رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

طعنوا المتظاهرين والجيش

يحيرنا الذي يجرى في ميدان التحرير، ويقلقنا كثيرا الأسلوب الخشن الذي ظهر في أوساط الشرطة العسكرية في تعاملها مع المتظاهرين في الميدان، أما وجه الحيرة فيتمثل في أن الميدان أصبح مفتوحا للكافة، بحيث اختلط فيه الحابل بالنابل. ولم يعد يعرف بالضبط من الذين جاءوا لكي يتظاهروا فيه معبرين عن آراء أو مطالب. ومن الذين وفدوا إليه لإثارة الفوضى والفتنة وممارسة البلطجة. أثناء الاعتصام الكبير كان الميدان مؤمنا، بمعنى أن المنظمين كانوا يتعرفون على الداخلين والخارجين. وكان لكل مجموعة مكان يتجمعون فيه. ولم تكن هناك فرصة للعبث أو الاندساس أو الإخلال بسلمية التظاهر. وهو وضع اختلف إلى حد كبير بعد انفضاض الاعتصام، حيث لم يعد هناك وجود للجنة المنظمة للعملية. وبالتالي فإن عناصر الشرطة العسكرية وحدها التي أصبحت تتولى تأمين الميدان. الوضع أصبح معقدا الآن، ذلك أن الاستجابة المتواضعة لمطالب الثورة أثارت استياء كثيرين ممن توقعوا مردودا مختلفا للثمن الذي دفع، وسالت من أجله دماء مئات الشهداء. وقد وجد هؤلاء أن وسيلة الضغط الوحيدة على السلطة ممثلة في مجلس الدفاع الأعلى والحكومة هي العودة إلى التظاهر في الميدان مرة أخرى، وهو ما حدث بالفعل. ولكن المشكلة هذه المرة أنه في غياب عملية تأمين الميدان، فإنه لم يعد يعرف بالضبط الفرق بين الجادين والعابثين، الأمر الذي فتح الباب للاحتكاك بين بعض الداخلين وبين عناصر الشرطة الموجودة في الميدان. ولا ينكر أن تعدد الجهات التي تلجأ إلى التظاهر في الميدان فتح الباب للالتباس والمهاترة. الأمر الذي أبرز أهمية وجود تنسيق بين الفئات أو المجموعات المختلفة من الناشطين، بحيث تتولى تلك الجهات مسؤولية التأمين لقطع الطريق على احتمالات حدوث ذلك الاحتكاك. أما الذي يبعث على القلق ويزعج حقا، فهو ما جرى مساء يوم الجمعة مع بعض المتظاهرين خصوصا أمام مجلس الوزراء، فقد تعرضوا للضرب بالعصي الكهربائية كما تعرض بعضهم للسحل والإهانات التي أذهلت الجميع، وأعادت إلى الأذهان ممارسات ظننا أننا تجاوزناها، واعتبرت عارا لطخ وجه نظام ما قبل 25 يناير. ناهيك عن أن أحدا لا ينكر أن تلك الأساليب التي أهدرت كرامة المواطنين وعمدت إلى إذلالهم كانت من بين الأسباب التي عبأت الجماهير بمشاعر السخط والغضب. ومما سمعته من بعض الذين تعرضوا لتلك التجربة البائسة أن ما أذهلهم وأوجعهم حقا ليس ما لحق بهم من أذى، ولكن أنهم رأوا بأعينهم بأن الذي رفضوه وثاروا عليه وظنوا أن صفحته طويت إلى الأبد تجدد أمام أعينهم مرة أخرى. فيما سمعت فإن ضباطا بثياب مدنية، ليس معروفا إلى أي جهاز ينتمون وإن كان الأرجح أنهم من عناصر أمن الدولة، كانوا يوجهون جنود الشرطة العسكرية الذين زودوا بالعصي الكهربائية، وكان الأخيرون يتولون التنفيذ بقسوة غير مألوفة وكان جديدا أن يعود أولئك الضباط إلى ذات الأساليب البالية. وكان جديدا أيضا أن يستخدم جنود الشرطة العسكرية في أداء المهمة القذرة، وهم الذين احتفى بهم المتظاهرون واحتضنوهم يوما ما، ولا يزالون رغم كل شيء يحتفظون لهم برصيد من المودة والاحترام. قال لي أحد الذين تعرضوا للضرب المبرح، هو بالمناسبة عضو في هيئة التدريس بإحدى الجامعات، إنه حين تعرض للضرب والسب والإهانة ودفع به مع آخرين كانوا مكدسين وممددين في «جراج» مبنى مجلس الوزراء، تصور أن أنصار الرئيس السابق استولوا على السلطة، وأن اللواء العادلي عاد إلى مكتبه وقرر أن ينتقم من الذين تسببوا في فضحه والإطاحة به. ولفت نظري قوله إن ذلك لو حدث لكانت صدمته أقل من تلك التي استشعرها حين أدرك أن ما تعرضوا له تم في وجود المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي خرج على المصريين في البداية معلنا تأييده لمطالبهم المشروعة. قبل ظهر أمس، أصدرت قيادة القوات المسلحة بيانا أعلن الاعتذار عما جرى للمتظاهرين في الليلة السابقة، وهي خطوة إيجابية لكنها غير كافية، لأن ما حدث لم يهن المتظاهرين فقط، ولكنه شوَّه صورة القيادة العسكرية وأساء إساءة بالغة إلى صورة الجيش الذي انعقدت عليه آمال الوطنيين والشرفاء. لقد تمنيت أن يعلن القادة العسكريون أن المسؤولين عما جرى سيحاسبون في محاكمات علنية، وأن يؤكدوا للشعب المصري أن تلك الأساليب القذرة التي كانت تستخدم قبل 25 يناير، لن تظهر بعدها مرة أخرى. وإذا لم يحدث ذلك، فإننا لن نستطيع أن نقاوم الشعور بالاستياء وخيبة الأمل ولا أن نستبعد ظنون البعض أن الثورة أصبحت معرضة للاختطاف.

436

| 27 فبراير 2011

عصابات الحكام الطغاة

الآن أدركنا أنهم لم يكونوا زعماء سياسيين، ولكنهم كانوا زعماء عصابات أغارت على عواصمنا فهدمت حصونها واحتلتها سنين عددا مارست خلالها نهب البلاد وإذلال العباد، فها هو العقيد القذافي الذي ظل جاثما على صدر ليبيا طوال 42 عاما حفلت بمختلف صنوف النزوات وأشكال الجنون، قرر أخيرا إعلان الحرب على شعبه وإبادة كل من ضاق ذرعا بحكمه، إذ حين فاض الكيل بالناس وخرجوا مطالبين بالحرية والكرامة في «يوم الغضب» (15/2)، فإن العقيد رد عليهم برصاصات المدافع الرشاشة وقذائف الطائرات التي أغرقت ليبيا في بحر من الدم، واستعان في ذلك بمرتزقة أفارقة وطيارين من صربيا وأوكرانيا، وكانت النتيجة حتى الآن سقوط ألفي قتيل على الأقل غير آلاف الجرحى. في خطابه وصف شوق الليبيين إلى الحرية والكرامة بأنه نوع من الجنون، واعتبر جموعهم الغاضبة مجرد حشرات وجرذان وصعاليك يتعاطون المخدرات، إذ استكثر عليهم انتفاضتهم ضد ملك الملوك وولي أمر المسلمين وأقدم الحكام على وجه البسيطة، فضلا عن كونه رمز المجد والعزة (هكذا وصف نفسه)، والملهم الذي أهدى البشرية «الكتاب الأخضر» لكي يخرجها من الظلام إلى النور. اقتنع الأخ العقيد بأن الليبيين «لم يفهموه» فقرر القضاء عليهم وهدم المعبد فوق رؤوسهم، كما تحدثت الأنباء عن تدبير لتفجير حقول النفط والغاز، تمهيدا لإحراق البلد ومعاقبة شعبه بحرمانه من عوائدها.. التي ظل يتمرغ فيها هو وأبناؤه ومقربوه طوال العقود الأربعة الماضية، وكان ذلك بمثابة تمثيل بائس لجريمة نيرون آخر أباطرة الرومان، الذي تجبر حتى قتل أمه وزوجته، وعين جوادا له ضمن «النبلاء»، وكان وراء إحراق روما، قبل أن يهرب وينتحر في نهاية المطاف (سنة 68 ميلادية). ابنه سيف الإسلام الرجل الثاني في العصابة قالها صراحة في خطاب متلفز: سنحتكم إلى السلاح، سنبكي على مئات الآلاف من القتلى، وسيتم حرق وتدمير كل شيء في ليبيا وسنحتاج إلى 40 سنة أخرى لكي يستقر الأمر في البلاد. قال أيضا إن المصريين والتونسيين سيقتسمون ليبيا مع أهلها، وسيشاركونهم في النفط وفي بيوتهم وأرزاقهم، وهو يستخف بالليبيين قال لهم إن النظام الأول (الذي قاده القذافي الأب) انتهى، وسيتم تعديله بالكامل للانتقال إلى نظام مختلف، بعلم جديد ونشيد جديد! لكن العقيد سيبقى بطبيعة الحال بعد أن يحيل بلاده أنقاضا! العصابة في تونس انفضح أمرها قبل أيام قليلة، حين أظهرت شاشات التلفزيون كيف كان زعيمها الهارب زين العابدين بن على يكدس ملايين الأموال النقدية وعلب المجوهرات النفيسة وراء مكتبات وهمية غطت جدران قصره. إذ لم يكتف الرجل وزوجته وأسرته بما نهبوه من أراض وقصور وما استأثروا به من وكالات تجارية، ولا بما هربوه في حسابات سرية خارج البلاد، وإنما أحاطوا أنفسهم في بيوتهم بتلال ملايين العملات الأوروبية، لكي لا يغيب المال المنهوب عن أعينهم لحظة من الزمن. العصابة في مصر انفتح ملفها مؤخرا، وإذا كانت في ليبيا قد لجأت إلى إبادة المعارضين، ورأينا في تونس كيف لجأت إلى نهب الأموال، فإنها في مصر ركزت بوجه أخص على نهب الأراضي، الذي أزعم أنه أسوأ من نهب الأموال وتكديس الثروات. لأن الأموال تروح وتجيء. أما العقارات فإنها تروح ولا تجيء، صحيح أن ما أعلن عنه حتى الآن هو مجرد اتهامات وادعاءات طالت عددا غير قليل من المسؤولين وكبار رجال الأعمال يتقدمهم رئيس الوزراء السابق الدكتور أحمد نظيف، إلا أن أحدا لا يختلف في مصر حول وجود الظاهرة المروعة التي تجاوزت نهب أراضي الدولة إلى نهب وإهدار المال العام، يؤيد ذلك ما تحفل به الصحف اليومية من معلومات صادمة تتحدث عن ملايين الأراضي التي بيعت بأبخس الأسعار، ومليارات الدولارات التي ضاعت على الدولة (وهربت إلى الخارج). من ثَمَّ فإن حجم النهب وحده الذي يجري التحقق منه، أما مبدأ النهب الذي تم على نطاق واسع غير مسبوق فمسلم به، وإلى جانب التحقيقات الجارية الآن بخصوص عمليات النهب تلك، فإن جهودا حثيثة أخرى تبذل لتجميد واسترداد ما تم تهريبه إلى الخارج من أموال قدرت بالمليارات أيضا. نستطيع أن نجد نماذج أخرى لحالات قهر الشعوب والانقضاض على المال العام في أقطار عربية أخرى لم تسقط أنظمتها بعد، ولكن القاسم المشترك بين هذه الحالات وغيرها أنها تمثل دولا غابت عنها الديمقراطية، وبالتالي ألغي فيها دور المجتمع وغابت عنها قيمة الحساب والمساءلة. ومن ثم أطلقت فيها يد القابضين على السلطة لكي يعبثوا بثرواتها فضلا عن مصائرها، والمسألة ليست لغزا لأنه في غياب الديمقراطية فإن موارد البلاد وثرواتها تصبح مالا سائبا، وقديما قالوا إن المال السائب يعلم السرقة.

