رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يشهد عصرنا الحالي تحولاً جوهرياً في خريطة الابتكار العالمي، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي محوراً أساسياً للتنافس التكنولوجي بين الدول. وتُظهر إحصائيات المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) تفاوتاً صارخاً في هذا المجال، تتصدره الصين بلا منازع بينما يكاد يكون الحضور العربي شبه معدوم. فبين عامي 2014 و2023، نجحت الصين في حصد 38 ألف براءة اختراع في هذا الحقل المتقدم، متقدمةً على الولايات المتحدة بفارق هائل يعكس عمق الاستراتيجية الصينية وضخامة الاستثمارات الموجهة لهذا القطاع الحيوي. الهيمنة الصينية لم تكن وليدة الصدفة، بل ثمرة رؤية استباقية جعلت من الذكاء الاصطناعي أولوية وطنية، مدعومة بتمويل ضخم وتخطيط طويل الأمد. في المقابل، يكشف غياب أي دولة عربية عن قائمة الدول الرائدة عن أزمة هيكلية في منظومة الابتكار العربية، تتراوح بين ضعف الاستثمار في البحث العلمي وغياب الرؤية الاستراتيجية الموحدة لهذا القطاع الذي يُعد عصب الاقتصادات المستقبلية. في الجانب الآخر من المعادلة، نجد العالم العربي الذي يبدو غائباً تماماً عن هذا السباق المحموم. فبينما تشق دول مثل الهند وكوريا الجنوبية طريقهما بقوة في مجال الابتكار التكنولوجي، تتراجع الدول العربية إلى موقع المتلقي السلبي للتكنولوجيا. هذه الهوة الكبيرة ليست مجرد تأخر تقني عابر، بل تعكس أزمة هيكلية عميقة في منظومة البحث العلمي والابتكار في العالم العربي؛ فمعدلات الإنفاق على البحث والتطوير لا تتجاوز 0.3% من الناتج المحلي في أفضل الأحوال، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بما تنفقه الدول الرائدة. كما أن ظاهرة هجرة العقول العربية المتميزة إلى مراكز البحث العالمية تزيد من تعميق هذه الفجوة، حيث يفقد العالم العربي سنوياً عشرات الآلاف من الكفاءات العلمية التي كان يمكن أن تشكل نواة لنهضة تكنولوجية حقيقية. ينذر الوضع الحالي بمخاطر جسيمة تتجاوز الجانب التقني لتمس الأبعاد الاستراتيجية للأمن القومي العربي. ففي عالم أصبحت فيه البيانات هي النفط الجديد، والذكاء الاصطناعي هو أداة الهيمنة الجديدة، فإن الاعتماد الكامل على حلول وتقنيات أجنبية يعني في الواقع تفويض السيادة الرقمية للآخرين. وتظهر هذه الحقيقة جلياً في القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والخدمات المالية، حيث تعتمد معظم الدول العربية على أنظمة مستوردة، دون وجود قدرة محلية على تطوير بدائل وطنية أو حتى تعديل هذه الأنظمة بما يتناسب مع الخصوصيات المحلية. لكن رغم قتامة الصورة، فإن الفرص المتاحة للعالم العربي لا تزال قائمة. فالدول العربية تمتلك مقومات مهمة يمكن البناء عليها، بدءاً من الكفاءات البشرية التي أثبتت جدارتها عندما توفرت لها البيئة المناسبة، ومروراً بـ الموارد المالية الكافية التي يمكن توجيهها نحو الاستثمار في التقنية، ووصولاً إلى سوق عربية موحدة تشكل حافزاً جاذباً للاستثمارات التكنولوجية. في السنوات الأخيرة، بدأت بوادر تحول استراتيجي في التعامل مع تحديات الذكاء الاصطناعي تظهر في بعض الدول العربية، وخاصة الخليجية منها. فالمملكة العربية السعودية أطلقت استراتيجيتها الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي التي تهدف إلى بناء اقتصاد رقمي قائم على المعرفة، بينما تسعى الإمارات العربية المتحدة لأن تتحول إلى مركز عالمي رائد في هذا المجال بحلول 2031 من خلال استثمارات ضخمة في البنية التحتية الرقمية وتشجيع الابتكار. أما قطر فقد ركزت على تطوير قدرات بحثية متقدمة في الذكاء الاصطناعي من خلال مؤسسات مثل المؤسسة القطرية لدعم الابتكار والبحث العلمي ومركز قطر للابتكارات التكنولوجية وتقدم استراتيجية قطر للبحوث والتطوير والابتكار 2030 رؤية جريئة وطموحة تعمل على إحداث تغيير شامل في منظومة البحث والتطوير والابتكار وغيرها.. هذه المبادرات الطموحة تعكس إدراكاً متزايداً لأهمية الذكاء الاصطناعي في تشكيل المستقبل وصحيح أن هذه البدايات تمثل خطوة إيجابية في مسار التحول الرقمي العربي، إلا أنها تظل غير كافية لسد الفجوة التكنولوجية مع الدول الرائدة. فالتجارب الدولية الناجحة تثبت أن التقدم في مجال بهذه التعقيدات والاستثمارات الضخمة يتطلب تعاوناً إقليمياً وتكاملاً في الموارد والجهود. ولعل أهم ما يعيق هذه المساعي هو غياب الإطار المؤسسي العربي الفعال الذي يمكنه تحويل هذه الجهود الوطنية المبعثرة إلى مشروع تقني عربي مشترك. المطلوب اليوم هو نهج عربي متكامل يبدأ بإصلاح جذري لمنظومة التعليم والبحث العلمي، ويركز على بناء شراكات حقيقية بين القطاعين العام والخاص، مع العمل على استقطاب الكفاءات العربية المهاجرة وتوفير البيئة المحفزة لها. كما أن التعاون العربي المشترك في هذا المجال يمكن أن يشكل قوة دفع كبيرة، من خلال إنشاء مراكز بحثية عربية مشتركة، وتبادل الخبرات، وتوحيد الجهود، وبناء منصات مفتوحة المصدر تُعزز الاستقلالية الرقمية العربية. تُعلّمنا التجربة الصينية أن النجاح في مجال الذكاء الاصطناعي لا يتطلّب قرنًا كاملًا من التراكمات التكنولوجية، بل إرادة سياسية حقيقية واستثمارًا استراتيجيًا ذكيًا وموجّهًا. لقد استطاعت الصين، في فترة زمنية قصيرة نسبيًا، أن تنتقل من موقع المتلقّي للتكنولوجيا إلى موقع المنافس، بل والمبادر في مجالات حسّاسة كبراءات الاختراع المرتبطة بالذكاء الاصطناعي التوليدي (وهذا الأخير هو فرع من الذكاء الاصطناعي يُركّز على إنتاج محتوى جديد وابتكاري مثل النصوص أو الصور أو الأصوات، اعتمادًا على بيانات سابقة وأنماط تعلمها). إنّ هذه التجربة تطرح تساؤلات جوهرية أمام الدول النامية والعربية خصوصًا: هل يمكن تجاوز الفجوة الرقمية من خلال تبنّي سياسات وطنية جريئة؟ وهل يمكن استثمار الذكاء الاصطناعي لا فقط كأداة تقنية، بل كرافعة سيادية تُعزّز من الاستقلال العلمي والتكنولوجي؟ الواقع الصيني يُشير إلى أن الإجابة ممكنة، وأن التحوّل الرقمي ليس حكرًا على من بدأوا السباق أولاً، بل على من يُحسنون قراءته واتخاذ القرارات في لحظته المناسبة...فهل نحن فاعلون؟
315
| 18 يونيو 2025
في عالمٍ يُبَجَّل فيه «الذكاء الاصطناعي» و»التحول الرقمي» كعلاماتٍ على التقدّم، يبدو الإنسان أكثر حريةً من أي وقتٍ مضى في اختياراته. لكن الواقع يُخفي شيئًا آخر: نحن نعيش داخل منظومةٍ رقميةٍ معقّدة تُعيد تشكيل وعينا دون أن ندري. فلم يعد السؤال اليوم: «هل هناك من يتحكم بعقولنا؟» بل تحوّل إلى: «إلى أي حدٍّ نستطيع مقاومة هذا التحكم؟» صارت التكنولوجيا واجهةً للوجود المعاصر، لكنها تحمل في طيّاتها آلياتٍ خفيّة للسيطرة، تبدأ من الإعلام الموجَّه، وتمرّ عبر الخوارزميات الذكية، وتنتهي بالتلاعب العاطفي عبر منصات التواصل. يشعر الإنسان أحيانًا وكأنه يعيش داخل لعبةٍ هائلة، تُعاد كتابة قواعدها باستمرار، وتُوجَّه مساراته دون أن يدرك. في هذه اللعبة، ليست كل «الحقائق» حقيقية، وليس كل ما نسمعه صادقًا. فـ”الواقع” نفسه يُصنع رقميًّا عبر آليات السيطرة الرمزية التي يتقنها الإعلام المعاصر. وبينما يظن الفرد أنه يختار بحرية، يكون قد تمّ اختياره مسبقًا عبر تحليلات البيانات، والاستهداف السلوكي، والتلاعب النفسي. المتاهة الرقمية: حين يصبح الواقع لعبةً لا نعرف قواعدها يشعر المرء أحيانًا بأنه يدور في متاهةٍ لا نهاية لها: كلما ظنّ أنه فهم اللعبة، اكتشف أن القواعد قد تغيّرت. هذه التجربة ليست مجرد “نظرية مؤامرة”، بل هي نتاج بنية الإعلام الرقمي الحديث، الذي يجمع بين الترفيه، الهيمنة، وتشكيل الرأي العام في آنٍ واحد. وإذا كان التضليل الإعلامي قديمًا يعتمد على الأخبار المزيفة أو الخطاب التحريضي، فإنه اليوم أصبح أكثر دقةً وتخفيًا بفضل الذكاء الاصطناعي. فالخوارزميات لا تقدم لك ما «تريده» فحسب، بل تُحدّد لك ما «يجب أن تريده»، وتصنع واقعًا بديلًا يتشكّل وفق بياناتك، وميولك، وتاريخك الرقمي. إنها حربٌ ناعمة لا تُستخدم فيها الرصاصات، بل “الأسلحة الصامتة” كما وصفها المفكر نعوم تشومسكي. أسلحة الصمت: كيف يُهندس الإعلام وعي الجماهير؟ في وثيقةٍ غامضة تعود إلى الثمانينيات بعنوان “الأسلحة الصامتة لحرب هادئة”، كشف تشومسكي عن إستراتيجيات الإعلام في التحكم بالمجتمعات عبر أدواتٍ تبدو بريئة، لكنها تحمل أجنداتٍ خفيّة. ومن أبرز هذه الإستراتيجيات: 1. خلق الأزمات وفرض الحلول الجاهزة: تُصَنَّع الأزمات (اقتصادية، سياسية، صحية) لتمرير حلولٍ مسبقة التخطيط. 2. التدرّج في فرض التغييرات: تُنفّذ السياسات الاستبدادية على مراحل كي لا يشعر الناس بحدّتها. 3. تبسيط الخطاب لتمرير الأجندات: يُخاطب العامة كالأطفال لضمان استيعاب الرسائل دون تمحيص. 4. إستراتيجية الإلهاء: تُغرَق الجماهير في قضايا هامشية (فضائح، رياضة، مسلسلات) لصرف انتباههم عن القرارات المصيرية. وفي العصر الرقمي، لم تعد هذه الإستراتيجيات حكرًا على الإعلام التقليدي، بل تم تطويرها بآلياتٍ أكثر تعقيدًا: • الذكاء الاصطناعي يوجّه المحتوى حسب سلوك المستخدم لتعزيز الانحياز الفكري. • الترندات المصطنعة تُضخَّم وفق أجندات سياسية أو تجارية. • الفقاعات المعلوماتية تُغلق المستخدم في عالمٍ من الأفكار المتشابهة، مما يقتل التعددية الفكرية. لم يعد الإعلام مجرد ناقلٍ للأخبار، بل تحوّل إلى مصنعٍ للواقع، يُنتج “الحقائق” ويُشكّل الوعي الجمعي. فتحت شعار “الحرية الرقمية”، نجد أشكالًا جديدة من الرقابة الذكية: • لا أحد يمنعك من الكلام، لكن الخوارزميات تمنع صوتك من الوصول. • لا توجد رقابة صارخة، لكن هناك تضخيمًا للضوضاء لإغراق أي صوتٍ مخالف. • تُقدَّم لك “حرية الاختيار”، لكن ضمن خياراتٍ مُعدّة مسبقًا. كما قال تشومسكي: “السيطرة الحقيقية لا تُمارَس بالقوة، بل بالإقناع الخفي”. الخلاصة: لسنا ضد التكنولوجيا، ولا ضد الإعلام، لكن من الضروري إعادة النظر في علاقتنا بهما. فكلما تطوّرت أدوات التحكم، زادت الحاجة إلى اليقظة النقدية. وكلما ادّعى العالم أنه أصبح أكثر “ذكاءً”، ازدادت ضرورة التمسّك بغريزة الشكّ التي تميّز بين الحقيقة والزيف، وبين الاختيار الحرّ والخداع المُمنهج. فالسؤال اليوم لم يعد: كيف نوقف التكنولوجيا؟ بل: كيف نمنعها من استخدامنا دون أن نشعر؟
279
| 02 يونيو 2025
العالم اليوم يعتمد بشكل متزايد على الاتصال الرقمي، وتقف خلف هذا الاعتماد بنية تحتية حيوية لكنها غير مرئية تدير الإنترنت العالمي وتؤمّن تدفق البيانات والمعاملات المالية على نحو مذهل. تتمثل هذه البنية في كابلات الألياف الضوئية البحرية، التي تنقل أكثر من 95 % من حركة البيانات الدولية، وتدعم معاملات مالية تُقدَّر بحوالي 10 تريليونات دولار يوميًا. ورغم هذا الدور الجوهري، تبقى هذه الشبكة الدقيقة والهائلة في طيّ النسيان، مهملة من حيث الحماية، رغم أنها تمثل العصب الفعلي للاقتصاد الرقمي العالمي. تمتد هذه الكابلات، التي لا يتجاوز قُطرها بوصتين، لمسافات تتجاوز 1.2 مليون كيلومتر عبر المحيطات، وتتكون من ألياف ضوئية رفيعة محاطة بطبقات من النحاس والبلاستيك والفولاذ، لحمايتها من الضغوط الهائلة والتيارات المائية. وبفضل هذا التصميم، تستطيع الكابلات البحرية نقل بيانات بسرعة تصل إلى التيرابايت في الثانية، ما يجعلها الخيار المثالي لتطبيقات تتطلب زمن انتقال منخفضا مثل الخدمات السحابية، البث الحي، والتعاملات المالية، وهي بذلك تتفوق بشكل واضح على الأقمار الصناعية التي تبقى سرعتها محدودة وزمن تأخيرها أكبر. رغم التصور الشائع، فإن الاعتماد على الأقمار الصناعية في نقل البيانات الدولية لا يتجاوز بضع نسب مئوية، لأن الكابلات البحرية أكثر كفاءة وأقل تكلفة وأسرع استجابة. ويتم تثبيت هذه الكابلات عبر سفن متخصصة تُطلقها في أعماق المحيطات وفق مسارات مدروسة بعناية لتجنب مناطق الزلازل والتيارات القوية والانهيارات الأرضية. لكن المفارقة أن أكثر من 70 % من الأعطال التي تصيب هذه الكابلات سببها أنشطة بشرية مثل الصيد الجائر أو إلقاء المراسي البحرية، وليس الكوارث الطبيعية أو هجمات الحيوانات البحرية كما يُشاع. ورغم الطبيعة التقنية لهذا القطاع، فإن الجانب السياسي والأمني فيه حاضر بقوة. فالكابلات البحرية تمثل أصلًا إستراتيجيًا تمسّ الحاجة إلى حمايته في زمن التوترات الجيوسياسية. فعلى سبيل المثال، أنشأت أستراليا مناطق بحرية محمية حول مسارات الكابلات لمنع إلحاق الضرر بها، في حين تعتمد القوات المسلحة الأمريكية عليها بشكل مباشر لنقل بيانات استخباراتية بين قواعدها ومراكز القيادة. أي انقطاع في هذه الكابلات يمكن أن يؤدي إلى شلل في الخدمات، وتأخير في العمليات العسكرية، وانهيار في الأسواق المالية، ولو لساعات. تاريخيًا، لم تكن هذه الكابلات بمعزل عن الحروب، ففي عام 1959، قطعت خمسة كابلات أمريكية تحت المحيط الأطلسي في ظروف غامضة، واتهمت واشنطن آنذاك السفن السوفيتية بالقيام بعملية تخريبية متعمدة. وفي العصر الحديث، كشفت تسريبات إدوارد سنودن عن قدرة وكالة الأمن القومي الأمريكية على التنصت على البيانات العابرة من خلال نقاط التقاطع في الكابلات، وهو ما دفع بعض الدول مثل البرازيل إلى إنشاء كابلات جديدة تتفادى المرور عبر الولايات المتحدة. وفي السنوات الأخيرة، تصاعدت المخاوف من الهجمات المقصودة. ففي عام 2023 و2024، تضررت كابلات بحرية في بحر البلطيق والبحر الأحمر تحت ظروف اعتُبرت مشبوهة، ما أعاد طرح سؤال الأمن البحري في سياق الجغرافيا السياسية. هذه الحوادث، التي يبدو بعضها جزءًا من صراعات خفية، أكدت هشاشة هذه البنية الأساسية رغم قوتها التقنية. ولمواجهة هذه التحديات، لجأت شركات مثل غوغل وميتا إلى بناء كابلات خاصة بها، مثل الكابل البحري «Dunant» الذي يعبر الأطلسي وينقل 250 تيرابايت في الثانية، وهو ما يشير إلى سباق صامت بين القوى التكنولوجية العالمية لامتلاك شبكاتهم الخاصة والمحمية. ولا تقتصر أهمية هذه الكابلات على الدول المتقدمة فقط، بل تمتد إلى الدول ذات المواقع الجغرافية الحساسة. فمصر، على سبيل المثال، تمر بها أكثر من 16 كابلًا بحريًا رئيسيًا تربط بين آسيا وأوروبا، مما يمنحها موقعًا إستراتيجيًا عالي الأهمية في خريطة الاتصالات العالمية. ومع ذلك، فإن هذه الأهمية لا ترافقها دائمًا سياسات حماية أو استثمار تتناسب مع حجم الأصول «الجيوسيبرانية» التي تمتلكها. تبقى كابلات الإنترنت البحرية بمثابة شبكة الحياة الرقمية للعالم الحديث. فهي تحمل الاقتصاد العالمي، وتغذي المعاملات والمعلومات لحظة بلحظة، لكنها في الوقت نفسه تفتقر إلى الحماية الكافية، وتُدار غالبًا من قبل شركات خاصة، في غياب إطار دولي ملزم. وإذا ما استمر هذا الوضع، فإن السؤال لم يعد هل ستُستهدف هذه الكابلات، بل متى، وكيف سيؤثر ذلك على عالم يعتمد أكثر من أي وقت مضى على تدفق غير منقطع للبيانات. على ضوء ما تقدم وفي ظل تسارع التنافس الجيوسياسي والتقدم التكنولوجي، تبرز الكابلات البحرية ليس فقط كبنية تحتية رقمية، بل كأصل إستراتيجي ذي حساسية فائقة. ومع أن الاعتماد عليها سيستمر لعقود قادمة، فإن مستقبلها لن يُحدد فقط بتطور السرعات أو تحسين الطبقات العازلة، بل بمدى قدرة الدول والمنظمات الدولية على صياغة منظومات حوكمة وتأمين جماعية. فالعالم مقبل على مرحلة تصبح فيها السيطرة على البيانات، لا على الأرض، هي جوهر القوة. وفي هذا السياق، قد تتحول أعماق المحيطات إلى ساحة صراع جديدة، صامتة ولكنها شديدة التأثير. فالكابلات البحرية ليست مجرّد أنابيب بيانات، بل شرايين عالم معولم يُعاد تشكيله، حرفيًا، من تحت سطح البحر. عربيًا ما زال الحضور في مشهد حوكمة هذه البنية التحتية هامشيًا، إن لم يكن غائبًا تمامًا. فلا توجد إستراتيجية عربية موحدة لحماية هذه الكابلات، ولا رؤية واضحة للاستثمار فيها أو للمشاركة في تطوير معايير أمنها وتشغيلها. في عالم تُدار فيه القوة من خلال السيطرة على تدفق البيانات، فإن تجاهل العمق الإستراتيجي للكابلات البحرية يُعد نوعًا من القصور الإستراتيجي. فهل سيبقى العرب مجرد ممر عبور للكابلات، أم أن هناك من سيلتفت لهذا المشهد ويصبح طرفًا فاعلًا في رسم خريطة الأمن الرقمي العالمي!
