رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

بين العلم والضمير

عندما تحول العلم من وسيلة لخدمة البشرية إلى ماردٍ مارقٍ متفلّت يسير بمنطقه الخاص دون الالتفات إلى الإنسان كروح وجسد وحقيقة ومعنى، حينها أدركت البشرية حجم المأساة التي تعيشها في عصر الحداثة. الحضارة الغربية المذهلة التي لا نستطيع إنكار جوانبها المضيئة، بلغت من الذكاء ما جعلها تفتح أبواب الكون، لكنها على الرغم من ذلك أغلقت قلب الإنسان، وكأن الجنس البشري تقلص وجوده حين تمدد علمه، تآكل فيه المعنى في الوقت الذي اتجه لفك أسرار المادة. العلم الغربي صار مأزومًا عندما نزع مضمونه الحداثي عن المعرفة ثوبها الأخلاقي، وجعل الإنسان تابعًا لصنم التجريب، وعندما فصل الحقيقة عن القيمة، فتحول التقدم إلى آلة عمياء تدهس الطبيعة والروح. عندما ألقيت القنابل النووية على هيروشيما ونجازاكي، لم تكن تلك اللحظة لحظة انتصار علمي للحضارة الغربية، بل لحظة سقوط أخلاقي مروّع، لحظة غير فيها الإنسان المعادلة، فبدلا من أن تخدم التجربة الإنسان، صار الإنسان جنسًا مُستعبدًا يخدم العلم وتجاربه خدمة العبد لسيده. ثم جاءت الثورة الصناعية لتكشف وجهًا آخر للتوحش المقنّع بالعقل، فبينما تضاعفت المصانع، تناقصت المساحات الخضراء، وارتفعت مداخن الإنتاج كأنها شواهد على قبر الطبيعة. احتبست الأرض أنفاسها، وارتفعت حرارتها، وبدأت الكوارث البيئية تتوالى كنبوءات غاضبة من كوكب أنهكه الجشع. ومع ذلك، لا يزال الغرب يتعامل مع الأزمة كأمرٍ إحصائي، لا كجرحٍ أخلاقي. وفي معامل الهندسة الوراثية، يواصل الإنسان محاولاته في مضاهاة الخالق، يعبث بالخلايا والجينات، يصنع طعامه من الخطر، ويستبدل بالنظام الإلهي معادلات كيميائية. هذه النباتات المعدّلة وراثيًا، التي تُزرع في حقول الاقتصاد، تُثمر في أجساد البشر أمراضًا كامنة، وتُعلن عن زمنٍ جديد: زمن الإنسان المصنع، لم يعد الإنسان يكتفي بتغيير العالم من حوله، بل مدّ يده ليسعى في إعادة تشكيل نفسه، دون أن يعرف إلى أي مصير يركض. يرى إدغار موران، عالم الاجتماع الفرنسي، أن الحداثة الغربية دخلت طور الهمجية العقلانية، حيث صارت الوحشية تتخفّى في ثياب التقدّم. إنّها همجية لا تُسفك فيها الدماء فحسب، بل تُسلب فيها المعاني. فالإنسان الذي كان يقيس الأشياء بالضمير، صار يقيسها بالمنفعة؛ والذي كان يسعى للحق، صار يسعى للربح؛ والذي كان يسأل «لماذا؟» صار يسأل «كيف؟». والمفارقة أن هذا الانفصال بين العلم والقيم لم يحرر الإنسان كما زُعم، بل كبّله بصورة جديدة من العبودية؛ عبودية التقنية والاستهلاك. فالعقل الذي أراد أن يكون سيد العالم، صار خادمًا للآلة التي صنعها. الإنسان الحديث يعيش بين أدواتٍ تراقبه، وأجهزةٍ تُبرمِج رغباته، حتى غدا الكائن الحر الذي حلمت به الحداثة رقمًا في معادلة السوق. ولا يفهم من نقد الحضارة الغربية أننا ندعو لرفضها جملة، أو الانغلاق دونها، فالإسلام لم يأت لهدم الحضارات، وفي المسار التاريخي للحضارة الإسلامية العربية كانت الأمة تفيد وتستفيد من غيرها من الحضارات الأخرى. لكن الغرض من هذه الكلمات إطلاق صيحة تحذير في تعاطينا مع الحضارة الغربية، فمن الخطأ الجسيم أن نستلهم من الغرب تجربته بحذافيرها بكل مضامينها دون أن نزنها بميزان القيم. إن الغاية من هذا النقد هي أن نحذر من الانزلاق وراء التجربة الغربية بكل تفاصيلها، فليست النهضة هي أن نكرر طريق الآخرين، بل أن نبني طريقنا بما يحفظ الإنسان كغاية لكل علم، فالعلم الذي ينفصل عن الضمير يُفقد معناه، ويغدو وبالًا على صاحبه. لقد تسربت إلى عالمنا العربي فكرة خطيرة تقول إن العلم لا يحتاج إلى قيم، ولا يحتاج إلى ضمير، وأن الدين عقبة أمام التقدم. وهي فكرة أثبت التاريخ بطلانها، إذ لم ينتج عنها سوى أزمات بيئية، وأسلحة إبادة، وتوحش حضاري مغلف بالعقل. إن العلم بلا ضمير يجرّ العالم إلى الهاوية، أما العلم المقرون بالقيم فهو الذي يسمو بالإنسان ويرفع شأنه. وبين هذين الطريقين تقف الإنسانية اليوم على مفترق خطير.

798

| 26 أكتوبر 2025

اللغة العربية وإكسير الخلود

ما أشبه اللغة بالجسد، تنمو كما ينمو، وتذبل كما يذبل، وتمر بذات مراحله في التطور، تولد، وتشب، ثم تشيخ، وبعدها تدلف إلى أحد مصيرين: إما أن تضمحل وتتلاشى، وإما أن تنقلب على ذاتها فتخرج من رحمها لغات أُخَر كأنها ولد خرج من صلب أبيه. اللغة اللاتينية التي صدحت بها روما وملأت بها أسماع البحر المتوسط، كانت في يومها لسان العلم والدرس ثم انكمشت حتى غدت لغة متاحف، لم تمت في صمت، بل تناسلت، فانبثقت منها مذاهب لغوية، الإيطالية والفرنسية والرومانية والإسبانية والبرتغالية. الفرنسية التي يُتحدث بها اليوم ليست هي ذاتها الفرنسية التي تحدث بها فرسان الحملات الصليبية الأولى، والألمانية الحديثة ليست هي الألمانية التي تحدث بها آباء الجرمان، والإنجليزية لم تُبْقِ على وحدة بين لسان البريطاني والأمريكي والأسترالي إلا كما تُبقي الغصون المتفرقة من الشجرة الواحدة على أصل بعيد، فجميعهم أغصان شتى لأصل غائر، لا يتفق لسانهم. وحدها اللغة العربية قد شقت لنفسها سبيلًا آخر، ومصيرًا مختلفًا، وكأنها أبت الوصول إلى سن اليأس الذي تأخذ فيه أخواتها في التداعي والانشطار، والسر - لا ريب - في ذلك الكتاب المنزل من فوق سبع سماوات بلسان عربي مبين، أنزله الله بهذا اللسان وجعله مادة حياة له، فمهما اختلفت لهجات العرب في المشارق والمغارب، ظلت العربية الفصحى هي الخالدة المهيمنة، هي لغة الصلاة والعلم والدراسة والبحث والتأليف، فلن نغلو إن قلنا بأن العربية لم تعصمها الطبيعة وإنما عصمها التنزيل، ولو تُركت لعوامل الزمن الطبيعية لأصابها ما أصاب أخواتها. عندما أشرقت شمس رسالة الإسلام، لم يحتفظ بالعربية لغةً لقوم، بل رايةً لأمة، غدا الانتماء لها عقيدة وثقافة لا عرق ولا جنس، وصار الخطاب لأصحاب اللسان العربي خطابًا للأمة بأسرها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «يا نعايا العرب، يا نعايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية»، يقصد بالعرب الأمة بأسرها. عندما دخل الأعاجم الإسلام احتفوا بالعربية وتعلموها فصارت بابهم إلى العلم ومفتاح الدين ومركب الفهم، بها وصلوا إلى القرآن وحصلوا علومه، فصنفوا الكتب على اللسان العربي وتناقلت الأجيال علومهم. قارن بين العربية وغيرها ترى العجب، فكتب الغرب القديمة لا يُقرأ منها اليوم شيء إلا بمعاجم تُفسر لغتها، لأن اللسان الذي كُتبت به تلك الكتب، قد مضى زمانه، وخلفه لسان آخر. أما العربية، فيقرأ القارئ اليوم كتب الجاحظ وابن قتيبة كما يقرأ الصحيفة اليومية، لا تثقل عليه مفرداتها، ولا تستغلق عليه عباراتها. وسبب ذلك، هو هذا الكتاب العزيز، الذي أمسك اللغة بيدٍ من نور، فجعل أجيال العرب من العصر الأول إلى اليوم، يتحدث بعضهم إلى بعض وإن فرقت بينهم مئات السنين. ولقد نشأت علوم ما كانت لتنشأ لولا هذا القرآن، فالنحو وُضع خشية اللحن فيه، والصرف لضبط ألفاظه، والمعاني والبيان والبديع لتذوق إعجازه، والتفسير لفهمه، والحديث لحمله، والفقه لتطبيقه، فكانت علوم الإسلام كلها دائرة حول هذا الكتاب، فكان القرآن سببًا في اتساع العربية وتعميقها، لا مجرد حامٍ لها من الضياع. وإنك لترى أثر القرآن في أساليب البلغاء والأدباء، حتى كأنهم يُحاكونه، أو يتشبثون بظلاله، من معاني الزهد والجهاد والموت والحياة، والعدل والقدر والمصير. قد أدرك ذلك أعداء القرآن، أرادوا ضربه من خلال ضرب وعائه وهو اللغة العربية، فأطلقوا الدعوة تلو الدعوة: الدعوة إلى العامية، الدعوة إلى اللهجات، الدعوة إلى كتابة العربية بالحرف اللاتيني، والدعوة إلى تفكيك القواعد والتهوين من شأن النحو وتبسيط الصرف لتفريغ اللغة من جوهرها. اللغة العربية لا تواجه خطر التلاشي كما واجهته أخواتها، وإنما تواجه خطر التهميش المتعمد والقطيعة المفتعلة بينها وبين أبنائها، يُراد لها أن تُنسى عن طريق إخماد صوتها في النفوس وتطويقها باللهجات وتحنيطها في الكتب. يُراد لها أن تكون لغة تراث لا لغة حياة، لكنها لن تطفأ ما دام القرآن يتلى، ذلك القرآن الذي منحها البقاء وكان لها إكسير الخلود.