588

| 26 فبراير 2011

اختيار يحيرنا ويصدمنا

طوال السنوات الماضية حين كان يذكر السيد أحمد أبو الغيط بما لا يحبه ولا يشرفه في أي عاصمة عربية، كنت أقول إنه ليس وزير خارجية مصر، ولكنه وزير خارجية مبارك ونظامه. ولم أكن وحدي في ذلك، لأنني سمعت من كثيرين من المثقفين المصريين الذين يدعون إلى المنتديات والفعاليات العربية قولهم إنهم أصبحوا يشعرون بالخجل حينما كان يذكر اسم السيد أبو الغيط في أي محفل عربي مقرونا بمواقفه وتصريحاته، خصوصا ما تعلق منها بالفلسطينيين وبالصراع العربي ــ الإسرائيلي أو بالعلاقات مع سوريا والأوضاع في لبنان. كانوا يذكرون له كراهيته للفلسطينيين وتطاوله واستئساده على العرب الذين يختلفون مع السياسة المصرية، وتصاغره وانكساره أمام الأمريكيين والأوروبيين والإسرائيليين بطبيعة الحال. أذكر أننا دعينا إلى عشاء في بيت أحد الأصدقاء بالرباط، ولأننا كنا ضيفي الحفل، الدكتور عبد الوهاب المسيري وأنا، فإن صاحب البيت وجه الدعوة إلى السفير المصري آنذاك. وأثناء الحوار الذي دار قبل العشاء تطرق الحديث إلى تصريحات وزير الخارجية المصري ومواقف الرئيس السابق، فقال أحد المدعوين المغاربة ــ وهو أستاذ مرموق للفلسفة: إنه مندهش من أن يكون السيد أبو الغيط وزيرا لخارجية مصر، لأن ما يصدر منه يعد عارا على البلد، لا يليق بمكانتها. لم يكن صاحبنا يعلم أن السفير المصري بين المدعوين، فأخذ راحته في الكلام ووصف الرئيس السابق بأوصاف لاذعة. وحين حاول السفير أن يشرح له أوضاع حرية التعبير في مصر، وكيف أن ثمة اجتهادات متباينة بين المثقفين المصريين. فبعضهم يؤيد كلام أبو الغيط (يقصد الصحف القومية) والبعض الآخر يعارضه، فما كان من صاحبنا إلا أن شدد على ما قاله. وأضاف إلى انتقاداته اللاذعة والقاسية أوصافا أخرى. ولم تفلح محاولاتنا تهدئته أو تنبيهه إلى الحرج الذي وضع فيه السفير المصري. وإزاء ذلك لم يجد السفير بدا من الانسحاب، فنهض معتذرا بأن لديه ارتباطا آخر، وانصرف. ولم يهدأ للرجل بال إلا حين قلنا له إن السيد أبو الغيط لا يمثل شيئا في مصر، ولكنه يمثل الرئيس (السابق) ونظامه فقط. لا أعرف وزيرا للخارجية في التاريخ المصري المعاصر حظي بتلك الدرجة من الرفض والمقت التي تلاحق اسم السيد أبو الغيط وسيرته. حتى أن إحدى الصحفيات الفلسطينيات اتصلت بي من الضفة بعد الثورة في مكالمة لا أشك في أنها مسجلة، وقالت إنه بعد رحيل السيد مبارك فإنها لم تعد تتمنى من الله في حياتها إلا أن يختفي اسم وزير خارجيته من الحكومة المصرية، مضيفة أنها أصبحت تشعر بالاكتئاب وضيق التنفس كلما رأت صورته أو سمعت باسمه. لقد كانت الخارجية المصرية أحد معاقل الوطنية التي جسدت مسؤولية البلد الكبير وكبرياءه، لكنها صغرت حين صغرت مصر، وأصبحت ملفات السياسة الخارجية ملحقة بمكتب رئيس الجمهورية، كما أصبح وزير الخارجية ظلا لرئيس المخابرات العامة، ولم يقصر السيد أبو الغيط في تقديم الصورة المشوهة والبائسة لعصر مبارك. وحين قامت ثورة 25 يناير ظننا أنه سيبعد عن منصبه في سياق حملة إزالة آثار العدوان على كرامة مصر وشعبها الذي قامت الثورة لصده والخلاص منه. لكننا صدمنا حين وجدنا أن وزير خارجية مصر المنكسرة والمهزومة سياسيا وحضاريا، هو ذاته وزير خارجية مصر التي ثارت لكرامتها واستعادت حلمها المجهض. تماما كما أننا وجدنا أن المسؤولين عن الأبواق الإعلامية التي هللت لعصر الانكسار هم أنفسهم الذين تقدموا الصفوف ومارسوا التهليل للثوار. وهو ما يثير قدرا لا يستهان به من الحيرة والبلبلة. سألت عن سبب استبقاء السيد أبو الغيط فقيل لي إنه ربما قصد به طمأنة الأمريكيين والإسرائيليين في الظروف الراهنة التي لم تستقر فيها الأوضاع بعد. كما قيل لي إن ثمة معونات مالية كبيرة جاهزة للإرسال إلى مصر، وإذا تم تغيير وزير الخارجية في الوقت الحالي فقد يؤدي ذلك إلى تعثر وصول المعونات. وحين سمعت هذا الكلام قلت إنهم وضعوا في الحسبان الأصداء لدى الأمريكان والأوروبيين والإسرائيليين، لكنهم تجاهلوا صدى هذه الخطوة وصدمتها لدى الوطنيين في مصر أو في أرجاء العالم العربي، الأمر الذي يعني أن ثمة خللا في قواعد المشهد السياسي يحتاج إلى تصويب، نرجو ألا يطول انتظارنا له.

461

| 24 فبراير 2011

إنذار الدم في ليبيا

هذا الذي يحدث في ليبيا لا يمكن أن يصدقه عقل. إذ فاض الكيل بالجماهير فخرجت مسلحة بكرامتها العارية معلنة عن رفضها للنظام الجاثم على صدورها منذ أكثر من أربعين عاما، فإذا بزعيم «الجماهيرية» يعلن الحرب عليهم، ويقرر إبادتهم جميعا. في حين يعلن ابنه أنه ــ وقبيلة القذاذفة التي ينتمون إليها ــ سيقاتلون حتى آخر رجل وآخر امرأة وآخر رصاصة! المدهش في الأمر أنه في حين لا تزال الدماء تسيل أنهارا في ليبيا، ويستمر القصف الوحشي للجماهير الغاضبة الذي لم يستثن حتى الجنازات. وفي حين تتواصل الانتقادات والتحذيرات من العواصم الغربية، فإن العالم العربي يقف متفرجا وصامتا. وباستثناء بيان الأمين العام لجامعة الدول العربية الذي أدان استخدام العنف ضد المتظاهرين، لم يصدر تصريح واحد من أي حكومة عربية يعبر عن التعاطف مع الشعب الليبي المعرض للإبادة. إن الأخ العقيد الذي ما انفك يزهو بأنه عميد الحكام العرب وملك ملوك إفريقيا اعتبر أن معارضيه يهددون أمن ليبيا ويسعون إلى تخريبها، بعدما اختزل الوطن في شخصه، وأقنعه المنافقون بأنه من «ثوابت» المجتمع الليبي التي لا غنى عنها إلى أبد الآبدين. ومن المفارقات أنه في حين ادعى إعلامه الرسمي بأن الثائرين ليسوا سوى مجموعات من الأجانب الذين اندسوا في أوساط الشعب وأرادوا ضرب استقرار البلاد، فإن طائراته لم ترحم الجموع الليبية الحاشدة التي خرجت في بنغازي وطبرق والبيضا ودرنة، وظلت تلاحقها بوابل نيرانها المجنونة. السيناريو نعرفه جيدا. في الخلفية يستمر قمع الجماهير وتكميمها لسنوات طويلة، الأمر الذي يشيع بين الناس درجات عالية من الشعور بالمهانة والغضب. وإذ تستمر الضغوط ويتراكم الغضب، يصبح الانفجار هو الحل. وحين يحدث ذلك تطلق الدعاوى التي تتهم الغاضبين بكل نقيصة، ويبدأ الحديث عن المندسين والتآمر الذي تعده الجهات الأجنبية، ويتخذ القمع أشكالا عدة تتراوح بين الاعتقال والإبادة. وفي الوقت ذاته يعزل المجتمع عن العالم الخارجي، وتقطع الاتصالات حتى بين المواطنين بعضهم وبعض، ويجري التشويش على الفضائيات التي تتابع ما يجري (خصوصا قناة الجزيرة). غير أنه كلما سال الدم ارتفعت وتيرة الغضب واتسعت رقعة الثورة، الأمر الذي يعني أن النظام فقد أعصابه وشرعيته، وصار على وشك السقوط. علامات النهاية تلوح في الأفق فإصرار الجماهير على مواجهة التحدي واضح، وانحياز بعض وحدات القوات المسلحة إلى جانب الغاضبين، وكذلك استقالة بعض المسؤولين في الحكومة سواء كانوا وزراء أو سفراء، ذلك يعني أن النظام بدأ في التفكك الذي يسبق الانهيار. لكن من الواضح أن الأخ العقيد لم تتناه إلى سمعه أصوات الغاضبين، ولم يقرأ واقع بلاده، بالتالي فإنه بدوره «لم يفهم» ما يجري. ولم يستوعب شيئا مما جرى حوله في تونس ومصر، وكانت النتيجة أنه لم يتردد في إحراق البلد كله تعلقا بأمل استمراره في المنصب الذي يحتكره منذ أكثر من أربعة عقود. إن مشكلة العقيد، وأمثاله في العالم العربي، أنهم يرفضون فهم الواقع أو الإنصات لصوت الجماهير أو صوت التاريخ. إنهم يرفضون إدراك حقيقة أن الدنيا تغيرت، وأن المجتمعات التي يحكمونها منذ عدة عقود لم تعد كما كانت. فثمة أجيال تعلمت ووعت وتمكنت من الاتصال بالعالم وإدراك ما يجري فيه. وهذه الأجيال لها تطلعاتها وأشواقها التي ترفض التنازل عنها. لا فرق في ذلك بين دول نفطية وغير نفطية، أو دول غنية وأخرى فقيرة. لقد كان يقال في الماضي إن الثورة مستبعدة في ليبيا، لأنها دولة نفطية يسهل على حاكمها أن يرشو شعبها صغير العدد. وترددت هذه الفكرة بعد الثورة التونسية، حيث كان يقال إن ثورة الفقراء في تونس لا شبيه لها في ليبيا. ونسي هؤلاء أن الشعوب لها كرامة تريد أن تحس بها وأن تمارسها. وأن الرخاء حتى إذا توافر فإنه لا يمكن أن يدفعها إلى التنازل عن كرامتها. وما يجري في ليبيا ينسحب على بقية الدول النفطية بطبيعة الحال. ولذلك لن نستغرب إذا شجعت الأجواء الراهنة شعوبا أخرى في العالم العربي لكي تنتفض وتطالب بحقها في إدارة شؤونها وتقرير مصيرها. إن الحاصل في ليبيا يبعث بإنذار إلى الجميع منبها إلى أنه ما لم تشهد الأقطار العربية بما فيها الخليجية والنفطية إصلاحا سياسيا حقيقيا يرد إلى المجتمعات اعتبارها، فإن انفجار الجماهير قادم لا ريب. كما أن أساليب القمع لم تعد تجدي، وإذا كانت قد صلحت لبعض الوقت فإنها يقينا لا تصلح لكل الوقت. صحيح أن ما يحدث في ليبيا جريمة كبرى لكن ما يحدث في أقطار عربية أخرى ليس مطمئنا ولا هو مبرأ من الاتهام، وإذا قيل إنه من قبيل الجرائم الصغرى، فإن ذلك يعني أنه يختلف عنه في الدرجة فقط وليس في النوع.

504

| 23 فبراير 2011

ماذا يديرون للثورة في الخفاء؟

إذا كنا قد أدركنا شيئا مما يرتبه فلول النظام السابق في الداخل، فإن ما يرتبه حلفاؤه في الخارج لا يزال خفيا عنا. مع ذلك فبين أيدينا دليل يبين لنا كيف فكروا في الأمر وتحسبوا له قبل أن يقع، الأمر الذي يسلط ضوءه كاشفا على نواياهم بعد الذي وقع. (1) أتحدث عن القراءة الإسرائيلية للعلاقة مع مصر، كما رآها آفى ديختر وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي في محاضرته التي ألقاها على الدارسين في معهد أبحاث الأمن القومي بتل أبيب في شهر سبتمبر في عام 2008، وفيها شرح موقف إسرائيل ازاء المتغيرات المحتملة في العديد من دول المنطقة، ومصر من بينها، وهى المحاضرة المهمة التي أشرت إليها أكثر من مرة من قبل، لكنني وجدت أن قراءتها باتت أكثر من ضرورية بعد ثورة 25 يناير، التي لم تخطر لأحد على بال، لا نحن ولا هم ولا أي طرف آخر في الكرة الأرضية، ذلك أنهم تصوروا أن التغيير «الدراماتيكي» الذي يمكن أن تشهده مصر لا يخرج عن أحد احتمالات ثلاثة، على حد تعبير السيد ديختر، هذه الاحتمالات تتمثل في ثلاثة سيناريوهات هى: 1 ـ سيطرة الإخوان المسلمين على السلطة بوسائل غير شرعية، أى خارج صناديق الاقتراع، وهذا السيناريو يفترض أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تدهورت بشدة في مصر، الأمر الذي يفقد النظام القائم القدرة على السيطرة على الوضع، ويؤدي إلى انفلات زمام الأمن، بما يمكن أن يؤدي إلى حدوث فوضى واضطرابات، في ظلها يجد الإخوان فرصتهم لتحقيق هدفهم في الوصول إلى السلطة. 2 ــ حدوث انقلاب عسكري، وهو احتمال استبعده المخططون الإسرائيليون في الأجل المنظور، إذ اعتبروا أن الأوضاع في مصر قد تسوء إلى درجة خطيرة، مما قد يدفع قيادات عسكرية طموحة إلى السعي لركوب الموجة والاستيلاء على السلطة، لكن لدى إسرائيل العديد من الأسباب الوجيهة التي تجعلها تتعامل مع هذا الاحتمال باعتباره مجرد فرضية، ومن ثم تستبعد وقوعه. 3 ــ أن تتفاقم الأوضاع في مصر، بحيث يعجز عن إدارة البلاد خليفة مبارك الذي راهن الإسرائيليون على أنه سيكون واحدا من اثنين: إما جمال مبارك أو السيد عمر سليمان، مما يترتب عليه حدوث موجات من الفوضى والاضطرابات في أنحاء مصر، وهو وضع قد يدفعها إلى محاولة البحث عن خيار أفضل يتمثل في إجراء انتخابات حرة تحت إشراف دولي تشارك فيه جماعات سياسية وحركات أكثر جذرية من حركة كفاية، لتظهر على السطح خريطة جديدة للتفاعلات الداخلية. بعد عرضه لهذه السنياريوهات الثلاثة قال السيد ديختر ما نصه: في كل الأحوال فإن عيوننا وعيون الولايات المتحدة ترصد وتراقب، بل وتتدخل من أجل كبح مثل هذه السيناريوهات، لأنها ستكون كارثية بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة والغرب. (2) فى محاضرته ركز وزير الأمن الداخلي على نقطتين أساسيتين هما: إن من مصلحة إسرائيل الحفاظ على الوضع في مصر بعد رحيل الرئيس مبارك، ومواجهة أية تطورات لا يحمد عقباها، بمعنى حدوث تحولات مناقضة للتقديرات الإسرائيلية، الثانية إنه مهما كانت الظروف فإن انسحاب مصر من اتفاقية السلام وعودتها إلى خط المواجهة مع إسرائيل يعد خطا أحمر، لا يمكن لأية حكومة إسرائيلية أن تسمح بتجاوزه، وهى ستجد نفسها مرغمة على مواجهة هذا الموقف بكل الوسائل. اعتبر الرجل أن العلاقات بين إسرائيل ونظام الرئيس مبارك «أكثر من طبيعية»، وهو ما سمح للقادة في تل أبيب ببلورة عدة محددات تجاه مصر تمثلت فيما يلى: * تعميق وتوطيد العلاقات مع فريق الرئيس المصري، ومع النخب الأخرى الحاكمة المتمثلة في قيادات الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، ومع رجال الأعمال. * توسيع قاعدة العلاقة مع المنظومة السياسية والاقتصادية والإعلامية من خلال الارتباط بمصالح مشتركة تنعكس بالإيجاب على الجانبين. * السعي لصوغ علاقة أقوى مع العاملين في المجال الإعلامي بمصر، نظرا لأهمية دور وسائل الإعلام في تشكيل الرأي العام وبلورة اتجاهاته. وهى تنسج علاقاتها في هذه الاتجاهات فإن السعي الإسرائيلي حرص على إقامة علاقات ويتفق مع أقوى شخصيتين في مصر ستلعبان دورا رئيسيا في الإمساك بمقاليد السلطة بعد رحيل الرئيس حسني مبارك، وهما ابنه جمال واللواء عمر سليمان مدير المخابرات المصرية. هذا الارتياح إلى التمدد الإسرائيلي في الساحة المصرية لم يحجب عنها حقيقة القلق الذي يعاني منه المجتمع، وهو ما عبر عنه السيد ديختر بقوله إن النظام في مصر يعاني عجزا جزئيا في إحكام سيطرته على الوضع بقبضة من حديد، وأن الولايات المتحدة وإسرائيل حريصتان قدر الإمكان على تدعيم الركائز الأساسية، التي يستند إليها النظام، ومن بين تلك الركائز نشر نظام للرقابة والرصد والإنذار، قادر على تحليل الحيثيات التي يجري جمعها وتقييمها باستمرار ووضعها تحت تصرف القيادات في كل من واشنطن وتل أبيب والقاهرة. أضاف صاحبنا في هذا الصدد أن الولايات المتحدة وإسرائيل وهما تتحركان بشكل حثيث لتأمين النظام القائم في مصر تحرصان عبر ممثليهما المختلفة في مصر (السفارات والقنصليات والمراكز الأخرى) على تقديم كل صور العون لحملة انتخاب جمال مبارك رئيسا للجمهورية بعد رحيل أبيه، والهدف من ذلك هو تمكينه من الفوز بتأييد الشارع والرأى العام المصري، ودعم أنشطته المختلفة الاجتماعية والثقافية لكي يصبح أكثر قبولا من والده. (3) وهما تسعيان إلى تأمين النظام القائم، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل تبنتا استراتيجية ثابتة في هذا الصدد، شرحها آفى ديختر على الوجه التالى: منذ دخلت الولايات المتحدة إلى مصر عقب وفاة الرئيس جمال عبدالناصر وتولي السادات زمام الأمور، فإنها أدركت أنه لابد من إقامة مرتكزات ودعائم أمنية واقتصادية وثقافية في أرجائها على غرار ما فعلته في تركيا بعد الحرب العالمية الثانية، وانطلقت في ذلك من اقتناعها بأن من شأن تلك الركائز أن تحجم أية مفاجآت غير سارة تحدث في مصر.والخطة الأمريكية التي تغطي ذلك الجانب تعتمد على مجموعة من العوامل هى: * إقامة شراكة مع القوى والفعاليات المؤثرة والمالكة لكل عناصر القوة والنفوذ في مصر الطبقة الحاكمة وطبقة رجال الأعمال والنخب الإعلامية والسياسية. * شراكة أمنية مع أقوى جهازين لحماية الأمن الداخلي مباحث أمن الدولة والداخلية والقوات الخاضعة لها وجهاز المخابرات العامة. * تأهيل محطات استراتيجية داخل المدن الرئيسية مراكز صنع القرار القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية والسويس وبورسعيد. * الاحتفاظ بقوة تدخل سريع من المارينز في النقاط الحساسة في القاهرة، في جاردن سيتى والجيزة والقاهرة (مصر الجديدة) بإمكانها الانتشار خلال بضع ساعات والسيطرة على مراكز عصب الحياة في القاهرة. * مرابطة قطع بحرية وطائرات أمريكية في قواعد داخل مصر وبجوارها في الغردقة والسويس ورأس بناس. وهو يعلق هلى هذه الركائز قال إننا لا نستطيع أن نؤكد أننا حققنا المستوى المنشود، توفير الضمانات التي من شأنها أن تصد أية احتمالات غير مرغوبة بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة. لكننا أنجزنا بعض الخطوات على الأرض، ونحسب أن بوسعها أن تكبح أية تطورات مباغتة أو عاصفة قوية، وفي كل الأحوال فإن إسرائيل قررت أن تعظم وتصعد من وتيرة وجود ونشاط أجهزتنا التي تسهر على أمن الدولة وترصد التطورات التي تحدث في مصر، الظاهرة منها والباطنة. إلى جانب عمليات القائمين التي تم اتخاذها، فإن إسرائيل بذلت جهدا من نوع آخر لمساندة نظام الرئيس مبارك، عن طريق دعوة الحلفاء الأمريكيين إلى عدم تقليص حجم الدعم، الذي يقدم إلى مصر لتمكين الرئيس مبارك في مواجهة الضغوط الاجتماعية والاقتصادية المستفحلة، التي يمكن وتحدث انفجارات تهز نظامه، وهو يصف الوضع في مصر ذكر أن أزمتها الاقتصادية والاجتماعية من ذلك النوع غير القابل للحل، وقال إن كل الإصلاحات الاقتصادية التي طبقت في مصر في عهد مبارك لم تسهم على الإطلاق في حل تلك الأزمات حتى المساعدات الأمريكية السنوية (2.5) مليار دولار لم تعالج الخلل في الهيكل الاقتصادى والاجتماعى المصري لأن هناك خللا بنيويا في الاقتصاد المصري يصعب معالجته بمساعدات هي مجرد مسكنات تخفف من الآلام بشكل مؤقت ثم تعود الأزمة لتستفحل وتتفاقم، وكانت نتيجة ذلك أن الأوضاع عادت مصر إلى ما كانت عليه قبل عام 1952، الأمر الذي أدى إلى حدوث الانقلاب، الذي قام به ضباط الجيش في ذلك العام، وهو ما أثار مخاوف نظام مبارك، وكذلك مخاوف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى. وهى التي يمكن أن تبد أى تغيير غير مرغوب فيه، وإذا ما حدث ذلك فإن تداعياته لن تكون مقصورة على مصر، ولكن آثارها ستنعكس على عموم المنطقة. (4) هل هناك تهديد حقيقى يمكن أن يؤدى إلى تغيير النظام في مصر، وإذا كان الرد بالإيجاب فماذا أعدت إسرائيل لذلك الاحتمال؟ ــ ذكر آفى ديختر أن هذا السؤال يتردد باستمرار داخل مراكز الدراسات الاستراتيجية في إسرائيل، وفي رده عليه قال ما يلى: إن النظام في مصر أثبت كفاءة وقدرة على احتواء الأزمات، كما أثبت قدرة على التكيف مع الأوضاع المتأزمة. مع ذلك فهناك تهديد ناجم عن تشابك وتعقيد المشاكل والأزمات الداخلية الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، الآن الحزب الديمقراطى، الذي يرأسه مبارك يهيمن على الحياة السياسية. فيما خص الشق الخاص بأسلوب مواجهة إسرائيل لأية تغييرات أو تحولات جادة تحدث في مصر، فإن الوزير الإسرائيلى الأسبق أكد أن الدولة العبرية على تنسيق مع الولايات المتحدة في كل ما يتعلق بهذه المسألة، وفي الوقت ذاته فإنها على استعداد لمواجهة أى طارئ بما في ذلك العودة إلى شبه جزيرة سيناء إذا استشعرنا أن تلك التحولات خطيرة، وأنها ستحدث انقلابا في السياسة المصرية تجاه إسرائيل وأضاف اننا عندما انسحبنا من سيناء فإننا ضمنا أن تبقى رهينة. وهذا الارتهان تكفله ضمانات أمريكية، من بينها السماح لإسرائيل بالعودة إلى سيناء إذا اقتضى الأمر ذلك، كذلك يكفله وجود قوات أمريكية مرابطة في سيناء تمتلك حرية الحركة والقدرة على المراقبة، بل ومواجهة أسوأ المواقف، وعدم الانسحاب تحت أى ظرف من الظروف. فى هذا السياق ذكر الرجل أن إسرائيل تعلمت دروسا لا تنسى من حرب عام1967، لذلك فإن سيناء أصبحت مجردة من السلاح ومحظور على الجيش المصري الانتشار فيها، وتلك هي الضمانة الأقوى لاحتواء أى تهديد افتراضي من جانب مصر، وهو يعزز رأيه فإن إسرائيل لن تتخلى تحت أى ظرف عن تمسكها بتجريد سيناء من السلاح، مضيفا أن مصر حين طلبت إدخال 600 من أفراد الشرطة، حرس الحدود والأمن المركزى للتمركز على حدود قطاع غزة، فإن الطلب درس دراسة مستفيضة من جانب الطاقم الأمني ومرت الموافقة عليه بمخاض عسير داخل الحكومة. وهو يختتم محاضرته قال آفى دختر إن القاعدة الحاكمة لموقف الدول العبرية هي أن مصر خرجت من ساحة مواجهة إسرائيل ولن تعود إليها مرة أخرى، وهى قاعدة تحظى بالدعم القوي والعملي من جانب الولايات المتحدة. هذا الاستعراض يثير أسئلة عدة حول طبيعة الأصداء، التي أحدثتها ثورة 25 يناير داخل إسرائيل، وحول مصير التجهيزات والركائز التي أعدتها بالتعاون مع الولايات المتحدة داخل مصر لمواجهة احتمالات التغيير «الدراماتيكى» خصوصا حين وقع من حيث لا يحتسبون، وحين جاء بمن لا يتمنون، إننا لا نعرف شيئا عما يجري تحت السطح أو يدور وراء الكواليس، لكننا ينبغى ألا نتصور أنهم يقفون صامتين وغير مبالين، ولذلك من حقنا أن نسأل عن حقيقة الدور الذي يقومون به في الوقت الراهن تحت الطاولة وبعيدا عن الأعين.

586

| 22 فبراير 2011

"عمداء" أمن الدولة

ثورة 25 يناير أحدثت مفارقة في الجامعات المصرية، ذلك أنها أطاحت برأس النظام لكن جسمه بقي موجودا، أما في الجامعات فالوضع عكسي. إذ لا يزال الرأس منسوبا إلى النظام السابق في حين أن الجسم المتمثل في أساتذتها صار جزءا من الثورة. وهي المفارقة التي كانت من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تأجيل استئناف الدراسة لمدة أسبوع بعد انتهاء عطلة نصف السنة. وكان السبب غير المعلن لذلك أنهم لا يزالون حائرين في كيفية التعامل مع الوضع المستجد. ذلك أن رؤساء الجامعات المنسوبين إلى النظام السابق كان ولاؤهم له شرطا رئيسيا في اختيارهم. أما نواب الرؤساء وعمداء الكليات ووكلاؤها فإنهم جميعا لم يكونوا يعينون إلا بموافقة من الأجهزة الأمنية. وعلمت من الدكتور محمد أبوالغار الأستاذ بكلية الطب وأحد مؤسسي حركة 9 مارس أنه في الجامعات الإقليمية بوجه أخص، فإن جهاز أمن الدولة يستدعي المرشحين كعمداء أو وكلاء للكليات لإجراء مقابلات شخصية معهم، وفي ضوء هذه المقابلات يتم اختيار المرشح «المناسب»، حيث جرى العرف على ترشيح ثلاثة أسماء لكي يشغل أحدهم المنصب. أما في جامعتي القاهرة وعين شمس فإن جهاز أمن الدولة يكتفي بالموافقة على تعيين العمداء، في حين أن وكلاء الكليات يخضعون للاستجواب من قبل ضباط أمن الدولة قبل تعيينهم. وقيل لي إن الدكتورة زينب حسن أستاذة أصول التربية بكلية بنات عين شمس فوجئت ذات يوم باستدعائها إلى مقر مباحث أمن الدولة في «لاظوغلي» لإبلاغها بأنها ستعين عميدة لكلية التربية النوعية. ولأنها أكاديمية مستقلة ومحترمة، فقد استفزها العرض واعتذرت عن عدم قبول المنصب الذي يطمح إليه كثيرون. النتيجة الطبيعية المترتبة على ما سبق أن جميع المسؤولين عن التعليم الجامعي في مصر تحولوا إلى عيون وأذرع للأجهزة الأمنية، إلا من رحم ربك بطبيعة الحال. وكان ذلك وراء شيوع مصطلح «عمداء» أمن الدولة. ولأن الحالة الأمنية أصبحت أكثر ما يشغلهم وليس النشاط الأكاديمي، فلم يكن مستغربا ولا مفاجئا أن تخرج الجامعات المصرية من تصنيف الجامعات المحترمة في العالم. هذه الخلفية تفسر القسوة المفرطة التي ظل العمداء والوكلاء يتعاملون بها مع الناشطين من الطلاب، خصوصا الذين يشاركون في التظاهرات أو يشاركون في الندوات التي تتناول الأوضاع السياسية، أو حتى يحرروا صحف الحائط الجامعية. وهي تفسر أيضا اشتراك أولئك العمداء ووكلائهم في إفساد وتزوير انتخابات الاتحادات الطلابية ومحاباتهم لمرشحي الحزب الوطني. قبل ثورة 25 يناير تابعنا المشهد العبثي الذي وقع في جامعة عين شمس، حينما ذهب إليها بعض أساتذة مجموعة 9 مارس، لكي يشرحوا للطلاب قرار المحكمة الذي قضى ببطلان الحرس الجامعي، وحين استدعى ضباط الحرس مجموعة من البلطجية للتحرش بأولئك الأساتذة والاشتباك معهم، فإذا بإدارة الجامعة أصدرت بيانا انحازت فيه للبلطجية وأدانت سلوك الأساتذة! الخلفية ذاتها كانت وراء الفضيحة التي اكتشفت أثناء اعتصام المتظاهرين في ميدان التحرير. إذ تبين أن الحافلات الخاصة بمستشفى قصر العيني استخدمت في نقل البلطجية الذين هاجموا المعتصمين. وهي الواقعة التي فوجئ بها بعض الأساتذة، ومنهم من كتب مذكرة بتفاصيلها قدمت إلى عميدة الكلية، التي سارعت إلى نفيها وتهديد شهودها إذا سربوا الخبر. من المفارقات المثيرة للانتباه في هذا السياق أن مجموعة 9 مارس دعت إلى اجتماع عقد بجامعة القاهرة لبحث الأوضاع الراهنة، شهده نحو ثلاثة آلاف من أعضاء هيئة التدريس، وحين تطرق الاجتماع إلى أوضاعهم الخاصة، فإنهم توافقوا على المطالبة بألا يقل الراتب الشهري لأستاذ الجامعة عن 3 آلاف جنيه، وقرروا تأجيل توجيه المطلب إلى الحكومة في الوقت الراهن، تقديرا لظروفها. لكن مجموعة أخرى من المسؤولين الجامعيين الذين ينتسبون إلى النظام السابق وجهاز أمن الدولة، عقدوا مؤتمرا مضادا في جامعة الأزهر، حضره 52 شخصا فقط وعلى سبيل المزايدة ولتأجيج المشاعر. فإنهم طالبوا بأن يكون الراتب الشهري للأستاذ 24 ألف جنيه! إن «الفلول» مازالت تضع العصا في الدواليب الدائرة.

508

| 21 فبراير 2011

مصر أولاً

الآن أستطيع أن أقول «مصر أولا» بعدما ظللت طوال السنوات السابقة أعارض ذلك الشعار وأتشكك في مقاصده، إذ لم يكن سرا أن الذين رفعوه آنذاك كانوا يتحدثون عن مصر المتحالفة مع إسرائيل، والخاضعة لتوجهات السياسة الأمريكية، والمتنكرة للتاريخ والمخاصمة لعروبتها. مصر المنكفئة على ذاتها وغير المبالية بمقتضيات أمنها القومي (حتى ملف مياه النيل لم تكن مكترثة به). مصر التي صغر حجمها وتراجع دورها حتى تحولت إلى عزبة للسلطان وأعوانه، فأذلوها ونهبوها وقرروا أن يتوارثوها لأنجالهم وسلالاتهم. بعد ثورة 25 يناير اختلف الوضع جذريا، فالمصريون استردوا وطنهم من خاطفيه، وتخلصوا من رأس النظام الذي أهانهم واستباح كبرياءهم، ولا يزالون يناضلون من أجل اقتلاع جسم النظام بعد الإطاحة برأسه. وكانت تلك إشارة إلى أن هذا البلد الكبير بدا خطواته الأولى نحو استرداد عافيته، ومعها هيبته وكرامته، ورغم أنها خطوات أولى، إلا أنها كانت إعلانا عن أن مصر وضعت أقدامها على الطريق الصحيح، وتلك الإشارة وحدها أحدثت أصداءها المدوية في أرجاء العالم العربي، كما أنها كانت لها أصداؤها المحزنة والمفزعة في إسرائيل بوجه أخص. لقد كنت أحد القائلين بأن مصر ليست قطر أو دولة، ولكنها أمة، بمعنى أنها إذا صحت صح الجد العربي كله، وإذا اعتلت شاع الوهن وتمكنت العلل في الجسد العربي كله ذلك قدرها وهو حكم التاريخ وأمر الجغرافيا. وهو ما أدركه الإسرائيليون جيدا حين وقعوا اتفاقية كامب ديفيد مع مصر وردوا لها سيناء أو الجزء الأكبر منها، وكانوا مستعدين لكي يفعلوا أى شىء لإخراجها من الصف العربي وعقد اتفاق سلام معها. وحين حدث ذلك فإنهم ضمنوا أن الدول العربية لن تقوم لها قائمة، وصار بوسعهم أن يعربدوا وأن يتفرغوا لتصفية القضية الفلسطينية على مهل. وذلك ما حدث، صحيح أن حزب الله تحدى الإسرائيليين في عام 2006، إلا أن إنجازه يحسب للمجتمع وليس للدولة اللبنانية. الإسرائيليون يعرفون جيدا أن يقظة مصر واستردادها لكرامتها، لن يعني فقط النهوض بالبلد واسترداد عافيته، ولكنه يعني أيضا بالضرورة يقظة الأمة العربية كلها. لذلك قلت إن الثورة التى ارتبطت بتاريخ 25 يناير لم تكن ميلادا جديدا لمصر فحسب، ولكنها بمثابة ميلاد جديد للعرب أجمعين. وإذ لا ينكر في هذا الصدد دور الشرارة التي أطلقها التونسيون بثورتهم الرائعة التي أطاحت بنظام بن على، إلا أنه ما كان لتلك الشرارة أن تتحول إلى إعصار يؤجج الثورة ضد الظلم في أرجاء الأمة العربية إلا بعد أن انفجرت ثورة المصريين وأعادت الحياة إلى قلب الأمة العربية، فترددت أصداؤها ما بين الجزائر واليمن. إن الثورة المصرية اعتبرت كارثة بالنسبة للقيادة الإسرائيلية، بمجرد أنها أسقطت النظام القائم وأجبرت رئيسه على التنحي، ومن يتابع تعليقات الصحف الإسرائيلية وتصريحات المسؤولين هناك يلاحظ ثلاثة أمور: الأول أنهم يدركون أن العالم العربي بعد 25 يناير سيكون مختلفا عنه قبل ذلك التاريخ، ولذلك يتوقعون أن يشهد العام الحالي متغيرات جذرية في المنطقة. الثاني أنهم بدأوا يعيدون النظر في استراتيجيتهم الحربية، وهو ما أعلنه رئيس الأركان الجديد بينى غانتس في خطاب تعيينه قبل أيام. حين قال إن الملف المصرى سيكون على رأس أولويات الاستراتيجية الجديدة، بما يقتضي إدخال تعديلات على خطة السنوات الخمس القادمة (2012 ــ 2017). الأمر الثالث أن خطة إسرائيل للهجوم على إيران سوف تتأجل، لأن إتمام ذلك الهجوم كان يتطلب وجود حليف «متعاون» مثل الرئيس السابق يقمع ويهدئ من غضب العالم العربي، ويمنعه. وفي غيابه لم يعد هناك مجال للقيام بذلك الهجوم. وهو ما قاله ألوف بن أحد أبرز معلقي صحيفة هاآرتس. ذلك حدث وكل ما فعلته مصر حتى الآن أنها فقط استيقظت من سباتها وفتحت أعينها، فما بالك بها حين تصبح دولة ديمقراطية حقيقية تملك قرارها وتدافع عن كبريائها. وهذه هي الخلفية التي تسوغ لنا الآن أن نرفع شعار مصر أولا، لأننا على ثقة أنها إذا نهضت واستعادت حيويتها ودورها فإن ذلك سيكون إيذانا بنهوض الأمة العربية بأسرها، وإعلانا عن عودة العرب إلى التاريخ بعدما هجروه وانفصلوا عنه.

500

| 20 فبراير 2011

الشعب يريد إسقاط النظام

نريد أن نبقى على الهتاف مدويًا في الفضاء المصري، لأنني صرت أسمعه في الجزائر تارة وفي عدن وصنعاء تارة أخرى، في حين اختفى من مصر تماما، لذلك خشيت أن يظن الذين ظلوا يرددونه كل يوم طوال أسبوعين على الأقل أن مهمتهم قد انتهت حين تنحَّى «الرئيس» عن منصبه. ما دعاني إلى الدعوة إلى استحضار النداء أن ما نشهده الآن في مصر يذكرنا بأن رأس النظام وحده الذي سقط في حين أن جسمه لا يزال موجودا ولم يكف عن الحركة التي لا نستطيع أن نطمئن إلى براءتها. فثمة إشارات لاحت مؤخرا، بدا منها أن بعض المنتفعين بالنظام يحاولون الالتفاف على الثورة، ولا نستبعد منهم أن يسعوا إلى إجهاضها. ولا سبيل إلى التصدي لذلك إلا بدق الأجراس التي تلفت الأنظار إلى أن الشعب غير مستعد للتنازل عن مطلب إسقاط النظام، كما تنبه إلى محاولات القفز والإجهاض التي يراد لها أن تختطف الثورة أو تفرغها من مضمونها. أدري أنه لم تمض سوى أيام معدودة على تنحى الرئيس مبارك وتولى المجلس العسكري للسلطة في البلاد. وأعرف حجم المهام الجسام التي ينهض بها المجلس في إدارته لمجتمع تعرَّض للنهب والتشويه والإفساد طيلة ثلاثين عاما. كما إنني لا أستطيع أن أتجاهل أن المجلس سارع إلى إصدار عدة قرارات لمحاربة الفساد والحفاظ على ثروة البلد أدت إلى حبس بعض كبار المسؤولين السابقين ومنع آخرين من السفر والتحفظ على أموالهم. ولا نستطيع أيضا أن نتجاهل أخبار الضغوط الداخلية الممثلة في الإضرابات والمطالبات التي انتشرت في بعض المؤسسات والوحدات الإنتاجية، وكذلك ضغوط الدول الكبرى التي تريد لحركة الثورة أن تتساوق مع إستراتيجيتها وحساباتها الإقليمية. وهو ما يصور مدى جسامة المسؤولية الملقاة على كاهل العسكريين الجدد، كما يصور حجم الجهد الهائل الذي يبذلونه لتحقيق الإنجاز والاستقرار على كل تلك الجبهات. نقدر ذلك الجهد، إلا أننا لا نستطيع أن نخفي قلقا إزاء المعلومات التي تسربت حول موقف فلول النظام الذي دعت الثورة إلى إزالته. هذه المعلومات تقول إن أركان النظام السابق الذين لم يختفوا تماما يتحركون، وأن تحركاتهم تلك ليست في صالح الثورة، يشجعهم على ذلك أن رجالهم لا يزالون موجودين على رأس المؤسسات الإعلامية التي أسهمت طول الوقت في التضليل والكذب والتشويه، كما أنهم على رأس المؤسسات الأمنية التي مارست القمع والتعذيب وإذلال المصريين، وفي مقر رئاسة الجمهورية التي لا تزال جسورها مفتوحة مع الرئيس السابق. وثمة تسريبات تحدثت عن أن بعض المنتفعين من الحزب الوطني الذي أحرقت الجماهير مقره بدؤوا يتحركون خلال الأيام القليلة الماضية، وأنهم شرعوا في الإعداد لخوض الانتخابات القادمة، تحت مسميات أخرى، من ناحية أخرى، فهناك تساؤلات حول الأيدي التي حركت الإضرابات والاعتصامات التي جرت مؤخرا في العديد من المصانع، وحول ملابسات خروج جماعات من السلفيين فجأة في أكثر من مظاهرة رفعت شعارات مريبة في مضمونها وفي توقيت إطلاقها. وهناك شك في أن يكون ذلك كله مرتبا لإحداث الفوضى وإثارة الفتنة في البلاد. أدري أن المجلس العسكري تولى السلطة منذ أيام قليلة وانه يُظلم إذا طولب بتغيير كل شيء في البلاد خلال تلك الفترة الوجيزة إلا أنني تمنيت عليه أن يتبنى مواقف معلنة تهدئ الخواطر وتزيل أسباب البلبلة والشك التي بدأت تراود البعض. وهو ما تحققه إجراءات من قبيل إطلاق سراح سجناء الرأي والذين انتهت محكومياتهم ولا يزالون تحت الاعتقال، وتنحية القيادات الإعلامية والأمنية التي لوثت عقول الناس وأذلتهم طوال الثلاثين عاما الماضية، والوعد بوقف التعذيب وإغلاق مقاره التي اعتبرت فروعا لجهنم، وحظر الاعتقال العشوائي الذي لاتزال أجهزة النظام القديم تمارسه حتى هذه اللحظة. إننا لم نعرف حتى الآن من الذي أصدر قرار سحب الشرطة وفتح السجون وإثارة الفوضى، ولا مَن المسؤول عن قتل المئات وجرح الآلاف، وبالتالي لم يحاسب أحد على تلك الجرائم، الأمر الذي يضيف أسبابا جديدة للحيرة والبلبلة. من ثَمَّ فما لم يقدم المسؤولون في المجلس العسكري على شيء من هذه الخطوات، أو على الأقل يعدون بإنجازها في توقيتات محددة، فإننا ينبغي ألا نتوقف عن الهتاف قائلين: الشعب يريد إسقاط النظام.

500

| 19 فبراير 2011

خيانة المثقفين

أستاذ التاريخ الذي امتدح السلطان في الكتاب المدرسي الحكومي، ثم ذمَّه بعد خلعه في مقالة منشورة، لا يختلف عن الصحفي الذي ظل يلعق حذاء السلطان طول الوقت، وما إن تمت الإطاحة به حتى هتف صائحا «انتصرنا»، وحدثنا بعد ذلك عن «تنظيف مصر» من بقايا النظام الفاسد. كلاهما من «جنود فرعون» الذين تحدثت عنهم أمس، وإن كان الأول جنديا يعمل نصف الوقت، بعد فراغه من التدريس بالجامعة. أما الثاني فهو جندي متفرغ كل الوقت. والأول التحق بكتيبة النفاق متطوعا كي يستفيد ماديا من مكافآت الوزارة، والثاني منافق محترف تم استئجاره لكي يؤدي تلك الوظيفة. وكما أن الذي صاح «انتصرنا» ليس فردا ولكنه واحد من كتيبة النفاق، التي لوثت سمعة الإعلام المصري وشوهت الإدراك العام، فإن أستاذ التاريخ سابق الذكر من نماذج المثقفين، الذين تعلقوا بأهداب السلطان واستسلموا للغوايات، التي جعلتهم يتنافسون على الالتحاق بجنود فرعون. في وقت سابق، ثار جدل في مصر حول «أزمة المثقفين» وحظوظ أهل الثقة وأهل الخبرة، لكننا بعد أربعة عقود من ذلك الجدل نستطيع أن نتحدث الآن عن خيانة المثقفين. أقصد بذلك خيانتهم لدورهم كمعبرين عن ضمير الأمة، وتطوعهم بالانتقال إلى مربع المعبرين عن مصالح الطغيان المهيمن. وهو جرم أكبر مما اقترفه الإعلاميون. ولست في مقام تبرئة الأخيرين أو إعذارهما، لأن الاثنين متورطان في الإثم، لكنني أزعم أن جرم المثقفين أفدح، لأنهم متطوعون ولم يطلب أحد منهم ذلك. أما الإعلاميون فهم موظفون لأجل ذلك. الأولون تطوعوا لخدمة السلطان تقربا منه وطمعا في رضاه وعطاياه. والآخرون عينوا خدما للسلطان وقبلوا بذلك وسعدوا به. ليس جديدا استخدام المثقفين من قبل الطغاة، فقد كانوا دائما أحد الأبواق، التي لجأوا إلى استخدامها للتغرير بالناس وتضليلهم. ولعل كثيرين يذكرون ما جرى في ألمانيا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات، حين كشفت الوثائق عن أن عددا كبيرا من المثقفين ــ الأكاديميين والكتاب والفنانين ــ لم يكونوا يروجون للنظام فحسب، ولكنهم أيضا كانوا يكتبون التقارير للأجهزة الأمنية عن الناشطين والمعارضين. وكتاب الحرب الباردة الثقافية للباحثة البريطانية ق. س. سوندرز، الذي صدر في إطار المشروع القوي للترجمة يوثق الأساليب، التي اتبعتها المخابرات المركزية والأمريكية لاستخدام الفنانين والأدباء في الصراع بين القطبين الكبيرين. حدث ذلك أيضا في مصر، حيث انضم بعض المثقفين إلى جوقة المهللين للأب والمسوقين للابن، والمضللين لجموع المصريين. وأحسب أن فترة حكم الرئيس السابق، التي استمرت ثلاثين عاما كما وفرت فرصة كافية لنظامه لكي يتولى تفكيك مؤسسات الدولة وإعادة تركيبها على قياسه وطبقا لهواه، فإنها أيضا وفرت وقتا كافيا لإنجاح جهود أغواء المثقفين وترويضهم. ومن ثم ضمهم إلى حظيرة السلطان، بعد الإغداق عليهم بالأموال والهبات، إلى جانب ترفيعهم في المراتب والوظائف بطبيعة الحال. لا عذر لهؤلاء وينبغي أن يحتلوا مكانهم في صدارة قوائم العار. ذلك أن خيانتهم لدورهم ينبغي ألا تغتفر. كما أن فضح مواقفهم والتذكير بدورهم في غش الجماهير والتدليس عليها يظل من الأهمية بمكان. ليس فقط لقطع الطريق أمامهم لكي لا يسارعوا إلى ركوب الموجة الجديدة، شأنهم في ذلك شأن أقرانهم من الإعلاميين، ولكن أيضا لكي يكونوا عظة وعبرة لغيرهم. قد نعذر المكره والمضطر، لكن المثقف الذي يتطوع لخدمة الاستبداد لا عذر له. وإذا لم يكن بمقدوره أن يكون شريفا يجهر بالحق وينحاز إلى صف الجماهير المغلوبة على أمرها، فإن ذلك لا يسوغ له أن ينبطح ويصبح خادما للسلطان. حين رفض الأديب صنع الله إبراهيم في حفل علني جائزة الدولة التي منحت له، فإنه ضرب المثل للمثقف الشريف، الذي اختار أن يجهر برفضه للسلطان أو عطاياه. ومن ثم سجل موقفا يحسب له وميزه على غيره ممن تسابقوا على عطايا السلطان والانخراط في جنده. إننا قد لا نستطيع أن نطالب كل المثقفين بأن يكونوا شجعانا ويجهروا بمواقفهم، وقد نقبل منهم أن يلتزموا الصمت توقيا لأي مخاطر يتوقعونها، لكننا لا نقبل منهم بأي حال أن يصبحوا أعوانا للاستبداد، لأنهم بذلك لا يخونون أماناتهم فحسب، ولكنهم يفقدون شرعيتهم أيضا.

820

| 17 فبراير 2011

جنود فرعون

حين وجدت أن الصحيفة القومية العريقة نشرت صورة للمظاهرات على صفحة كاملة وفوقها كلمة واحدة هي «انتصرنا»، انقبض قلبي على الفور وقلت: إذن نحن هزمنا وانتكسنا، ونجحت غارة الخيول والجمال والبغال في تحقيق هدفها. لكنني اكتشفت بعد لحظات أن الكلمة تحدثت عنا وليس عنهم. وأن الذين كتبوها ونشروها انضموا إلينا وتقدموا «الثوار». ليس ذلك فحسب، وإنما اعتلوا المنصات وراحوا يزايدون على الجميع في التنديد بزمن الطغيان وفضح جرائم رموزه. مساء اليوم ذاته تلقيت اتصالا هاتفيا من معد أحد البرامج التلفزيونية الذي دعاني إلى المشاركة في حلقة نقاشية حول الآمال المعلقة على الثورة. وكنت أعلم أن أسمى مدرج ضمن قوائم الممنوعين من الظهور على شاشات تلك القناة الخاصة، تماما كما هو حاصل على قنوات التلفزيون الرسمي (للعلم: أثناء ثورة الغضب دعيت إلى المشاركة في برنامج صباحي تبثه قناة خاصة أخرى، وبعد دقائق من وصولي إلى مقرها قطع التيار الكهربائي فجأة، فألغيت الفقرة التي كنت ضيفا عليها). قلت لمن اتصل بى إن قناتهم سيئة السمعة، وإنها أسهمت في تضليل المشاهدين وتشويه وجه الثورة وإنها تضامنت مع التليفزيون المصري في الدور القذر الذي لعبه أثناء الأحداث، ولذلك فإنه لا يشرفني أن أظهر على شاشاتهم. فوجئ محدثي بردى فقال إن الدنيا تغيرت، وإن بوسعي الآن أن أقول ما شئت في البرنامج. وعندئذٍ قلت إن الشجاعة لا تختبر حين تظهر الأضواء خضراء في الأفق، ولكنها تقاس بمقدار تحدى الأضواء الحمراء، خصوصا حين يتعلق الأمر بمصير البلد ومصالحه العليا وبأمانة التعبير عن ضمير الأمة وأشواقها. لم يكن موقف الصحيفة العريقة والقناة الخاصة استثنائيا، ولكنه جزء من ظاهرة صرنا نعايشها كل صباح. ذلك أن كل الإعلاميين الذين هللوا للفرعون الأكبر وشاركوا في تأليه الفرعون الأصغر، والذين بطشوا بالناقدين والمعارضين، وضللوا وغرروا بالخلق أجمعين، هؤلاء جميعا انقلبوا على ولي نعمتهم وأصبحوا ثوريين مبشرين بالفجر الجديد. غسلوا أيديهم وضمائرهم بسرعة فائقة وصاروا حراسا لحلم الشعب بعد أن كانوا خدما في بلاط الفرعون. لا أتحدث عن كل الإعلاميين بطبيعة الحال، لأن الساحة لم تخل من شرفاء رفضوا الانبطاح، وظلوا قابضين على الجمر، ومستعصين على التطويع والترويض. لكنني أتحدث عن الأعوان الذين نصبهم الفرعون لكي يديروا المؤسسات الإعلامية لحسابه، وتحولوا بمضي الوقت أبواقا لها وظيفة واحدة هي خداع الرأي العام وتضليله، والتستر على كل صور الفساد الذي استشرى في أوصال النظام. في سورة القصص بالقرآن آية أدانت فرعون لكنها عممت الإدانة على بطانته أيضا، حين ذكرت «إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين»، والأول رمز للسلطة المستبدة والثاني رمز للثروة الفاجرة. وأظننا نعرف على من ينطبق الوصفان في زماننا، لكن ما يعنيني في السياق الذي نحن بصدده هو «جنود فرعون» الذين ظلوا أعوانا لهما، ومن ثم فرقوا معهما في مستنقع الخطيئة. ولسنا نبالغ أو ندعى إذا قلنا إن الذين قادوا منابر الإعلام الرسمي طوال الثلاثين سنة الأخيرة لم يكونوا سوى جنود فرعون الذين وصموا بالخطيئة. وكل ما صدر عن هؤلاء موثق، إما بالصوت والصورة، أو بالكتابات التي نشرت على الملأ، وبالتالي فإن سجل الإدانة بين أيدي الجميع، وبوسع كل أحد أن يطالعه لكي يعرف موقع كل واحد من تلك القيادات بين جنود فرعون. لقد توقعت، تمنيت إن شئت الدقة، أن يتنحى هؤلاء عن مواقعهم بعدما ذهب فرعون وطويت صفحته. وتمنيت أن يقول قائلهم إنه لم يعد لهم مكان بعدما خلع سيدهم وأطاحت به انتفاضة الجماهير، وإنهم لا يستطيعون أن يخدموا النظام ونقيضه في الوقت نفسه. لكنهم يبدو أنهم تطبعوا بطبع سيدهم، الذي رفض التنحي ولم يغادر مكتبه إلا مخلوعا بواسطة الجماهير التي أصرت على رحيله. لست أدعو إلى تصفية الحسابات أو الانتقام، وأدعو الجميع لئلا يقسوا ولا ينسوا. ذلك التي اعتبر التسامح قيمة ينبغي أن تأخذ مكانها بعد نجاح أي ثورة. لكنني أزعم أن «خلع» جنود فرعون في المجال الإعلامي بوجه أخص الذي يعد صوت المجتمع ومرآته، من ضرورات «تنظيف» مصر ما بعد 25 يناير، ولتخليص الساحة من المنافقين والانتهازيين ومحترفي التضليل وتشويه الإدراك العام.

1103

| 16 فبراير 2011

مراجعات على خطاب ما بعد الثورة

بعض الأفكار المتداولة في الساحة المصرية بعد الثورة تحتاج إلى مراجعة وتصويب، لأنني أخشى أن يدفعنا الحماس إلى الوقوع في الغلط.. وفي اللحظات الراهنة فإن الغلط مشكلة، وما ينبني عليه مشكلة أكبر. (1) ثمة نكتة رائجة في مصر تقول إن الرئيس مبارك التقى الرئيسين جمال عبد الناصر والسادات في السماوات العلى، فسألاه: سُم أم منصَّة، فرد عليهما باقتضاب قائلا: فيس بوك، وهو كلام إذا جاز في مقام النكتة فإنه حين يساق في ذكر الحقيقة يصبح بحاجة إلى وقفة، ذلك أن كثيرين باتوا يعتبرون ما جرى ثورة الفيس بوك، بما يعطي انطباعا بأنه لولا تلك الأداة في التواصل بين النشطاء، ومعها «تويتر»، لما انفجر غضب المصريين ولما قامت ثورة 25 يناير. ولا أحد يستطيع أن ينكر أهمية الدور الذي لعبه الاثنان في العملية، لكننا لا ينبغي أن نبالغ في تقدير الدور الإلكتروني في تقييم الثورة. ذلك أن فيس بوك وتويتر هما ضمن أدوات وقنوات الاتصال الحديثة، التي تساهم في النشر والبث غير المؤسسي.. بمعنى أنها لا تخضع للمعايير المهنية المتعارف عليها في وسائل الإعلام المعروفة، وتعتمد أساسا على ما ينشره المستخدمون، وذلك أهم ما يميزها.. لكنها تظل في نهاية المطاف مواضع تساهم في النشر والتواصل شأنها في ذلك شأن أي وسيلة أخرى، كالرسائل النصية للهاتف المحمول، وقنوات التلفزة وحتى الهاتف الأرضي. أدري أن ما نشره الوسطاء والمستخدمون العاديون على الفيس بوك وتويتر أسهم بشكل رئيسي في إيصال كم كبير من المعلومات المهمة والصور ومواد الفيديو.. إلخ.. أدري أيضا أن صفحة «كلنا خالد سعيد» على الفيس بوك مثلا ضمت نحو نصف مليون مستخدم وكانت تنشر كل ما له صلة بالاحتجاجات والمظاهرات المناوئة للنظام، وحتى ما ليس له صلة بقضية خالد سعيد، مما أسهم في تشكيل وعي الكثيرين أو تحفيز آخرين للتحرك، لكن يجب الانتباه إلى أن الملايين التي خرجت في المظاهرات المليونية في أنحاء مصر، وهي تعلم أنها ستواجه ببطش الأمن وذخيرته وهراواته أو قد تعتقل، هذه الملايين لم تجازف بأمنها وحياتها ولم تتحرك بهذا الشكل الجماعي في هذه الملحمة التي استمرت 18 يوما، لم يكن فيس بوك هو الذي دفعهم إلى الثورة التي تعارف كثيرون على وصفها بأنها «ثورة شباب الفيس بوك». وهي المقولة الرومانسية التي تناقلتها الألسن، والتي أزعم أنها تبخس جموع الشعب العظيم حقها.. فلا كان فيس بوك مفجر الثورة ولا كان الشباب وحده رجالها ووقودها، وإنما هي ثورة الشعب المصري بكل فئاته العمرية وبكل أطيافه: الرجال والنساء، الكبار والصغار، المسلمون والأقباط، الأغنياء والفقراء.. هؤلاء جميعا انتفضوا ولم يتحركوا من فراغ، وإنما حركهم شعورهم بالمهانة ودفاعهم عن كرامتهم وكبريائهم. ولم تكن رغبتهم في التغيير ولا إدراكهم لضرورة التخلص من النظام قد تشكلا بين ليلة وضحاها. ولكن ذلك كان ثمرة الشعور الدفين بالظلم والتعبئة المضادة التي دعت إلى التمرد ورفض الاستبداد والقبح من قبل كثيرين ممن صمدوا وأصروا على تحدي الخطوط الحمراء وتجاوزها. وظل ذلك المخزون جاهزا للانفجار، وحين لمعت في الأفق ثورة شعب تونس، وأدرك الجميع أنهم أقوى من كل المستبدين، فإن المصريين نهضوا وقرروا أن ينتزعوا حقهم بأيديهم دون انتظار مخلص أو بطل. (2) لقد قيل بحق إن مما يميز الثورة المصرية أن الشعب هو الذي استدعى الجيش وليس العكس، كما قيل إن الجيش في موقفه كان وفيا للشعب، وقائما بدوره التاريخي كحارس للوطن.. ورغم أنني لا أختلف في كلمة مما سبق، فإنني أرجو أن نضع الأمر في نصابه الصحيح، لكي نحفظ للجيش مكانته ودوره ولا نحمله بأكثر مما يحتمل. في غمرة حماسنا لدور الجيش وحفاوتنا به دأب بعضنا على القول بأن الجيش ضامن للشرعية في مصر. ولم يكن ذلك رأي نفر من المثقفين البارزين فحسب، ولكن ذلك ما قال به بعض كبار المسؤولين الجدد في البلد. وأعترف بأنني لم أسترح لهذه المقولة، رغم تقديري لموقف الجيش المصري أثناء الثورة وسعادتي بدوره الذي أسهم في رحيل الرئيس السابق. ذلك أنني ما إن سمعت هذا الكلام حتى قلت: هل يمكن أن يصبح الجيش ضامنا للشرعية والحقوق في بلد كإنجلترا مثلا؟ ولماذا يكون الشعب هو الضامن والحارس في إنجلترا في حين أن الجيش هو الذي يقوم بذلك الدور في مصر؟ لم أكن بحاجة لبذل جهد لكي أخلص إلى أن الشعب يصبح الضامن والحارس لحقوقه في الدول الديمقراطية، التي للشعب فيها كلمة وهو الذي يعين قادته ويعزلهم، أما الدول غير الديمقراطية التي يغيب فيها الشعب ولا يسمع له فيها صوت فإن الجيش يصبح هو القوة الأكبر وهو «الكفيل» الذي يرشح لحماية الشرعية التي تتمثل في النظام المهيمن الذي لا رأي للشعب في اختيار رموزه أو عزلهم. لدينا نموذجان لدور الجيش من حولنا، الأول في تركيا الذي ظل فيها الجيش وصيا على المجتمع والسياسة لأكثر من سبعين عاما، من ثلاثينيات القرن الماضي حتى بداية القرن الجديد، حيث ظل بمثابة الحكومة الخفية التي تدير السياسة وتراقب الحكومات وتعزلها، إلى أن وصل حزب العدالة والتنمية، إلى السلطة عام 2002، وعمل على تقليص دور الجيش ووضعه في حجمه الطبيعي ونجح في ذلك. النموذج الثاني في الجزائر التي لا يزال الجيش فيها صاحب القرار في السياسة منذ الاستقلال بداية الستينيات وحتى هذه اللحظة. ورغم الدور البطولي الذي قام به الجيش في كل من البلدين، إلا أن الجيش في البلد كان واحدا من حيث الدور البطولي الذي قام به في تحرير البلاد، فإن الهامش الديمقراطي النسبي الذي توافر لتركيا سمح بتقوية المجتمع وتعزيز عافيته بحيث تمكن في نهاية المطاف من تحجيم دور الجيش، في حين أن تراجع ذلك الهامش في الجزائر أدى إلى زيادة تمكين الجيش وتعاظم دوره هناك طول الوقت. إن السؤال الذي نحن بصدده الآن هو: هل يصبح الجيش وصيا على المجتمع كما هي الحال في الجزائر وكما كان في تركيا الكمالية، أم يكون إحدى مؤسسات المجتمع التي تؤدي واجبها في تأمينه وليس الوصاية عليه؟ لقد قرأت مقالا نشرته صحيفة «ملِّليت» التركية في (2/7) قال فيه كاتبه قدري غورسال إن مصر في وضعها الجديد بعد الثورة ستخرج من حكم العسكر الديكتاتوري إلى وصاية العسكر على حكم برلماني متعدد الأحزاب، وبذلك فإنها تحتذي نموذجا تركيا متخلفا تم تجاوزه في ظل حكم حزب العدالة والتنمية. سيكون رأي الكاتب التركي صائبا في حالة واحدة، هي ما إذا ما ظل سقف الحريات في مصر منخفضا وبقي المجتمع على ضعفه وقلة حيلته، ومن ثم يصبح بحاجة إلى «الكفيل» يأخذ بيده، الأمر الذي ينصب الجيش في دور الضامن والوصي. (3) مثلما.. يقلقني المبالغة في دور الجيش، تثير الارتياب عندي الأولوية التي تعطي في مرحلة الانتقال الحالية لفكرة تعديل الدستور، ولا يستطيع عاقل ــ فضلا عن دارسي القانون ــ أن يقلل من أهمية الدستور بأي حال. وأرجو أن تلاحظ في هذا الصدد أنني أتحدث عن الأولوية التي تعطى لذلك الملف وليس مبدأ النظر فيه. يؤيد ذلك الارتياب أن الخطوة الوحيدة التي نالت قسطا من الاهتمام في مرحلة التردد والتسويف التي سبقت تنحية الرئيس مبارك كانت فكرة تشكيل لجنة لتعديل الدستور.. التي صدر بها قرار رسمي، وبدأت عملها بالفعل، وتحددت المواد المطلوب تعديلها، وهو ما أفاض فيه السيد عمر سليمان حين تحدث عن الإنجازات التي حققها استجابة لطلب المتظاهرين، والتي كان في مقدمتها إجراء الحوار وتشكيل لجنة تعديل الدستور، والخطوتان كانتا من قبيل الفرقعات الإعلامية الفارغة. وقد قيل عن حق إن المراد بهما لم يكن لا إجراء حوار أو تعديل الدستور، إنما كان للعملية هدفان، الأول هو التجمل أمام العالم الخارجي الضاغط وإيهام عوام الغرب بأن النظام شرع في الإصلاحات فعلا ولم يعد هناك مبرر لتغييره، أما الهدف الثاني فقد كان كسب الوقت وإطالة عمر النظام لإنهاك المعتصمين والمراهنة على الوقت لإنهاكهم واستنزافهم. هذا الكلام ليس من عندي، ولكني سمعته من أحد أعضاء لجنة الفقهاء القانونيين التي شكلت للنظر في تعديلات الدستور. وخلال المناقشة معه حاولت إقناعه بأن أي نظر في الدستور أو تعديل له ينبغي أن يسبقه إطلاق الحريات في المجتمع، بما يسمح بإلغاء الطوارئ وحرية تأسيس الأحزاب، ورفع القيود عن النقابات وحرية إصدار الصحف، وغير ذلك من الإجراءات التي تفتح الأبواب واسعة لحضور القوى السياسية وتفاعلها مع الجماهير، بما يسمح في نهاية المطاف بالاحتكام إلى رأي الجماهير في انتخابات نزيهة وشفافة. إن تعديل الدستور، في ظل استمرار الطوارئ وتكبيل مؤسسات المجتمع بالقوانين المقيدة للحريات لن يحدث تقدما يذكر في البناء الديمقراطي، في حين أن إطلاق الحريات من شأنه أن يسمح بظهور خيارات وبدائل عدة أمام الناس، تكون أصدق تعبيرا عنهم. إن تعديل الدستور قبل إطلاق الحريات لن يختلف في شيء عن وضع تكون فيه العربة ولست أخفي شكي وسوء ظني بمن يحاولون إشغال الناس بنصوص الدستور المرشحة للتعديل، مع عدم التطرق لملف الحريات العامة، الأمر الذي أعتبره دليلا على السعي إلى التسويف وعدم الجدية في الإصلاح. (4) لا أستطيع أن أحسن الظن أيضا بالذين لا يرون في الثورة الحاصلة سوى الإضرار بالوضع الاقتصادي، وتراجع عائدات السياحة ودخل قناة السويس، وعندي في هذا الصدد ملاحظات منها: ــ أن تلك الآثار الاقتصادية جزء من الثمن الطبيعي الذي يدفعه البلد لتحقيق مكسبه الكبير المتمثل في إسقاط نظامه الاستبدادي، أملا في الانتقال إلى نظام ديمقراطي حقيقي.. وإذا كان المئات قد دفعوا حياتهم لقاء تحقيق ذلك الكسب فيتعين علينا أن نحتمل أية أضرار اقتصادية تترتب على ذلك. ــ أن الثورة استثمار للمستقبل كما قيل بحق، ذلك أنها إذا أوقفت نهب البلد واستنزاف ثرواتها، وفتحت الأبواب للإصلاح الحقيقي، فإن ذلك سيعوض أية خسائر اقتصادية راهنة. وينبغي ألا ننسى هنا أن لبنان ظل يشهد قتالا أهليا استمر ستة عشر عاما، ثم نهض بعد ذلك واستعاد عافيته وجاذبيته. ــ أن الجميع مشغولون بالفساد السياسي في مصر، وهو هم ثقيل لا ريب أحسب أن الثورة نجحت في إزاحة أكبر دعائمه، لكن المسكوت عليه في أزمة مصر هو الخراب الاقتصادي الذي أحدثه وخلفه النظام السابق والذي ظل يتستر عليه ويخفي معالمه ويزيف الشهادات الدالة عليه طوال السنوات الأخيرة، وحين تعلن حقائق الواقع الاقتصادي فسوف يكتشف الناس أن الأزمة سابقة على الثورة، وأن الذين عاثوا في مصر فسادا طوال الثلاثين سنة الماضية مصوا دماءها وتركوها قاعا صفصفا. لذلك كان لابد للنظام أن يزول بعد أن ضيع المكانة وخرّب المكان، ومن ثم ارتكب بحق مصر جريمة تاريخية مضاعفة ينبغي ألا تنسى وألا تتكرر.

509

| 15 فبراير 2011

أيكون الاعتصام هو الحل؟

سؤال الوقت فى ميدان التحرير هو: هل ينفض الاعتصام الذى دخل أسبوعه الثالث أم لا؟.. معلوماتي أن الأغلبية تؤيد فض الاعتصام، وأن لجنة النظام التى كانت تتولى أمر الدخول إلى الميدان أنهت مهمتها فعلا، إلا أن الأقلية المؤيدة للاستمرار لا يستهان بها، لأنه إذا كان عدد المقيمين فى الميدان يقدر بعشرات الألوف فى الأيام العادية، فإن تلك الأقلية السابقة الذكر تضم عدة ألوف. وبالتالى فإنها ليست من قبيل الأعداد التى يمكن تجاهل حضورها. مما سمعته، فإن رأى كل طرف لا يخلو من وجاهة. ذلك أن رحيل الرئيس مبارك ونائبه الذى اكتشفنا أنه نسخة أخرى منه بعدما أحسنا به الظن حينا من الدهر، هذه الخطوة بالغة الأهمية، تشكل المفتاح الأساسي للتحول التاريخي الذي حدث فى مصر. أما الخطوات التى يفترض أن تتم بعد ذلك، فهى من مسئولية السلطة الجديدة والمجتمع الذى ينبغي أن يظل مفتوح الأعين لحراسة المكسب الكبير الذى حققه. فى رأي دعاة فض الاعتصام أيضا أن إخلاء ميدان التحرير لن يعني اختفاء الغاضبين أو ذوبانهم، لأن الروح الجديدة التي سرت في مصر لن تنطفئ جذوتها بسهولة. بما يعنى أن جموع الغاضبين ستظل حاضرة ومستنفرة، بحيث يكون بمقدورها أن تعود إلى الاعتصام إذا جد ما يستدعى ذلك مرة أخرى. من رأيهم أيضا أن استمرار الاعتصام حتى تتحقق المطالب متعذر من الناحية العملية، ليس فقط لأن المعتصمين قد تضعف همتهم وتتراجع أعدادهم إذا طال بهم الأجل فى الميدان، ولكن أيضا لأن حجم التشوهات التى خلفها النظام السابق من الجسامة بحيث إن إصلاح ما أفسده يحتاج إلى وقت لا يعلم بحدوده إلا الله. باختصار فإن هذا الفريق يرى أن جماعات الغاضبين أدت ما عليها، حين أعادت إحياء الأمل فى ربوع مصر، وعلى المجتمع ممثلا فى فئاته ومؤسساته المختلفة أن يتحمل مسئوليته تجاه تحقيق ذلك الأمل. معارضو فض الاعتصام يقولون إن غضبة الملايين ودماء الشهداء والجرحى التى سالت تستحق أن تستمر الوقفة فى ميدان التحرير للاطمئنان إلى أن الثمن الذى دفع لم يذهب هباء. وفى رأيهم أن موقف قيادة القوات المسلحة كان شريفا ونبيلا حقا، لكن البيانات التى صدرت عنهم حتى الآن لجأت إلى التعميم وإطلاق الوعود، دون أية إشارة إلى آجال زمنية محددة تطمئن الناس إلى توقيت إنجاز تلك الوعود. على صعيد آخر، فان ثمة تصرفات تقلق المعتصمين وغيرهم، منها مثلا أن بعض زملائهم يتم اعتقالهم واقتيادهم للاستجواب فى مقر المتحف المصري المطل على ميدان التحرير. وتروج بينهم أخبار أن بعض غرف المتحف كانت قد خصصت لتعذيب المتظاهرين، على الأقل قبل تنحي الرئيس مبارك. صحيح أن أغلب الذين يتعرضون للاستجواب يطلق سراحهم بعد ذلك، لكنهم لا يعرفون مصير زملائهم الذين يستبقون، ولا يعرفون ما هى الجهة التى تتولى استجوابهم، لأن الذين يقومون بهذه المهمة يرتدون ثيابا مدنية تخفي هويتهم الحقيقية. فى هذا الصدد، فإنه يقلقهم أن المحققين مايزالون يسألون المتظاهرين الموقوفين عما إذا كانوا مدفوعين من أىة جهات خارجية أم لا. ويضاعف من قلقهم إدراكهم أن الجهات التى تتولى تلك التحقيقات يبدو أنها لم تقتنع بعد بأن تلك ثورة وطنية قام بها أبناء مصر الشرفاء، وأنها كانت تعبيرا عن أشواق مصرية وليست تنفيذا لأجندات أجنبية، كما ذكر اللواء عمر سليمان فى حواره مع التليفزيون الأمريكى الذى أهان فيه الشعب المصري، حين اعتبر أنه غير مؤهل للممارسة الديمقراطية. يقولون كذلك إن من حق مصر الغاضبة قبل أن ينهي أبناؤها اعتصامهم أن يتحققوا من اتخاذ خطوات عملية من جانب القادة الجدد، تتمثل مثلا فى إطلاق جميع سجناء الرأى، وفي إلغاء المحاكم العسكرية والاستثنائية، وفى تحديد موعد لإنهاء حالة الطوارئ حتى يسترد المجتمع كرامته ويتحرر من الوصاية والذل. وإذ رحبوا بإقالة وزير الإعلام الذى كان رمزا كريها لعصر ما قبل 25 يناير، إلا أنهم يعتبرون أن الإعلام المصري الرسمي والصحف القومية على الأقل ماتزال في قبضة رموز ذلك العصر. من ثم فإنهم يخلصون إلى أنه ما لم يتحقق شيء من ذلك سيظل الاعتصام هو الحل.

814

| 14 فبراير 2011

alsharq
جريمة صامتة.. الاتّجار بالمعرفة

نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما...

6435

| 27 أكتوبر 2025

alsharq
من يُعلن حالة الطوارئ المجتمعية؟

في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم،...

6390

| 24 أكتوبر 2025

alsharq
النعش قبل الخبز

لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...

3840

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
غياب الروح القتالية

تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع...

2955

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
نموذج قطر في مكافحة المنشطات

يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...

2859

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
النظام المروري.. قوانين متقدمة وتحديات قائمة

القضية ليست مجرد غرامات رادعة، بل وعيٌ يُبنى،...

1854

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
الدوحة عاصمة لا غنى عنها عند قادة العالم وصُناع القرار

جاء لقاء حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن...

1650

| 26 أكتوبر 2025

alsharq
أين ربات البيوت القطريات من القانون؟

واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...

1575

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
مستقبل الاتصال ينطلق من قطر

فيما يبحث قطاع التكنولوجيا العالمي عن أسواق جديدة...

996

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
كريمٌ يُميت السر.. فيُحيي المروءة

في زمنٍ تاهت فيه الحدود بين ما يُقال...

993

| 24 أكتوبر 2025

alsharq
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح

النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز...

990

| 24 أكتوبر 2025

alsharq
وجهان للحيرة والتردد

1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...

987

| 21 أكتوبر 2025

أخبار محلية