399
| 19 مايو 2025
لم يعد التفكير في «تحميل الوعي» أو «العيش الرقمي» حكرًا على الخيال العلمي، بل أصبح موضوعًا يحظى باهتمام متزايد في الأوساط الأكاديمية والتقنية. فمع التقدم الهائل في علوم الأعصاب الحاسوبية، وواجهات الدماغ-الحاسوب، والذكاء الاصطناعي، باتت الفكرة تُناقش بوصفها أحد المسارات الممكنة لتطور العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. تتعمق اليوم فرضية أن العقل البشري ليس سوى شبكة من الأنماط العصبية القابلة للتحليل والمحاكاة، وأن الإدراك والذاكرة والشعور بالذات يمكن – نظريًا – إعادة إنتاجها رقمياً داخل بيئات اصطناعية. في هذا الأفق، تلوح إمكانيات غير مسبوقة: أن تنتقل الحياة من الجسد إلى السحابة، وأن يعيش الإنسان، بشكل أو بآخر، بعد الموت البيولوجي في عالم رقمي محوسب. بعيدًا عن أطروحات نظرية المحاكاة، يكتسب هذا التوجه العلمي زخمًا متزايدًا، مدفوعًا بتقدم تكنولوجيا واجهات الدماغ-الحاسوب التي تسمح بقراءة الإشارات العصبية وربما إعادة إنتاجها. في مختبرات مثل «مختبر التجسيد الافتراضي» بجامعة «ساسكس»، يعمل الباحثون على بناء بيئات غامرة تُحاكي التجربة الإدراكية البشرية بكل تعقيدها، محاولة محاكاة الشعور بالهوية الذاتية والذاكرة والانفعالات داخل فضاء رقمي. وفي مراكز مرموقة مثل مركز العقول والعقول والآلات التابع لمعهد MIT، تتواصل الجهود لفهم البنية العصبية للذكاء البشري تمهيدًا لمحاكاتها خوارزميًا، الأمر الذي يغذي طموحات «العيش الرقمي» بوصفه مشروعًا علميًا قيد التشكّل. ورغم أن هذه التصورات لا تزال بعيدة عن التطبيق الكامل، فإنها تفرض تحديات فلسفية وأخلاقية عميقة حول معنى الوعي وحدوده، وحول ما إذا كان بالإمكان فعلاً نقله من بيئة عضوية إلى أخرى رقمية. هل الوعي مجرد نشاط كهربائي يمكن ترميزه؟ أم أنه يتجاوز حدود ما يمكن للآلة إدراكه؟ ماذا يحدث للروح، للنية، للشعور بالزمن والانتماء؟ في قلب هذه الأسئلة يتداخل البعد العلمي بالميتافيزيقي، ويُطرح التوتر بين محاكاة التجربة الإنسانية من جهة، وتجسيدها الحقيقي من جهة أخرى. تظهر في هذا السياق نماذج تخيّلية مثل «دماغ ماتريوشكا» – بنية افتراضية تعتمد على طاقة نجمية هائلة لإدارة حضارات رقمية بالكامل داخل طبقات حوسبة متراكبة – لتجسّد أقصى ما يمكن أن تبلغه هذه التصورات من طموح: أن تصبح الحياة ذاتها مشروطة بالبقاء في الذاكرة الرقمية، لا في الجسد، وأن تصبح «الهوية» شيئًا قابلاً للنسخ والتعديل والحفظ. ولكن هذه الرؤى – رغم إبهارها – تثير أيضاً قلقاً وجودياً مشروعاً: هل يكفي أن تُحاكى الذاكرة والسلوك لكي نقول إننا ما زلنا أحياء؟ أم أن الإنسان يتجاوز مجرد أنماط يمكن تمثيلها رقمياً؟ هنا تبرز الرؤية الدينية كخطاب موازٍ يرفض اختزال الإنسان في بيانات قابلة للترميز. في التصور الديني، لا يُختزل الوعي في تفاعلات عصبية ولا في رموز خوارزمية، بل هو متصل بنفخة إلهية، وبمصير يتجاوز الحياة المادية. الموت ليس مجرد توقف للوظائف البيولوجية، بل انتقال إلى طور آخر من الوجود لا يمكن للتكنولوجيا إدراكه أو تمثيله. وعليه، فإن كل محاولات «تحميل الوعي» تبقى، في أفضل الأحوال، محاولات لمحاكاة القشرة الظاهرة من التجربة الإنسانية، دون النفاذ إلى جوهرها الروحي. ورغم كل التقدم في أدوات المحاكاة، تظل هناك فجوة لا يمكن ردمها بسهولة بين ما يمكن للآلة أن تحققه، وما يجعل الإنسان إنسانًا حقًا: الشعور بالمعنى، القدرة على التأمل، الإيمان، الحيرة، التوق إلى الخلود بمعناه الأخلاقي والروحي، لا الرقمي فقط. صحيح أن الخوارزميات قد تتمكن من إعادة إنتاج السلوك البشري، وربما المشاعر المصطنعة، لكن هذا لا يعني أننا نقلنا «الوعي» فعلاً، بل أننا بنينا «مرآة» رقمية له، بلا ذات ولا عمق. إن التقدم الهائل في علوم الدماغ والواجهات الذكية والبيئات الافتراضية يفتح أمام البشرية أبوابًا جديدة لإعادة تعريف الذات والوجود، ليس فقط من منظور تكنولوجي، بل من منظور وجودي عميق. لم يعد الإنسان مجرد كائن بيولوجي يخضع لقوانين الفناء، بل مشروعًا مفتوحًا لإعادة التشكيل، يمكن له أن يتجاوز حدوده الجسدية ويتجسد في صور جديدة من الوجود الرقمي. ومع ازدياد الحديث عن تحميل الوعي والعيش الرقمي، يدخل الإنسان مرحلة جديدة من الحوار مع ذاته، تتجاوز الأسئلة التقليدية حول الهوية والمصير، لتطرح إشكاليات أكثر جذرية: من نحن حين نُفصل عن أجسادنا؟ هل يمكن للهوية أن تبقى متماسكة إذا ما انتُزعت من سياقها العضوي وزُرعت في بيئة صناعية؟ هل يكفي أن تبقى أنماط وعينا محفوظة في خوادم ذكية، حتى نستحق أن نُسمى «أحياء»؟ وما الذي يجعل الوعي حيًّا أصلًا: استمرارية البيانات، أم الحضور الذاتي والشعور الأخلاقي والقدرة على المعاناة والأمل؟ في هذه اللحظة، لا يواجه الإنسان فقط تحدي التكنولوجيا، بل تحدي المعنى. فالمسألة لا تتعلّق بإمكانية العيش الرقمي بوصفه إنجازًا علميًا، بل بقدرته على احتواء عمق التجربة الإنسانية بما فيها من هشاشة وغموض وشعور بالتجاوز. ربما تمنحنا هذه التقنيات امتدادات غير مسبوقة للوجود، وقد نتمكن من محاكاة جوانب من إدراكنا داخل أنظمة رقمية فائقة الذكاء. لكن ما لا يجب أن نغفله وما نؤكد عليه هو أن الإنسان، في جوهره، ليس مجرد كائن معلوماتي. الوعي ليس فقط ما نعرفه، بل ما نجهله عن أنفسنا، وما نشعر به ولا نستطيع ترجمته. وبينما تتسابق التقنيات لمحاكاة الإنسان، تذكرنا الروح بأن هناك دائمًا ما يفلت من المحاكاة وهو: المعنى.
465
| 12 مايو 2025
في عصر الذكاء الاصطناعي، لم يَعُد مستقبل الوظائف مجرد سيناريوهات مستقبلية أو تكهنات بعيدة، بل بات واقعًا يتشكّل بسرعة تفوق التوقعات. ما كان يُعتبر ضربًا من الخيال قبل سنوات، أصبح اليوم حقيقة مدعومة بأرقام وتقارير صادرة عن كبرى المؤسسات البحثية والتقنية. ووسط هذه التحولات المتسارعة، لم تعد الوظائف الجديدة خيارًا تقنيًا نخبويًا، بل أصبحت ضرورة حتمية تفرضها موجات التغيير، وتُبرز الحاجة إلى مواكبة هذا الواقع الجديد بمرونة واستعداد دائم. فالتغيير الذي كان يستغرق عقودًا بات يحدث خلال أشهر، ومهن الأمس باتت تُستبدل بوظائف لم نسمع بها من قبل، إذ تُجمِع التقارير الحديثة الصادرة عن PwC وGartner وMcKinsey على أن الوظائف الجديدة ليست ترفًا تقنيًا، بل ضرورة استراتيجية للتكيف مع عالم سريع التغير. من أبرز هذه الوظائف، فني الصيانة التنبئِية بالذكاء الاصطناعي (AI Predictive Maintenance Technician) الذي يستخدم خوارزميات لرصد الأعطال قبل وقوعها، ما قد يُوفر على الشركات ما يصل إلى 630 مليار دولار سنويًا، بحسب Cisco Systems وكذلك مهندس سلاسل الإمداد الذكية (Smart Supply Chain Engineer)، الذي يوظف أدوات الذكاء الاصطناعي لتحسين سرعة ودقة تسليم المنتجات؛ إذ أظهرت دراسة لمؤسسة Deloitte أن هذه الوظيفة يمكن أن تقلّص وقت التسليم بنسبة 40% وتخفض الانبعاثات بنسبة 25%. إنها ليست مجرد لحظة تحول في سوق العمل، بل ثورة مهنية تقودها الخوارزميات، وتبتكر وظائف لم تُكتب فصولها بعد، وفي قلب هذه الثورة، تتزايد الحاجة إلى مواهب قادرة على فهم هذه التحولات والتفاعل معها بمرونة وكفاءة. فالسؤال لم يَعُد: «ما الوظيفة التي سأشغلها؟»، بل أصبح: «هل وظيفتي المقبلة موجودة أصلًا؟»، في وقت تشير فيه دراسة حديثة لمعهد McKinsey Global (2024) إلى أن 85% من وظائف عام 2030 لم تُخترع بعد. هذا الواقع الجديد يُحتّم على الأفراد والمؤسسات إعادة التفكير في مهاراتهم، وأنماط التعلم، ونماذج العمل، استعدادًا لسوق لا يعترف بالثبات، بل يكافئ القادرين على التكيف المستمر، والتعلم مدى الحياة. في القطاع القانوني مثلًا، يُعاد تعريف العمل المكتبي مع ظهور محلل العقود الذكية (Smart Contract Analyst)، الذي يدمج بين القانون والبرمجة لفهم وتحليل الوثائق القانونية الرقمية. أما في المجال الأخلاقي، فتبرز حاجة الشركات إلى مهندس أخلاقيات الذكاء الاصطناعي (AI Ethics Engineer) لضمان ألا تتخذ الخوارزميات قرارات متحيزة أو تمييزية، كما تنبأت Gartner بأن 30% من الشركات الكبرى ستوظف هذا الدور بحلول 2026. ضمن الرؤى الاستشرافية التي تقدمها تقنيات الذكاء الاصطناعي نفسها، تم التنبؤ بظهور خمس مهن جديدة بحلول عام 2030، تشمل: مدقق أخلاقيات الذكاء الاصطناعي (AI Ethics Auditor)، ومهندس الميتافيرس (Metaverse Engineer)، ومطور برامج الحوسبة الكمومية (Quantum Software Developer)، ومعالج نفسي مختص في الإدمان الرقمي (Digital Detox Therapist)، ومهندس التعلم (Learning Engineer). هذه الوظائف – التي لم يكن لها وجود فعلي قبل سنوات قليلة – تعكس ليس فقط التحولات التقنية، بل أيضًا التغير العميق في طبيعة المهارات المطلوبة. وهو ما يفرض على الجامعات ومراكز التدريب إعادة صياغة مناهجها لتتناسب مع هذه الاتجاهات المستقبلية، وتوفير بيئات تعليمية مرنة تُعد الطلبة لشغل أدوار لم يُخترع جزء كبير منها بعد.قصة حقيقية من كوريا الجنوبية تُجسد هذا التحول: «لي جاي هون»، مهندس ميكانيكي سابق، أعاد تأهيل نفسه ليصبح منسق التفاعل بين البشر والروبوتات (Human-Robot Interaction Facilitator)، ليقود فريقًا في تطوير تجربة العملاء داخل متاجر ذكية تستخدم مساعدين روبوتيين. بعد ستة أشهر من التدريب المتخصص، تضاعف دخله وانتقل إلى إدارة مشاريع تقنية كانت خارج نطاق تصوره المهني السابق. لكن هذا التقدم لا يتوزع بشكل عادل حول العالم. ففي حين تسارع الدول الصناعية إلى إعادة هيكلة أنظمتها التعليمية واستثماراتها في المهارات المستقبلية، تقف الدول النامية، وخاصة العربية، أمام تحديات مضاعفة. ضعف البنية التحتية الرقمية، ونقص التمويل الموجه للبحث والتطوير، يحدان من قدرة هذه الدول على مواكبة التحول. بحسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي (2023)، فإن فجوة المهارات الرقمية في بعض دول الشرق الأوسط تتجاوز 60%، وهو ما يهدد بتهميشها في الاقتصاد العالمي الجديد. هنا يبرز دور الحكومات كمحرك رئيسي للجاهزية المستقبلية. فبدلاً من التركيز فقط على خلق وظائف تقليدية، عليها تبني سياسات دعم للوظائف الرقمية الجديدة، مثل تقديم حوافز للشركات التي توظف في مجالات الذكاء الاصطناعي، وإنشاء شراكات بين الجامعات ومراكز الأبحاث التكنولوجية، كما فعلت سنغافورة ورواندا بنجاح لافت.في العالم العربي، بدأت مؤسسات وشركات في دول مثل قطر والسعودية والإمارات تولي اهتمامًا متزايدًا بهذه التحولات. على سبيل المثال، أطلقت بعض الجامعات العربية برامج دراسات عليا متخصصة في الذكاء الاصطناعي، تشمل مساقات تتناول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في مختلف القطاعات. كما بدأت بعض الشركات الناشئة في المنطقة توظيف مختصين في تصميم واجهات تفاعلية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وهو ما يعكس بداية دخول العالم العربي في موجة جديدة من الابتكار الوظيفي. هذا الواقع الجديد يتطلب إعادة نظر شاملة في مفهوم المهارة. فالمهارات التقنية وحدها لم تعد كافية، بل أصبحت المهارات التحليلية والإنسانية مثل التفكير النقدي، والإبداع، والتواصل الفعال، عوامل حاسمة للنجاح في هذه المهن الناشئة. كما يُعد الاستثمار في منصات التعلم مدى الحياة خطوة ضرورية لتقليل «التآكل المهني السريع»، إذ تشير تقديرات البنك الدولي (2024) إلى أن 40% من المهارات الحالية ستصبح غير صالحة خلال خمس سنوات.
672
| 29 أبريل 2025
يشهد العالم المعاصر تحوّلاً غير مسبوق في تاريخ الوجود البشري، تقوده التكنولوجيا بصفتها القوة الأكثر تأثيراً في تشكيل ملامح الحياة الحديثة. لم تعد التكنولوجيا مجرد أدوات أو منصات مساعدة، بل أصبحت بحد ذاتها بيئةً كلية نعيش فيها، عاملًا حيويًا يُعيد صياغة مفاهيم الإنسان عن ذاته، وعن العالم، وعن الآخرين من حوله. وفي قلب هذا التحول تقف الأجيال الجديدة لا كمتلقٍّ سلبي، بل كنتاجٍ حيّ لهذا العصر الرقمي بكل تعقيداته وتناقضاته. نتحدث هنا تحديدًا عن جيل Z (المولود بين 1997 و2012) وجيل ألفا (المولود بعد 2013)، وهما جيلان نشآ في ظل تحوّل تكنولوجي عميق بدأ مع الثورة الرقمية في نهاية القرن العشرين، وتفاقم مع دخول الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز والميتافيرس والبيانات الضخمة إلى صلب الحياة اليومية. جيل Z يمثل الجسر بين عالمين: عالم ما قبل الثورة الرقمية، وعالم أصبحت فيه الخوارزميات هي «العقل الجمعي» الجديد. لقد عاش هذا الجيل مراحل الانتقال الكبرى: من الكتب الورقية إلى الشاشات، من الاتصالات الهاتفية إلى الرسائل الفورية، من الصفوف المدرسية إلى التعليم عن بُعد. أما جيل ألفا، فهو الجيل الذي لم يعرف سوى الرقمية منذ لحظة الميلاد، إذ تفتحت حواسه الأولى على شاشة، وتكوّنت مهاراته اللغوية من خلال مساعد صوتي، وتعلّم المفاهيم الأولى عن طريق تطبيقات ذكية وخوارزميات دقيقة تستجيب لسلوك المستخدم لحظياً. إننا لا نتحدث عن تغيّر في أنماط الحياة فقط، بل عن إعادة تشكيل حقيقية للذات الإنسانية. ففي السابق، كانت الهوية تُبنى عبر التفاعل مع الأسرة، والمدرسة، والثقافة المحلية، وكانت تنشأ ضمن سياق اجتماعي واضح المعالم. أما اليوم، فالأجيال الرقمية تبني صورها الذاتية في فضاءات افتراضية عالمية، تتخطى الحواجز اللغوية والثقافية والجغرافية. إنها هوية «مُفلترة»، تُنتجها الصور والمنشورات والتفاعلات المرسومة وفق خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي، وتُقاس بكمية «الإعجابات» والمشاهدات، لا بتجربة الذات العميقة. هذا التحول لا يخلو من مفارقات. فعلى الرغم من الكمّ الهائل من التواصل الرقمي، تشير دراسات عديدة إلى تصاعد مشاعر الوحدة والعزلة، خصوصًا بين المراهقين والشباب. وقد ربطت تقارير صحية بين الإفراط في استخدام التكنولوجيا وبين ارتفاع معدلات القلق، واضطرابات النوم، وضعف التركيز، وتراجع المهارات الاجتماعية. جيل Z، برغم إتقانه المذهل للتكنولوجيا، يواجه صعوبة متزايدة في بناء علاقات واقعية مستقرة. أما جيل ألفا، فيُظهر مبكرًا قدرة رقمية خارقة، لكنها تقترن أحيانًا بضعف في التطور اللغوي والعاطفي، وكأن المهارات الإنسانية الكلاسيكية باتت تُستبدل تدريجياً بكفاءات رقمية جديدة. هذا لا يعني أن الأجيال الرقمية «أقل إنسانية»، بل إنها مختلفة في تركيبها المعرفي والعاطفي والاجتماعي. إنها أجيال تعيش في ما يمكن تسميته «الواقع الموسّع» حيث تتداخل فيه الذات البيولوجية بالذات الرقمية، ويذوب فيه الخط الفاصل بين ما هو واقعي وما هو افتراضي. وهذه الحالة تطرح سؤالاً وجودياً جوهرياً: من أنا في عالم يُعاد فيه تشكيل الذات بواسطة أدوات لا أتحكم بها بالكامل؟ من يوجّهني فعلًا: أنا، أم البرمجية التي تختار لي ما أقرأ وأشاهد وأرغب؟ في هذا السياق، تتزايد الحاجة إلى تفكيك العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا من جديد. فنحن لم نعد فقط نستخدم التكنولوجيا، بل يُعاد تشكيلنا من خلالها. وقد أصبح الذكاء الاصطناعي شريكاً خفياً في اتخاذ القرارات، وتوجيه السلوك، وحتى في تكوين القيم وتصورات العالم. منصات مثل تيك توك ويوتيوب وانستغرام لم تعد وسائط ترفيهية فحسب، بل منصات لإنتاج الثقافة والهوية والسلوك الاستهلاكي. ولعل المفارقة الأكبر تكمن في أن هذه التكنولوجيا التي وُعدنا بها كوسيلة لتحرير الإنسان، باتت تخلق أشكالاً جديدة من التبعية. فمن جهة، تسهّل الحياة وتختصر الوقت، لكنها من جهة أخرى تُعيد تشكيل إدراكنا بطريقة غير مرئية. إنها «القوة الناعمة» الأشد تأثيراً في تاريخ البشرية. في ظل هذا الواقع، لا يكفي أن نُحمّل الأفراد مسؤولية التكيف. المطلوب هو تفكير جماعي لإعادة توجيه العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. المؤسسات التعليمية مطالبة بأن تراجع مناهجها، لا فقط لتُدخل التقنية، بل لتُعيد التوازن بين ما هو رقمي وما هو إنساني. الأسرة، بدورها، لم تعد فقط مصدراً للقيم، بل أصبحت «ساحة مقاومة» للحفاظ على الحميمية في وجه التمدد الرقمي. أما صانعو السياسات، فعليهم مسؤولية أخلاقية وتشريعية للحدّ من تغوّل التكنولوجيا في تفاصيل الحياة اليومية، ووضع ضوابط تحمي الأجيال من فقدان الجوهر الإنساني. لا ينبغي أن يكون السؤال: كيف نُقلل من استخدام التكنولوجيا؟ بل: كيف نستخدمها بطريقة تحافظ على إنسانيتنا؟ كيف نُدرّب أبناءنا على التفكير النقدي، والقدرة على التأمل، والانفتاح العاطفي، لا فقط على البرمجة والتصميم؟. نحن نعيش لحظة مفصلية، لحظة يُعاد فيها تعريف الإنسان، لا بالمعنى البيولوجي، بل بالمعنى الوجودي. وإذا لم نُحسن إدارة هذا التحوّل، فإننا قد نخسر القدرة على أن نكون ذاتاً فاعلة حرة في عالم تتزايد فيه السيطرة غير المرئية للأنظمة الذكية. المستقبل لا تصنعه الآلات، بل الإنسان الذي يعرف كيف يتعامل معها. ولهذا، فإن المعركة الأهم ليست بين الأجيال والتكنولوجيا، بل بين الإنسان وإنسانيته.
555
| 22 أبريل 2025
مع كل «ترند» أو موجة تقنية جديدة تكتسح العالم الرقمي، يندفع المستخدمون نحو تجربتها بحماس، مدفوعين بالفضول والرغبة في الاندماج مع الصيحات العالمية. لكن خلف هذه المغريات التكنولوجية – مثل تطبيقات تحويل الصور إلى شخصيات أنمي، أو فلاتر الذكاء الاصطناعي التي تعيد تشكيل الهوية البصرية – تكمن مخاطر جسيمة تهدد الخصوصية، وتُعيد تعريف مفهوم «المجانية» في عالم تتحول فيه البيانات الشخصية إلى سلعة تُباع وتُشترى بأبخس الأثمان. إن خطورة التطبيقات التي تحوّل الصور إلى أعمال فنية – كتلك المستوحاة من أسلوب «جيبلي» – لا تُختزل في مجرد تغيير المظهر، بل في آلية عملها التي تعتمد على استخراج البيانات البيومترية (كملامح الوجه، وبُنية العظام، وتفاصيل البشرة). هذه التفاصيل، التي تُجمع عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي، قد تُدمج في قواعد بيانات ضخمة تُستخدم لأغراض تصل إلى تدريب أنظمة التعرف على الوجوه، أو إنشاء محتوى «ديبفيك» مُزيّف، أو حتى تزوير الهوية الرقمية. والأمر لا يتوقف عند الصور؛ فالكثير من التطبيقات تطلب صلاحيات الوصول إلى الموقع الجغرافي، قائمة جهات الاتصال، وحتى الملفات المخزنة على الهاتف، مما يفتح الباب أمام شبكات استهداف إعلاني أو ابتزاز محتمل. السرّ الكامن وراء «المجانية» الظاهرة لهذه التطبيقات هو تحويل البيانات إلى عملة رقمية قابلة للتداول. فما يبدو خدمة بسيطة لتحويل الصور هو في الواقع صفقة غير متوازنة: تمنح المستخدمون حقوق استخدام بياناتهم دون وعي، بينما تحصد الشركات أرباحًا طائلة من بيعها لجهات تسويقية، أو استخدامها في تطوير تقنيات ذكاء اصطناعي تخدم أغراضًا تجارية أو أمنية. على سبيل المثال، قد تُستخدم صورتك المُسربة في إعلان عن منتج ما دون علمك، أو تُستغل في إنشاء شخصية افتراضية ضمن لعبة إلكترونية، أو تُدمج في نظام مراقبة حكومي! تكمن الكارثة في أن معظم المستخدمين لا يدركون حجم التبعات، في حوالي 93% من الأشخاص – وفق دراسات – يوافقون على شروط الخصوصية دون قراءتها، بينما تعتمد الحكومات على قوانين قديمة لا تواكب سرعة تطور التكنولوجيا. حتى الاتفاقيات الدولية مثل «GDPR» في أوروبا، رغم صرامتها، لا تستطيع ملاحقة كل الانتهاكات في فضاء رقمي لا يعترف بالحدود. يضاف إلى ذلك تكتيكات شركات التكنولوجيا في إرباك المستخدمين عبر صياغة سياسات الخصوصية بلغة معقدة، أو إخفاء البنود الأكثر خطورة في ثنايا النصوص الطويلة. ليست الشركات المطورة وحدها من يتحمل اللوم، فشبكات الاستغلال تمتد إلى وسطاء بيانات، ومنصات إعلانية، وحتى حكومات تشتري المعلومات لتعزيز أنظمة المراقبة. في عام 2023، كشفت تحقيقات عن بيع بيانات ملايين المستخدمين – تم جمعها عبر تطبيقات ترفيهية – لشركات تأمين لتحديد أسعار العقود بناءً على تحليل الصور! هذا التداخل بين الأطراف يجعل محاسبة المتورطين مهمة شبه مستحيلة، خاصة في ظل انعدام الشفافية. تتضاعف المخاطر مع تطور الذكاء الاصطناعي القادر على تحويل أي صورة عابرة إلى أداة لاختراق الخصوصية. فباستخدام تقنيات مثل «التوليد الضوئي التكاملي» (GANs) يمكن إنشاء نسخ واقعية من وجوه المستخدمين لاستخدامها في عمليات نصب أو تشويه السمعة. كما أن مشاركة الصور العائلية – مثلاً – قد تعرّض أقاربك للمخاطر ذاتها، إذ يمكن استنساخ وجوههم من خلال صورة واحدة مشتركة! الحل لا يكمن في الامتناع عن استخدام التكنولوجيا، بل في تبني عادات رقمية أكثر وعيًا: 1.التقليل من المشاركة: لا ترفع صورًا ذات خصوصية عالية (كصور الهوية أو الصور العائلية) على التطبيقات المجهولة. 2.قراءة البنود الأساسية: ابحث عن عبارات مثل «نملك الحق في استخدام صورتك» أو «نشارك البيانات مع أطراف ثالثة». 3. استخدم تطبيقات مفتوحة المصدر: بعض المنصات تتيح تحويل الصور دون اتصال بالإنترنت، مما يمنع تسريب البيانات. 4.تفعيل إعدادات الخصوصية: حدّد صلاحيات التطبيقات، وألغِ الاتصال بالتطبيقات غير المستخدمة. 5.ضغط الجهات الرقابية: دعم الحملات المطالبة بقوانين صارمة تجرّم بيع البيانات دون موافقة مستخدميها. خلاصة ما تقدم، العالم الرقمي يشبه الغابة: مليء بالفرص، لكنه يحتاج إلى بطاقة مرور مكونة من الوعي والحذر. كل ضغطة زر ليست مجرد «إعجاب» أو «مشاركة»، بل هي إمضاء على عقد غير مكتوب، قد يُغير حياتك إلى الأبد. قبل أن تنجرف وراء الإثارة التكنولوجية، تذكّر: ما يُنشر في الفضاء السيبراني يُشبه الوشم – يسهل وضعه، ويصعب محوه.
585
| 03 أبريل 2025
مما لا شك فيه أن استحواذ شركة ألفابت (الشركة الأم لغوغل) على شركة “ويز” (Wis) الإسرائيلية الناشئة في الأمن السيبراني، التي بلغت قيمتها 32 مليار دولار، تُعدُّ واحدة من أكبر صفقاتها في تاريخها. إذ تجاوزت هذه الصفقة جميع استحواذاتها السابقة، بما في ذلك صفقة «موتورولا» التي بلغت قيمتها 12.5 مليار دولار عام 2012. هذه الخطوة لا تمثل تحولًا استراتيجيًا في سوق الأمن السحابي فحسب، بل تروي أيضًا قصة شركة ناشئة نمت من جذور عسكرية إسرائيلية استطاعت تحويل خبراتها الاستخباراتية إلى أدوات دفاعية مبتكرة. ما يجعل هذا الاستحواذ أكثر إثارة هو تأثيره المحتمل في إعادة تشكيل معادلات القوة بين عمالقة التكنولوجيا، ليضع غوغل في موقف يسمح لها بالمنافسة بشكل أكثر فعالية في عصر يتسم بتطور مستمر في تهديدات الأمن السيبراني، حيث باتت هذه التهديدات جزءًا من معركة أوسع بين التقنيات المتقدمة. * من الجدير قوله في هذا السياق أن “ويز” تأسست عام 2020 على يد أربعة أفراد جمعتهم الخدمة في الوحدة 8200 الاستخباراتية الإسرائيلية، المعروفة بأنها “مصنع النخبة التكنولوجية” التي أنجبت مؤسسي شركات مثل تشيك بوينت وأبيرسك. يقود الفريق عساف رابابورت، الرئيس التنفيذي الذي سبق أن باع شركته الناشئة «أدالوم» لمايكروسوفت مقابل 320 مليون دولار عام 2015، ليعود بعدها برفقة زملائه من الوحدة 81 (وحدة سيبرانية أكثر سرية) إلى الساحة بأداة أمنية ثورية. إنّ هذا الفريق، المكون من عامي لوتواك (الرئيس التقني) وينون كوستيكا (نائب رئيس المنتجات) وروي ريزنيك (نائب رئيس البحث والتطوير)، لم يُبنَ على الخبرة التقنية فحسب، بل على ثقافة عسكرية تُعلي من السرعة والدقة واستباق التهديدات. هذه الروح العسكرية تجسّدت في تصميم منصة “ويز” التي تعمل كمركز قيادة افتراضي، حيث تجمع البيانات من منصات سحابية متنافسة (أمازون، مايكروسوفت، غوغل)، وتفحصها بحثاً عن الثغرات عبر 13 مجالاً أمنياً، بدءاً من أمن التعليمات البرمجية إلى سلاسل التوريد. * على الرغم من تأسيس “ويز” قبل أربع سنوات فقط، فإن ارتفاع تقييمها من مليار دولار في جولة التمويل الأخيرة إلى 12 مليار دولار في 2024، ثم بيعها بـ32 مليار دولار، يُثير أسئلة عن السبب الكامن وراء هذه القيمة الخيالية. إن تحليل عملية الاستحواذ يشير إلى ثلاثة عوامل رئيسية تبرر هذا دفع هذا المبلغ المرتفع: أولاً، لا تقتصر استثمارات ألفابت على التقنية فقط، بل تشمل أيضاً الاستفادة من خبرات عميقة في مجال الأمن السيبراني، القادرة على تطوير أدوات استباقية في سوق معقدة ومتطورة. فخلف شاشات “ويز” يقف فريق من خريجي الوحدات الاستخباراتية الإسرائيلية الذين حولوا خبراتهم العسكرية إلى حلول مبتكرة في هذا المجال. التقارير تشير إلى أن العديد من شركات الأمن السيبراني الكبيرة في إسرائيل تأسست على يد أفراد من هذه الوحدات، مما يعزز قدرة “ويز” على مواكبة التحديات المتزايدة في السوق. ثانياً، ابتكرت “ويز” نموذج عمل متميز من خلال تقديم حلول أمنية متوافقة مع جميع منصات الحوسبة السحابية، مما جعلها خياراً مناسباً للشركات التي تعتمد على بيئات سحابية متعددة، وهو الاتجاه السائد حالياً. ثالثاً، مع تحول الهجمات السيبرانية إلى صراع بين تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث أصبحت الأنظمة الذكية قادرة على محاكاة الهجمات ودفاعات أخرى عبر الخوارزميات المتقدمة، تتمتع “ويز” بقدرات تحليلية متقدمة تتكامل مع تقنيات غوغل في التعلم الآلي، مثل نموذج Gemini. هذه التقنيات لا تقتصر على توفير دفاعات حيوية ضد التهديدات السيبرانية، بل تدفع السوق إلى مرحلة جديدة من التحولات حيث تصبح الأنظمة الدفاعية أكثر مرونة وتكيفاً، مما يسمح لها بالاستجابة بسرعة للتهديدات المتغيرة بشكل متواصل. فعلى سبيل المثال، بفضل الذكاء الاصطناعي، يمكن لــ”ويز” أن تقدم حلولاً استباقية متطورة قادرة على تحديد الثغرات الأمنية قبل أن يتم استغلالها، مما يعيد رسم قواعد اللعبة في قطاع الأمن السيبراني * وسط هذه التحولات العميقة، يبرز سؤال جوهري: أين موقع العالم العربي من هذه الصفقات؟ ففي عصر الثورة الصناعية الخامسة، تُعيد القوى التكنولوجية الكبرى رسم موازين القوى، بينما لا يزال العالم العربي يُكافح لتطوير منظومته السيبرانية، التي غالباً ما تعتمد على استيراد الحلول بدلاً من صناعتها. على الرغم من الاستثمارات المتزايدة في التكنولوجيا، مثل مشاريع الحوسبة السحابية في السعودية والإمارات، والاهتمام القطري بالأمن السيبراني، إلا أن المنطقة لا تزال تفتقر إلى شركات تقنية سيبرانية عالمية تستطيع فرض نفسها كلاعب حقيقي في هذه السوق. فبينما تستثمر شركات مثل ألفابت ومايكروسوفت في العقول العسكرية الإسرائيلية، يبقى البحث والتطوير في العالم العربي متأخراً. وإذا لم يتحول الأمن السيبراني إلى أولوية استراتيجية، فسنجد أنفسنا مرة أخرى في موقع المتفرج، نُشاهد الآخرين يصنعون مستقبل الثورة الصناعية الخامسة بينما نبقى مجرد سوق استهلاكية لتقنيات الآخرين. * في الختام، تُجسّد هذه الصفقة إحدى الحقائق الجديدة: في اقتصادٍ رقمي يزداد تعقيداً، لم تعد الهيمنة تُقاس بحجم الخوادم، بل بقدرة الشركات على حماية بيانات العالم. فالأمن السيبراني اليوم لم يعد رفاهية، بل هو “بوليصة تأمين” إلزامية في عصر التهديدات السيبرانية المتطورة، والتي باتت مدعومة بأدوات الذكاء الاصطناعي. والسؤال الذي سيظل مطروحاً: هل تمتلك غوغل القدرة على تحويل هذا الاستحواذ إلى نقطة قوة تدعم سيادتها في الفضاء الرقمي، أم أن الصفقة ستتحوّل إلى فقاعة أخرى في تاريخ التكنولوجيا؟ الإجابة، كما هو الحال في عالم الأمن السيبراني، لن تتضح إلا مع الوقت.
465
| 27 مارس 2025
لطالما مثّل الفضاء السيبراني ساحةً لصراع بين رؤى مثالية تدعو إلى حرية غير مقيدة، وواقع تفرضه المصالح الاقتصادية والأمنية. في عام 1996، جاء "إعلان استقلال الفضاء السيبراني" لجون بيري بارلو ليجسّد هذه المثالية، متصورًا فضاءً رقميًا منفصلًا عن سلطة الحكومات، حيث تنساب الأفكار دون قيود تشريعية. لكن مع تسارع التطور التكنولوجي، لم يبقَ هذا الحلم مثاليًا لفترة طويلة؛ فقد أظهرت التحولات العميقة في علاقة التكنولوجيا بالدولة أن استقلال الفضاء السيبراني ليس سوى وهم اصطدم بتعقيدات الواقع. وبينما كانت شركات التكنولوجيا تُقدَّم يومًا باعتبارها قوى متمردة على السلطة، باتت اليوم لاعبًا رئيسيًا في صياغة السياسات والاستراتيجيات الوطنية، مما يطرح تساؤلات حاسمة حول طبيعة دورها وحدود نفوذها. إعلان بارلو أعلاه استند إلى إرث ثقافة الستينيات المضادة، التي مجّدت الحرية الفردية ورفضت المؤسسات السلطوية، ليصبح لاحقًا ركيزة أساسية لنهج وادي السيليكون، حيث ساد الاعتقاد بأن الابتكار التكنولوجي يجب أن يظل بمنأى عن التدخل الحكومي. غير أن هذه الرؤية المثالية سرعان ما اصطدمت بتعقيدات الواقع، إذ أدى التطور التكنولوجي السريع، والتشابك المتزايد بين المصالح الاقتصادية والأمنية، إلى إضعاف الحدود الفاصلة بين القطاع التكنولوجي والدولة. وكما يوضح كتاب "الجمهورية التكنولوجية: القوة الصلبة، الإيمان الناعم، ومستقبل الغرب" The Technological Republic: Hard Power, Soft Belief, and the Future of the West" للمؤلفين ألكسندر كارب ونيكولاس زاميسكا، فإن الشركات التي كانت يومًا ما تُجسد روح التمرد على السلطة، تحولت تدريجيًا إلى لاعبين أساسيين في صياغة الاستراتيجيات الوطنية، مما أثار تساؤلات جوهرية حول طبيعة علاقتها بالدولة، ومدى التزامها بالمصلحة العامة في مواجهة الحوافز الاقتصادية التي تدفعها نحو التركيز على العوائد قصيرة المدى. يطرح الكتاب الذي صدر مؤخرًا في 320 صفحة عن دار نشر Crown Currency تساؤلًا جوهريًا: هل ضلَّ وادي السيليكون طريقه؟ في رأي المؤلفين، تحولت كبرى شركات التكنولوجيا من قوى دافعة للتغيير إلى كيانات تركز على التطبيقات الاستهلاكية قصيرة المدى، بدلاً من التصدي للتحديات الكبرى التي تواجه المجتمع، مثل الرعاية الصحية، والتعليم، والتفوق التكنولوجي الوطني. هذا التحول، بحسب المؤلفين، لم يكن مجرد خيار اقتصادي، بل هو نتيجة لهيمنة نموذج اقتصادي قائم على تحقيق الأرباح السريعة وتجنب الاستثمارات الطويلة الأجل التي قد تحمل مخاطر سياسية أو مالية. لكن رغم انتقادهما لهذا المسار، لا يدعو المؤلفان إلى تفكيك هذه القوة، بل إلى إعادة توجيهها نحو خدمة المصالح الاستراتيجية للدولة، خاصة في مجالي الدفاع والاستخبارات. لم يكن هذا التحول مجرد تطور طبيعي، بل جاء مدفوعًا بتغيرات سياسية كبرى. في السابق، كانت شركات التكنولوجيا تتجنب التورط في السياسة، لكن مع صعود دونالد ترامب، بدا أن هذه العلاقة تتغير، حيث خضعت كبرى شركات وادي السيليكون - ولو مجازيًا - أمام البيت الأبيض. في هذا السياق، أصبحت شركات مثل "بالانتير تكنولوجيز" لاعبًا رئيسيًا في تقديم حلول تكنولوجية لمؤسسات الدولة، مما يعكس تحول وادي السيليكون من مناهضة السلطة إلى التعاون الوثيق معها. يرى المؤلفان أن هذه الشراكة ليست مجرد ضرورة اقتصادية، بل استراتيجية تهدف إلى ضمان تفوق الغرب في مواجهة القوى المنافسة، مثل الصين، التي تبنت نموذجًا مختلفًا يقوم على التكامل الوثيق بين الدولة والقطاع التكنولوجي. يدافع الكتاب عن فكرة أن التكنولوجيا لم تعد مجرد محرك اقتصادي، بل تحولت إلى عنصر رئيسي في المعادلة الجيوسياسية العالمية. فالولايات المتحدة لم تعد تهيمن على المشهد الرقمي بنفس القدر الذي كانت عليه في بداية الألفية، حيث تمكنت الصين من تطوير نموذجها الخاص عبر دعم شركات مثل "هواوي" و"علي بابا"، مما أوجد تحديًا استراتيجيًا كبيرًا للغرب. في هذا السياق، يدعو المؤلفان إلى تعزيز التعاون بين الحكومة الأمريكية ووادي السيليكون لضمان بقاء الولايات المتحدة في موقع الريادة التكنولوجية. لكن هذا التعاون يطرح تساؤلات معقدة حول دور الدولة في تنظيم الابتكار، ومدى قدرتها على تحقيق التوازن بين الأمن القومي والحرية الرقمية. رغم أن الكتاب يقدم نقدًا واضحًا لمسار التكنولوجيا في العقود الأخيرة، إلا أنه يقع في تناقض جوهري. فبينما ينتقد المؤلفان نزعة وادي السيليكون إلى المشاريع الاستهلاكية، يعترفان في الوقت نفسه بأن هذا النهج الابتكاري هو ما جعل شركات التكنولوجيا الأمريكية تهيمن عالميًا، حيث بلغت قيمتها السوقية 21.4 تريليون دولار في 2024. هذا يطرح تساؤلات معقدة أيضًا من قبيل: كيف يمكن تحقيق التوازن بين تشجيع الابتكار وضمان توجيهه نحو المصالح العامة؟ هل يمكن للحكومة أن تتدخل في سياسات شركات التكنولوجيا دون أن تؤدي إلى تقييد إبداعها أو عرقلة تقدمها؟ لكن السؤال الأهم الذي يطرحه المؤلفان في الكتاب، دون تقديم إجابة واضحة، هو: كيف يمكن للدولة أن تضمن بقاء هذه القوة التكنولوجية خاضعة للمساءلة أمام المجتمع؟ فبينما يدعو المؤلفان إلى تعزيز العلاقة بين الحكومة والشركات التكنولوجية، لا يقدمان تصورًا عمليًا لكيفية تحقيق ذلك دون المساس بروح الابتكار أو تعريض النظام الديمقراطي لخطر هيمنة نخبة رقمية لا تخضع لأي رقابة فعلية. يمكن اعتبار "الجمهورية التكنولوجية" بمثابة بيان لصعود ما يمكن تسميته "المجمع الصناعي التكنولوجي"، حيث لم تعد كبرى شركات وادي السيليكون مجرد قوى اقتصادية، بل أصبحت فاعلًا رئيسيًا في صياغة الاستراتيجيات الوطنية. ما كان يُنظر إليه يومًا كرمز للتمرد على السلطة، أصبح الآن جزءًا أساسيًا من بنيتها. السؤال الذي يظل مفتوحًا هو ما إذا كان يمكن لهذا الاندماج أن يحدث دون أن يتحول إلى استغلال سياسي واقتصادي، ودون أن تفقد التكنولوجيا جوهرها كقوة تحررية. في المحصلة، يواجه العالم معضلة متجددة تتمثل في كيفية توظيف التكنولوجيا لتحقيق الأهداف الاستراتيجية دون التفريط بالقيم الديمقراطية والحقوق الفردية. فبينما توفر التطورات التقنية للدول والشركات أدوات غير مسبوقة لتعزيز الأمن وتوسيع النفوذ، فإنها تثير في المقابل مخاوف متزايدة حول الخصوصية، وحرية التعبير، وإعادة تشكيل موازين القوى بين الأفراد والسلطات. ورغم أن الكتاب لا يقدم إجابة حاسمة لهذه الإشكالية، إلا أنه يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل العلاقة بين الابتكار والسلطة في العصر الرقمي، حيث يصبح اتخاذ القرارات التكنولوجية أكثر تعقيدًا، ويتطلب توازنًا دقيقًا بين متطلبات الأمن وضرورات الحرية.
483
| 08 مارس 2025
أود استسماح القارئ العزيز بخروجي عن نمط المقالات المتخصصة التي تعوّد عليها في هذه الزاوية، لأتناول هذه المرة عملًا دراميًا شدّني منذ حلقاته الأولى، ليس فقط كحكاية تاريخية، بل كمرآة تعكس صراعات ما زالت حاضرة في واقعنا. من الصعوبة بمكان إطلاق الحكم على نجاح أو فشل مسلسل معاوية من أول أربع حلقات. كنت أود الانتظار حتى نهايته حتى أكتب مقالًا مطولًا عنه، لكن ما لفت انتباهي منذ الحلقة الأولى لم يكن معاوية نفسه، بل الشخصيات التي تحيط به، والتي تعكس كيف يعيد التاريخ نفسه بصراعاته المتكررة. عندما نتابع عملًا دراميًا بحجم مسلسل معاوية (والذي تقدر ميزانيته بنحو 100 مليون دولار، ليكون بذلك الأضخم إنتاجيةً في تاريخ الدراما العربية) لا نشاهده فقط كمجرد قصة عن صراع قديم بين شخصيات تاريخية، بل نراه كنافذة على واقعنا. فالدراما التاريخية ليست مجرد استعادة لأحداث مضت، بل محاولة لفهم كيف تتكرر الصراعات، وكيف تتغير الوجوه بينما تبقى الأسئلة الكبرى ذاتها. في كل زمن، يظهر من يشبه معاوية، ومن يشبه عليًّا، ومن يشبه عمر ومن يشبه هند بنت عتبة، تتكرر الصراعات حول الشرعية، والقوة، والمستقبل. هذه ليست مجرد قضايا سياسية، بل تمتد إلى الفكر، والمجتمع، وحتى الدين. كل فكرة جديدة تواجه مقاومة، وكل سلطة ناشئة تحتاج إلى تبرير، وكل مجتمع في طور التغيير يصطدم بمن يتمسكون بالماضي ويرفضون الاعتراف بالمستقبل. لا أخفيكم أن أكثر ما شدّني في المسلسل لم يكن معاوية وحده، بل شخصية والدته هند بنت عتبة، التي لم تكن مجرد شخصية ثانوية، بل تجسيد للتحولات العميقة التي تصنع التاريخ. قبل الإسلام، كانت واحدة من أشد المعارضين للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم ليس فقط لدوافع دينية، بل لأن الإسلام قلب النظام الاجتماعي الذي كانت تعرفه. كان بالنسبة لها تهديدًا لمكانتها، ولمجتمعها، وحتى لعائلتها، إذ فقدت أقاربها في معاركه، بينما ابنة زوجها رملة باتت في معسكر النبي، متزوجة منه. ويبدو أن القصة الأكثر إثارة للجدل لم تكن في عداء هند، بل في تحولها لاحقًا إلى الإسلام. كيف يمكن لإنسان أن ينتقل من كراهية عميقة إلى القبول؟ هل هو الإيمان، أم الضرورة السياسية، أم لعبة البقاء؟ هذه ليست مجرد أسئلة عن هند بنت عتبة، بل عن كل الذين شهدوا تحولات فكرية حادة، سواء في التاريخ أو في حاضرنا. هل نحن فعلاً مختلفون عنهم؟ ما يفعله مسلسل مثل معاوية هو أنه يجبرنا على مواجهة الأسئلة التي نفضّل الهروب منها: كيف تُصنع السلطة؟ هل تأتي بالشرعية، أم بالقوة، أم بالمزيج بينهما؟ وهل يمكن أن يظل الإنسان متمسكًا بمبادئه مهما تغيرت الظروف، أم أن التكيف مع الواقع جزء من البقاء؟. هل التاريخ منصف في تصوير الشخصيات، أم أن كل شخصية تاريخية هي انعكاس للرؤية التي كتب بها المنتصرون القصة؟ هذه الأسئلة ليست مجرد نظريات عن الماضي، بل هي جزء من واقعنا اليوم. عندما ننظر حولنا، نجد أن الصراعات السياسية والاجتماعية لا تزال قائمة بنفس أنماطها القديمة، فقط تغيرت الأسماء والوسائل. منذ سنوات، أصبحت الدراما التاريخية إما سطحية أو مُسيسة، تُستخدم لتبرير مواقف معاصرة أكثر من كونها محاولة لفهم التاريخ. لكن الأعمال الجادة، مثل معاوية (بغض النظر عن الجدل حوله)، تحاول أن تعيد للدراما دورها الحقيقي: أن تكون ساحة للنقاش، وطرح الأسئلة، ودفع المشاهد إلى التفكير. ربما لا نبحث في هذه الأعمال - يا رعاكم الله- عن إجابات جاهزة، بل عن رحلة تجعلنا نعيد النظر في مسلّماتنا، وتكشف لنا أننا لسنا ببعيدين عن أولئك الذين نعتقد أننا تجاوزناهم. فالتاريخ ليس مجرد قصة حدثت في الماضي، بل هو الحاضر الذي نعيشه، والمستقبل الذي لم يأتِ بعد.. ربما.
516
| 05 مارس 2025
لم يعد الأمن السيبراني مجرد مسألة تقنية تهتم بها أقسام تكنولوجيا المعلومات في المؤسسات والجامعات، بل أصبح قضية إستراتيجية تمس الأمن القومي، والاستقرار الاقتصادي، والتوازن الجيوسياسي العالمي. فمع تصاعد الاعتماد على التقنيات الرقمية، تزايدت أيضًا التهديدات التي تستهدف الفضاء السيبراني، وأصبحت الهجمات السيبرانية جزءًا من أدوات النفوذ بين الدول، ومنظومة الابتزاز الاقتصادي، وحتى وسائل زعزعة استقرار المجتمعات. فمسألة «الأمن السيبراني» اليوم، لم تعد تدور حول مجرد حماية البيانات أو منع الاختراقات، بل أصبحت معركة مفتوحة تتشابك فيها المصالح الاقتصادية والجيوسياسية، حيث باتت البنية التحتية الرقمية للدول والشركات الكبرى ميدانًا للصراع بين الفاعلين التقليديين والجدد، سواء كانوا دولًا، أو جماعات إجرامية منظمة، أو حتى أفرادًا يمتلكون الأدوات التكنولوجية المتاحة لاستغلال الثغرات السيبرانية. وما يزيد الأمر تعقيدًا، أن الفجوة بين القدرات الدفاعية والقدرات الهجومية في الفضاء السيبراني تتسع باستمرار، مما يجعل الهجمات أكثر تطورًا وأصعب من حيث الاكتشاف والاحتواء. في هذا السياق، جاء تقرير «آفاق الأمن السيبراني العالمي 2025» الذي أعدّه المنتدى الاقتصادي العالمي بالتعاون مع «أكسنتشر»، ليكشف عن واقع شديد التعقيد، حيث تتداخل التوترات الجيوسياسية مع التطورات التكنولوجية، وتتفاقم الفجوات بين المؤسسات الكبيرة والصغيرة، بينما تتنامى الهجمات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، في ظل مشهد تنظيمي غير متناسق يزيد من صعوبة التصدي لهذه التحديات. التقرير لا يكتفي بعرض المخاطر، بل يسلط الضوء على الاتجاهات المستقبلية التي ستعيد تشكيل إستراتيجيات الأمن السيبراني، ويقدم رؤية متعمقة حول كيفية تكيّف المؤسسات والدول مع هذا الواقع المتغير. إن أحد أبرز التحديات التي تواجه الأمن السيبراني اليوم هو اتساع الفجوة بين المؤسسات الكبيرة والصغيرة في القدرة على الصمود أمام الهجمات السيبرانية. فبينما تمتلك الشركات الكبرى موارد مالية وتقنية متقدمة تتيح لها تعزيز دفاعاتها السيبرانية، تفتقر المؤسسات الصغيرة والمتوسطة إلى الإمكانيات اللازمة لمواكبة هذا التصاعد في التهديدات، ما يجعلها نقاط ضعف تُستغل لضرب سلاسل التوريد بأكملها. وتشير الإحصاءات إلى أن 35 % من المؤسسات الصغيرة ترى أن قدرتها على التصدي للهجمات السيبرانية غير كافية، وهو ما يعكس اتساع هذه الفجوة مقارنة بالسنوات السابقة. وفقًا لتقديرات شركة Market and Market المتخصصة في بحوث السوق، فقد بلغ حجم صناعة الأمن السيبراني عالميًا نحو 190.5 مليار دولار في عام 2023. وتشير بيانات The Business Research Company إلى أن الإنفاق على الأمن السيبراني ارتفع إلى 243.15 مليار دولار في عام 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى 267 مليار دولار بنهاية عام 2025. يعكس هذا النمو المتسارع تصاعد التهديدات السيبرانية وزيادة الوعي بأهمية الأمن السيبراني، مما يدفع الحكومات والشركات إلى تكثيف استثماراتها في هذا المجال لحماية بنيتها التحتية الرقمية وضمان استمرارية أعمالها في بيئة رقمية متزايدة التعقيد. تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي سلّط الضوء أيضًا على الدور المتنامي للذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل مشهد الأمن السيبراني، حيث بات يشكل تحديًا مزدوجًا، يجمع بين كونه أداة لتعزيز الدفاعات السيبرانية وسلاحًا قويًا بيد المهاجمين. فمع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، أصبحت الهجمات أكثر تعقيدًا ودقة، لا سيما في مجالات التصيّد الاحتيالي والهندسة الاجتماعية، التي تعتمد على تقنيات التزييف العميق لخداع الأفراد ودفعهم إلى الكشف عن معلومات حساسة. ووفقًا للتقرير، فإن 72 % من المؤسسات شهدت تصاعدًا في الهجمات السيبرانية، حيث تواصل هجمات الفدية (Ransomware) تصدُّر قائمة التهديدات، مستفيدة من القدرات المتزايدة للذكاء الاصطناعي في تطوير أساليب التسلل والاختراق، ما يجعل المواجهة أكثر تعقيدًا ويعزز الحاجة إلى إستراتيجيات دفاعية أكثر تطورًا. على صعيد آخر، فإن التوترات الجيوسياسية تلعب اليوم دورًا رئيسًا في إعادة تشكيل خريطة التهديدات السيبرانية. فمع تصاعد المواجهات بين القوى الكبرى، أصبح الأمن السيبراني ساحة مواجهة غير تقليدية، حيث تستخدم الدول الهجمات السيبرانية كأدوات للتجسس، أو لتعطيل البنية التحتية الحيوية، أو حتى للتأثير على اقتصادات الخصوم. وقد أشار تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن 60 % من المؤسسات اضطرت إلى تعديل إستراتيجياتها السيبرانية بسبب تصاعد هذه التوترات، حيث أصبح التركيز ينصب بشكل متزايد على بناء إستراتيجيات دفاعية أكثر مرونة وقدرة على التكيف مع بيئة غير مستقرة. أمام هذا المشهد المعقد، يبرز التساؤل: أين العرب من كل ما تقدم؟ رغم التحديات الكبيرة التي تواجه العالم العربي في مجال الأمن السيبراني، ثمة بارقة أمل، فقد نجحت العديد من الدول العربية وخاصة الخليجية في ترسيخ موقعها كلاعب محوري في هذه المعادلة واحتلت مراكز متقدمة في التصنيفات الدولية، مستفيدة من استثماراتها الضخمة في تطوير بنيتها التحتية الرقمية وتعزيز أنظمتها الأمنية. وإدراكًا منها بأن الأمن السيبراني لم يعد مجرد مسألة تقنية، بل أضحى جزءًا لا يتجزأ من إستراتيجياتها الوطنية لحماية المصالح الاقتصادية والسيادية، عملت هذه الدول على بناء قدرات دفاعية متقدمة، والتكيف مع التهديدات المتغيرة. ومع ذلك، يظل التحدي الأكبر في القدرة على تطوير منظومات أمنية ديناميكية، تستجيب للتحولات السريعة في الفضاء السيبراني، الذي بات ساحة للصراعات تتجاوز الأبعاد التقنية إلى اعتبارات سياسية واقتصادية وجيوستراتيجية.
726
| 25 فبراير 2025
عندما حاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استدراج الأردن إلى موقف مُحرج، واجهه الملك عبدالله الثاني بدبلوماسية هادئة لكنها حاسمة، مُحبطًا محاولات البيت الأبيض لانتزاع موقف يمكن استغلاله لاحقًا. الجميع يعرف أن هذه الزيارة لم تكن مجرد لقاء بروتوكولي عابر، وهذا أمر يدركه أي متابع بسيط للسياسة والعلاقات الدولية، ولا يحتاج إلى خبراء لفهمه؛ بل كانت اختبارًا شديد التعقيد في ظل إدارة تتعامل مع السياسة بمنطق الصفقات العقارية، حيث تُدار الأمور بالمساومات والضغوط. ومن هنا، فإن قراءة دقيقة لما جرى تكشف عن إدارة حذقة للموقف، نجحت في تفادي الفخاخ دون تقديم أي تنازلات جوهرية. ما أُفصح عنه لاحقًا من داخل البيت الأبيض، لم يكن هناك مؤتمر صحفي مجدول بعد لقاء الملك بترامب. كان الاجتماع مغلقًا، لكن فجأة، ودون سابق إنذار – وهو أسلوب ترامب المعتاد – تم استدعاء الصحفيين. كانت الخطوة محسوبة بدقة؛ فمن يدير السياسة كصفقة عقارية يعلم أن الضغط العلني قد يكون أكثر فاعلية من النقاشات المغلقة. ترامب، بحدسه التفاوضي، سعى إلى دفع الملك الأردني إلى زاوية ضيقة، وإجباره على الإدلاء بتصريح علني حول مسألة حساسة: تهجير الفلسطينيين. أراد الرئيس الأمريكي أن يخلق التزامًا لفظيًا، يمكن لاحقًا استخدامه كضوء أخضر لمخططات لم يُفصح عنها رسميًا بعد. الأردن لطالما كان واضحًا في رفضه لأي مخططات تهجير، لكن التعامل مع إدارة ترامب يختلف عن أي إدارة أمريكية أخرى. نحن أمام رئيس يرى العلاقات الدولية بعيون الصفقات التجارية والعقارية، الربح والخسارة، لا يتردد في استخدام التهديدات الاقتصادية والدبلوماسية لفرض إرادته. وبالتالي، فإن المواجهة المباشرة لم تكن خيارًا حكيمًا، لأن أي “لا” قاطعة كان يمكن أن تتحول إلى ضغوط جديدة على الأردن. لكن الملك عبدالله لم يقع في الفخ، ولم يمنح ترامب ما كان يسعى إليه. بدلاً من ذلك، اختار استراتيجية المناورة الذكية. عندما واجه أسئلة حول التهجير، لم يرفض صراحةً، لكنه حوّل القضية إلى قرار عربي مشترك، مشيرًا إلى أن هناك خطة مصرية-عربية سيتم تقديمها. بهذه الخطوة، نقل القضية من “قرار فردي” إلى “موقف جماعي”، مُصعّبًا على ترامب استهداف الأردن منفردًا. وفي مواجهة الإلحاح الإعلامي، قدّم الملك إجابة غير متوقعة: بدلاً من الحديث عن التهجير، ركّز على استقبال الأردن لـ2000 طفل فلسطيني للعلاج، مُحوّلاً القضية من زاوية “الحل السياسي” إلى زاوية “المسؤولية الإنسانية”، مما أفقد ترامب القدرة على استثمار الموقف لصالح أجندته. صحيح أن الملك لم يكن مرتاحًا في المؤتمر الصحفي. لغة جسده كانت حاسمة، أظهرت رفضًا واضحًا دون الحاجة إلى كلمات مباشرة. في المقابل، بدا ترامب محبطًا، وهو مؤشر على أن خطته لم تؤتِ ثمارها. لكن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد. بعد اللقاء، قامت بعض وسائل الإعلام الأمريكية، وعلى رأسها نيويورك تايمز، بتحريف تصريحات الملك، موحيةً بأنه مستعد لمناقشة آليات التهجير. اللافت أن الفيديو الرسمي للمؤتمر لم يتضمن السؤال أو الإجابة، مما يثير تساؤلات حول وجود حملة إعلامية موجهة لتصوير الأردن في موقف متراخٍ تجاه هذه القضية الحساسة. على المستوى الاستراتيجي، يدرك الأردن أنه ليس في موقع يسمح له بمواجهة واشنطن مباشرة، لكنه في الوقت نفسه يملك أدوات دبلوماسية تمنحه مساحة للمناورة. أبرز هذه الأدوات هو التحرك العربي المشترك، وهو ما أكده الملك خلال اللقاء، في رسالة واضحة مفادها: أي حل يجب أن يكون عربيًا، وليس صفقة منفردة يُمليها البيت الأبيض. رغم الضغوط، خرج الأردن من اللقاء دون تقديم أي تنازل جوهري. لم يوافق الملك على التهجير، ولم يمنح ترامب التصريحات التي كان يسعى إليها. لكنه أيضًا لم يصعّد المواجهة، بل فضّل اللعب وفق قواعد الدبلوماسية الصامتة، حيث تُدار المعارك بالتصريحات المرنة، لا بالمواقف الصدامية. الضغوط الأمريكية لن تتوقف، هذا أمر محسوم. التحدي الحقيقي للأردن سيكون في كيفية إدارة هذه الضغوط خلال الأشهر المقبلة، دون خسارة موقفه الثابت، ودون الدخول في مواجهة قد تكون مكلفة. قد ينتقد البعض عدم استخدام الملك لهجة أكثر صرامة في رفض التهجير، وهو رأي مطروح، لكن السياسة لا تُدار بالشعارات الحماسية، بل بحسابات دقيقة ونتائج ملموسة. والنتيجة هنا واضحة: ترامب خرج من الاجتماع دون أن ينتزع أي تنازل، بينما حافظ الأردن على موقفه بثبات ودون خسائر. إن التعامل مع إدارة ترامب لا يحتاج فقط إلى رفض مباشر، بل إلى بناء استراتيجية متماسكة، تعيد صياغة المشهد وفق المصالح العربية، لا وفق رؤية رئيس أمريكي يرى السياسة كسوق مفتوح للمساومات. الملك عبدالله لم يربح المواجهة بالصدام، بل بتكتيك سياسي منع واشنطن من فرض رؤيتها، دون أن يمنحها فرصة لتصعيد قد يكون مكلفًا. الرهان الآن لا يقتصر على موقف الأردن، بل يمتد إلى قدرة الدول العربية – وخاصة مصر – على تبني موقف مشترك يحبط أي محاولات لإعادة رسم خريطة المنطقة وفق الرؤية الأمريكية. لأن المعركة الحقيقية لا تُحسم في التصريحات الإعلامية، بل في التوازنات السياسية، حيث لا تُحسب المكاسب بالكلمات والخطابات، بل بالنتائج الملموسة.
681
| 13 فبراير 2025
مساحة إعلانية
حينَ شقَّ الاستعمار جسدَ الأمة بخطوطٍ من حديد...
3315
| 04 نوفمبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق...
2577
| 30 أكتوبر 2025
اطلعت على الكثير من التعليقات حول موضوع المقال...
2085
| 03 نوفمبر 2025
8 آلاف مشارك بينهم رؤساء دولوحكومات وقادة منظمات...
1737
| 04 نوفمبر 2025
نعم… طال ليلك ونهارك أيها الحاسد. وطالت أوقاتك...
1539
| 30 أكتوبر 2025
من الطرائف العجيبة أن تجد اسمك يتصدر أجندة...
1224
| 04 نوفمبر 2025
في زحمة الحياة اليومية، ونحن نركض خلف لقمة...
1155
| 29 أكتوبر 2025
تُعدّ الكفالات البنكية بمختلف أنواعها مثل ضمان العطاء...
885
| 04 نوفمبر 2025
تسعى قطر جاهدة لتثبيت وقف اطلاق النار في...
843
| 03 نوفمبر 2025
ما من ريبٍ أن الحلم الصهيوني لم يكن...
768
| 02 نوفمبر 2025
أصدر مصرف قطر المركزي في التاسع والعشرين من...
762
| 05 نوفمبر 2025
أحيانًا أسمع أولياء أمور أطفال ذوي الإعاقة يتحدثون...
759
| 30 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية