رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أول تهنئة هاتفية تلقيتها من خارج مصر بعد الإعلان عن تنحي الرئيس مبارك كانت من موريتانيا، من صديق يعمل أستاذا للفلسفة بجامعة نواكشوط. الثانية جاءتني من بيروت التي وجدت أنها تنافس القاهرة في الفرحة. الثالثة كانت من صنعاء، من أحد الصحفيين الذي فوجئت به وقد انخرط في البكاء وهو يقول إنه وجيله يشعرون أنهم ولدوا من جديد. الرابعة كانت من إسطنبول. الخامسة كانت من محام بارز في الدار البيضاء قال إنه تمنى أن يكون في ميدان التحرير ليقبل يد كل من رابط فيه. صديقي الأردني الذي حدثني من عمان قال إن مظاهرات حاشدة كانت قد خرجت احتجاجا ضد الحكومة، وحين علم المتظاهرون أن مصر الغاضبة انتفضت ضد الرئيس مبارك، فإنهم انفضوا بسرعة وعادوا إلى بيوتهم ليتابعوا على شاشات التلفزيون وقائع ما يحدث في القاهرة. من دمشق قال لي السيد رمضان شلح أمين حركة الجهاد الإسلامي إنه حين التقى الدكتور موسى أبو مرزوق نائب المكتب السياسي لحركة حماس فإن الأخير بدأ حديثا عن الأوضاع في غزة، فما كان من الأول (أبوعبدالله) إلا أن قال له إن مصر هي القضية الآن وليست غزة، لأن مصر إذا صحت فإن تلك ستكون الخطوة الأولى لتحرير فلسطين وليس حل مشكلة غزة وحدها. لست أشك في أن ما جرى معي تكرر مع غيري ممن يتاح لهم التواصل مع المثقفين العرب والطواف بعواصم المشرق والمغرب في المناسبات المختلفة. كما أنني لست أشك في أن المثقفين المصريين سمعوا مثلي حيثما ذهبوا في العالم العربي السؤال الذي ظل يتردد على الألسنة طوال الوقت حول أوان عودة مصر من تغريبتها التي طالت، فضيعتها وضيعت معها العالم العربي الذي تحول إلى فريسة توزعت على موائد اللئام. وهو ما أشرت إليه من قبل في كتابات عدة، وما سجله آخرون ممن لمسوا كيف صغرت مصر وهانت، حتى فقدت مكانتها وهيبتها، وأصبح الغيورون والوطنيون يتحدثون عنها بمشاعر يختلط فيها الحزن مع الرثاء. وباتوا يذكرونها باعتبارها فقيدا غاليا غيَّبه الموت، أو باعتبارها عزيز قوم انكسر وذل. لن أتحدث عن مشاعر الشرفاء والأحرار الذين أحبوا مصر واحترموها في العالم الخارجي، ولا عن بركان الفرح الذي انفجر في كل أرجاء وشاهد الجميع أصداءه على شاشات التلفزيون، ولكنني ألفت النظر إلى أن الحدث المصري الكبير الذي دوت أصداؤه في أرجاء العالم العربي، هو بمثابة صدمة أفزعت كل إسرائيل، قادتها وشعبها، ممن استعلوا واستكبروا حين تصوروا أن مصر أصبحت جثة هامدة وأماتت معها العالم العربي. وفي عجزها وخيبتها فإنها غدت في النظر الإسرائيلي «كنزا استراتيجيا» يتعين الإشادة به والحدب عليه. أما قيامة مصر، واستعادتها لكبريائها وكرامتها بما قد يستصحبه ذلك من أصداء في العالم العربي، فإنها تعد كارثة تهدد الإستراتيجية الإسرائيلية وتستدعي إعادة النظر في مرتكزاتها. لم يعد سرا أن أبالسة السياسة الإسرائيلية تحوطوا لذلك الاحتمال أثناء توقيع معاهدة كامب ديفيد معهم، ومن ثم أخذوا على الرئيس السادات ونظامه الذي كان مبارك استمرارا له تعهدات وضمانات لا نعرفها، أريد بها ألا تدخل مصر مع إسرائيل في حرب أخرى، بعد الصدمة التي تلقتها بالعبور الذي تم في عام 1973. وقد كانت تلك التعهدات حاضرة في خلفية إشارات السادات المستمرة إلى أن ما وقع بين مصر وإسرائيل هو «آخر الحروب». ولا تفوتك في هذا السياق دلالة ما حدث أثناء ثورة الشعب المصري حين أعلنت إسرائيل أنها «سمحت» للرئيس مبارك بإدخال بضع مئات من جنود الجيش المصري إلى سيناء (التي هي جزء من التراب المصري)، وطلبت تحديد موعد لخروجهم. وفي وقت لاحق رفضت طلبا مصريا بزيادة ذلك العدد، حيث يبدو أن حكومة الرئيس مبارك أرادت أن تحتاط لمواجهة أي تهديد فلسطيني من غزة (!!). بذات القدر فينبغي ألا تفوتك دلالة التحليل أو التحذير الذي نشرته صحيفة هاآرتس أمس (السبت 12/2) في سياق مقالة كتبها زفاي بارئيل، وكان عنوانها «يجب على الجيش المصري أن يسير على نهج مبارك». في دعوة صريحة لضم الجيش بدوره إلى كنز إسرائيل الاستراتيجي!. لست من الداعين إلى فتح ملف العلاقات مع إسرائيل الآن، ولكن الحاصل أنهم هم الذين يستدعونه، وكذلك الولايات المتحدة وحلفاؤها، بل إننا وجدنا أن السيدة ميركل المستشارة الألمانية حين علقت على ما حدث في مصر فإنه لم يشغلها في أمر الثورة المصرية سوى مدى تأثيرها على معاهدة السلام مع إسرائيل. إن صحوة مصر تطرد النوم من عيون كثيرين، ممن يعرفون حقيقة قدرها، وهو ما لم يعرفه أبدا نظام مبارك الذي ظل طوال ثلاثين عاما عاجزا عن أن يفهم هذا البلد أو يعرف قدره. لذلك لم يكن غريبا ألا يفهم ثورة شباب مصر وأن يعجز عن استيعاب رسالتهم.
547
| 13 فبراير 2011
لا أعرف على ماذا استند رئيس الوزراء السيد أحمد شفيق حين قال في حواره التلفزيوني إن أغلبية الشعب المصري تريد من الرئيس مبارك أن يكمل ولايته حتى شهر سبتمبر المقبل، لكن الذي أعرفه ويعرفه الكافة أن عدة ملايين في أنحاء مصر أعلنوا منذ أسبوعين على الملأ ــ بالصوت العالي والصور ــ أنهم يريدون منه الرحيل. أعرف أيضا أن الذين خرجوا مؤيدين للرئيس كانوا عدة مئات في الإسكندرية ومدن أخرى، وأن التظاهرة التي خرجت لتأييده في القاهرة لم يزد عدد الذين انضموا إليها على ألفي شخص حشدوا في ميدان مصطفى محمود بالجيزة، أغلبهم من عمال مصانع وجهات تابعة للحكومة أو يملكها رجال الأعمال، تم حملهم إلى الميدان بأوامر عليا في حافلات تابعة لتلك الجهات. وإلى جانب أولئك المؤيدين رأينا مئات من عناصر الأجهزة الأمنية والبلطجية وخريجي السجون، ومعهم سرب من راكبي الخيول والجمال والبغال، جميعهم تم استئجارهم لإسكات صوت المطالبين برحيل الرئيس مبارك ونظامه. لم ينفرد السيد أحمد شفيق بما قاله، ولكننا وجدنا أن آخرين من المتحدثين باسم السلطة أو المنتفعين منها والمتعلقين بأهدابها، يؤكدون أن الذين احتشدوا في ميدان التحرير لا يمثلون رأي الشعب بالضرورة. واعتبروهم قلة في بلد تجاوز تعداد سكانه 80 مليون نسمة. وخلصوا من ذلك إلى أن الذين لم يخرجوا إلى الميدان هم جميعا من يؤيدون الرئيس مبارك. وكأن المطلوب من كل مصري أن يوقع باسمه على بطاقة يحدد فيها ما إذا كان منحازا إلى شباب الثورة أم متضامنا مع رموز الاحتكار والثروة. علما بأن الاستطلاعات وقياسات الرأي في العالم أجمع لها أساليبها العلمية التي تستطيع بها أخذ عينات من المجتمع تعتمد عليها في تقدير مؤشرات واتجاهات الرأي العام في أي بلد. ورغم أن بعض الباحثين يتحدثون عن قيام بعض الجهات التي يسمونها «سيادية» في مصر بإجراء مثل هذه الاستطلاعات بصورة غير علنية، إلا أن سريتها لا تمكننا من التعويل على نتائجها. فضلا عن أنني لا أثق كثيرا في الاستطلاعات وقياسات الرأي التي تجريها جهات حكومية. ذلك أنه كما أن لدينا «ترزية» قوانين، فلدينا أيضا ترزية استطلاعات، يقومون بتفصيلها حسب الطلب. حتى أنني أستطيع أن أحدد من الآن ــ وبغير أي مجهود ــ أن أحدد من يكون رجل العام وامرأة العام، حتى شهر سبتمبر المقبل على الأقل. وغني عن البيان أننا لا نستطيع أن نعول أو نحترم نتائج الانتخابات الأخيرة التي تم تزويرها، وادعى الذين أداروها أن الحزب الوطني اكتسحها وحصد 95? من مقاعد مجلس الشعب، حيث يكفي أن مقر الحزب الوطني كان أحد المباني التي تم إحراقها في بداية الثورة جنبا إلى جنب مع بعض أقسام الشرطة. ولا يزال مقره المتفحم شاهدا على الفساد السياسي الذي كان الحزب ضالعا فيه قبل ثورة 25 فبراير. للخروج من دوامة الجدل حول ما إذا كانت الأغلبية تؤيد رحيل الرئيس أم تتمسك ببقائه، فإنني أقترح استفتاء شعب مصر حول الموضوع، بشرط واحد هو ألا يكون لوزارة الداخلية أو الحزب الوطني دور في تنظيمه، وأن يتم بالكامل تحت إشراف القضاء. وخطر لي أن تشكل لجان التصويت والفرز من اللجان التي برزت في مختلف الأحياء لحراستها بعد الانفلات الأمني الذي حدث في يومي 27 و28 يناير، على أن تتولى القوى السياسية المختلفة مراقبة سير العمل في تلك اللجان. أعرف مقدما أن الاقتراح لن يكون مقبولا من جانب رجال ما قبل 25 يناير القابضين على السلطة، الذين لا يزالون يكابرون حتى الآن ويرفضون الاعتراف بأن شرعية نظامهم قد أسقطتها ثورة الشباب. إضافة إلى أنهم أحاطوا ملف الرئاسة بهالة من القداسة، واعتبروه غير مطروح للمناقشة، الأمر الذي أغلق باب الحوار الجاد حول الموضوع. إن مقام الرئاسة لابد أن يحترم حقا، وكرامة رئيس الجمهورية من كرامة البلد لا ريب، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب احترام قرار الشعب وكرامة الأمة. كما أن العناد يظل مرغوبا إذا كان في مواجهة الذين لا يريدون للبلد خيرا من القوى المهيمنة والاستكبار في الخارج. لكن معاندة رأي الشعب تصبح رذيلة تفقد الرئيس ونظامه شرعيتهما، ولكي لا تكون تلك الشرعية محل جدل فلماذا لا تستفتي الشعب الذي نص الدستور في مادته الثالثة على أنه وحده صاحب السيادة ومصدر السلطات. وأكرر أن إجراء الاستفتاء ينبغي أن يكون مشروطا برفع يد وزارة الداخلية والحزب الوطني عنه، ببساطة لأن اشتراكهما يعد ردة إلى عصر ما قبل 25 يناير.
