في التشاور مع المشرِّعين بالشكل المطلوب، وأن حصول التشاور كان له أن يعالج الأمر قبل الوصول إلى هذه الحالة.هل يمكن، بالمقابل، للرئيس أوباما أن يقوم بمراجعة خطاياه السياسية في سوريا في أسابيعه الأخيرة في البيت البيض، بحيث يغادره محافظًا على شيءٍ من ماء الوجه، عبر احترام حدٍ أدنى من المبادئ الإنسانية الواردة في القانون الدولي؟ السؤال مشروعٌ مع تصريحاتٍ لنائب وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، أكد فيها على أن "الرئيس طلب من جميع الوكالات طرح خيارات بعضها مألوف وبعضها جديد نعكف على مراجعتها بنشاط شديد". الملاحظة أن الرجل قال في إفادته أمام (لجنة العلاقات الخارجية) في مجلس الشيوخ إن أطرافًا خارجية ضالعة في الصراع قد تبدأ في ضخ مزيد من الموارد، مما قد يضر في نهاية المطاف بالرئيس السوري إضافة إلى روسيا. أما جون كيربي، الناطق باسم الخارجية الأمريكية، فقد أطلق تصريحًا حذر فيه روسيا "من تعاظم خسائرها واستلام المزيد من جثث جنودها في الأكفان، بل حتى إسقاط طائراتها".ثمة ملامح اضطراب في التنسيق الأمريكي الروسي في سوريا يمكن أن يحمل في طياته نافذة فرصة لفعلٍ حاسم يقوم به أصحاب العلاقة من العرب. سيما وأنهم يعلمون أن مسار الأحداث على الأرض السورية سيؤثر على واقعهم، اليوم قبل الغد.هنا تأتي التصريحات الغاضبة والمنفعلة لمسؤولين روس في اليومين الأخيرين مؤشرًا على ذلك الاضطراب. فقد قال سيرجي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، إن تصريحات كيربي "دليل على انحدار الإدارة الأمريكية الحالية لممارسة سياسة وضيعة، وتمثل دعوة موجهة للإرهابيين لمهاجمة روسيا. لا يمكن أن نصف هذا الأمر إلا بأنه في الواقع دعم للإرهابيين من جانب الولايات المتحدة".من المفيد للعرب أن تزيد أمريكا احترامها للقانون الدولي في جميع الحالات، بغض النظر عن الأسباب. وبشيءٍ من الإرادة السياسية، فإن دورهم في دفعها لذلك، سواء فيما يتعلق بقانون جاستا أو في سوريا، قد يكون أكبر بكثير مما يتصورون.

441

| 02 أكتوبر 2016

في "شعبوية" السياسة الأمريكية الراهنة: قانون "جاستا" مثالًا

لا تمثل مصادقة الكونجرس الأمريكي مؤخرًا على تشريع "قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب"، المعروف اختصارًا باسم "جاستا"، صحوة ضميرٍ لدى المشرعين الأمريكان، بقدر كونها مؤشرًا على طبيعة السياسة في أمريكا المعاصرة، وطُغيان الروح "الشعبوية" عليها، تحديدًا. قد لا يعرف الكثيرون أن موضوع القانون مطروحٌ في ساحتي القضاء والسياسة في أمريكا منذ عام 2002. ففي تلك السنة، رفع محامو بعض عائلات ضحايا أحداث سبتمبر دعوى على بعض دول الخليج، مع جملةٍ من المؤسسات والشخصيات، تطالب بتعويضات تقارب 100 تريليون دولار! كانت هذه القضية تتموضعُ دائمًا في موقعٍ ما بين الهزل والجهل، كما هو الحال في تعاملِ أمريكا مع كثيرٍ من القضايا، خاصةً حين يتعلق الأمر بالعرب والمسلمين.ففي تلك الأيام، لم يكن مَن رفع الدعوى يعرف، مثلًا، أن إجمالي حجم الناتج القومي العربي السنوي كان يتجاوز بالكاد نصف تريليون دولار، الأمر الذي يعني أن قبول الدعوى يتطلب رهن الدخل القومي للعرب بأكمله لأكثر من قرنين. وهذا جنونٌ لا يقبل التفكير به عاقل، وواضحٌ أنه مبنيٌ على أوهام يتخيل أصحابها أن العرب، أشخاصًا وحكومات، يمتلكون عشرات وربما مئات التريليونات من الدولارات.من هنا، كان القضاء الأمريكي يردُّ الدعوى مرةً إثر أخرى خلال السنوات السابقة، وكان آخرُها في مثل هذه الأيام من العام الماضي حين ردَّها القاضي جورج دانييلز في مانهاتن بمدينة نيويورك. وهو الذي سبقَ له أن ردّها مرتين، إضافةً لغيره من القضاة.المفارقة أن الساسة الأمريكان أيضًا، حتى في أيام الرئيس السابق جورج بوش الابن وإدارته اليمينية المُتطرفة، كانوا يُعرِضون عن التفاعل مع القضية في فرعي الحكومة، التنفيذي والتشريعي، بناءً على حدٍ أدنى من المنطق، وعلى معرفةٍ بقوانين أمريكية تتعلق بهذا الموضوع. ما الذي استجدَّ إذًا حتى يُقرَّ الكونجرس الأمريكي الآن مشروعًا كان أكثرُ ساسة أمريكا يمينيةً وتطرفًا يرفضون مجرد النظر فيه؟ يمكن اختصار الإجابة على السؤال بالإحالة إلى كون شخصٍ مثل دونالد ترامب مرشحَ الحزب الجمهوري لمنصب رئاسة أقوى بلدٍ في العالم. وقد نتفهمُ الآن بشكلٍ أكبر سبب مقاطعة الرئيسين بوش، الأب والابن، إضافةً إلى كبار رموز الحزب الجمهوري المحافظين، المؤتمر العام للحزب منذ بضعة أسابيع، والذي رشّحَ رسميًا ترامب لمقعد الرئاسة.فالرجلُ يُعبّرُ عن أقصى درجةٍ من الشعبوية والاهتراء والهزل السياسي وصلت إليها أمريكا في تاريخها المعاصر. وباعتبار حقيقة أن ثمة ملايين الأمريكان أوصلوا الرجل إلى هذا الموقع بالانتخاب، فإن الغالبية العظمى من الساسة، الجمهوريين والديمقراطيين على حدٍ سواء، ينتظرون الفرصة للمزاودة عليه في ممارسة الشعبوية السياسية. وليس أسهلَ من تحقيق هذا الهدف حين يكون الأمر متعلقًا بالعرب والمسلمين.بهذه الرؤية، لا يعود ممكنًا النظر إلى صدور التشريع على أنه استهدافٌ مُحددٌ للسعودية أو غيرها من دول الخليج، بقدرِ كونه تعبيرًا صارخًا عن ابتذال الساحة السياسية الأمريكية راهنًا، وعن تجليات ذلك الابتذال، التي سيراها، ويُعاني منها، العالم بأسره.ورغم احتمال فوز المرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، بالرئاسة، بما قد يجعل السياسة الخارجية الأمريكية أكثر واقعيةً وعقلانية، إلا أن موجة "الشعبوية" المتصاعدة في أمريكا، وأوروبا أيضًا، ستبقى مصدر تهديدٍ كبير للسلام والاستقرار الدوليين. وسيبقى هذا تحديًا كبيرًا يواجه دولًا كثيرة في العالم خلال الفترة القادمة، لكنه سيكون تحديًا من نوعٍ خاص لدول الخليج تحديدًا.الأرجح أن الرئيس أوباما سيمنع تنفيذ القرار عبر فيتو رئاسي يحق له وفق الدستور الأمريكي. لكن الأمر لن ينتهي في حال فوز ترامب، لأن روح الشعبوية ستتصاعد، وسيُمكن وقتها جمعُ أصوات أكثر من ثلثي أعضاء الكونجرس لكسر الفيتو الرئاسي. وفي حال حصول ذلك، فإن ملف العلاقات الدولية يجب أن يُفتح على مصراعيه، من قِبل دول الخليج تحديدًا، وبحيث تكون جميع الخيارات موضوعةً على طاولة القرار.وللتوضيح، قد تصبح هذه القضية مفصلًا بارزًا من مفاصل العلاقات الدولية في التاريخ المعاصر، إلى درجةٍ تفرض على أصحاب الشأن أخذها بمنتهى الجدية، ليس من باب الغرق في دوائر الخوف والقلق، وإنما من باب بذل الجهد المطلوب للتعامل معها بكل ما في الوسع من طاقةٍ وإمكانات.إن مصلحة أمريكا كدولة وكحضارة، ومصلحة العرب والمسلمين، ومصلحة البشرية جمعاء، تلتقي عند نقطة محاصرة مثل هذه الممارسات التي تنتج عن السياسات الشعبوية. وهذا أمرٌ من الممكن جدًا تحقيقه، وبشكلٍ يؤدي إلى صياغة رأي عام وبلورة قرار سياسي يمكن أن يُعَقلنَ الموضوع بشكل هادىء وفعال، ومن خلال آليات وميكانيزمات باتت قنواتها ومداخلها معروفة لأصحاب الشأن.إن مثل هذه الممارسات تنبني على كثيرٍ من الجهل بالحقائق والجهل بالتبعات. وقد يتمثل الهدف الأكثر واقعيةً من القضية في ممارسة الضغط النفسي والعملي على المُدّعى عليهم، لكن الخطورة في الأمر أن من مرر القانون لا يُدرك، فيما يبدو، وقعه الحسّاس على مئات الملايين من العرب والمسلمين، ولا يفهم إطلاقًا طبيعة الرسائل الثقافية والسياسية الخطيرة التي تحملها تلك الدعوى لتلك الملايين، والتي يمكن أن تؤدي إلى ردود فعلٍ كارثية لا يمكن ضبطها على الإطلاق.

247

| 25 سبتمبر 2016

alsharq
الكرسي الفارغ

ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...

4791

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
النعش قبل الخبز

لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...

3477

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
معرفة عرجاء

المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....

2865

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
العنابي يصنع التاريخ

في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...

2670

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
نموذج قطر في مكافحة المنشطات

يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...

2595

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
أين ربات البيوت القطريات من القانون؟

واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...

1428

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
ملف إنساني على مكتب وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة

في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...

1407

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
وجبات الدايت تحت المجهر

لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...

1038

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
وجهان للحيرة والتردد

1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...

954

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
القيمة المضافة المحلية (ICV)

القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...

831

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
دور معلم الفنون في مدارس قطر

في قلب كل معلم مبدع، شعلة لا تهدأ،...

807

| 17 أكتوبر 2025

alsharq
العنابي يحلّق من جديد

في ليلة كروية خالدة، صنع المنتخب القطري "العنابي"...

765

| 17 أكتوبر 2025

أخبار محلية