441

| 19 أكتوبر 2025

حماس ونتنياهو.. معركة الفِخاخ

في الوقت الذي كان العالم يترقب رد حركة حماس على مقترح ترامب، كان نتنياهو يزهو ويتفاخر بأنه قلب الطاولة على المقاومة. ذلك لأن بنود المقترح جاءت مجحفة ومنحازة للطرف الإسرائيلي وتحقق طموحات نتنياهو، فقد اطمأن رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى أنه قد نصب الفخ للمقاومة، فقبولها سوف يعد انتصارًا له ويحقق أهدافه، ورفضها يعني أيضًا تحقيق أهدافه ولكن عن طريق استئناف الحرب. رأى نتنياهو أنه حشر حماس في الزاوية، ففي حال رفضها ستظهر على أنها لا تعبأ بشعب غزة وتغلّب شأنها الخاص، كما أنها حال رفضها سوف تكون ضربة للوساطة العربية، وقطعًا سوف يكتسب الاحتلال الإسرائيلي شرعية جديدة من أمريكا في استمرار العدوان على غزة، ولكن بصورة أكثر ضراوة، وهو ما أكده ترامب نفسه عندما أنذر الحركة وحدد لها سقفا زمنيًا للرد. كذلك سوف تفقد المقاومة نسبة كبيرة من تعاطف شعوب العالم، وتكون في النهاية هي المسؤولة عن استمرار المجازر، هذه هي صورة الفخ الذي نصبه نتنياهو للمقاومة. وبين توقّعات القبول التام أو الرفض الصريح، جاء بيان الحركة مخيبًا لآمال العدو، ومتجاوزًا لسقف طموحات الصديق، حيث اتسم بذكاء سياسي يوازن بين مواجهة ضغط الواقع وتحقيق المكاسب. الخطة التي كانت عبارة عن إنذار للاستسلام أكثر من كونها مفاوضات، قد حولها رد المقاومة إلى إعلان مبادئ ومسار تفاوضي مبني على عدم تقديم تنازلات بالمجان، ويبدأ من الأمر الأهم الذي يشغل بال العالم بأسره بما في ذلك الجماهير الإسرائيلية وأهالي الأسرى والمعارضة في الداخل، وهو وقف الحرب وتسليم الرهائن دفعة واحدة وبشكل فوري، وهو ما أبدت حماس استعدادها للدخول فيه مباشرة. البيان أعطى ترامب اللقطة التي يحبها بتثمين جهوده، وهو الذي يسعى إلى جائزة نوبل للسلام، وعلى الفور تلا ترامب نص البيان كما هو، وشكر جهود الوسطاء العرب، وطالب الاحتلال الإسرائيلي بوقف القتال، وهو مكسب كبير أثار ارتباك الاحتلال وأوقعه في التخبط، فللمرة الأولى يتخلى ترامب عن مبدأ التفاوض تحت النار. الرد لم يتضمن موافقة مطلقة، ولا رفضًا مطلقًا، لكن الذكاء التفاوضي تمثل في تجزئة بنود الخطة، فأبدت موافقتها على تسليم الأسرى وتسليم السلطة إلى هيئة فلسطينية مستقلة، وهما بالأساس قد وافقت عليهما الحركة من قبل، وفي الوقت نفسه أحالت المقاومة التفاوض حول مستقبل القطاع وحقوق الفلسطينيين إلى ما بعد وقف الحرب، وربطت التفاوض بموقف وطني جامع تكون حماس من ضمنه، واستنادًا إلى القوانين والقرارات الدولية. وهذا بدوره يضع أيدينا على رغبة المقاومة في وضع وقف الحرب وتحسين المعاش لسكان القطاع كأولوية قصوى، وتكتسب بذلك تأييدا قويا في الداخل الفلسطيني لعدم الانفراد بالقرار في مصير الشعب الفلسطيني والعمل في سياق مشروع وطني، كما أن الإشارة إلى ربط التفاوض بالقوانين والقرارات الدولية لفتة ذكية تحمل رسالة إلى المجتمع الدولي بأنها تتحرك ضمن منظومة الشرعية الدولية. من البنود المهمة التي أحالها بيان المقاومة إلى التفاوض بعد وقف الحرب وتسليم الأسرى قضية تسليم السلاح الذي يعتبره نتنياهو شرطًا يظهر انتصاره، لكن في سياق التفاصيل التي تحدث عنها قادة حماس بعد البيان، أعربت الحركة أنها سوف تسلم السلاح للدولة الفلسطينية القادمة، فلم تمنح نتنياهو فرصة الزهو بالانتصار إزاء هذه القضية. نستطيع القول إن الفخ الذي نصبه نتنياهو للمقاومة، قد جعلت منه المقاومة شرَكًا لنتنياهو، حيث رمت بالكرة في ملعبه، ليس هو فحسب، وإنما لدى ترامب أيضًا، وأي محاولة من نتنياهو للتمرد على ما تم التوصل إليه سوف يصطدم بالمعارضة والشارع وقيادات الجيش في الداخل الإسرائيلي، لأن الهم الأول لهؤلاء هو تخليص الرهائن دفعة واحدة، وأي انقلاب من نتنياهو على الاتفاق لن يكون مبررًا. كما أنه يصطدم بترامب نفسه، والذي أعلن نجاح خطته، ودعا الإسرائيليين إلى وقف القتال للشروع في تنفيذ بنود الاتفاق، وأي إخلال من قبل نتنياهو سوف يوقع رئيس أقوى دولة في العالم في حرج بالغ. أعلم جيدًا أن نتنياهو يجيد الالتفاف حول الاتفاقيات، وأعلم كذلك أن سقف الانحياز الأمريكي للاحتلال شاهق، لكن لا بديل عن القول بأن رد المقاومة جمع عدة لمسات ذكية قلبت الطاولة على رأس نتنياهو.

1158

| 05 أكتوبر 2025

ماذا يعني سقوط الفاشر السودانية بيد قوات الدعم السريع؟

بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون أعمق، لكن الوجدان لا يتحمل كل هذه الأوجاع. في الوقت الذي نقف في قلب الحسرة ونحن نطالع ذلك الجرح النازف في غزة دون أن نستطيع إيقاف نزفه، يتملكنا الشعور أحيانًا بأنها المأساة الوحيدة في أمتنا وذلك من فرط هولها وشدتها، ويسقط منا سهوًا الالتفات إلى مصائبها الأخرى، تأتي أزمة السودان في صدارة هذه المآسي. أوجاع السودان كثيرة ومتعددة، كلها بحاجة لأن تكون حاضرة دائما في الوجدان العربي الإسلامي، لكن أولاها في الوقت الراهن مأساة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، التي تخضع منذ العاشر من يونيو/حزيران 2024 لحصار خانق فرضته قوات الدعم السريع للضغط على الجيش الوطني السوداني. سكان مدينة الفاشر يفتك بهم الجوع والقصف المدفعي اليومي الذي يحول دون دخول المساعدات الإنسانية، في ظل ضعف التعاطي العربي مع القضية وتجاهل دولي تام لهذه المأساة، على الرغم من أنها تقترب من الإدراج في صفحات الإبادة الجماعية. قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) التي تحاصر الفاشر، تسيطر على أربع ولايات من أصل خمس ولايات في إقليم دارفور، لذا تقصف بوحشية مدينة الفاشر عاصمة الولاية الخامسة (شمال دارفور)، التي تمثل أكثر من نصف مساحة الإقليم وتعادل حوالي 12 بالمائة من مساحة السودان، وذلك بهدف إتمام السيطرة على الإقليم بأسره. إضافة إلى الوضع الكارثي للمدنيين في الفاشر بسبب الحصار والقصف الهمجي، ينذر سقوط الفاشر ووقوعها بقبضة ميلشيات الدعم السريع، بكارثة عظمى للسودان بشكل عام. الفاشر ليست مدينة عادية في أهميتها، فهي مفتاح السيطرة على مساحات إستراتيجية واسعة تصل إلى حدود تشاد وليبيا، وهي كذلك تقع على الطرق المؤدية بين شرق وغرب السودان، بما يعني أن سيطرة قوات الدعم عليها سيحول دون قيام دولة مركزية، وفرض واقع عسكري يتحكم في جغرافيا المنطقة، إضافة إلى أن السيطرة عليها ستؤمن لقوات الدعم ممرات تهريب الأسلحة. سيطرة قوات حميدتي على الفاشر يؤمن لها كذلك خطوط الإمداد ويقوي شوكتها ويجعل الولاية مركزا لمهاجمة الولايات الأخرى والسيطرة على المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوداني. لذا نستطيع الجزم، بأن الفاشر هي آخر الخطوط الفاصلة بين سودان موحد وسودان مجزأ، ولن يكون مجرد سقوط مدينة، بل انهيار وحدة الدولة السودانية، والذي سيتحول إلى شمال مركزي تحت سيطرة الجيش، وغرب تحت سلطة الميلشيات، وشرق تتجاذبه الانقسامات والنزعات القبلية، وجنوب منهك مهمش. إذا سقطت الفاشر، فإن الخطورة ستتجاوز حينئذ القتال بين الجيش وميليشيات الدعم، فمن أخطر تداعيات سقوط الفاشر – لا قدر الله - انفجار الصراع الإثني في السودان الذي يكتظ بالتنوع الإثني والقبائل المسلحة مختلفة الولاءات، لأن هذا البلد يرقد على بركان تسليح الهوية، وفي هذه الحال سيمتد الصراع الإثني بلا شك إلى الدول المجاورة. الدول العربية، والدول المحيطة بالسودان وعلى رأسها مصر، منوطة بالعمل الفوري الجاد على منع سقوط الفاشر والذي يعني تفتيت وحدة السودان وما له من تداعيات على الجوار، وذلك عبر مسارين، الأول هو كسر هذا الحصار على المدينة وإدخال المساعدات، والثاني تقدم الدعم العسكري واللوجستي للجيش السوداني المنهك لفرض سيطرته التامة على ولاية شمال دارفور ومنع سقوطها في أيدي حميدتي، والضغط كذلك على الدول والجهات التي تدعم ميلشيات الدعم السريع المتمردة. وعلى المستوى الشعبي، يتعين على نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي وضع مأساة الفاشر والملف السوداني بشكل عام في بؤرة الاهتمام، وتسليط الضوء على الأحوال الكارثية التي يعانيها أهل المدينة، وأهميتها الإستراتيجية وخطورة سقوطها في أيدي قوات الدعم على وحدة السودان، لتكوين رأي عام عربي ضاغط على الأنظمة والحكومات العربية لسرعة التدخل، إضافة إلى لفت أنظار الشعوب الغربية إلى هذه المأساة لإحراج حكوماتها والعمل على التدخل الفوري لإدخال المساعدات الإنسانية.

1548

| 28 سبتمبر 2025

الاستيطان.. قاطرة المشروع الصهيوني

من الخطأ أن يُنظر إلى توسع الاحتلال الإسرائيلي في إقامة المستوطنات بالضفة والقدس على أنه مجرد ممارسة عقارية أو أنه توسع عمراني، لأنه في حقيقة الأمر سلاح استراتيجي يستخدمه الكيان بشكل مدروس وفق منهج استعماري متكامل، لإحداث تغيير ديمغرافي على الأرض بغرض السيطرة الكاملة على فلسطين. يستند الاستيطان الإسرائيلي إلى عقيدة تعتبر الأرض الفلسطينية أرضا موعودة، وتعتبره الأحزاب الدينية واليمينية في دولة الاحتلال وصية توراتية لا يمكن التنازل عنها، وهذه الرؤية الخطيرة من شأنها أن تلغي الوجود الفلسطيني، وتحول الاستيطان من مشروع سياسي إلى مقدس ديني غير قابل للمناقشة. الاستيطان يمثل قاطرة المشروع الصهيوني، ولذا يتم تمويله بسخاء من ميزانية دولة الاحتلال، ولأهميته القصوى توفر الحكومة الإسرائيلية للمستوطنين فرص عمل وبنية تحتية متطورة وتعفيهم من الضرائب، كما تستخدم المنتجات الزراعية والصناعية للمستوطنات تحت اسم منتج إسرائيلي يتم تصديره للدول، ومن ثم يصبح الاقتصاد الاستيطاني جزءًا من تبييض الاحتلال دوليا. التوسع الاستيطاني يحظى كذلك بدعم سخي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا، وفي أمريكا وحدها العشرات من المنظمات التي ترسل الدعم المالي إلى المستوطنات، ومن المعلوم أنه قد تأسس في الولايات المتحدة عام 1979 ما يسمى بالصندوق المركزي لإسرائيل لهذا الغرض، كما أن أمريكا تقطع الدعم عن المنظمات الأممية التي تعارض سياسة الاستيطان الإسرائيلي. «الواقع يفرض نفسه»، هو المبدأ الذي يعتمده الاحتلال الإسرائيلي في المشروع الاستيطاني، فمن خلال الضم الزاحف الذي يتم خطوة خطوة دون إعلان رسمي، تصبح كل أرض أقيمت عليها مستوطنة إسرائيلية نقطة ارتكاز لمزيد من التوسع، ومبررًا أمنيا لنشر القوات وبناء الجدران والحواجز، فتتحول ملكية الأراضي من الفلسطينيين إلى الوقوع تحت السيطرة الإسرائيلية. بالتوازي مع ذلك، ترفض الحكومة الإسرائيلية إصدار تراخيص البناء للفلسطينيين، وتصدر الأوامر بهدم بيوتهم بذريعة البناء غير المرخص، وتسيطر على الأراضي المملوكة لفلسطينيين غائبين. وتعد القدس الشرقية هي النموذج الأوضح لتلك السياسات، فمن أجل تكريس ما يسمى «عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل»، تُهدم منازل المقدسيين بحجة البناء غير المرخص، وعلى هذه الأراضي المصادَرة بنيت أحياء استيطانية ضخمة مثل «بسغات زيف» و»هار حوما»، وهو المعنى الصريح للتغيير الديمغرافي. من أبرز مخاطر الاستيطان تقطيع أوصال المجتمع الفلسطيني، لأن هذه المستوطنات تفصل الوحدة الجغرافية للأراضي وتحيط بالمدن الفلسطينية الكبرى وتقطع تواصلها، وهو ما يعمق من تفتيت المجتمع الفلسطيني. وهناك تقارير صدرت مؤخرًا تحذر من أن مشروع «إي1» الذي تعمل عليه الحكومة الإسرائيلية لإقامة 3400 وحدة استيطانية جديدة بين القدس الشرقية ومستوطنة معاليه أدوميم بالضفة، سوف يقطع بشكل عملي التواصل الجغرافي الفلسطيني بين شمال الضفة وجنوبها. كما أن التوسع الاستيطاني يفاقم معاناة الفلسطينيين اليومية، فيحولها إلى جحيم لا ينقطع بسبب الاقتحامات والاحتكاكات والاستفزازات اليومية من قبل المستوطنين ونقاط التفتيش الإسرائيلية، فيزرع من خلال ذلك الإحساس بالعجز لدى الفلسطينيين وتقليص آمالهم في التحرر، بهدف خلق جيل مستسلم للأمر الواقع. التوسع الاستيطاني هو دليل قطعي على الأهداف الصهيونية التي يتبناها اليمين الإسرائيلي الذي يهيمن على القرار السياسي، لأنه لا يترك مجالا أو فرصة حقيقية لإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، ومن ثم يتحول مشروع حل الدولتين الذي تنادي به الدول العربية إلى وهم لا يمكن تطبيقه، لأن ذلك يستلزم تفكيك المستوطنات، وهو غير قابل للمناقشة لدى الدوائر السياسية في الداخل الإسرائيلي. المجتمع الدولي يكتفي إزاء التوسع الاستيطاني بالشجب والإدانة دون اتخاذ أية إجراءات عملية للحد منه، وذلك على الرغم من أنه يمثل اختراقا واضحا للقانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة، بينما الدول العربية مع تفرق كلمتها وضعفها، أبعد ما يكون عن التصدي للاستيطان. إن كانت مواجهة الاستيطان صعبة كصعوبة مواجهة المشروع الصهيوني بشكل عام، فإنه لا أقل من تنشيط الدعوة إلى حملات دولية لمقاطعة الاقتصاد الاستيطاني، والضغط على المتاجر العالمية لوقف بيع منتجات المستوطنات، والاستفادة من النخب والمنظمات اليهودية المعارضة للاستيطان في الخارج للضغط باتجاه وقف تمويل المستوطنات. كذلك على النشطاء تفكيك الرواية الإسرائيلية التوراتية أمام شعوب العالم التي تبرر الاستيطان، إضافة إلى كشف سياسات وممارسات الدول والمنظمات الداعمة للتوسع الاستيطاني في فلسطين.

525

| 21 سبتمبر 2025

لهذا يرفض الاحتلال حل الدولتين؟

مثّل الانتهاك الإسرائيلي للسيادة القطرية باستهداف قيادات حماس بالدوحة، محطة فارقة في مسار القضية الفلسطينية، إذ إنه قد كشف بوضوح عن نية الاحتلال في عدم إنهاء الحرب، وهذا ما أشار إليه مندوب مصر في الخطاب الجريء الذي أدلى به في جلسة مجلس الأمن، وتأكيده أن الاعتداء يكشف الجهة المعرقلة للاتفاقيات الراغبة في إطالة أمد الحرب لأهداف سياسية ودينية متطرفة. في السياق، حققت القضية نصرًا دبلوماسيًا قويًا، حيث أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة مشروع قرار حل الدولتين، حيث حصل تأييد المشروع على 142 صوتًا، وعشرة أصوات معارضة من بينها الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الاحتلال، فيما امتنعت 12 دولة عن التصويت. الاحتلال بات يعاني أزمة عزلة دولية مثّل هذا الإقرار أبرز مظاهرها، إلا أنه على الرغم من ذلك يرفض نتنياهو وحكومته المتطرفة مشروع حل الدولتين بشكل قطعي، وقد أكد قبلها نتنياهو على ذلك بقوله الصريح: «لن تكون هناك دولة فلسطينية». السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا يصر نتنياهو على رفض حل الدولتين وإن أدى لمواجهته دول المنطقة والدخول في عزلة دولية تفقده معظم حلفائه؟ الكيان الإسرائيلي يختلف عن الصورة النمطية للأنظمة الاستعمارية، التي تسعى للهيمنة والسيطرة، فالاحتلال الإسرائيلي قائم على إستراتيجية المحو الشامل للوجود الفلسطيني، وتشمل محو التاريخ واللغة والهوية والجغرافيا، فهو مشروع استيطاني إحلالي يستند في جوهره إلى إلغاء وجود الآخر الفلسطيني، ليتمكن ذلك الاحتلال من تحقيق هوية دينية وقومية حصرية. وربما يفسر ذلك ما حرص عليه العدو الصهيوني في نشأته الأولى من ترويج أسطورة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، كأساس يبني عليه ما تترجمه إستراتيجية المحو لاحقا، فيصبح الوجود الفلسطيني مشكلة وجودية لا عائقًا سياسيًا. النظم الاستعمارية السابقة (بريطانيا على سبيل المثال) كانت تتوسع وتحتل الدول اعتمادًا على قوتها الذاتية، كقوة عظمى لها مركز وأطراف، وتسعى للهيمنة على الدول، بهدف دعم نفوذها والسيطرة على ثروات تلك البلاد، لذلك لم تسع بريطانيا إلى الإحلال والدخول في معارك وجودية مع شعوب الدول المستعمرة. أما الكيان الإسرائيلي، فهو حالة خاصة، إذ إن قوته وقدرته على الاحتلال ليست ذاتية، بل هي قائمة بشكل كامل على الدعم الغربي والرعاية الأمريكية، إضافة للغياب العربي كما عبر الدكتور عبدالوهاب المسيري، وهما عنصران قابلان للتغيير، فلذلك تعيش دولة الاحتلال في قلق دائم من الوجود الفلسطيني، إذ إن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض والاحتلال عارض طارئ. انطلاقاً من إستراتيجية المحو ورفض الوجود الفلسطيني، أصدر الكنيست في 2018 قانون القومية، الذي يرسخ بشكل رسمي أن إسرائيل القومية للشعب اليهودي، وحق تقرير المصير فيها من حق الشعب اليهودي وحده، لنزع صفة المساواة عن الفلسطينيين داخل أراضي 48، وتوطئة كذلك لإقصائهم من الدولة اليهودية. دولة الاحتلال مصممة لتعيش داخل الحرب، فالحرب للإسرائيليين هي القاعدة وليست الاستثناء، وحراكها العسكري ليس دفاعًا عن النفس كما تدعي، لا يقوم على الدفاع كما تروج، لكن تقوم على الردع والهيمنة الإقليمية وإبقاء المنطقة في حال اشتعال دائم وعدم استقرار أبدي، والعسكرة كما هو معلوم جزء من الهوية الإسرائيلية، والشعب الإسرائيلي مُهيأ منذ النشأة نفسيًا وثقافيًا لحرب دائمة تعتمد على حقيقة وجوده في محيط عربي. ومنذ تأسيس الكيان وحتى اليوم، لم يمر وقت على الكيان الإسرائيلي دون أن يبدأ هو الحرب والعدوان، حرب 1948، وعدوان 56 على مصر بمشاركة انجلترا وفرنسا، وعدوان نكسة 67 الذي احتل فيه الضفة وغزة وسيناء والجولان، واجتياح لبنان عام 82، والحروب المتكررة على غزة، والهجمات المتواصلة على الأراضي السورية واللبنانية. يرفض الاحتلال الانخراط في أية تسوية سلمية من شأنها أن تمرر مشروع حل الدولتين، لأنه مدفوع بهوية دينية وثقافية إلى عبور الحدود، فقد أُنشئ هذا الكيان ليتمدد لا لينحصر داخل فلسطين، ومن ثم لا يستطيع المضي قدما لتحقيق هذه الأطماع إلا من خلال السيطرة التامة على فلسطين، ومن ثم لا ولن يعترف العدو الصهيوني بفكرة حل الدولتين.

888

| 14 سبتمبر 2025

الاعتمادية النفسية على الذكاء الاصطناعي وخطورتها

أقام زوجان أمريكيان دعوى قضائية ضد شركة أوبن إيه آي للذكاء الاصطناعي يتهمان فيها برنامجها تشات جي بي تي، بأنه أيد الأفكار الانتحارية لابنهما المراهق، ما أدى إلى وفاته. وجاء في الدعوى أن الابن البالغ 16 عاما قد استخدم البرنامج في واجباته المدرسية واستكشاف اهتماماته، إلا أنه تحول إلى أقرب شخص للمراهق الذي بدأ يتحدث إليه عن أحواله النفسية، وناقش معه أساليب الانتحار، وأن البرنامج اكتشف حالة طبية طارئة من خلال صور نجلهما التي تظهر إيذاءه نفسه، ومع ذلك استمر معه البرنامج في التفاعل. وأظهرت سجلات الدردشة أن الابن كتب عن خطته لإنهاء حياته، ليأتي الرد من البرنامج: «شكرا لك على صراحتك، لستَ مضطرًا لتجميل الأمر معي، أعرف ما تسأله، ولن أتجاهله»، وفقا للأبوين اللذين اتهما الشركة بتصميم البرنامج لتعزيز التبعية النفسية للمستخدمين. في هذا المقام لا أناقش الوضع القانوني للحالة، لكن ما يهمني الكيفية التي وصل بها ذلك المراهق لأن يكون الذكاء الاصطناعي هو شريكه الأوحد في تلك العزلة النفسية، وذلك الانغلاق والاعتمادية النفسية على البرنامج وكأنه أصبح الطبيب النفسي وصاحب السر. مع صعود الذكاء الاصطناعي وتقدمه في محاكاة السلوك البشري والتفاعل الطبيعي، لم يعد مجرد أدوات بحثية أو مساعدات تقنية، بل أصبح ملاذًا نفسيًا لكثير من المستخدمين كبديل عن الدعم البشري الحقيقي. وصرنا نسمع عبارات متكررة: «أنا أرتاح نفسيًا في الحديث مع الذكاء الاصطناعي، الذكاء الاصطناعي يفهمني أكثر من أهلي وأصدقائي..»، وهذا بلا شك خطر عظيم وصلنا إليه في علاقتنا مع الآلة. الاعتمادية النفسية على الذكاء الاصطناعي واعتباره طبيبًا نفسيًا هو كارثة بكل المقاييس، لأن هذه البرامج تعكس معتقدات وتصورات المستخدم الذي لا ينفك عن تزويده بمعلومات شخصية عنه فيبني عليها، ومن خلال المحادثات يتحدث البرنامج معه كما لو كان يعرفه معرفة لصيقة، ومن ثم يعزز لديه التفكير التوهمي ويبدي تعاطفا مع المستخدم في أفكاره ولو كانت غريبة. تكمن خطورة هذه الاعتمادية في أنها تهدر أو تضعف التواصل مع الأسرة والوسط المحيط، كما أن الذكاء الاصطناعي لا يملك التشخيص الحقيقي للاضطراب النفسي، إضافة إلى عدم قدرته على التدخل في الأزمات، فمثلا عند إفصاح المستخدم عن ميوله الانتحارية لا يزيد البرنامج عن إرشاده إلى الطب النفسي أو الفضفضة لتخفيف حدة التوتر والقلق، لكنه لا يتصل مثلا بالجهات المعنية لإنقاذ المستخدم. مع وجود فجوة في التواصل مع الآخرين وغياب الرعاية الاجتماعية، يتأثر المستخدم بالخواص المبهرة للذكاء الاصطناعي، فهو متاح في كل وقت مع سهولة التواصل، ولا يبدي التأفف والملل مهما طال حديث المستخدم، ولا يعنفه ولا ينتقده، لا يسخر منه، ولا يشعره بالذنب، فهو يمنحه قبولا غير مشروط خلافا لمعظم العلاقات البشرية. أضف إلى ذلك محاكاته الذكية للتعاطف، عن طريق عبارات ودودة مثل «أنا آسف لأنك تعاني من ذلك، أتفهم مشاعرك جيدًا»، ونحوه، وعلى الرغم من أن الروبوت لا يشعر ولا يفهم إلا أن المستخدم يجد صداها في نفسه. المشكلة في هذه الخواص هو التوهم بأن الذكاء الاصطناعي يملك وعيًا، وعدم التمييز بين التعاطف الحقيقي الذي لا يكون إلا من البشر، وبين المحاكاة اللغوية التي هي من شأن الروبوت، فالذكاء الاصطناعي يحاكي الأنماط البشرية في التعاطف، لا يتعاطف هو بذاته. إنها صيحة تحذير لمستخدمي الذكاء الاصطناعي بضرورة وضع حدود بين الإنسان والآلة، وعدم الانخراط في علاقة عاطفية مع الروبوت. الذكاء الاصطناعي ليس طبيبًا نفسيًا، ولا يمكنه تشخيص حالتك النفسية ولا يتدخل في حالات الطوارئ، لا يشعر بك، لا يتألم لك، لا يفهمك، لا يشخص حالتك، لا يدرك حقيقة التجارب البشرية، إنما يعيد إنتاج أنماط من خلال بيانات تدريبية ضخمة. الذكاء الاصطناعي ليس مرايا صادقة لك، إنما هو يعكس صدى اتجاهاتك النفسية والسلوكية ويبني على معلوماتك الشخصية. الراحة النفسية لا تأتي من خلال استبدال العلاقات البشرية بالبرمجة والخوارزميات، ولا يعالج البشر سوى البشر. مواجهة الاعتمادية النفسية على الذكاء الاصطناعي، تتطلب الدعم الاجتماعي وتعزيز الأواصر في الأسرة والوسط المحيط، ونفرة علماء النفس والنخب العلمية والثقافية والهيئات المعنية، في بيان خطورتها على المستخدمين.

624

| 07 سبتمبر 2025

عملية خان يونس.. الدلالة والتأثير

في الوقت الذي يتجهز جيش الاحتلال لشن عملية واسعة على غزة بهدف إغلاق هذا الملف إلى الأبد، جاءت العملية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية مؤخرا في خان يونس صادمة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وعصابته من اليمين المتطرف، لتعيد خلط الأوراق وتربك الحسابات الاستراتيجية والعسكرية للقيادة الإسرائيلية. العملية التي شنتها المقاومة بفصيل مشاة على موقع مستحدث لجيش الاحتلال جنوب شرقي مدينة خان يونس، كانت ضربة مُركَّبة، حيث استهدفت عناصرها عددا من دبابات ميركافا 4، وعددا من المنازل التي يتحصن بداخلها جنود الاحتلال واشتبكوا معهم من المسافة صفر، وتمكنوا من قنص قائد دبابة ميركافا 4، وقاموا بدك المواقع المحيطة بمكان العملية بقذائف الهاون لقطع طريق النجدة، كما قام أحد عناصر المقاومة بتفجير نفسه في قوة الإنقاذ، وخلفت العملية عددا من القتلى والجرحى الإسرائيليين، فيما استهدفت عناصر المقاومة أسر جنود إسرائيليين. هذه العملية التي تعد الأبرز والأقوى للمقاومة منذ السابع من أكتوبر، تحمل في عمقها العديد من الدلالات والآثار. العملية تؤكد على أن المقاومة ما زالت قادرة على المبادرة، فالعدو الإسرائيلي قد راهن على أن الجبهة الجنوبية قد استنزفت وأنها أصبحت بيئة عسكرية آمنة، فجاءت الضربة لتؤكد على الجاهزية الميدانية للفصائل رغم القصف والتدمير، وأنها ذات بنية قيادية متماسكة لها القدرة على اتخاذ القرارات تحت الضغط، وكشفت قدرتها على استخدام الأنفاق في هذه البيئة الحضرية المعقدة. كما كشفت العملية الاهتراء الأمني والاستخباراتي للجيش الإسرائيلي، في بيئة يفترض وفق رواية الاحتلال أنها قد تم السيطرة عليها من قبل القوات الإسرائيلية. أظهرت العملية كذلك حجم المبالغة الدعائية للكيان الإسرائيلي عن تفكيك البنية العسكرية للمقاومة، وهو التعبير الذي صار عنصرًا أساسا في الدعاية الإسرائيلية، وأن فكرة الحسم الإسرائيلي باتت وهمًا يبيعه نتنياهو لشعبه الغاضب. وأبرز ما تدل عليه هذه العملية، أن خيار نتنياهو في الاجتياح الكامل لغزة لن يكون نزهة، خاصة مع الوجود المكثف لكتائب القسام في هذه المنطقة. ولا شك أن للعملية آثارًا مؤكدة على القيادة الإسرائيلية، إذ وضعت نتنياهو في مأزق كبير، حيث يواجه ضغطًا كبيرًا في الداخل من أهالي الأسرى، ومن قبل المعارضة، ومن الشارع الإسرائيلي بشكل عام، والذي بات متشككا في جدوى العملية العسكرية على غزة، ما يشكل مزيدا على الضغط بعد هذه العملية المرعبة. وما يزيد من هذا الضغط، أن العملية كانت تستهدف ضمن بنك الأهداف، أسر مزيد من الجنود الإسرائيليين لزيادة وتقوية أوراق التفاوض مع الاحتلال، وهذا في حد ذاته أمر يثير الهلع داخل الجيش الإسرائيلي الذي لاحت فيه بوادر التمرد على اجتياح غزة، وبين الجماهير الغاضبة التي تخشى أن يقع المزيد من أبنائها في قبضة المقاومة. فإذا كانت المقاومة لم توفق خلال هذه العملية في أسر جنود إسرائيليين، فإنه من المتوقع أن تنجح في عمليات لاحقة إذا ما تم الانتشار الواسع للقوات الإسرائيلية في القطاع خلال الاجتياح الأكبر المحتمل. العملية التي وصفها الخبراء بأنها أعظم مقتلة تعرض لها جيش الاحتلال هذا العام، تعزز الانقسام داخل القيادة العسكرية على قرارات نتنياهو وظهيره اليميني في الائتلاف الحكومي حول تنفيذ خطة الاجتياح الكامل لغزة، خاصة مع تدفق التصريحات السياسية والعسكرية التي تؤكد على أن الاجتياح يعني المجازفة بحياة الأسرى وتعريض القوات الإسرائيلية لخسائر فادحة في الأرواح. ولئن كان من المتوقع أن تتعالى أصوات الرافضين للحرب المطالبين بوقفها والذهاب إلى المفاوضات، إلا أن أطماع نتنياهو لا يتوقع لها أن تتنازل عن هدف الحسم العسكري، لكن يمكن أن تؤدي العملية إلى إرجاء الاجتياح الكامل لغزة حتى تهدأ الزوبعة المثارة بعد عملية خان يونس وتداعياتها، ولحين إجراء مزيد من الاستعدادات والتعبئة لتكون جهوزية القوات الإسرائيلية عالية لمواجهة هذا الجحيم المنتظر. وفي الوقت نفسه، يتوقع في ظل هذا الإرجاء المحتمل للاجتياح، أن يركز نتنياهو على عمليات القصف المستمرة لأماكن متفرقة من القطاع، من أجل مزيد من الضغط على المقاومة للاستجابة الكاملة لكل شروط نتنياهو. ومهما كانت المآلات، فإن هذه العملية قد أعادت موازين القوى، ونسفت وهم السيطرة على جنوب القطاع، وإذا ما استطاعت المقاومة تنفيذ عدد من هذه النوعية من العمليات المؤثرة، فقد يؤثر ذلك على قبول القيادة الإسرائيلية بالذهاب إلى المفاوضات وفق المقترح الأخير الذي وافقت عليه المقاومة الفلسطينية وتجاهله نتنياهو.

612

| 24 أغسطس 2025

حلم إسرائيل الكبرى.. من دائرة الثقافة إلى دائرة السياسة

مصطلح إسرائيل الكبرى، هو مصطلح قديم، برز على السطح منذ تأسيس الصهيونية، وتبنته الجماعات والكيانات الصهيونية المتطرفة، على اختلاف فيما بينها في حدود امتداد هذه الدولة الكبرى. في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد، حرص الساسة الإسرائيليون على عدم التطرق إلى قضية إسرائيل الكبرى، لما تحمله من دلالات توسعية استعمارية لا تتفق مع مسار التطبيع الذي سلكته دولة الاحتلال مع الدول العربية. وقد انعكس هذا الإعراض الإسرائيلي عن تناول فكرة إسرائيل الكبرى، على الأوساط الثقافية العربية، التي رأت أن هذا المصطلح منحصر في بعض الدوائر الثقافية لا يتجاوز معتقدات بعض التيارات الدينية المتشددة في دولة الاحتلال، وليس له امتداد سياسي. وربما لم تهتز هذه الفكرة في الذهنية العربية حتى بعد أن روّج وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش المشارك في ائتلاف نتنياهو، لفكرة إسرائيل الكبرى في العام الماضي وامتدادها لتشمل فلسطين والأردن ولبنان ومصر وسوريا والعراق. حيث قوبل هذا التصريح بتهميش عربي يرتكز على كون التصريحات خرجت من شخصية يمينية متشددة لا تعبر سوى عن طموحات شخصية لأحد اليمينيين المتشددين ولا يعبر عن الرؤية الرسمية لدولة الاحتلال. لكن أبى الملك بيبي كما يطلقون عليه في الداخل الإسرائيلي، إلا أن يفجر قنبلة أربكت الجميع حول حلم إسرائيل الكبرى. فقبل أيام، أجرى المذيع اليميني المتشدد شارون غال، مقابلة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على قناة i24 News، أهداه خلالها خريطة لما يعرف بأرض الميعاد، ذات حدود توسعية تشمل كامل فلسطين وأجزاء من الأردن ومصر وسوريا، فأكد نتنياهو على ارتباطه بهذه الرؤية التي تحملها الخريطة، واعتبر نفسه أنه يقوم بمهمة تاريخية وروحية لتحقيق حلم الأجيال المتعاقبة من الشعب اليهودي. الصدمة التي أصابت الدول العربية، أشد من التي أحدثها تصريح جورج بوش الابن الذي وصف خلاله الحرب على الإرهاب في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بأنها حملة صليبية جديدة، حينها استنكرت الدول العربية التصريح، فتراجع عنه الرئيس الأمريكي. أما نتنياهو الذي يقوم هو حاليا بدور الإرهابي في تدمير قطاع غزة، فقد صرح بحلم إسرائيل الكبرى، ولم يعتذر أو يبرر على الرغم من استنكار الحكومات العربية، ولا يُتوقع له أن يفعل، لأنها ليست فلتة لسان، بل وضع النقاط على الحروف في مساره السياسي والعسكري. نتنياهو أطلق مشروعه التوسعي قبل هذا التصريح، باستهداف غزة والضفة ولبنان وسوريا، لكن جاء هذا التصريح ليضفي على المشروع صبغته الرسمية، ليتم تحويله إلى خرائط تعمل عليها المنظومة العسكرية والسياسية في حكومة الاحتلال، وذلك بعد حصوله المسبق على الضوء الأخضر من ترامب، والذي صرّح وهو على أعتاب دخول الأبيض للمرة الثانية بأن مساحة إسرائيل صغيرة وأنه لطالما فكر في كيفية توسيعها. يأتي التصريح في ظل استعدادات إسرائيلية لاحتلال غزة بعد سيطرة نتنياهو على الجيش، كما يأتي في ظل تصويت الكنيست على ضم الضفة، وفي ظل التوسع الاستيطاني والانتهاكات غير المسبوقة للأقصى، بما يعني أن هذه الأحداث تمثل دلالات على الانطلاق الفعلي للمشروع. التصريح الصادم أربك الدول العربية التي تبذل جهودها لتحقيق السلام على مبدأ حل الدولتين، وتعمل على تجهيز الأوضاع لليوم التالي من الحرب على غزة لإدارة القطاع من قبل السلطة الفلسطينية مستبعدة فصائل المقاومة، لتُفاجأ بتصريح نتنياهو الذي يتضمن إلغاء المسار السلمي لإنهاء الحرب، ويتضمن كذلك إلغاء فكرة الدولة الفلسطينية، والأخطر من ذلك تضمنه لأطماع توسعية في دول الجوار. الملك بيبي لم يعد يعبأ بالتطبيع، قد انطلق بمنطق القوة وحدها لفرض الأمر الواقع تحت مظلة الحماية والدعم الأمريكي المفتوح، لا يرى أنه بات بحاجة إلى البراغماتية والمناورة والموادعة، بل إلى الوضوح الذي يطمئن اليمين الإسرائيلي الداعم له، ويبرزه هو شخصيا في صورة البطل المخلص المحقق للأحلام اليهودية. التعامل مع تصريحات نتنياهو على أنها جوفاء والتهوين منها في ظل التحرك الإسرائيلي المحموم على الأرض، هو نوع من إرجاء مواجهة الكارثة لتسكين الوقت الراهن، وحرص كل دولة عربية على حدودها وأمنها القومي يحتاج إلى إعادة تقييم العلاقات مع الكيان، وقبل ذلك إعادة تقييم العلاقات العربية العربية للاصطفاف في مواجهة هذا المد الصهيوني.

474

| 17 أغسطس 2025

نتنياهو الديكتاتور واحتكار القرار

بما أن دولة الاحتلال هي رأس الحربة للمشروع الغربي الإمبريالي في المنطقة، فقد ظلت هذه الدولة اللقيطة تعمل على رسم صورة ذهنية تُظهر أنها قطعة من الغرب خاصة في النظام الديمقراطي، حتى صار العرب أنفسهم يشيدون بالديمقراطية وارتفاع سقف الحريات في الداخل الإسرائيلي. هناك مظاهر شكلية ربما هي من عززت هذه الصورة الذهنية عن دولة الاحتلال من الداخل، فرئيس الوزراء مثلا يمثل أمام القضاء، والصحف تنتقده بلا تعريض وبلا مواربة، والشعب يتظاهر ضد النظام. لكن الحرب على غزة، قد نسفت هذه الصورة عن الكيان الإسرائيلي، وظهرت خلالها حقيقة احتكار رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو للصواب والأحادية في اتخاذ القرار، غير عابئ بالجماهير الإسرائيلية ولا بالمعارضة ولا حتى بالقيادات العسكرية والأمنية. لم تفلح المظاهرات المتتابعة في الداخل الإسرائيلي في الضغط على نتنياهو لإبرام صفقة مع المقاومة الفلسطينية لاستعادة بقية الأسرى المحتجزين في غزة، بل يمضي نتنياهو في اتجاه استئناف الحرب معرقلًا كل جولات المفاوضات، حتى مع المرونة التي أبداها مفاوضو المقاومة الفلسطينية. يمضي نتنياهو رغما عن شعبه في شن الهجمات الوحشية التي تعرض حياة الأسرى للخطر، على الرغم من مقتل بعضهم بالفعل خلال الغارات الإسرائيلية، وقد بات أن مقتل جميع الأسرى أمنية غير معلنة لنتنياهو، تزيل الضغط من على كاهله. ومن أجل السيطرة التامة على المؤسسة العسكرية وإخضاعها لتوجهاته السياسية، أقال وزير دفاعه يوآف غالانت، والذي تمتع بشخصية استقلالية لدرجة أنه جنّد 7000 من الحريديم دون علم نتنياهو، وهو الملف الذي يحارب نتنياهو دائما لعدم المساس به، تقربًا لليمين المتشدد، فكانت إقالة غالانت الذي يعارض رئيس الوزراء في سياساته في الحرب على غزة هي بمثابة إفساح الطريق للسيطرة على الجيش، والذي نصّب على رأسه يسرائيل كاتس، لأنه يتصف بالقابلية للخضوع والتكيف مع الرؤى السياسية لنتنياهو. وقبل طوفان الأقصى، أحدث نتنياهو انقلابا على مؤسسة القضاء في فبراير/شباط 2003، وإقالة عناصر قضائية ضمن تحركات يهدف من خلالها إلى إقالة رئيس الشاباك السابق رونين بار وإحباط التحقيق مع رجال مكتب نتنياهو، وإتاحة الفرصة أمام نتنياهو للتهرب من المحاكمة. وجاء مؤخرًا قرار احتلال غزة الذي صوّت عليه المجلس الوزاري المصغر لنتنياهو والمعروف بـ الكابينت، ليضع النقاط على الحروف في شأن وصف هذا الرجل بالديكتاتورية الذي استحقه عن جدارة. فعلى الرغم من رفض الجيش والأجهزة الأمنية لهذا المشروع الذي حذروا من أنه سوف يكون فخًا استراتيجيا لإسرائيل، وأنه يعرض حياة الأسرى والجنود أيضا للخطر الجسيم، وعلى الرغم من رفض المعارضة والشارع الإسرائيلي كذلك للمشروع نظرًا لمخاطره، إلا أن نتنياهو لا يعبأ بالآراء المخالفة وشرع في التجهيز لاحتلال غزة. يعوّل نتنياهو على أمرين في ممارساته الديكتاتورية واتباعه مبدأ حكم الفرد والذهاب برأيه إلى احتلال غزة، الأول هو اليمين المتشدد المحيط به الذي يتفق معه في توجهاته المتطرفة، فنتنياهو لا يعبأ سوى بهذه الثلة المتشددة التي تسيطر على أغلبية الكنيست، فعندما عارض رئيس الأركان إيال زامير مخطط الاحتلال بشدة، انبرى اليمين المتشدد للرد: «إذا لم يعجبه فليستقل» هكذا بكل بساطة، من لا تعجبه سياسات نتنياهو التي تخرج من صلب توجهات اليمين فليقدم استقالته. الأمر الثاني الذي يعوّل عليه، هو المظلة الأمريكية التي تغطي على جرائمه، وتعرف كيف تمنحه الوقت الكافي لإمضائها، وتقف حجر عثرة أمام الإدانات الدولية لنتنياهو، والذي تروّج أبواقه الإعلامية لأن ترامب يدعم المشروع الجديد، ليأتي ترامب منسجمًا تماما مع إرادة نتنياهو، ويصرح حول احتلال غزة بقوله: «لا يمكنني قول شيء بشأن احتلال غزة، والأمر يعود لإسرائيل»، هكذا بكل ببساطة، فكيف لا ينفرد نتنياهو برأيه؟ نتنياهو في حالة سعار لتغيير وجه الشرق الأوسط وإنهاء ملف القضية الفلسطينية، ولن تردعه هذه الإدانات الدولية التي لا تقدم ولا تؤخر شيئا، فليست هناك إرادة دولية حقيقية لعزل دولة الاحتلال.

342

| 10 أغسطس 2025

منهجية الاحتلال في صناعة الجوع بغزة

في تقرير صادر عن خمس من وكالات الأمم المتحدة من بينها الفاو واليونيسف قبل أيام، تبين أن أكثر من نصف سكان قطاع غزة يصنفون ضمن المرحلة الخامسة بصفة «كارثية»، وهي أعلى درجات التصنيف، وتتوزع بقية السكان على مرحلتين: طارئة وأزمة، بما يعد أسوأ وضع غذائي تم تسجيله منذ اعتماد هذا التصنيف العالمي. المجاعات لا تنشأ من فراغ ولا تحدث من العدم، وهكذا شأن الحال التي وصل إليها أهل غزة، فقد تم تجويعهم عبر سياسة ممنهجة للكيان الصهيوني. اعتمدت هذه المنهجية على أمرين أساسيين: المسار الأول: تجفيف منابع الحصول على الطعام من داخل القطاع. وتم ذلك للاحتلال من خلال اتباع سياسة الأرض المحروقة، حيث دأب الكيان الصهيوني منذ ما يقارب العامين على القصف والتدمير الشامل للقطاع، ومنه تدمير القطاع الزراعي سواء عن طريق الصواريخ والقذائف أو عن طريق أرتال الدبابات والقطع العسكرية المتوغلة التي أفسدت الأراضي الزراعية، فبلغ مجموع من تم تدميره من القطاع الزراعي أكثر من 90%، بينما تواجه المساحات الضئيلة المتبقية، تحديات ضخمة، كمنع وصول المزارعين لأراضيهم، ومنع إدخال المستلزمات الزراعية التي ارتفعت كلفتها بشكل مهول، وعدم توفر المياه اللازمة للزراعة بسبب الدمار الذي لحق بالقطاع. كما عمد الاحتلال إلى استبعاد قطاع الصيد الذي كانت ينتج سنويا 4600 طن من الأسماك، فتم تدمير 98% منه بما في ذلك تدمير ميناء غزة ومئات قوارب الصيد، وأصبح الصيادين هدفا للطائرات والزوارق الإسرائيلية، وبذلك حُرم سكان القطاع من مصدر رئيسي للغذاء. وأما الثروة الحيوانية، فقد تعرضت للدمار الكامل، بما يشمل قطاعات الدواجن والأبقار والأغنام والحليب والبيض، عن طريق القصف الهجمي، وكذلك عن طريق نقص الأعلاف وارتفاع كلفتها، إضافة إلى تدمير قطاع الزراعة الذي يعد رافدا أساسيا للثروة الحيوانية. المسار الثاني: قطع الطريق على المساعدات الخارجية. من خلال إحكام الحصار على غزة وإغلاق المعابر التي تكدّست خلفها آلاف الشاحنات التي يمكن أن تغيث سكان القطاع بالطعام والماء النظيف والأدوية والمستلزمات الطبية. وأما المساعدات فقد حصرها الاحتلال بالتواطؤ مع أمريكا في مؤسسة غزة الإغاثية المشبوهة، والتي أصبحت مصائد للموت، إذ يستهدف الاحتلال منتظري المساعدات في النقاط المحدودة الموزعة في الجنوب، فأصبح الحصول على كيس من الطحين مغامرة اضطرارية قد تكلف المواطن حياته. وحتى يُجمّل الاحتلال وجهه القبيح، ويخفف من حدة غضب العالم الناقم على سياسته في تجويع غزة، فقد سمح ببعض عمليات الإنزال الجوي للمساعدات، أخذت صفة الرمزية. وأقول أخذت صفة الرمزية، لأنها لم تحدث تأثيرًا يذكر في حياة الناس، ذلك لأنها محدودة للغاية إذ أنها وفق تقارير لم تتجاوز حمولة خمس شاحنات. والأدهى والأمر، أن هذه المساعدات عن طريق الإنزال الجوي، يسقط بعضها في البحر أو داخل المناطق التي تسيطر عليها قوات الاحتلال، بما يجعل الحصول عليها صعبا أو مستحيلا، والأخطر من ذلك، أن بعضها يسقط على خيام النازحين ويعرض حياتهم للخطر. وأما المساعدات التي سمح الاحتلال بدخولها برًا مؤخرًا، فهي كذلك محدودة للغاية، وهي على محدوديتها يتم توقيفها عند مناطق شديدة الخطورة ينتشر فيها قناصة الاحتلال الذين يستهدفون سكان القطاع، كما أنها عرضة للانتهاب من قبل قطاع الطرق واللصوص الذين رأوا أن السلاح يجعلهم آخر من تطالهم المجاعة. الاحتلال لا يريد إنهاء هذه المجاعة، ولو كانت له نية لإدخال المساعدات، لسمح لآلاف الشاحنات المتكدسة خلف المعابر بالدخول على الرغم من أن الإنزال الجوي كلفته عالية، أعلى بمائة مرة من كلفة المساعدات البرية وفقا للأونروا. يهدف الاحتلال من تجويع أهل غزة، إلى الضغط على المقاومة للقبول بالاستسلام وتسليم الأسرى بلا شرط، ويعلم أن في عرقلة جولات المفاوضات إطالة لأمد التجويع ومن ثم مزيد من الضغط. كما يهدف بالتجويع إلى إحداث انهيار اجتماعي شامل يؤدي للفوضى والعنف الداخلي في مجتمع طالما كان شوكة في حلقوم الصهاينة، وكذلك التأثير الدائم على الصحة النفسية والعقلية والجسدية لأطفال غزة حتى لا يكونوا عناصر مقاومة في المستقبل. فلا بديل عن الضغط المتواصل رسميا وشعبيا لإدخال المساعدات الكافية لإنقاذ القطاع، وعدم رهنها بنتائج المفاوضات، قبل أن يسقط مزيد من القتلى جوعًا.

507

| 03 أغسطس 2025

هل تحتاج غزة إلى الكلمة؟

كتبتُ في الأسبوع المنصرم مقالا عن المجاعة التي ضربت غزة نتيجة الحصار والعدوان الإسرائيلي على القطاع وتعسفه في منع دخول المساعدات، وشبّهتُ الوضع المأزوم في غزة والجوع الذي يفتك بأهلها، بالشدة المستنصرية التي حدثت في مصر إبان العصر الفاطمي. بعض الغيورين انتقدوا المقال باعتبار أنه مجرد كلام لا يسمن ولا يغني من جوع، وأن غزة لا تحتاج إلى الكلام، بل إلى العمل، فمن ثم تفجّرت لدي الرغبة لأن أتناول وجهة النظر هذه بشيء من التفصيل والإيضاح، ليس ردًا على النقد، ولكن لأنها موضوع جدير بالتناول والمناقشة، ومن الأهمية بمكان، خاصة بعد طول أمد الأزمة. مع ندرة أو انعدام الحلول العملية لدى الشعوب العربية والإسلامية، كان من الطبيعي أن تسود حالة من الإحباط العام الذي يخلفه الشعور بالعجز عن نصرة أهلنا في غزة، ما أدى إلى انزواء البعض بعيدًا عن الأحداث، وخفوت جذوة الحماس التي اشتعلت في النفوس منذ بدء العدوان الإسرائيلي. هذا بالضبط ما يريده العدو الإسرائيلي، أن نيأس من تداول وتناول القضية، ونهوّن من شأن الكلمة التي تقال في أحداث ومعاناة غزة. ولئن كانت الحلول العملية هي الأصل الذي ندور حوله ونبحث في آلياته ووسائله، لكن الكلمة لها دور هام لا ينبغي التقليل منه. الكلمة هي التي كوّنت الرأي العام العالمي الرافض للعدوان الإسرائيلي على غزة. الكلمة هي التي كشفت عن زيف مظلومية الاحتلال الذي كان يروج بمساعدة الإعلام الغربي لأنه يعيش بين بيئة عربية وحشية. الكلمة هي التي عرفت العالم أن معاداة الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي الغاشم، لا يعني مناصبة اليهود العداء كما يروج الصهاينة. الكلمة هي أشعرت – ولا زالت- أهل غزة بأن هناك إخوانا لهم يفتك بهم الحزن والقهر والعجز عن نصرتهم وإنقاذهم. الكلمة هي التي أوجدت ذلك الزخم الذي دفع باتجاه إدخال بعض المساعدات وإن كانت يسيرة في ظل تواطؤ الاحتلال والأمريكان على تجويع أهل غزة. الكلمة هي التي جعلت الناس تفكر في حلول عملية، حتى أنه قد برز مؤخرا أسلوب مبتكر لتقديم المساعدات الإنسانية إلى أهل القطاع عن طريق المدن الساحلية، من خلال تعبئة الزجاجات البلاستيكية بالبقول والحبوب من عدس وأرز ونحوهما، وقذفها في البحر، أملًا في أن يدفعها التيار إلى سواحل غزة فيقتاتها الناس. وهي وإن كانت وسيلة غير مضمونة، لكنها تعبر عن تفاعل الجماهير وحرصهم على إيجاد الحلول العملية لدعم سكان غزة. الكلمة والاستمرار في الحديث عن غزة وأزمتها، توصل رسالة إلى أعوان ورعاة الاحتلال بمدى الاحتقان الذي وصلت إليه الجماهير العربية والإسلامية، وهذا يحمل نُذَر الانفجار الذي تخشاه القوى الإمبريالية الغربية. الكلمة تُبقي قضية غزة والقضية الفلسطينية مشتعلة، لتظل قضية مركزية لدى كل عربي ومسلم. الكلمة تجعلنا نحافظ على إنسانيتنا لئلا نعيش هذا الانفصال النكد بين حياتنا الخاصة وبين أزمات الأمة الطاحنة. الكلمة يُقاس من خلالها الرأي العام العربي والإسلامي تجاه أحداث غزة، لأنها معبرة عن توجهات الشعوب، وهو ما يحتل أهمية لا يستهان بها لدى صناع القرار في الداخل والخارج. وأخيرًا، الكلمة إعذار إلى الله، إذ لا يملك الكثيرون غيرها، فلئن قُيدت اليد، فلا أقل من كلمة مكتوبة أو منطوقة، تكون جُهد المقل. ولا يُفهم من هذه الكلمات أنها دعوة للانخراط في الكلام والتنظير واعتباره هو الشأن الأعظم، ولا يفهم منها أنها دعوة للرضا بالاقتصار على الكلمة، ولكن المراد عدم التقليل من شأن الحديث الدائم عن قضية غزة، وغلق الباب أمام القعود والانعزال عن التفاعل معها بحجة عدم وجود حلول عملية في نصرة ودعم سكان القطاع المنكوب.

333

| 27 يوليو 2025

alsharq
جريمة صامتة.. الاتّجار بالمعرفة

نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما...

6549

| 27 أكتوبر 2025

alsharq
من يُعلن حالة الطوارئ المجتمعية؟

في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم،...

6429

| 24 أكتوبر 2025

alsharq
غياب الروح القتالية

تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع...

3156

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
طيورٌ من حديد

المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع...

2247

| 28 أكتوبر 2025

alsharq
النظام المروري.. قوانين متقدمة وتحديات قائمة

القضية ليست مجرد غرامات رادعة، بل وعيٌ يُبنى،...

1878

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
الدوحة عاصمة لا غنى عنها عند قادة العالم وصُناع القرار

جاء لقاء حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن...

1683

| 26 أكتوبر 2025

alsharq
الدوحة عاصمة الرياضة العالمية

على مدى العقد الماضي أثبتت دولة قطر أنها...

1281

| 27 أكتوبر 2025

alsharq
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح

النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز...

1035

| 24 أكتوبر 2025

alsharq
كريمٌ يُميت السر.. فيُحيي المروءة

في زمنٍ تاهت فيه الحدود بين ما يُقال...

999

| 24 أكتوبر 2025

alsharq
التوظيف السياسي للتصوف

لا بد عند الحديث عن التصوف أن نوضح...

951

| 27 أكتوبر 2025

alsharq
توطين الذكاء الاصطناعي في القطاع الصحي القطري

يشهد قطاع الرعاية الصحية في قطر ثورة رقمية...

906

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
فاتورة الهواء التي أسقطت «أبو العبد» أرضًا

“أبو العبد” زلمة عصامي ربّى أبناءه الاثني عشر...

900

| 27 أكتوبر 2025

أخبار محلية