702
| 10 فبراير 2011
التبس علينا موقف الإخوان المسلمين، فلم نعرف على وجه الدقة أين يقفون، مع ميدان التحرير أم ميدان لاظوغلي. والأول صار معقلا لثورة 25 يناير الباسلة، والثاني يعرفه الإخوان جيدا، ولابد أن أي ناشط محترم مر به، لأنه مقر وزارة الداخلية التي غدت الرمز والمقر غير المعلن لسلطة الحكم في مصر. منذ تفجرت الثورة في 25 يناير كان الإخوان في ميدان التحرير، ضمن الجموع الهادرة التي احتشدت هناك مطالبة برحيل النظام ورئيسه. وحينما أدرك أهل ميدان لاظوغلي أن المسألة جد ولا هزل فيها، وأن الثائرين أبدوا استعدادا لبذل أرواحهم فداء لقضيتهم تواصلت تراجعاتهم التكتيكية على النحو الذي يعرفه الجميع. وبعد تبديل بعض الوجوه لتحسين الصورة أطلقت الدعوة إلى الحوار. وبعقلية الحوارات التقليدية التي كانت تجرى قبل 25 يناير، التي كانت السلطة تتعامل فيها مع المجتمع باستهانة وازدراء شديدين، فإن ما سمى حوارا كان بمثابة إملاءات على رموز «المعارضة» السياسية في تلك المرحلة، الذين كانت غاية طموحهم أن يحظوا برضا السلطة والسلطان، لكي يظفروا بشيء من المغانم السياسية وغير السياسية. ذلك كان مفهوما في عصر ما قبل 25 يناير، بما شابه من خلل في موازين القوة بين السلطة والمجتمع، وفي ظله كان ميدان لاظوغلي هو الذي يتحكم في السياسة ويصنع السياسيين. وهو ما اختلف جذريا الآن بعدما أعلن المجتمع رفضه للسلطة وسحب منها شرعيتها، وبعدما انتقل القرار إلى ميدان التحرير، في حين أصبح أهل لاظوغلي محل اشتباه وفي قفص الاتهام. في خطابه الذي أعلن فيه أنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية الجديدة. دعا الرئيس مبارك إلى إجراء حوار مع مختلف القوى السياسية، وتحدث عن عدة تكليفات لمؤسسات الدولة، وحين عقد نائب الرئيس جلسة الحوار المفترض التي شارك فيها الإخوان، كما حضرها نفر من «المعارضين» الذين تربوا وكبروا على أيدي جهاز أمن الدولة، صدر بعد الجلسة بيان تضمن خلاصة الحوار، وبدا صورة مستلهمة لكل ما جاء في خطاب الرئيس. حتى أنني حين قرأت البيان قلت على الفور: هل لا يزال خطاب الرئيس خطة عمل للحاضر والمستقبل؟ البيان كان تعبيرا عن رغبات الرئيس التي اضطر إلى إعلانها بعد الذي جرى، ولم يكن فيه شيء له صلة بالمطلب الأساسي للثورة التي انطلقت من ميدان التحرير. بكلام آخر فإن البيان تحدث بلغة ما قبل 25 يناير وتجاهل تماما هدف الثورة، وإن غطى ذلك ببعض الكلمات التي جامل بها الشباب وببعض الوعود التي تستجيب لرغبات الناس. لكنها جميعا تالية في الترتيب للمطلب الأول المتمثل في الرحيل. كما فعل الإسرائيليون حين تجاهلوا ملف الاحتلال، واستدرجوا الفلسطينيين إلى قضايا تفصيلية أخرى لكسب الوقت وتشتيت الانتباه، مثل الحدود والمياه والاستيطان وتبادل الأراضي، فإن البيان اتبع ذات النهج حين سكت على الموضوع الأصلي الذي من أجله خرجت الملايين، وقتل مئات الشهداء وسقط آلاف الجرحى. وكان نصيب هؤلاء من جلسة الحوار وقفة لمدة دقيقة حدادا على أرواح الراحلين. قال لي نفر من المشاركين إنهم أبلغوا بأن موضوع تنحية الرئيس أن نقل صلاحياته إلى نائبه خط أحمر ليس مطروحا للمناقشة، الأمر الذي جاء مؤكداً أن نظام ما قبل 25 يناير يرفض الاعتراف بأن شيئا تغير في البلد، وهو ما بات الذي يستوجب مزيدا من الثبات والصمود في ميدان التحرير وتوجيه مزيد من الضغط على الذين يصرون على تجاهل حقيقة التطوير المثير الذي حدث في مصر. مشكلة الإخوان إنهم ــ أو بعضهم ــ فرحوا بالإعلان الرسمي عن دعوتهم للحوار، وحضروا الاجتماع الذي تجاهل المطلب الأساسي لثورة 25 يناير، ثم حاولوا تدارك الموقف وتغطيته حين أعلنوا لاحقا أنهم لا يزالون يتمسكون بمطالب ثورة الشباب، وحسبوا أنهم بحضورهم كسبوا نقطة لدى الحكومة، وبإعلانهم اللاحق فإنهم ظلوا يحتفظون بموطئ قدم في ميدان التحرير. وللأسف فإنهم خسروا الاثنين، لأن السلطة استدرجتهم واستخدمتهم في الحوار، ولن تعطيهم شيئا مما تمنوه (قياداتهم تعرف ذلك جيدا). كما أن الذين ذهبوا إلى الحوار منهم فقدوا ثقة شباب ميدان التحرير. وما لم يعلنوا انسحابهم من الحوار ويلتحقوا بعصر ما بعد 25 يناير مؤكدين على تبني المطلب الأول الذي يصر على التنحي، فإنهم سيخسرون الكثير في الدنيا والآخرة.
1009
| 09 فبراير 2011
حين يستمر توجيه رسائل الغضب من ميدان التحرير صباح كل يوم على مدى الأسبوعين الماضيين، ويتلقاها أهل السياسة في أرجاء الكرة الأرضية، باستثناء أولى الأمر في مصر، فلا يعني ذلك أنهم لم يفهموا، لكنه يعني أنهم لا يريدون أن يفهموا. ــ1ــ لست أشك في أنهم في مصر سمعوا بالموضوع، بدليل أنهم تحركوا وأجروا بعض التغييرات التي تدل على أنهم استلموا الرسالة، ووقفوا على موضوعها، لكن التجربة أثبتت أنهم أداروا ظهورهم لها وقرروا ألا يفهموها، على الأقل فإنهم لم يقتنعوا بعد بأن مصر بعد 25 يناير أصبحت مختلفة عن مصر قبل ذلك التاريخ، وأن المجتمع المصري ولد من جديد، حقا وصدقا، الدليل على ذلك أن الخطاب الإعلامي الرسمي، ممثلا في قنوات التلفزيون والإذاعة والصحف القومية، مازالت تتحدث بلغة مصر ما قبل 25 يناير، إذ تعامل مع ثورة الشباب وكأنها مظاهرة قام بها طلاب إحدى المدارس الثانوية، وظل همه وشاغله طوال الوقت هو كيف يمكن أن يقدم شبابها بأنهم أقرب إلى تلاميذ في «مدرسة المشاغبين» في المسرحية الشهيرة، لم يأخذهم التلفزيون الرسمي المصري على محمل الجد، وليته وقف عند حدِّ الاستخفاف بهم، ولكنه ذهب إلى تعمد تشويهم والتحريض عليهم وتضليل المشاهدين بمختلف الحيل والأساليب لقطع الطريق على أي محاولة لفهم قضية المتظاهرين أو التعاطف معهم. وفي المرات التي قدر لي أن أتابع خلالها بعض البرامج التي بثها التلفزيون خلال الأسبوعين الماضيين وجدتها تتحدث عنهم بحقد ومرارة وازدراء، حتى بدا أشد عليهم بأكثر من شدته على الإسرائيليين، وإذا كان بعض رجال الأمن الذين تخفوا في ثياب مدنية وأقرانهم من البلطجية قد عمدوا إلى إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين فجر يوم الأربعاء الأسود، فإن التلفزيون المصري ما برح يطلق عليهم ذات الرصاصات طول الوقت، ولم يكن ينقص موقف التلفزيون ــ لكي يتطابق مع ما حدث في ميدان التحرير ــ سوى أن يستجلب مجموعة من الخيول والجمال والبغال، لكي يطلقها بدوره على المتظاهرين، رغم أني لاحظت أن بعض مقدمي البرامج قاموا بالمهمة بجدارة عالية. إن النظام المصري في إصراره على عدم فهم الرسالة قرأ سطورها مستخدما منظار ما قبل 25 يناير، أو هكذا بدا في خطابه السياسي والإعلامي على الأقل، من ثَمَّ فإنه اعتبر أن الشباب الذين خرجوا إلى ميدان التحرير في ذلك اليوم في تظاهرة سلمية أطهارا ومخلصين وأبرياء، وأن خروجهم يومذاك كان مشروعا ومرحبا به من جانب النظام، وادعى بعد ذلك أن جماعات لها أجنداتها الخاصة اختطفت الثورة منهم واستولت على الميدان، وراحت توجه التظاهرة وجهة أخرى مشبوهة وغير وطنية (مسؤول كبير في الدولة قال هذا الكلام) ــ وأريد بهذه الخلاصة الإيحاء بأن السلطة التي رحبت بالمتظاهرين في البداية، كان عليها أن تتصدى لعملية الاختطاف لإجهاض المخططات المشبوهة وغير الوطنية التي حملها الخاطفون الوافدون. ــ2ــ بهذا التصور الساذج والمبتذل تعامل النظام مع المتظاهرين، وحاول أن يبرر أمام الرأي العام حملة تشويههم، وكانت رسالته أن الحملة لا تستهدف الأبرياء والمخلصين الذين خرجوا في البداية، ولكنها موجهة ضد أولئك الأشرار الذين اختطفوا التظاهرة واستغلوا البراءة لتحقيق أهدافهم المشبوهة. إن منظار ما قبل 25 يناير لا يرى في مصر وطنين محبين لبلدهم وغيورين على كرامته ومتشبثين بحلمه، ولكنه يقسم الناس قسمين، أخيار موالون للنظام وأشرار يعارضونه. وهؤلاء الأخيرون ليسوا مواطنين شرفاء أصحاب قضية، ولكنهم قلة مندسة وعملاء لجهات أجنبية وكائنات غريبة يخفي كل منهم في طيات ثيابه أجندة سرية. نفس المنظار لم يمكن أهل السلطة من رؤية الحشود المليونية التي اجتمعت تحت راية الدعوة إلى الرحيل، كما أنهم صمُّوا آذانهم عن سماع شيء من هتافات الجماهير الهادرة، ولكنهم لم يروا غير عمليات النهب والسلب والحرائق التي اشتعلت والخراب الذي حل على أيدي المليشيات المحسوبة على النظام. بالتالي فإن شاشات التلفزيون وصفحات الصحف الحكومية حفلت إما بالحديث عن الذين «اختطفوا ثورة الشباب البريء» وعن «العملاء» الذين تسللوا إلى البلد لإشعال الحرائق فيه، وصرنا نقرأ كل يوم أخبارا مسرَّبة عن إلقاء القبض على فلسطينيين تابعين لحماس وإيرانيين وعناصر من حزب الله ووجوه لها سمات أفغانية، وأجانب آخرين من أصول مختلفة، وظل هدف البث هو إقناع المصريين بأن ما حدث في ميدان التحرير ليس ثورة شعب ولكنه مؤامرة دبرها أجانب، استهدفت أمن مصر واستقرارها. هذا السيناريو الهابط الذي ينكر على المصريين وطنيتهم ويستكثر عليهم استعادتهم لكرامتهم لجأ أيضا إلى استخدام فزاعة الإخوان، التي ما برحت تلوح بها أبواق النظام في حديثها عن واقعة «الاختطاف». وهي ذات الفزاعة التي أصبح يتكئ عليها في تبرير استمراره رغم سوءاته، بحجة أن البديل عنه (المتمثل في الإخوان) أسوأ وأخطر، وقد سبق له استخدام الفزاعة ذاتها في تبرير عمليات القمع التي تعرض لها المعارضون عامة والإخوان خاصة، أثناء ما سمي بالحرب على الإرهاب. ورغم أن أعدادا غير قليلة من المراقبين والصحفيين الغربيين أدركوا أن الإخوان موجودون حقا، ولكن الوجود الأكبر ظل للجماهير العريضة الموزعة على مختلف الاتجاهات، فضلا عن أن بينهم أعدادا كبيرة من الوطنيين العاديين الذين لا يصنفون ضمن أي فصيل سياسي، أقول رغم ذلك فإن بعض كبار المسؤولين في السلطة وإلى جوارهم عدد من كتاب النظام وما لا حصر له من البرامج والحوارات التلفزيونية. لا يملون من ترديد الموال، ويتصورون أن الجمهور بدوره لا يزال مغيب الإدراك. كما كان في ما قبل 25 يناير، استخفافا بإدراكه وتهوينا من شأنه. إن الذين وضعوا على أعينهم منظار ما قبل 25 يناير لم يروا وعيا مصريا ناضجا في مسيرات ميدان التحرير المليونية بالقاهرة، كما لم يروا الحماس الجارف في عيون مئات الألوف الذين رفعوا لافتات الرحيل في الإسكندرية والسويس وبورسعيد والزقازيق والمحلة والمنيا وغيرها من محافظات مصر، ولا رأوا الشوق إلى الخلاص في هتافات جموع المصريين الذين تجمعوا أمام السفارات المصرية في العواصم الغربية، ذلك كله لم يكن مرصودا من جانب رجال السلطة لسبب جوهري هو أنهم لم يعتادوا قراءة الواقع المصري إلا من خلال التقارير الأمنية والوشايات المخابراتية، التي باتت تستسهل اعتبار الإخوان المسلمين مصدرا لكل الشرور في داخل مصر وخارجها. ــ3ــ لا تزال عقلية ما قبل 25 يناير ترفض الاعتراف بسقوط شرعية النظام الذي هيمن قبل ذلك التاريخ. ومن المفارقات أن أهل تلك المرحلة الذين دأبوا على العبث بالدستور والتلاعب بنصوصه حتى جعلوه محل سخرية القاصي والداني، ولم يكفوا عن الازدراء بالقانون والدوس بأحذيتهم على أحكام القضاء، هؤلاء هم أنفسهم الذين يتحدثون الآن بجرأة مدهشة عن ضرورة احترام الشرعية الدستورية ويتعلقون بأهداب نصوص أعدها «الترزية» المشهورون لكي تكون مضبوطة على القد والقياس. لقد لجأوا أكثر من مرة إلى تعديل الدستور استجابة لهوى السلطان، ونجحوا في تمرير التعديل من خلال مجلس مزور، ورئاسة متواطئة، ثم قالوا لنا إن هذه الشرعية، هو ما كان من قبيل الاستغفال الذي جسد ازدراء الرأي العام والاستخفاف به. على مدار عدة سنوات كان الدستور يتحدث عن النظام الاشتراكي وقوى الشعب العاملة، وفي ظل ذلك الدستور تم الانفتاح وجرى الانتقال إلى النظام الرأسمالي الذي توحشت فيه الرأسمالية الجديدة، وفي ظل الدستور الذي يمنع المسؤولين من البيع والشراء والاستئجار من الدولة، تم البيع والشراء وتم نهب الدولة، وفي ظله أيضا صدرت قائمة طويلة من الأحكام واجبة النفاذ، ولكن السلطة تجاهلتها وأهدرتها طول الوقت، إذا كان ذلك قد حدث في الماضي، فلماذا الوقوف الآن أمام المطالب الشعبية تعللا بنصوص الدستور، إلا إذا كان ذلك لغرض مشكوك في براءته. إن نية التفاعل مع المطلب الشعبي إذا توافرت، فإن لها سندا في المادة الثالثة من الدستور ذاته الذي يجري التلويح به الآن، وهي التي تنص على أن «السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها...» وفي المادة ما يكفي للاستجابة لتلك الإرادة الشعبية الجامعة التي عبرت عنها الجماهير في وقفاتها المليونية. من ناحية ثانية، فإن المشكلة الحقيقية تكمن في تكييف ما جرى في 25 يناير، ذلك أننا إذا اعتبرنا ذلك ثورة فإنها بذلك تكون قد اكتسبت شرعيتها منذ أعلنت سقوط النظام الذي سعت إلى تغييره، ولها في هذه الحالة أن تصوغ شرعيتها المؤقتة في مرحلتها الجديدة، إلى أن ترتب أوضاع الشرعية الدائمة بناء على الدستور الذي تتوافق على إصداره ــ أما إذا لم تعترف بأنها ثورة فإن ذلك له ترتيب آخر يخضع للأوضاع الراهنة، ويقودنا إلى المناقشات العقيمة الجارية، ومن الواضح أن المحتشدين في ميدان التحرير، والملايين الذين أيدوهم وتضامنوا معهم يعتبرون أن ما حققوه ثورة تسعى إلى تنحية النظام القائم وإحلال نظام جديد مكانه، يستجيب لتطلعات الشعب المصري ويعيد إليه كرامته وكبرياءه، بالمقابل فإن النظام القائم وبعض القوى السياسية المتحالفة أو المتواطئة معه لا ترى فيما جرى سوى أن غضبة شعبية أو انتفاضة مؤقتة أحدثت بعض الضجيج وقدرا من التنفيس، وبعدما أدت غرضها فإن كل شيء ينبغي أن يعود إلى سابق عهده، بعد إطلاق بعض الوعود الجذابة واتخاذ بعض الخطوات التجميلية، ويبدو أن الجهود التي تبدل خارج ميدان التحرير الآن منصبة على تثبيت الفكرة الأخيرة. ــ4ــ لأن ما جرى يوم 25 يناير مبهر للغاية، فإن ميدان التحرير خطف أبصارنا بقدر ما إن قلوبنا تعلقت به، وهو حدث مستحق لا ريب، لكن أحدا لم يلاحظ الروح الجديدة التي سرت نتيجة له في أنحاء مصر، ولا أقول في العالم العربي بأسره، ولست أبالغ إذا قلت إن المواطن المصري يومذاك لم يسترد وعيه فقط، ولكنه استرد كرامته أيضا، وقد تلقيت رسالة بهذا المعنى من أحد الباحثين المصريين المقيمين في الولايات المتحدة عبر فيها عن ملاحظته أن زملاءه الأمريكيين أصبحوا ينظرون إليه باحترام أثار انتباهه. وإذا كان قد حدث في أقصى الأرض، فلك أن تتصور وضع المصري في العالم العربي، الذي ظل ينظر إليه طوال السنوات الماضية نظرة إشفاق ورثاء، بعد أن صغر حجمه وتراجعت مكانته بذات القدر الذي صغرت به مصر وتراجعت مكانتها. حين عادت الروح إلى الشارع المصري، أصبح الناس أكثر تماسكا وسرت في أوساطهم ريح عطرة اجتاحت المرارات والإحن، وأرست أسس المودة والمحبة بينهم. وحين خرج الشباب في مختلف الأحياء، فإنهم اكتشفوا أنفسهم وأقاموا فيما بينهم أواصر مودة لم يعرفوها من قبل. إذ أدركوا أنهم لا يحرسون بيوتهم وأهاليهم فقط، ولكنهم يحرسون أيضا وطنا عزيزا يستحق أن يذودوا عنه. أدرك الجميع أنهم استعادوا وطنهم ممن خطفوه ونهبوه فنسوا كل ما فرقهم واحتضنوه. فقد ذابت الخلافات السياسية والعصبيات الدينية وصار الحفاظ على ذلك الإنجاز الرائع هو شاغلهم الأوحد، لم نر اشتباكا بين مسلمين وأقباط ولا بين إسلاميين وعلمانيين، ولا بين الشرطة والأهالي، حتى التحرش الذي تحول إلى ظاهرة في شوارع القاهرة وغيرها من المدن الكبرى اختفى ولم يعد له أثر، واكتشفنا أن كل هؤلاء اجتمعوا في ميدان التحرير في تلاحم مدهش، لم يرتبه أحد ولا فضل فيه لأحد، وإنما كان احتضان الحلم هو الذي جمعهم، وظل أملهم في الانتقال إلى عصر ما بعد 25 يناير شاغلهم الأوحد وهدفهم الأسمى، وتلك هي الرسالة التي رفض القائمون على الأمر أن يفهموا مغزاها وعجزوا عن إدراك معناها. لذلك كان من الضروري أن يرحل ذلك العصر بكل رموزه، لكي يتحول الحلم المستعاد إلى حقيقة. كوتيشن أدرك الجميع أنهم استعادوا وطنهم ممن خطفوه ونهبوه فنسوا كل ما فرقهم واحتضنوه، فقد ذابت الخلافات السياسية والعصبيات الدينية وصار الحفاظ على ذلك الإنجاز الرائع هو شاغلهم الأوحد.
507
| 08 فبراير 2011
نريد أن نصدق الوعود، ولكن الذين يطلقونها هم أنفسهم الذين يكذبونها. نريد أن ننسى أنهم تلاعبوا بمشاعرنا وضحكوا علينا كثيرا وافترضوا فينا البلاهة والغباء، لكنهم لا يكفون عن تذكيرنا بما فات حين حدثونا عن أزهى عصور الحرية وحكمونا طول الوقت بقانون الطوارئ. وحين وعدونا بانتخابات نزيهة ثم زوروها بغير خجل، وحين وعودنا بالإصلاح السياسي ثم عمدوا إلى تكريس تأييد السلطة وإلغاء الإشراف القضائي على الانتخابات وتوسيع نطاق المحاكم العسكرية، وحين تباهوا بارتفاع سقف حرية التعبير ثم انقضوا على منابر الإعلام الحر وقمعوا المراسلين الصحفيين. وحين حدثونا عن دولة المؤسسات وسيادة القانون، ثم عصفوا بهما وأصبحت مقدرات البلد حكرا على مؤسسة الرئاسة وسيادة الرئيس.. وحين وحين إلخ. ذلك كله استمر طوال الثلاثين عاما الماضية، ويبدو أن أسلوب المراوغة والالتفاف والمراهنة على بلاهة الشعب المصري وغبائه تحول إلى طبع يصعب الخلاص منه حتى بعدما انفجرت ثورة 25 يناير التي أعادت الروح إلى مصر وجددت أملها في مستقبل تستعيد فيه كرامتها وكبرياءها وقرارها. خلال الأيام العشرة الماضية تتابعت أمام أعيننا خمسة مشاهد تجلى فيها ذلك الطبع الرذيل على النحو التالي: * وجه الرئيس حسنى مبارك خطابا إلى الأمة كان أهم ما فيه إعلانه عن عدم الترشح للانتخابات الرئاسية الجديدة ولغته التي مست شغاف بعض القلوب. وظننا أنها محاولة لتحقيق الأشواق وترطيب الجوانح، لكننا لم نهنأ بذلك الشعور طويلا ذلك أنه بعد مضي ساعة فقط من ذلك الخطاب العاطفي، كانت مجموعات البلطجية وميليشيات الأجهزة الأمنية تتقدم نحو المعتصمين في ميدان التحرير، حاملة معها السيوف والجنازير وأسياخ الحديد، التي كانت مقدمة للمذبحة التي أريد لها أن تقع صبيحة اليوم التالي. وكانت النتيجة أنهم لم يشتبكوا مع المتظاهرين فحسب، ولكنهم أيضا نسفوا في الوقت ذاته كل أثر إيجابي لكلام الرئيس. * بعض المسؤولين في النظام ــ رئيس الحكومة ورئيس مجلس الشورى بوجه أخص ــ تحدثوا في البداية عن تأييدهم لحق الشباب في التظاهر السلمي. وحين صدق البعض هذا الكلام وتشجعوا مما جعلهم ينضمون إلى التظاهرات في المدن المختلفة، فوجئوا بمصفحات الأمن المركزي التي قتلت منهم أكثر من 300 شخص حسب تقارير الأمم المتحدة. * في البداية جرى امتداح الشبان المعتصمين، باعتبارهم من أبناء مصر البررة الذين ينخرطون ضمن شرائح الوطنيين الذين تعتز بهم البلاد، ولكن حين ثبت أولئك الشبان على مواقفهم ولم يستجيبوا لإغراء المديح، فإن الخطاب السياسي والإعلامي تغير بمعدل 180 درجة، فثورة ميدان التحرير تحولت إلى «مهزلة التحرير» في العنوان الرئيسي لإحدى الصحف المحسوبة على الحكومة. ولم تكف الأبواق الإعلامية عن التشكيك فيهم وتشويه صورتهم، باعتبارهم يمثلون الإخوان المسلمين وعملاء لإيران وحزب الله وحماس. وكان طريفا للغاية أن البعض اتهمهم بأنهم ينفذون المخططات الأمريكية وكان الذين أطلقوا تلك الاتهامات من النائمين منذ سنوات في حضن السياسة الأمريكية. * حين حدث الهجوم على المتظاهرين بالسيوف والجنازير ولاحقا بإطلاق الرصاص الحي، واستخدمت الخيول والجمال والبغال في اقتحام ميدان التحرير، وتم ذلك في ظل الغياب التام والانسحاب المريب للشرطة، فإن جميع المسؤولين أنكروا معرفتهم بما حدث، وغسلوا أيديهم من دماء الشهداء والجرحى في تعبير آخر عن الاستهبال والاستغباء، كأن هؤلاء المهاجمين هبطوا على أرض مصر من السماء. * في الوقت الذي تشكلت فيه عدة لجان من «الحكماء» قيل إن بعضها تم برعاية وتشجيع من السلطة، ثم نشرت الصحف أخبارا عن اجتماعات لأولئك الحكماء مع عدد من كبار المسؤولين، كانت ترتيبات الأجهزة غير المرئية تجهز لفض الاعتصام في ميدان التحرير، عن طريق رفع الحواجز وسحب الدبابات، وكانت أذرعها تمتد لاعتقال عدد من الناشطين واختفاء آخرين في ظروف غامضة، الأمر الذي أعطى انطباعا بأن ما قيل عن تفاوض وتحرك للحكماء لم يكن سوى وسيلة لتخدير المشاعر وكسب الوقت تمهيدا للانقضاض وتصفية الثورة ــ كيف نصدقهم إذن حين ثم يدعوننا للاطمئنان إلى الوعود التي أطلقوها وكيف بالله عليكم نثق في أن استمرارهم يشكل ضمانا للاستقرار في المستقبل؟
740
| 06 فبراير 2011
خلاصات الوثائق التي بثتها الجزيرة خلال الأيام الأربعة الماضية تثير ما لا حصر له من الأسئلة التي تتعلق بمضونها، لكني معني في اللحظة الراهنة بالعثور على تسمية مناسبة للقضية التي كان يجرى الحديث عنها و للفعل الذي ظل يمارس خلالها. ذلك إنني بعدما تتبعت محاضر الجلسات و أذهلني المدى الذي ذهبت إليه العروض الفلسطينية، اعتبرت أن وصف ما جرى بأنه مباحثات أو مفاوضات أو تفاهمات أو تنسيق أمني هو من قبل التغليط و التدليس. و أقنعني ما وقعت عليه بأن أوصاف بريئة من ذلك القبيل يضلل الجماهير و يخدع الفلسطينيين بوجه أخص، من حيث إنه يوهمهم بأن ثمة آلية تتحرك، و أن ثمة أخذا و ردا من شأنه أن يأتي للفلسطينيين بشئ في نهاية المطاف، في حين أن ما أثبتته الوثائق أن الأمور تمضي في اتجاه مختلف تماما، وأن محورها الحقيقي هو كيفية تصفية القضية و إجهاض الحلم الفلسطيني بأفضل إخراج سياسي ممكن. صحيح أنهم ظلوا يقولون للإعلام كلاماً آخر حماسياً وجذاباً، لكننا اكتشفنا أن كلامهم في الغرف المغلقة كان مختلفاً كثيراً.إذ في حين ظلوا يتشددون و يتشدقون برفض فكرة يهودية الدولة الإسرائيلية، فإن الوثائق نقلت على ألسنتهم -مثلا- أنهم يوافقون على أي تسمية تطلقها إسرائيل، لكنهم لا يريدون إعلان ذلك ولا صدمة الرأي العام الفلسطيني و العربي. بسبب من ذلك، فقد اعتبرت أن تسمية الفعل من الأهمية بمكان. إذ كما يحدث فى التقاضي حين يتم التكييف القانوني للجريمة، و ما إذا كانت مخالفة أو جنحة أو جناية، الأمر الذي يترتب عليه توجيه إلى محكمة معينة، و يضع سقفا للعقوبة فيها، فإننا بحاجة لأن نحدد هوية الجريمة السياسية التي كشفت عنها الوثائق لكي نبني على ذلك التداعيات الأخرى الضرورية. و ادعو في ذلك إلى التريث وعدم التعجل في إطلاق التكييف المطلوبا إلا بعد الإجابة على الأسئلة التالية: * بماذا يوصف «المفاوض» الفلسطيني حين يتنازل عن حق عودة أكثر من خمسة ملايين فلسطيني و يعرض عودة عشرة آلاف فقط خلال عشر سنوات؟ * ماذا نقول في المفاوض المذكور حين يبدي استعداداً لتقديم تنازلات في الحرم الشريف، ثم يقول صراحة إنه يقدم لإسرائيل أكبر أورشاليم (يقصد القدس) في التاريخ؟ * هل يمكن أن نطلق وصف التعاون أو التنسيق بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية و نظيرتها الإسرائيلية، حيت يتفاهم الطرفان على قتل بعض قادة المقاومة، و حين يعبر الإسرائيليون عن إعجابهم بالأداء الفلسطيني و يتحفظون فقط على قيام الآخيرين بتعذيب «أشقائهم» المقاومين، الأمر الذي يثير حفيظة الدول المانحة؟ * هل يدخل فى باب التعاون و التنسيق أن يقول صائب عريقات إننا قتلنا أبناء شعبنا للحفاظ على النظام، الذي يقصد به حماية أمن إسرائيل. و حين يعتبر رجال الأمن الفلسطينيين أنهم اعتقلوا في عام واحد 3700 من شباب المقاومة و استجوبوا4700 آخر للاشتباه في علاقاتهم بالمقاومة كما صادروا 1100 سلاح كان يفترض أن يوجه إلى صدر إسرائيل، بأنه نجاح؟ * هل يعقل أن يدعو سلام فياض إلى تشديد الحصار على غزة و يدعو أحمد قريع إسرائيل إلى احتلال معبر فيلادلفيا (صلاح الدين) لإحكام ذلك الحصار؟ * بماذا يوصف قول أبو مازن للإسرائيليين إن أى رصاصة توجه إلى إسرائيل تعد موجهة إلى الفلسطينيين أيضا؟ و من هم هؤلاء الفلسطينيون المتوحدون مع عدوهم التاريخي؟ * كيف يوصف المشهد الذي طالبت فيه السلطة الفلسطينية بمزيد من السلاح لمواجهة حماس فى غزة، و كيف نفهم قول وزيرة الخارجية تسيبي ليفني لكل من عريقات و قريع أن هدف إسرائيل الإستراتيجي هو تقويتكم و إضعاف حماس؟ و بماذا نفسر اعتبار العدو الإسرائيلي تقوية السلطة هدفا استراتيجيا له؟ * بماذا نفسر أيضا قول أبو مازن إنه أقنع أحد رجال الأعمال الفلسطينيين بالتبرع بمبلغ 50 مليون دولار لتمويل إذاعة خاصة بالسيد حسين موسوى المرشح السابق للرئاسة في إيران؟ أرجو أن تفكر معي جيداً في العثور على تكييف مناسب للفعل الذي أقدم عليه المفاوض الفلسطيني، و أن تستتبع ذلك بالتساؤل عن شرعيته في هذه الحالة و جدارته بالحديث عن القضية الفلسطينية و جدارته بالانتساب إلى فلسطين.
592
| 27 يناير 2011
بالقنبلة التي فجرتها قناة الجزيرة مساء يوم الأحد الماضي (23) استحق شهر يناير الذي بدأت به العشرون الثانية من القرن الجديد أن يوصف بأنه شهر المفاجآت الصاعقة. ومن المبكر الآن أن نطلق هذا الوصف على العام الجديد، لكن القدر الثابت أن جرعة المفاجآت التي توالت هذا الشهر ستكون لها تداعياتها وأصداؤها على مدار العام. فقد بدأ الشهر -و العام- بتفجيرات الإسكندرية التي راح ضحيتها 23 شخصا. وبعدها بأيام قليلة حسمت مسألة انفصال جنوب السودان عن شماله، وإن كانت شهادة ميلاد الدولة الجديدة لم تحرر بعد. ولم نكد نخرج من أجواء الانفصال حتى انفجرت الثورة الشعبية في تونس، التي خطفت الأبصار ولا يزال رنينها يدوي في الفضاء العربي. ونحن مشدودو الأبصار إلى تونس، فجرت قناة الجزيرة قنبلتها التي أصابتنا جمعيا بالدوار، وألقت بنا في بحر الحيرة والدهشة. فنحن لم نكن نحسن الظن بالمفاوضين الفلسطينيين حقاً، ولدينا ما لا حصر له من علامات الاستفهام والتعجب حول أداء السلطة في رام الله، وتعاونها الأمني مع الإسرائيليين ضد المقاومة الفلسطينية، لكني واحد ممن لم يخطر لهم على بال أن تصدر عنهم أمثال تلك المواقف التي سجلتها محاضر جلسات المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، والتي بثتها قناة الجزيرة هذا الأسبوع. كانت عيننا على تونس تتابع ثورتها، وعيننا الأخرى على لبنان تلاحق تفاعلات بركانها الموشك على الانفجار، فإذا بوثائق الجزيرة تهبط علينا كصاعقة من السماء، فتلهينا عن هذا وذاك، مستدعية معها عديدا من الأسئلة الملتهبة والمتفجرة. وقبل أي حديث عن المضمون فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان سؤال حول مدى صحة هذه الوثائق ومدى دقة المعلومات الخطيرة التي أوردتها. وقد حاولت أن أتحرى إجابة السؤال منذ شرعت القناة في بثها مساء الأحد الماضي. وفهمت من الذين رجعت إليهم أنها في حوزة الجزيرة منذ شهر أغسطس الماضي، وأنها منذ ذلك الحين خضعت لعمليات فحص وتدقيق من جانب مجموعة من الخبراء والمختصين، الذين كان من بينهم الأوروبيون والأمريكيون وثيقو الصلة بهذه العملية. وقد ظل هؤلاء يعملون طوال أكثر من أربعة أشهر، وخلصوا في نهاية المطاف إلى أن المحاضر أصلية وأنه لا أثر لأي تدخل أو تلاعب فيها. علمت أيضاً أن بعض المعلومات التي يمكن أن تهدد أناسا معينين حجبت في الوقت الراهن، حيث ارتأى مسؤولو وحدة الشفافية بالقناة أن ذلك الحجب لا يؤثر على دفة المحاضر ولا جوهر المناقشات التي جرت. هي المرة الأولى التي يتسرب فيها هذا الكم من الوثائق (1600) عن المفاوضات العربية الإسرائيلية، الأمر الذي أتاح لنا أن نتعرف على ما يجري في الغرفات المغلقة، والذي كان يقال لنا دائماً إن السياسيين العرب يقولون في تلك الغرفات كلاماً في حين يخاطبون الرأي العام بكلام آخر، وهو ما تؤيده وتؤكده محاضر الجلسات التي أذيعت، والتي بدا فيها المفاوض الفلسطيني ليس عارياً فحسب، وإنما منبطح بصورة فاضحة وصاعقة. ذلك أن الحوارات التي جرت كشفت عن أن المفاوض الفلسطيني لم تكن لديه أية خطوط حمراء. إذ أبدى استعدادا مذهلا ومروعاً للتنازل عن القدس الشرقية وعن حق العودة وعن الحدود. بل أبدى استعداداً مماثلا للتعاون مع الإسرائيليين في قتل الفلسطينيين المقاومين (إذا كان هذا هو التعاون فكيف يكون التواطؤ إذن؟). من الملاحظات المهمة على الوثائق أنها كشفت لنا عن أن الطرف الفلسطيني هو الذي يعرض التنازلات واحدا تلو الآخر، في حين أن المفاوض الإسرائيلي يكتفي بتسجيل النقاط لحسابه وحصد الثمار. وحين يكون الأمر كذلك فإن مثل ذلك المفاوض الفلسطيني يصبح الوحيد المؤهل لتصفية القضية وإغلاق ملفها. وهو ما يفسر لنا الطروحات الإسرائيلية التي تتمحور حول إمكانات الحل النهائي. ذلك أن إسرائيل لن تجد مفاوضا يستجيب لطلباتها ويؤمنها أنسب من القيادة الراهنة، التي على رأسها السيد محمود عباس (أبو مازن). وليس ذلك مجرد استنتاج، لأن الأمريكيين ما برحوا يذكرون في كل مناسبة - وهذا ثابت في المحاضر السرية- أن أبو مازن هو الوحيد الذي يريدون التفاوض معه. وإذا أردنا أن نترجم هذا الكلام فهو يعني أن أبو مازن هو القيادي الفلسطيني الوحيد الذي من خلال موقعه كرئيس للسلطة يمكن أن «يؤمن» على تصفية القضية الفلسطينية. هذه الخلفية تستدعي ملفا آخر مسكوتاً عنه، يتصل بملابسات اغتيال الرئيس ياسر عرفات في عام 2004، والإتيان بالسيد محمود عباس بسرعة ليصبح خلفا له، ويواصل مع الإسرائيليين مسيرة «السلام». وهو السيناريو الذي تشير الوثائق إلى أن تتابع وقائعه لم يكن من قبيل المصادفات. ولكنه كان ترتيباً جهنمياً نلمس نتائجه بوضوح في محاضر الجلسات المسربة.
640
| 26 يناير 2011
نُعذر إذا لم نستطع أن نغادر الحدث التونسي، ليس فقط لأنه استثنائي وتاريخي في العالم العربي، وليس فقط لأنه أحيا فينا أملا ظننا أن تحقيقه يحتاج إلى معجزة، ولكن أيضا لأن تفاعلاته المثيرة مستمرة منذ أكثر من شهر ورسائله تتدفق بغير انقطاع وأجراسه ترن طوال الوقت. (1) حتى الآن الشارع هو البطل الحقيقي، هو الذي أطلق الثورة، وهو الذي أجهض محاولة الالتفاف عليها، وهو الذي لا يزال مصرا على تحدي الحزب الذي احتكر السلطة واختطف البلاد بعد زوال الاحتلال الفرنسي في عام 1956. أما كيف أطلق الثورة فقد بات ذلك معلوما لدى الكافة. أما قطعه الطريق على محاولة الالتفاف على الثورة واختطافها بدورها. فقد تبدى حين خرجت الجماهير معربة عن غضبها بعد إعلان تشكيل الحكومة، التي ظل على رأسها أحد رجال نظام بن علي، في حين استولى رجال الرئيس وأعضاء حزب التجمع الدستوري الحاكم على الوزارات السيادية فيها (الداخلية والدفاع والمالية والخارجية)، الأمر الذي جاء مؤكداً على أن الديكتاتور رحل حقا لكن نظامه ثابت القدم كما هو. الجماهير لم تنطل عليها الحيلة. ولم تقتنع بأن رحيل الديكتاتور وتشكيل حكومة جديدة تضم بعض قيادات المعارضة المدجنة يعني طي صفحة الديكتاتورية. ولم تصدق شعار القطيعة مع الماضي الذي رفعه رئيس الوزراء وآخرون من قيادات التجمع الدستوري. وسمعنا أناسا عاديين يقولون لمراسلي الفضائيات العربية إنه لا يعقل أن يكون أعوان الطاغية وأركان الاستبداد أنفسهم دعائم الانتقال إلى المرحلة الديمقراطية، وأن القطيعة الحقيقية يجب أن تتم مع الحزب الفاشي الذي ظل ركيزة النظام الديكتاتوري طوال العقود التي خلت. غضبت الجماهير لمجرد وجود ممثلي الحزب الدستوري في الحكومة. وكان مطلبها صريحا في ضرورة إخراجهم منها. وعبرت عن ذلك المطلب بطرق سلمية ومتحضرة. فبقيت في الشارع لم تغادره. واحتل بعضهم عددا من مقار الحزب وانتزعوا لافتاته. وفي بلدان أخرى فإن هذه الرسالة كانت توجه بأساليب أخرى، عبر إسالة الدماء والفتك برموز القمع والاستبداد. لكن ذلك لم يحدث، وإنما مارس ذلك الحضور ضغطا قويا على النقابات والقوى الوطنية، التي تبنت مطالب الجماهير الواقفة في الشارع. وكانت استقالة أربعة من الوزراء يمثلون التيار الوطني عنصرا ضاغطا أسهم في إحراج الحكومة واهتزاز صورتها. وحتى كتابة هذه السطور فإن مأزق الحكومة لا يزال مستمرا. حيث الجماهير ما زالت تعرب عن احتجاجها في الشارع. والحزب الدستوري يخوض معركته الأخيرة في الدفاع عن هيمنته وسلطانه. (2) إذا كنا قد رأينا مشهد الشارع كاملا، فإنه لم يتح لنا أن نتابع ما يجري في السراديب لست أعني ما يحيكه أركان نظام بن علي من حيل وألاعيب للحفاظ على قبضته، ولكن أعني دور القوى الخارجية التي فوجئت بما جرى وأقلقها السقوط السريع للنظام، وما يمكن أن يترتب على ذلك في المستقبل. إذا ليس سرا أن ثمة تنافسا صامتا بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا حول النفوذ في دول المغرب العربي. وهذا التنافس مشهود في جميع تلك الدول بغير استثناء. إذ لكل منهما رجاله وأدواته. خصوصا في أوساط القوات المسلحة، التي تعد على رأس قوى التغيير والتأثير. إذ يتحدث المتابعون للشأن الموريتاني مثلا عن أن فرنسا كانت وراء سيطرة الرئيس الحالي على السلطة، ويشيرون إلى أن بعض قوى المعارضة لجأوا إلى الولايات المتحدة لمقاومة نظامه. وليس سرا أن الولايات المتحدة كانت وراء استيلاء زين العابدين بن علي على السلطة في تونس عام 1987. لكن فرنسا لم تغب مع ذلك عن الساحة. وقد بات معروفا أن وزيرة الخارجية الفرنسية ميشيل اليوماري عرضت تدريب الشرطة التونسية في بداية الانتفاضة لقمع المتظاهرين. وتحدثت وسائل الإعلام عن اتصالات ملحة كان يجريها أثناء الثورة النائب اليميني الفرنسي إريك راؤول بالنظام السابق للتحذير من إتاحة الفرصة للإسلاميين في ظل الوضع المستجد. أيضا لم تغب الولايات المتحدة عن متابعة المشهد، ففي حين أعرب الرئيس أوباما عن تقديره لشجاعة الشعب التونسي، فإن كبير مستشاريه الأمنيين سارع إلى الذهاب إلى الجزائر لكي يكون قريبا من الأحداث في تونس، وقيل إنه نقل رسالة أيدت إجراء انتخابات حرة ونزيهة هناك، مشترطا عدم تمكين الإسلاميين من الوصول إلى السلطة. (3) أصبحت مشاركة الإسلاميين في العمل السياسي أحد العناوين المثيرة للغط، محليا وإقليميا ودوليا. والإسلاميون المعنيون هم بالدرجة الأولى حركة النهضة (أول مكتب سياسي لها تشكل في عام 1981)، ويقودها الشيخ راشد الغنوشي الذي اختار لندن منفى له. أما كوادر الحركة فقد توزعوا بين المنافي والسجون التونسية. والذين تابعوا أدبيات ومواقف الحركة منذ إنشائها أدركوا في وقت مبكر أنها قدمت نموذجا فكريا منفتحا ومتقدما على كثير من الحركات الأخرى. وهذا النموذج كان ملهما لحزب العدالة والتنمية الذي تشكل بالمغرب في وقت لاحق، وهو الاسم الذي اقتبسه الفريق الذي خرج من عباءة حزب الرفاه الإسلامي في تركيا تحت قيادة الأستاذ نجم الدين أربكان، وشكلوا في عام 2000 حزبا بذات الاسم الذي عرف في المغرب. وكان في مقدمة قادته عبد الله جول رئيس الجمهورية الحالي ورجب طيب أردوغان رئيس الوزراء. في تونس ــ كما في مصر ــ كان هناك حزب مهيمن وأحزاب أخرى محظوظة ومرضي عنها، وظلت تستخدم في إحكام الديكور الديمقراطي، وأحزاب أخرى محظورة ليس مرضيا عنها كان بينها حزب النهضة والحزب الشيوعي، وأحزاب معارضة أخرى. ولأن النظام كان علمانيا قحًا، فإنه استقطب المتطرفين من العلمانيين والشيوعيين، الذين كانوا ولا يزالون في الوقت الراهن يدعون إلى إقصاء حزب النهضة ويخوفون من العودة المرتقبة للشيخ راشد الغنوشي من لندن. هذه الدوائر عبرت عن مخاوفها حين قررت الحكومة التونسية فتح الأبواب على مصاريعها للتعددية الحزبية، كما أطلقت سراح المعتقلين والمسجونين السياسيين، وأعدت مشروعا للعفو عن المحكوم عليهم ومنهم المقيمون في المنافي، مما يعني إضفاء الشرعية القانونية على نشاط الأحزاب المحظورة، وفي المقدمة منها حركة النهضة والحزب الشيوعي. إلا أن حركة النهضة لا تزال الوحيدة التي تقف في حلق الجميع. من نظام زين العابدين بن علي إلى المتطرفين من العلمانيين والشيوعيين، إلى الفرنسيين والأمريكان والإسرائيليين. دعوة استثناء «النهضة» تتعذر الاستجابة إليها من جانب الحكومة الجديدة، أولا لأن حركة النهضة قدمت طوال الوقت نموذجا فكريا وسياسيا وسطيا ومعتدلا للغاية، وثانيا لأنها ظلت طوال عهد بن علي تتحرك في إطار تحالف وطني مع الأحزاب الأخرى التي اطمأنت إليها ووثقت في مواقفها وهو ما دعا عقلاء العلمانيين والشيوعيين إلى المطالبة بعدم استثنائها. وثالثا لأنه كان من الصعب على حكومة وعدت بإطلاق الحريات والالتزام بقيم الديمقراطية أن تجيز كل الأحزاب في حين تستمر في حظر حركة النهضة وإقصائها. ما يثير الانتباه في التوافق بين تلك الأطراف على المطالبة بحظر النهضة ــ أنها في هذا الموضوع بالذات تناست تناقضاتها، واعتبرت أن تناقضها الرئيسي مع الحركة، ولم يعرف ما إذا كان ذلك تصفية لحسابات أو دفاعا عن الذات، أو غيرة على مصالح غربية وإسرائيلية يمكن أن يتهددها وجود حزب إسلامي في الساحة السياسية. يثير الانتباه أيضا أن الأطراف المختلفة دأبت على التخويف من تحول النهضة إلى نموذج لطالبان واستنساخ للنظام الإيراني. ولم يخطر على بال أحد أن يراجع سجلها ليدرك أنها أقرب في عقلها السياسي إلى حزب العدالة والتنمية في تركيا. (4) اللغط مثار أيضا حول عنوانين آخرين، أولهما يتعلق بعبرة ما جرى في تونس، والثاني حول القواسم المشتركة بين الوضع التونسي وبين نظائره في العالم العربي. العنوان الأول أفاض فيه كثيرون ممن اجتهدوا في قراءة الحدث واستخلاص دروسه التي يتعين على الآخرين استيعابها وليس لدى ما أضيفه إلى تلك الخلاصات، إلا أنني لا أستطيع أن أقاوم التذكير بعدة رسائل تلقيناها من الحدث التونسي تتمثل فيما يلي: < أن منظر الرئيس بن علي في آخر خطاب له يقنعنا بأن الطغاة والمستبدين ليسوا بالقوة التي نتصورها. إذ نبهنا إلى أنهم أقوياء فقط بسلاح الجند الذي يحرسهم وأجهزة القمع التي تسحق معارضيهم. فيما عدا ذلك فهم مهزومون ومتخاذلون. وإذا كان المشهد التونسي قد بين لنا أنهم أضعف مما نتصور، فإنه أيضا أكد لنا أن الشعوب أقوى مما تتصور. < إن احتكار السلطة حين يتحول إلى هدف بحد ذاته، فإنه يدفع المستبد إلى القبول بالتلون والتقلب بين مختلف المبادئ والاتجاهات، طالما كفل له ذلك أن يبقى في موقعه. إذ يبدي استعدادا للانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية والليبرالية ولا مانع لديه من التحول إلى الثيوقراطية، ومن القومية إلى الكونية والقطرية، ومن النقيض إلى النقيض. وليس مهما الثمن الذي يدفع أو ما يستصحبه ذلك من مهانة. لأن الأهم أن يؤدي إلى تثبيت البقاء في المنصب واستمرار القبض على هيلمان الملك. < إن الحديث عن الرخاء، والنمو الاقتصادي لا ينبغي الترحيب به إلا إذا عرفنا من المستفيد منه، وهل تذهب عائداته إلى الذين اختطفوا البلد وسرقوه، أم إلى أصحاب البلد وشعبه الكادح. وما جرى في تونس يفتح أعيننا على تلك الحقيقة، لأننا اكتشفنا أن «معجزته الاقتصادية» التي تحدث عنها الرئيس السابق جاك شيراك جنى ثمارها الأثرياء وأفراد العصابة الحاكمة، وكان الفتات هو نصيب المجتمع وحظه. < إن أجهزة الأمن حين تتوحد مع النظام المستبد وتصبح سوطه وسجانه ويده الباطشة، تتحول من مؤسسة تحرس المجتمع وتسهر على أمنه إلى مؤسسة تسحق المجتمع وتعاديه. وحين أحرق المتظاهرون في تونس غطاء رأس لضابط الشرطة، وحين تظاهروا أمام وزارة الداخلية، فإنهم كانوا يعبرون عن شعور المرارة والسخط إزاء الدور القذر الذي قام به رجال الشرطة لصالح النظام. ومن الواضح أنهم أدركوا أخيرا مدى رفض الناس لهم، حتى أنهم خرجوا في مظاهرات بالعاصمة حملت لافتات تقول: أبرياء أبرياء من دم الشهداء. < إن الأنظمة السلطوية حين تمعن في إحكام الانسداد السياسي وتغلق أفق المستقبل في وجوه الجميع، فإن لغة الشارع وخروج الجماهير إليه تصبح الخيار الوحيد أمام الضائقين بالاستبداد، والراغبين في تخليص المجتمع من براثنه. وأية تداعيات تترتب على ذلك يتحمل مسؤوليتها الذين صنعوا الأزمة وليس ضحاياها. الذين يرفضون الاعتبار من الحدث، ومن ثم يرفضون تسلم رسائله، هم أنفسهم الذين ما برحوا يروجون للزعم القائل بأن تونس حالة خاصة ليس لها مثيل في العالم العربي، ليطمئنوا أنفسهم على مصيرهم، وإن ادعوا أنهم يطمئنون الناس والنظام. وهو زعم انتقدته في موضع آخر. ولاحظت أن كتابات الصحف القومية في مصر هي الوحيدة التي تتبناه وتروج له، في حين أن الإعلام الخارجي يعتبر أن التشابه مع مصر بالذات أمر مفروغ منه ومسلم به. وحين سألني أحد المراسلين الأمريكيين عن أوجه الشبه بين مصر وتونس والجزائر. قلت إن بينها أربعة قواسم مشتركة على الأقل هي: استمرار احتكار السلطة ــ انتشار الفساد ــ التغريب وفقدان الهوية ــ الدوران في فلك السياسة الأمريكية. وهي أمور يطول فيها الحديث ويضيق بها المكان.
530
| 25 يناير 2011
صحف هذه الأيام تحفل بأخبار شبه يومية تتعلق بمظاهر الفساد في أسرة الرئيس زين العابدين بن على هو وزوجته وأفراد عائلتها. ومثل تسريبات «ويكيليكس» فإنها ما برحت تصدمنا كل حين بما لم يخطر لنا على بال. فقد قرأنا أن الرئيس التونسي السابق له أرصدة في البنوك الخارجية تقدر بخمسة مليارات دولار، وأنه يملك عقارات وفنادق في العواصم الأوروبية، علاوة على بعض شركات الطيران الخاصة. كما قرأنا أن زوجته هربت ومعها طن ونصف الطن من الذهب، حصلت عليها من البنك المركزي. وهي ذاتها التي وزعت أقاربها على مختلف المواقع والمناصب التي تمكنهم من نهب أموال الدولة، حتى تصرفوا في تونس باعتبارها إقطاعية أو عزبة أهديت إليهم. إلى غير ذلك من المعلومات التي لا نعرف مدى دقتها، لكنها سوغت إطلاق وصف «المافيا» على المجموعة التي حكمت البلاد طيلة العقدين الماضين. لا تزال التسريبات مستمرة، كاشفة عن وجه شديد القبح لممارسات الرئيس وأسرته وأصهاره، أدركنا معه أنه لم يقم نظاما مستبدا فحسب ولكنه أيضا نظام فاسد لم يتورع عن سرقة أموال البلد ونهب ثرواته، أهم ما في هذه الصورة أنها تنبهنا إلى ذلك التلازم الضروري بين الاستبداد والفساد. ذلك أن تكميم الأفواه وحرمان المجتمع من المشاركة في القرار السياسي ومحاسبة المسؤولين على تصرفاتهم في أموال دافعي الضرائب وبقية موارد الدولة، فإنه تلقائيا يطلق يد أهل الحكم ويغريهم بالنهب والسلب، دونما حسيب أو رقيب. لو لم تقع ثورة الجماهير التونسية لما رأينا أو سمعنا عن شئ من ذلك، في العالم العربي بوجه أخص الذي لا يزال الحكام فيه يتمتعون بحصانة وقداسة تحول دون مساءلتهم، بل تحول حتى دون الاطلاع على شئ مما ينشر عنهم في الخارج. فالمواطن الفرنسي مثلا كان يعرف أكثر من أي مواطن عربي حقيقة فساد الرئيس وزوجته وأهلها. لأن أكثر من كتاب صدر في باريس فضح ذلك الفساد، ولم يتح لعالمنا العربي أن يعرف شيئا عن تلك الكتب إلا بعد أن سقط النظام وهرب بن على إلى الخارج. فقط في مساء ذلك اليوم كان غلاف الكتاب الذي صدر عن زوجته (حاكمة قرطاج) يتصدر شاشات مختلف التليفزيونات العربية. ليس الرئيس بن على حالة خاصة بين قادة الأنظمة المستبدة. لكن قاعدة التلازم بين الاستبداد والفساد تدعونا للاعتقاد بأن كل حاكم مستبد له في الفساد باع ونصيب. لا فرق في ذلك بين حاكم لدولة غنية أو فقيرة. لكن الفرق بين مستبد وآخر أن أحدهما قد يكون ممسكا بمقاليد الأمور في بلده، ومن ثم لا يجرؤ أحد في بلادنا على الكشف عن حجم ضلوعه في الفساد، والآخر أفلت منه الزمام وأطيح به، فسقط القناع عن وجهه وأتيح لنا أن نطالع قبح صفحته الحقيقية دونما تدليس أو تزوير. قبل عدة سنوات حين انشق السيد عبدالحليم خدام نائب رئيس الوزراء السوري ووزير الخارجية الأسبق ولجأ إلى باريس، فضحته السلطات في دمشق فسربت بيانا بممتلكاته وأنشطته التي كان مسكوتا عليها. وقتذاك كنت واحدا ممن أدهشهم حجم تلك الممتلكات واتساع نطاق تلك الأنشطة. ذلك أن الممتلكات شملت عقارات ومنتجعات وقصورا وشققا سكنية داخل البلاد وخارجها، كما أن الأنشطة شملت محلات للملبوسات والبقالة وتوكيلات تجارية وكل ما يخطر على بالك من مصادر لتحويل الأموال وتكديس الثروة. عندما أذيع ذلك البيان كتبت مقالة للأهرام أشرت فيها إلى فكرة التلازم بين الاستبداد والفساد، وقلت إن كل مسؤول كبير في المجتمعات غير الديمقراطية لابد أن يكون ضالعا في الفساد بدرجة أو أخرى. ومن ثم فله «ملفَّه» الذي يسجل وقائع فساده وخطاياه. وهو في أمان طالما ظل على ولائه للنظام، أما إذا تمرد فإن الكشف عن ملفه بات الوسيلة التقليدية لإسقاطه سياسيا واغتياله معنويا. لكن هذه الفقرات لم يحتملها الأهرام، وحذفت من المقالة، وقيل لي وقتذاك أن في الكلام رائحة غمز في الأوضاع القائمة في مصر، رغم أن الحدث الأصلي كان في سوريا. في بعض دول أمريكا اللاتينية تعاملت النخب مع الظاهرة بواقعية شديدة انطلقت من الاختيارين أخف الضررين. إذ في سبيل الخلاص من الحكام المستبدين فإنها باتت تعرض عليهم صفقة بمقتضاها تغض الطرف عما نهبوه وتعفيهم من المساءلة والمحاكمة، مقابل أن يتركوا مناصبهم ويختاروا لأنفسهم ملاذا آمنا. حيث كانت تلك النخب مخيرة بين استمرار النهب في ظل الاستبداد. وبين الإعفاء من المسؤولية عن النهب لاسترداد الحرية، لكن إحدى المشكلات الكبيرة التي نواجهها في هذا الصدد أن مجتمعنا المدني أضعف من أن يفرض مثل هذه الخيارات على الحكام المعنيين، الأمر الذي يطلق أيديهم في ممارسة الخطيئتين الاستبداد والنهب. وحينئذ يطل الخيار الثالث برأسه، بحيث يصبح الانفجار هو الحل.
700
| 24 يناير 2011
بدلا من تكفير المنتحرين وتسفيههم. أليس الأجدى والأنفع أن نحاول بشكل جاد أن نجيب عن السؤال الأهم: لماذا ينتحرون؟ ألحَّ عليَّ هذا السؤال حين وجدت بعض وسائل الإعلام عندنا مهتمة باستطلاع آراء الفقهاء في مصير هؤلاء في الآخرة وعلى أي مراتب جهنم سيتم توزيعهم، وهناك صحافيون آخرون استطلعوا آراء بعض علماء النفس الذين لم يأخذوهم على محمل الجد، وقال أحدهم إنهم يريدون لفت الأنظار فقط، وكأنهم أرادوا أن يشتهروا قبل أن يموتوا! الذين أفتوا في الموضوع تسرعوا فيما قالوه وأخطأوا فيما خلصوا إليه، على الأقل فيما نقلته عنهم الصحف المصرية. وأكبر خطأ وقعوا فيه أنهم حملوا الأحاديث النبوية التي أدانت المنتحر واعتبرته كافرا بأبعد كثيرا مما تحتمل، واعتبروه كافرا بالملة في حين أن المراد هو الكفر بالنعمة التي لا تخرج المرء من الملة. وأن المقصود هو تحذير المؤمنين حتى لا يسارعوا إلى القنوط ويفقدوا ثقتهم في رحمة الله وفرجه، فيتخلصون من حياتهم التي وهبهم الله إياها. بالتالي فإن الأحاديث النبوية نهت عن قتل النفس وحذرت من يقدم على ذلك من أنه سيكون خالدا في نار جهنم في الآخرة. فصل في هذا الموضوع الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم. حيث ذكر أن الأحاديث التي وردت في هذا الصدد وتحدثت عن خلود المنتحر في النار تحمل على ثلاثة أقوال. قول يرى أن المنتحر إذا كان واعيا بحرمة الانتحار وأقدم عليه رغم ذلك فإن الكفر بالنعمة يثبت في حقه ونال عقوبته في الآخرة. القول الثاني يرى أن المراد بالخلود طول المدة والإقامة المتطاولة لا حقيقة الدوام، كما يقال خلد الله ملك السلطان، القول الثالث إن ذلك جزاؤه ولكن الله تعالى تكرم فأخبر (في أحاديث أخرى) أنه لا يخلد في النار من مات مسلما. هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول إنه ليس لدينا حكم شرعي عام بتكفير المنتحر، ولكن هناك نهيا عنه وإدانة للمنتحر، إلا أن كل حالة ينبغي أن تبحث في ضوء ملابساتها، ولا ينبغي أن تصدر حكما عاما على الجميع. يساعدنا على استيعاب هذا الموقف أن نقيس على النص القرآني الذي يقرر أنه: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم (النساء – 148). ذلك أن الأصل هو النهي عن الجهر بالسوء، والمسلم اللعان مدان في أحاديث نبوية كثيرة، إلا أن المظلوم الذي يستشعر الغبن والقهر، يستثنى من الإدانة ويغفر له فعله. لنا أن نقيس أيضا على الآيات التي وردت في أواخر سورة الشعراء التي تقول: «والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون». إن الحكم على الشعراء ليس واحدا في هذه الآيات، ولئن كانوا ممن يتبعهم الغاوون، إلا الذين آمنوا منهم وانتصروا بعدما ظلموا مستثنون من الإدانة والعتاب. إن غضب المظلوم تفتح له أبواب السماوات، وهو معذور في كل ما يقدم عليه، سواء جهر بالسوء أو أشعل النار في نفسه. ولم أفهم لماذا نشغل أنفسنا بمصيره في الآخرة، الذي هو متروك لعدل الله ورحمته. وأستغرب جدا أن نطلق حكما بتكفير الشاب التونسي مثل محمد بوعزيزي الذي أشعل النار في نفسه، لتصبح تلك الخطوة بمثابة عود الثقاب الذي فجر الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بحكم الطاغية وتحدت جبروته. لست أخفي أنني أتشكك في براءة مثل هذه الحملات، التي تثني الناس عن التعبير عن غضبهم بعدما فاض بهم الكيل وتحملوا مظالم لا قبل لهم بها. فقد سبق أن قرأنا إدانة وتحذيرا من الإقدام على الإضراب عن الطعام، بدعوى أنه يتعارض مع النهي عن أن يلقى الناس بأنفسهم إلى التهلكة. كما قرأنا تجريما للتظاهرات التي تخرج إلى الشوارع بدعوى أنها تؤدي إلى تعطيل مصالح المسلمين، وهو ذاته التجريم الذي يدان به معارضة الأنظمة المستبدة والتمرد عليها، بزعم أن ذلك من شأنه إثارة الفرقة والفوضى في دار الإسلام.. إلى غير ذلك من الفتاوى التي تسعى في نهاية المطاف إلى حث الناس على الرضا بالقهر والظلم، وتصرفهم عن تحدى الظلم وإنكار منكراته وفواحشه. ليت الذين ينشغلون بمصير المنتحرين في الآخرة يتركوا ما لله لله. ولو كانوا مخلصين و"شجعان" حقا فليتهم يفسرون لنا لماذا أقدم أكثر من 100 ألف مصري على الانتحار في عام واحد، وهو الرقم الذي فاجأنا به مركز معلومات مجلس الوزراء (الأهرام 20/1).
720
| 23 يناير 2011
أصل الداء الذي ساعد على قتل النظام، قمعه الشديد لحرية الرأي والتعبير، وتكميمه لكل الأفواه، وسيطرته على كل وسائل الإعلام التي لم تكن تستطيع أن توجه نقدا لحكومته أو تصرفات بطانته. وكانت نتيجة هذه السياسات استمرار الغليان تحت السطح. بهذه القيود التي كبلت حرية التعبير حرم النظام نفسه من فهم أبعاد ما يجري تحت السطح، الذي ازدحم بمظاهر الزلفى والنفاق والحرص على ألا يسمع سوى ما يرضيه.. من ثَمَّ فإنه فقد جسور التواصل مع أجيال جديدة نهشت البطالة روحها وكرامتها، وكانت تلك الأجيال قوام الغضب العارم الذي اجتاح المدن. قد يكون صحيحا أن النظام حمى البلاد من أخطار تنظيمات متطرفة عصفت بأمن الجيران. لكن الاستقطاب الحاد الذي عاشته البلاد طيلة السنوات الأخيرة، والاعتماد بالكامل على قوى الأمن فقط، والعداء الشديد لكل رأي مخالف حرم النظام من مساندة قوى عديدة كان يمكن أن تكون جزءا من جبهته في الحرب على التطرف. حين يقرأ المرء الفقرات السابقة سيجد أنها تصف الأوضاع في أقطار عربية عدة. صحيح أن حالة تونس التي تتصدر نشرات الأخبار هي أول ما يخطر على البال، لكن القارئ سيلاحظ أيضا أن تونس لا تنفرد بتلك الصفات، لأنها تنطبق أيضا على أقطار عربية أخرى مغربية ومشرقية. والحق أن الفقرات كتبت في التعقيب على ما جرى في تونس، ولا غرابة في ذلك، حيث لا نكاد نجد في الحيثيات التي أوردتها أية مفاجأة. لكن المفاجأة الحقيقية أن تلك الحيثيات تم إيرادها للتدليل على أن ما حدث في تونس يمثل حالة متفردة خاصة لا تنطبق على غيرها من الدول. والمفاجأة الأخرى أن الذي كتب هذا الكلام زميلنا الأستاذ مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين المصريين (الأهرام 17/1/2011). للدقة فإنه لم ينفرد بهذا الخطاب، لأن الصحف القومية تضمنت تعليقات أخرى عبرت عن نفس الموقف، وبذلت جهدا ملحوظا لإقناعنا بأن ما حدث هناك لا يمكن أن يتكرر في مصر، وإن الذين يلمحون إلى احتمال انتقال العدوى إلى مصر يعبرون عن تمنياتهم الخاصة، بحيث إن أملهم ذاك لا يختلف عن عشم إبليس في الجنة. لا أعرف إن كان الترويج لفكرة خصوصية وتفرد الحالة التونسية تم تطوعا من جانب بعض كتاب الصحف القومية الذين التقوا عليها «مصادفة»، أم أن ثمة توجيها بذلك، ولكن الذي أعرفه أن هناك فرقا حقا بين الأوضاع في تونس ونظائرها في مصر، ولكنه بخلاف ما ادعى زملاؤنا فرق في الدرجة وليس في النوع. أعني أن ثمة أزمة واحدة في البلدين، ولكن تفاصيلها مختلفة في كل منهما. أزمة الحريات وإقصاء الرأي المخالف واحدة، والاعتماد على الأمن واحد. واحتكار السلطة والتفاف المنافقين والمهللين حول القائمين على أمرها مشهود هنا وهناك. أما الغلاء الذي طحن الناس والبطالة التي أذلتهم ودفعت بعضهم إلى الانتحار، والفساد الضارب أطنابه في دوائر عدة، ذلك كله يكاد يكون وباء لم يسلم منه كل منهما. ولا أنكر أن ثمة فرقا لابد من الاعتراف به في درجة تكميم الأفواه ومصادرة الآخرين وقمعهم، وربما كانت هناك فروق مماثلة في المجالات الأخرى، ولكن تلك الفروق لا تلغي وجود أصل الأمراض. وتظل محصورة في درجة الإصابة بها، وللعلم فثمة أوضاع في مصر أسوأ منها في تونس، أخص بالذكر منها حالة المجتمع المدني، الذي هو في تونس أقوى وأصلب عودا منه في مصر. ونظرة على وضع اتحادات العمال والنقابات المهنية في البلد تشهد بذلك. إذ هي حاضرة هناك بقوة في حين أنها غائبة أو مغيبة تماما في مصر. رغم أي تشابه يمكن رصده بين البلدين، فالذي لاشك فيه أن أحدا لا يتمنى لمصر أن تواجه ذات المصير الذي واجهته تونس. لكن التمني وحده لا يكفي، كما أن دفن الرؤوس في الرمال لا يفيد. وللعلم فإن تجنب ذلك المصير ليس فيه سر ولا سحر، حيث طريق الاستقرار وكسب رضا الناس معروف للكافة. وهذا الطريق لا ينفع إلا من خلال الإصلاح السياسي الحقيقي وليس المزور، ومن خلال الالتزام بقيم الممارسة الديمقراطية وليس غشها أو الالتفاف عليها. والعبر في هذه الحالة عديدة وماثلة بين أيدينا. لكن المشكلة تكمن في كثرة العبر وندرة المعتبرين. إن الذين لا يتعلمون من دروس التاريخ ينبغي ألا يلوموا إلا أنفسهم إذا ما ضاقت بهم الشعوب فانتفضت وألقت بهم في مزبلة التاريخ.
567
| 20 يناير 2011
أرجو ألا نخطئ في قراءة المشهد التونسي، فتنسينا الفرحة بما جرى أن الذي تمت الإطاحة به رئيس العصابة ولكن العصابة ذاتها ما زالت موجودة ومتمكنة من مقدرات البلاد. ولا أخفي أن في نفسي شيئا من استخدام مصطلح «العصابة»، فتلك ليست لغتي في التعبير، لكني سمحت لنفسي بذلك بعدما شاع الوصف في وثائق «ويكيليكس» التي تحدثت عن «المافيا» التي ظلت قابضة على الزمام في تونس طوال سنوات حكم الرئيس السابق بن علي. لقد قلت في مقام آخر: إن الاستبداد لا يخرب الحاضر فقط ولكنه يخرب المستقبل أيضا. ذلك أنه حين يطول به الأجل في السلطة فإن القائمين عليه يسعون إلى تفكيك مؤسسات المجتمع وأجهزة الإدارة وإعادة تركيبها بحيث تتحول في نهاية المطاف إلى أدوات لبسط الاستبداد والتمكين له. وفي مسعاهم ذلك فإنهم يستأصلون بدائلهم أولا بأول، بحيث ينغلق عليهم الأفق، ويظل استمرارهم هو الخيار الوحيد المطروح على الكافة. في وصفه لطبائع الاستبداد، ذكر عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير الذي حمل نفس العنوان ما يلي: إن الحكومة المستبدة تكون مستبدة في كل فروعها ومراتبها التي يقف المستبد الأعظم على رأسها. وأعوان المستبد الأعظم ورجاله لا تهمهم الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته وأنصار لدولته. وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه، فيشاركهم ويشاركونه. وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته. فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه. واحتاج إلى مزيد من الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة. واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المرتبة بالطريقة المعكوسة. وهي أن يكون أسفلهم طباعا وخصالا أعلاهم وظيفة وقربا. ولهذا لابد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة. ثم من دونه لؤما، وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان في لؤمهم حسب مراتبهم في التشريفات والقربى منه ــ انتهى الاقتباس. لسنا نضيف جديدا إذن، فقد قالها الكواكبي قبل أكثر من مائة عام منبها إلى أن المستبد الأعظم (زعيم العصابة) يختار أعوانه ممن هم على شاكلته، وهؤلاء يتوحدون معه بمضي الوقت بما يؤدي إلى مأسسة الاستبداد، بمعنى إضفاء الصبغة المؤسسية عليه، بما يحول أجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة إلى أذرع له، لذلك تصبح عملية اقتلاع الاستبداد وطي صفحته أمرا بالغ الصعوبة، وربما تتحول تلك العملية إلى معركة يسقط فيها الضحايا، لأنه بعد رحيل المستبد الأعظم فإن وجود ومصير مؤسسة الاستبداد التي ارتبطت به يصبح في خطر محقق. وهو ما يدفعها إلى خوض معركتها الأخيرة بشراسة شديدة، لأن الأمر بالنسبة لها يصبح اختيارا بين الحياة أو الموت. الحاصل في تونس الآن نموذج لذلك، فحزب السلطة (الدستور الحر) محتكر لها منذ أكثر من نصف قرن، في عهد «المجاهد الأكبر» الحبيب بورقيبة، الذي اكتسب شرعيته من كونه بطل الاستقلال. وفي عهد خلفه زين العابدين بن علي الذي استولى على السلطة في عام 1987 بعدما كان وزيرا للداخلية. ومنذ اللحظة الأولى حول تونس إلى سجن كبير. وجعلها نموذجا للدولة البوليسية التي وظفت كل أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع لتكريسها وتثبيت أركانها.. من ثَمَّ تحولت تلك الأجهزة والمؤسسات إلى رموز للاستبداد، وصار القائمون عليها أذرعا وعيونا للمستبد الأعظم. ورغم أن الإطاحة برأس الاستبداد تعد إنجازا عظيما، إلا أن ذلك لا يعد كافيا، لأنه حين ذهب، فإن مؤسسة الاستبداد التي صنعها على يديه ظلت قائمة. صحيح أن بعض أركان تلك المؤسسة جرى استبعادهم (وزير الداخلية ومسؤول أمن الرئاسة مثلا) إلا أن ذلك لا يغير من حقيقة توحد الحزب الحاكم مع أجهزة الإدارة، وكون الذين تتابعوا على إدارة البلد طوال الـ23 سنة الماضية كانوا ولا يزالون أعوانا للمستبد الأعظم. من ثَمَّ فإن استمرارهم في مواقعهم يعني أن العصابة مازالت قائمة وأن مكتسبات الثورة في خطر. وفي هذه الحالة ينبغي ألا نستغرب إذا وجدنا أنهم يحنون إلى زمانهم ويحاولون استعادته بصورة أو أخرى. هذا التحليل يعني أن صفحة المستبد الأعظم لم تطو بعد، وتشكيل الحكومة التونسية الجديدة يؤكد على ذلك بمنتهى الوضوح. وهو يعني أيضا أننا ينبغي لنا ألا نعول أو أن نطمئن طالما بقي للعصابة حضور في الوضع المستجد. لذلك فإنني أدعو إلى الترقب والحذر، وتأجيل الفرحة الكبيرة حتى نتأكد من أنه لم يعد للعصابة دور في إدارة البلد. وأرجو ألا ننتظر كثيرا لكي نعيش الفرحة الأكبر التي تحل حين تختفي العصابات المماثلة في كل بلد.
603
| 19 يناير 2011
مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما...
6609
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم،...
6483
| 24 أكتوبر 2025
تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع...
3237
| 23 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع...
2457
| 28 أكتوبر 2025
القضية ليست مجرد غرامات رادعة، بل وعيٌ يُبنى،...
1887
| 23 أكتوبر 2025
جاء لقاء حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن...
1683
| 26 أكتوبر 2025
على مدى العقد الماضي أثبتت دولة قطر أنها...
1464
| 27 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق...
1428
| 30 أكتوبر 2025
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز...
1047
| 24 أكتوبر 2025
في زمنٍ تاهت فيه الحدود بين ما يُقال...
999
| 24 أكتوبر 2025
لا بد عند الحديث عن التصوف أن نوضح...
987
| 27 أكتوبر 2025
“أبو العبد” زلمة عصامي ربّى أبناءه الاثني عشر...
921
| 27 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية