رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

كورنيش الدوحة بين ريجيم “راشد” وعيون “مايكل جون” الزرقاء

في فجرٍ قطريّ عليل، كان البحر يلمع بألوان الشروق الحالمة، حين وصل الأوروبي الرشيق والأنيق “مايكل جون” إلى الدوحة بدعوةٍ من زميله “راشد”، وقد جمعتهما صداقة مهنية تمتد لأكثر من عقدٍ من الزمان في قيادة مشاريع صناعية ضخمة. واليوم، وقد بلغا معًا أواخر الستين من العمر، لم يكن صباحهما موعدًا لدراسة مشروع أو استعادة ذكريات الصناعة المليئة بالمتعة والصعوبة، بل كان موعدًا من نوع آخر. “راشد”، ذو القامة المهيبة ووزنٍ يزيد على مائةٍ وعشرة كيلوغرامات، استجاب أخيرًا لنصائح الأطباء وتشجيع صديقه “مايكل”؛ فقرّر خوض رحلة ريجيم صارمة. وضعا خطة بسيطة وواضحة: نظامٌ غذائي، ونومٌ مبكر عند التاسعة مساءً، ومشيٌ يومي مع بزوغ الفجر. وما أن انطلقا معًا على المسار الساحلي حتى انبهر “مايكل” بسحر وجمال كورنيش الدوحة؛ بمياه الخليج الهادئ المتلألئة، وصفوف النخيل الفاتنة، وناطحات السحاب التي تتحدى الأفق بثقة، وكأن الكورنيش لوحةٌ تجمع بين حداثة المدينة وهدوء البحر. لكن “مايكل”، مهندس المشاريع المتقاعد، لا يتخلّى بسهولة عن نظرته التحليلية المهنية. وبينما كان “راشد” يلهث بشدّة تحت وطأة الكيلوغرامات الزائدة، وقد بدأ العرق يتصبّب من جبينه، كان “مايكل”، بلياقته الرياضية، يواصل الركض الهادئ بثبات، وعيناه الزرقاوان تلتقطان أدقّ التفاصيل كما لو كان في جولة تدقيق وتقييم ميدانية لأحد المشاريع الصناعية. فرأى قوارب خشبية متهالكة غير مجهّزة لتوفير الراحة لمرتاديها، بألوانٍ عشوائية تجمع كل ألوان قوس قزح بلا تناغم، وسلالم صعود للسياح تبدو هشة كأنها تنتظر أول زلّة، وعمالاً يرتدون ملابس متهالكة يصعب التمييز بينهم: أبحّارة محترفون أم عمال عابرون قد لا يجيدون السباحة أو أساسيات الأمن والسلامة، ولا حتى ثقافة التعامل مع الزوار والسياح. واصل “مايكل” رصد ملاحظاته: صيادون هواة يلقون صنّاراتهم بلا تنظيم أو مراعاة لإجراءات السلامة، تاركين على المقاعد الإسمنتية بقايا طُعم ذات رائحة نفّاذة ومخلّفات تشوّه المشهد العام وتزعج المارة. وعلى امتداد المسار تبرز قطع من البلاط غير متقنة التركيب قد تهدّد سلامة العابرين، فيما يبدو التشجير بلا رؤية جمالية أو تنسيق واضح، مع ندرة تكاد تكون معدومة للوحات الإرشادية. بدا الكورنيش في عينيه تحفة طبيعية ومعمارية… لكنه، في نظر المهندس الخبير “مايكل”، يحتاج إلى “مدير مشروع” أو مشرف حقيقي يقظ يدوّن الملاحظات الدقيقة ليُبرز جماله الكامل ويحافظ على سلامة مرتاديه وزوّاره، وخصوصًا السائحين. واستوقفته كذلك الحواجز الزجاجية الممتدة في بعض المقاطع؛ فارتسمت على وجهه نظرة متسائلة: أهو بالفعل الحلّ الأنسب لبيئةٍ تتقلب أجواؤها بين رطوبة وحرارة عالية وأحيانًا رياحٍ محمَّلة بالغبار؟ وكيف ستكون كلفة العناية بها وصيانتها مع مرور الوقت؟ بعد ساعةٍ من المشي، جلسا في مقهى يطل على الخليج الغربي لاحتساء مشروباتٍ باردة. عندها التفت “مايكل جون” إلى “راشد” بنبرة جادّة قائلاً: “هل قام المسؤول المتخصص عن الكورنيش بتقييم وتحليل شامل لإدارة المخاطر قبل التطوير الأخير؟” توقّف “راشد” عن ارتشاف عصيره، وحدّق في صديقه بدهشة مبتسماً: “Are you serious… John…! يا أبو جون… نحن في نزهة صباحية لا في جولة تفتيش لأحد المشاريع الصناعية!” ابتسم “مايكل جون”، وفي عينيه الزرقاوين وميض خبرة راسخة يعكس سنواتٍ من التجربة، وقال بنبرةٍ تجمع حزمَ المهندس وهدوءَ المراقب: “مستر راشد، الجمال لا يكتمل من دون مراعاة معايير الأمن والسلامة، وهذا المكان البديع يستحق دراسة شاملة لتقييم وتحليل المخاطر (Risk Assessment & Risk Analysis) تمامًا كما لو كان مشروعًا نفطيًا أو بتروكيماويًا». ثم انحنى قليلًا إلى الأمام مستفسرًا بفضول: “ومن هو المسؤول والمشرف المعني عن هذا الكورنيش المدهش؟” هزّ “راشد” كتفيه وأجاب بابتسامة تجمع روح الدعابة بالتأمل: “لا أعلم على وجه الدقة… لكن يبدو أن تداخل الصلاحيات بين أكثر من مسؤول قد يفسّر بعض هذه الثغرات». فرد “مايكل” وهو يرفع كوبه، قائلاً بثقةٍ تستند إلى خبرة وتجارب طويلة في إدارة المشاريع الضخمة: “إنّ كورنيش الدوحة، بوصفه أحد أبرز المعالم السياحية في قطر، يحتاج إلى تقييم شامل لإدارة المخاطر (Risk Assessment) تتولاه جهة متخصصة محترفة، تضمن الإشراف عليه وتضمن السلامة لمرتاديه، وتحافظ في الوقت نفسه على استدامته وجاذبيته ومنظره الخلّاب». وما أن همَّا بالمغادرة حتى توقّف “مايكل” فجأة، مشيراً إلى بقعٍ بنية متناثرة شاهدها على طول الأرصفة، أشبه ببصقاتٍ جافة على الأرض، وقال باستغراب: “مستر راشد، ما سرّ هذه البقع البنية؟ وما حقيقتها؟” ساد صمتٌ قصير، ثم ابتسم “راشد” ابتسامة مازحة وهو ينظر إلى ساعته: “حان الوقت يا مايكل… علينا الآن أن نلحق بزيارة صديقنا خليفة، ولندع هذا اللغز للمسؤول أو المشرف! فلعله يجد له حلاً…” ضحك “مايكل” وهو يلتقط حقيبته، بينما ظل السؤال معلّقًا كعلامة استفهام كبيرة: هل يرى المسؤول عن الكورنيش ما يراه الزائر؟ وهل يكتفي بمنظر الجمال والشكل الخارجي فقط؟ هكذا انتهى صباح الرجيم على كورنيش الدوحة بجرعةٍ من الدعابة، وتقرير هندسي غير معلن، وسؤال مفتوح قد يجد جوابه من المسؤولين الذين نأمل أن يدركوا أن “قطر تستحق الأفضل”.

633

| 30 سبتمبر 2025

الهيدروجين بين حلم الطاقة النظيفة وسلطانة الغاز

الهيدروجين (Hydrogen) هو أبسط العناصر وأكثرها وفرة في الكون، لكنه لا يوجد منفردًا في الطبيعة، بل يُنتَج عادةً من الماء أو من الغاز الطبيعي. ما يميّز الهيدروجين أنه ناقل للطاقة لا مصدر لها، إذ يُعدّ مخزنًا للطاقة الكيميائية التي جرى تحويلها مسبقًا من الكهرباء عبر التحليل الكهربائي (Electrolysis)، ثم يُعاد إطلاقها عند الحاجة عن طريق خلية الوقود (Fuel Cell). وعندما يُنتَج باستخدام الكهرباء المولَّدة من مصادر متجددة، يُعرف باسم “الهيدروجين الأخضر” (Green Hydrogen)، إذ لا يُطلق عند استخدامه أي انبعاثات سوى بخار الماء (H2O). ويعتقد خبراء الطاقة أنه قد يكون وقود المستقبل وأحد ركائز التحول نحو اقتصاد أخضر منخفض الكربون. ولهذا السبب تتجه دول العالم إلى الاستثمار فيه، سواء عبر “الهيدروجين الأخضر” المنتج من الطاقة المتجددة، أو “الأزرق” المعتمد على الغاز مع تقنيات احتجاز الكربون، وأخيرًا “الهيدروجين الأبيض” المستخرج من باطن الأرض. برأيي الشخصي المتواضع، يرتبط الاهتمام العالمي ـ والأوروبي بالأخص ـ بالهيدروجين بثلاثة دوافع رئيسية: الأول: تحقيق أهداف المناخ والوصول إلى الحياد الكربوني الكامل (Net Zero) بحلول عام 2050، وهو هدف شبه مستحيل عمليًا. الثاني: توفير بدائل للقطاعات التي يصعب “كهربنتها” (Electrification)، مثل صناعة الصلب والطيران والنقل البحري، وهي بدائل ما زالت تجد صعوبة في منافسة النفط والغاز. أما الثالث، وهو الأهم، فيتمثل في تعزيز أمن الطاقة وتنويع مصادرها بعيدًا عن النفط والغاز العربي الخليجي. وهذا ما دفع الدول المنتجة للنفط والغاز في الخليج إلى الدخول في هذا المجال كخطوة مفروضة وإستراتيجية لحماية مكانتها وحصتها في السوق العالمي، مستفيدة من بنيتها التحتية وخبرتها في إنتاج الغاز. ورغم الطموحات المعلنة، يكشف الواقع أن الهيدروجين لم يتحول بعد إلى لاعب رئيسي في سوق الطاقة؛ فالإنتاج التجاري واسع النطاق لا يزال مكلفًا، والمشروعات الضخمة لم تتجاوز في معظمها المراحل التجريبية. وقد أعلنت عدة دول وشركات عالمية عن تعليق أو تجميد أو إلغاء مشاريعها، خصوصًا في مجال “الهيدروجين الأخضر”، مثل Shell وBP وRepsol وIberdrola، إلى جانب “مصدر” الإماراتية و“فيرتيغلوب” المصرية، ومشاريع أخرى في أستراليا والولايات المتحدة واليابان، وأخيرًا مشروع Scottish Power في المملكة المتحدة. وذلك إما بسبب ارتفاع التكاليف، وأبرزها الرأسمالية والتشغيلية، أو غياب عقود شراء طويلة الأجل، أو ضعف الطلب، أو لغياب سياسات وإستراتيجيات حكومية واضحة، أو لضعف البنية التحتية، أو لأن الطاقة المتجددة ما زالت تعتمد على السحب من شبكة الربط الكهربائية العامة التي تعمل بالوقود الأحفوري، أو لغياب آلية تسعير واضحة للهيدروجين تجبر السوق على ربط أسعاره بمؤشرات طاقة أخرى كالكهرباء والغاز، أو حتى الحاجة إلى تطوير التقنية لتكييف الأفران (Furnaces) القائمة حاليًا، وأخيرًا ـ وهو الأهم ـ الحاجة إلى تعاون دولي لتقاسم التكاليف المذكورة آنفًا وتطوير الحلول والتقنيات المستدامة المبتكرة. ولا ننسى أيضًا تحديًا آخر يتمثل في غياب توحيد أو توافق لأنظمة شهادات الهيدروجين (Hydrogen Certification Schemes)، وهو ما قد يشكّل عقبة رئيسية أمام انطلاق تجارة الهيدروجين العالمية، ويهدد فرص التصدير للدول المُصدِّرة الناشئة، خصوصًا إذا استمرت الفجوة بين الأنظمة المحلية والدولية. إن الصعوبات التي تواجه مشاريع الهيدروجين الأخضر والأزرق قد تؤثر مباشرة حتى على مشاريع إنتاج الأمونيا واليوريا الزرقاء (Blue Urea). وهذا ما حدث بالفعل في أحد المشاريع المشتركة بين شركة BASF الألمانية وشركة Yara النرويجية، الذي كان يهدف إلى إنتاج 1.5 مليون طن سنويًا من الأمونيا الزرقاء. هذا يعني أن الحديث عن “ثورة هيدروجينية خضراء” (Green Hydrogen Revolution) لا يزال سابقًا لأوانه، وأن النفط والغاز ما زالا المصدر المهيمن للطاقة عالميًا. والمفارقة أن معظم شركات النفط والغاز والطاقة العالمية العملاقة نفسها (Energy Supermajors)، ورغم شعاراتها المليئة بالخطاب الأخضر والصديق للبيئة، ما زالت تستثمر ـ وبقوة وشراهة ـ مئات مليارات الدولارات في مشاريع النفط والغاز، مدركة أن هذه المصادر ستبقى الركيزة الأساسية لأمن الطاقة العالمي وتلبية الاحتياجات الاستهلاكية والإنشائية والخدمية لعقود مقبلة. ويبقى الخطر الحقيقي أن ينجرف المنتجون الخليجيون خلف خبراء الطاقة ووعود شركات النفط والغاز والطاقة العالمية العملاقة (Energy Supermajors)، ومكاتب الاستشارات والدراسات الدولية، نحو استثمارات ضخمة قد تقوّض دور النفط والغاز الخليجي العربي، وهما العمود الفقري للاقتصاد الخليجي الريعي ومكتسبات الأجيال القادمة، ومصدر هيمنتهم على أسواق الطاقة العالمية حاضرًا ومستقبلًا. فالحقيقة أن الوقود الأحفوري (النفط والغاز) وبالأخص الغاز سيبقى “سيد الموقف” لسنوات وعقود مقبلة، حتى مع توسع مشاريع الطاقة المتجددة والهيدروجين بألوانه المختلفة. وسيظل الهيدروجين، حتى إشعار آخر، مجرد حلم قيد التشكل؛ قد ينجح في منافسة بعض المصادر، لكنه لم يثبت بعد أنه قادر على إزاحة النفط والغاز عن عروشه، وهذا ما تؤكده بالفعل تقارير وكالة الطاقة الدولية التي صدرت حديثًا على أن نمو الطلب على النفط والغاز مستمر للـ 25 سنة القادمة على الأقل. لكن يظل السؤال مطروحًا: هل تُعدّ الاستثمارات الخليجية الضخمة في بدائل الطاقة الأخرى إستراتيجية صائبة تصب في مصلحة المستهلك الخارجي أكثر مما تفيد المنتج والمصدر العربي الخليجي للنفط والغاز؟ … مجرد سؤال….؟؟؟ أخيرًا… ما هو ثمين يجب أن يُحمى، وما يُحمى يجب أن يُنمّى.

435

| 17 سبتمبر 2025

حكاية «مهندس قطري» وملحمة وطن

على رمالها وسواحلها الهادئة كهدوء أهلها الطيبين حيث لا يعلو صوت فوق هدير وأزيز المعدات والآلات، وعلى منصات النفط والغاز العملاقة العائمة فوق أمواج مياه الخليج، تتجسد قصة إنسان صنع بجهده وعرقه وتضحياته جزءًا من مجد هذا الوطن الغالي. يجلس اليوم في عقده السابع، هادئًا ممسكًا بسبحته على إحدى أريكات كورنيش الدوحة الاسمنتية، يناظر الأفق البعيد وناطحات السحاب، بينما تتلون السماء بوهج الغروب وأطياف الشفق الساحرة، شارد الذهن في ذكريات الماضي الجميل يلفها عباءة الفخر والعزة والحنين. إنها رحلة “مهندس قطري”، امتدت لأكثر من أربعة عقود، سطر خلالها ملحمة من التحدي والصبر والإصرار، وكان شاهدًا على أبرز التحولات في تاريخ بلاده الصناعي. لم تكن تلك المرحلة مفروشة بالورود والرياحين؛ ففي سبعينيات القرن الماضي، كانت قطر تضع لبناتها الأولى في التنقيب عن النفط والغاز وإنتاجهما بكميات تجارية. وكان هذا المهندس الشاب جزءًا من تلك النخبة، فلم تكن شهادته الأكاديمية وحدها سلاحه، بل كانت همته العالية وإرادته الصلبة. عمل جنبًا إلى جنب مع زملائه من العرب والآسيويين والأوروبيين، وعمالقة الشركات الصناعة العالمية IOCs, مثل بي بي، يارا (هيدور )، كوبي ستيل،شل، توتال، إكسون موبيل، وشيفرون، وغيرهم، لم تكن هذه الشركات مجرد جهات عمل، بل كانت بحق جامعات ميدانية نقلت إليه وإلى أبناء قطر المخلصين أعلى معايير الدقة والاحترافية والإبداع. في القطاع الصناعي، تعلم فنون الإدارة والإشراف على تلك المصانع العملاقة بكل إتقان وكفاءة على سبيل المثال، اكتسب من الإدارة اليابانية مبدأ “كايزن” (Kaizen)، وتشرب من الادارة الأمريكية “التصنيع الرشيق” (Lean Manufacturing)، ومن الإدارة الأوروبية أجاد أتقان مبدأ “السلامة أولًا” (Safety First). ولكن الأهم من ذلك كان ترسيخ قيم الالتزام، والتسامح، والرقي في التعامل مع الآخرين، فكانت هذه الأسس التي صنعت بيئة عمل متماسكة كالعائلة الواحدة، على الرغم من اختلاف مشاربها الثقافية والعرقية ”Ethnicity”. كانت التحديات هي المحك الحقيقي؛ فالعمل في قطاع الطاقة والصناعة يعني التصدي للمخاطر المهنية اليومية.كالتعامل مع غازات ذات الضغوط العالية التي قد تتجاوز 1000 بار، ودرجات الحرارة التي قد تصل وتتجاوز 900 درجة مئوية، بالإضافة إلى التعامل مع المواد السائلة شديدة الخطورة والصلبة، والعمل تحت لهيب حرارة الصيف ورطوبته العالية. ومرورًا بالظروف القاسية والعزلة العائلية والاجتماعية لفترات طويلة على المنصات البحرية والجزر الصناعية العائمة ( Production Offshore Platforms ). وفي تلك الظروف، كانت اليقظة والدقة هاجسًا دائمًا من أجل السلامة والعودة إلى الأهل والأحبة.هناك، بعيدًا عن دفء الأسرة تذوب الفوارق بين الجنسيات والألوان والثقافات، ليصبح الزميل أخًا وشريكًا في الهدف. لم تكسر هذه الظروف الرجال، بل صقلتهم، وحولتهم إلى قادة قادرين على اتخاذ القرارات المصيرية والحاسمة. ولا نستثني في هذا السياق الإداريين الأفاضل، حيث كان الوصول إلى أعلى هرم الادارة متاحًا بلا حواجز ولا مواعيد مسبقة، فكانوا هم السند الحقيقي والخفي الذي جعل الإدارة حلقةً داعمة وفاعلة تكمل منظومة الجهد الجماعي بين العمل الميداني والمكتبي. ولم تتوقف رحلة هذا المهندس عند حدود الوطن؛ فبعد أن اكتسب خبرة واسعة، حمل راية بلاده إلى أنحاء العالم، من أمريكا إلى آسيا وأوروبا، مشرفًا على مشاريع كبرى، وكان خير سفير للكفاءات القطرية. كانت تلك البعثات والمهمات اغترابًا طوعيًا، وثمنًا دُفع في سبيل اكتساب معاير الريادة العالمية. ورغم صعوبات البعد عن الوطن وحواجز اللغة، أثبت أن “المهندس القطري” قادر على المنافسة وإضافة قيمة في أي مكان ومشروع يذهب إليه. يجلس هذا المهندس الخبير المخضرم اليوم ليس كشاهد على عصر فحسب، بل كمدرسة ومرجعية وطنية يجب استغلالها ومهمته الحالية لا تقل أهمية عن سابقاتها؛ فهو ينقل للأجيال الحاضرة العلم والتقنية الهندسية، ومعهما ينقل إرثًا من القيم: الأخلاق، والإخلاص، والولاء، والدقة، والابتكار. لقد غدا جسرًا انتقلت عبره أفضل الممارسات العالمية لتندمج مع الهوية القطرية الأصيلة، وتشكل نموذج المهندس العالمي الذي لا يتخلى عن جذوره. إن قصة هذا المهندس هي دليل على أن الثروة الحقيقية لا تكمن في باطن الأرض، بل في عقول أبنائها. لقد حول ذاك الجيل الرائد التحدي إلى فرصة، والفرصة إلى إنجاز، والإنجاز إلى إرث خالد تفتخر به الأجيال القادمة. أخيرًا وليس اخرا، تحية إجلال وتقدير إلى رواد الصناعة والطاقة في بلادنا. الذين حوّلوا الصحراء وسواحلها إلى مصانع شامخة ببهائها تتلألأ ليلًا كالجواهر واللآلئ الثمينة، أُقبّل جباههم التي خاضت التحديات وحملت مسؤولية بناء صرح نفخر به امام الجميع والأجيال القادمة، بكل شموخ وأنفة. وأسأل الله أن يتغمد من رحل منهم بواسع رحمته، وأن يوفق الأحياء منهم والأجيال القادمة، ليواصلوا حمل راية العز والفخر. دام عز هذا الوطن ودامت سواعد رجاله الأوفياء ودمتم ……والسلام.

1317

| 08 سبتمبر 2025

التقطير.. الرؤية الوطنية لا العملية الفيزيائية

التوطين أو التقطير ليس مجرد رقم أو نسبة أو شعار يوضع على الوظائف بأسماء قطرية، بل هو مشروع وطني استراتيجي شامل يهدف إلى بناء مستقبل مستقر ومزدهر للبلاد وأجيالها، تقوده الكفاءات الوطنية في مختلف مجالات الحياة والخدمات اليومية. إنها استراتيجية طموحة تؤمن بقدرات الشباب وتفتح أمامهم آفاق الإبداع الوظيفي في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص على وجه الخصوص. ولكي ينجح هذا المسار، لا بد أن يقوم على ركائز أساسية: “التخصصية” في اختيار الكوادر المناسبة لتلبية احتياجات سوق العمل، و“التدريب” الذي يصقل المواهب، و“التأهيل” الذي يرسخ الخبرات، و“التشجيع” الذي يعزز الثقة بالنفس، إضافة إلى “المتابعة والإرشاد” لضمان استمرارية الأداء وتحقيق الأهداف. فالمطلوب ليس فقط إعداد موظف ماهر، بل صناعة جيل قادر على المنافسة بما يمتلكه من مهارات عملية وفنية وإبداعية وقيادية، وحتى أخلاقية. ومع ذلك، ما زالت بعض المؤسسات، خصوصًا في القطاع الخاص، تعاني من ضعف في توظيف الكوادر الوطنية المؤهلة. التحدي الحقيقي لا يكمن في غياب الكفاءات، بل في ضعف البيئات الحاضنة ورفضها لاستيعاب هذه الطاقات. من هنا، يصبح من الضروري أن تستثمر الشركات في الكوادر الوطنية، وأن تجعل هدف التوطين من أولويات مجالس إدارتها، مع إلزام الرؤساء التنفيذيين بوضعه ضمن أهدافهم الاستراتيجية (Vision) ومنحهم الدعم الكافي لتحقيق هذا الهدف. ولا يقتصر التوطين على الموظفين فحسب؛ إذ شملت التشريعات الأخيرة إشراك المتقاعدين القطريين الأكفاء القادرين على العطاء، باعتبارهم رصيدًا وطنيًا لا يستهان به من الخبرات العملية. هؤلاء يشكلون قيمة مضافة للشركات، خصوصًا في القطاع الخاص، بما يقدمونه من استشارات وخبرات تراكمية تقلل من الحاجة إلى الخبراء الأجانب والمكاتب الاستشارية المكلفة. إنهم بمثابة عامل محفّز (Catalyst) قادر على تدريب الأجيال ونقل المعرفة دون أن يشكلوا عبئًا ماليًا إضافيًا على المؤسسات. وفي هذا السياق، جاء صدور القرار الأميري السامي رقم (27) لسنة 2025 بإنشاء جائزة قطر للتوطين في القطاع الخاص ليشكل دفعة إضافية ومحفزًا قويًا لتشجيع المؤسسات على تعزيز جهودها في استقطاب الكفاءات الوطنية، وإبراز دورها في دعم التنمية المستدامة من خلال التوطين الفعّال. وتبرز تجربة قطر للطاقة (QatarEnergy) كنموذج ملهم لنجاح عملية التوطين. فقد تمكنت، رغم الصعوبات في بداياتها منذ انطلاقة الخطة الوطنية لتقطير (Qatarization) في قطاع الطاقة والصناعة قبل أكثر من 24 عامًا، من بناء كادر وطني مؤهل على أعلى المستويات. لم تكتفِ باستقطاب الكوادر الوطنية وابتعاثها لأفضل الجامعات العالمية في التخصصات المطلوبة، بل تحولت إلى ما يشبه “جامعة” تخرّج القادة الأكفاء المتميزين بالالتزام والكفاءة. لقد أثبتت أن التوطين الفعّال لا يحتاج إلى ميزانيات ضخمة أو مكاتب استشارية باهظة، بل إلى رؤية واضحة، والتزام راسخ، وإيمان صادق بقدرات الشباب. ومن هنا أصبحت قطر للطاقة ليست مجرد شركة، بل في الحقيقة “مدرسة” لصناعة الكوادر الوطنية القادرة على قيادة المستقبل بثقة واقتدار. ويُسجَّل لوزير الطاقة أنه يترأس بنفسه جميع اجتماعات لجنة التقطير (التوطين) السنوية، ويشرف ويعتمد الخطة الاستراتيجية لقطاع الطاقة والصناعة للسنوات القادمة. وخلال هذه الاجتماعات يتم تكريم الشركات والمؤسسات التي حققت تقدمًا وتميزًا ملحوظًا في جهودها لعملية التقطير وفق معايير محددة، مما يعزز روح المنافسة الإيجابية بين المؤسسات ويحفزها على تطوير برامجها الوطنية. إن التوطين ليس سياسة حكومية فحسب، بل هو واجب وطني وديني ومسؤولية أخلاقية تقع على عاتق كل مسؤول. فالنجاح الحقيقي لا يُقاس بالأرقام والإحصاءات فقط، بل يُبنى على العلاقة الإنسانية بين المسؤول والموظف. علينا أن نتعامل مع الموظف القطري، خصوصًا الشاب الذي تنقصه الخبرة، لا كـ”مرؤوس” أو “منافس”، بل كـ”صديق” و”شريك”. عندما يُمنح الثقة ويُعامل بروح الدعم، تتفتح أمامه آفاق لا حدود لها. صحيح أن الأمر يتطلب وقتًا وصبرًا وجهدًا، وقد تصاحبه أخطاء، لكن تمامًا كما نتعامل مع أبنائنا، يجب أن نوجّه ونصحّح بروح من الحكمة والاحتواء. إن بناء الثقة هو الاستثمار الأهم. فعندما يثق الموظف بقائده ويشعر بالدعم والمساندة، يبذل أقصى جهده لتجاوز التحديات. وفي المقابل، يمكن أن ينهار هذا الجسر بكلمة عابرة أو موقف محبط واحد. لذلك، يُقاس نجاح المسؤول الحقيقي بقدرته على تحويل الموظف الشاب من موظف مبتدئ إلى “قائد محترف”. هذه العلاقة الإنسانية هي الركيزة الأساسية لبناء كوادر وطنية واثقة قادرة على قيادة المستقبل وتحقيق التنمية المستهدفه. وفي الختام، يظل السؤال مطروحًا: هل يمكن لتجربة “قطر للطاقة” الاستثنائية الناجحة أن تكون نموذجًا يُطبّق على نطاق واسع في جميع القطاعات ومؤسسات ووزارات الدولة؟ دمتم …. والسلام ختام

1380

| 02 سبتمبر 2025

الإدارة.. اليد الخفية وراء خسائر الشركات

في ظل التحديات الاقتصادية، غالبًا ما تُعزى خسائر الشركات إلى عوامل اقتصادية وجيوسياسية وظروف سوقية قاهرة، بالإضافة إلى تحديات تنظيمية داخلية. لكن خلف تلك الأرقام والبيانات يكمن عامل آخر خفي وأكثر تأثيرًا سوء الإدارة (Mismanagement). هذا العامل، عندما يتفشى في بيئة عمل تسودها المحسوبية والمحاباة وتفتقر إلى الرقابة والمصداقية والحوكمة المستقلة النزيهة، يتحول إلى فيروس ينهش كيان المؤسسة ويقودها إلى نفق مظلم قد ينتهي بالانهيار الكامل. ومن خلال الاطلاع على نتائج إحدى الشركات الخليجية العاملة في قطاع الكيماويات للنصف الأول من عام 2025، يتضح أنها تمثل مثالًا حيًا ومريرًا على كيف يمكن لسوء الإدارة أن يقود مؤسسة ضخمة إلى خسائر فادحة وصلت إلى نحو 79% من رأسمالها، رغم أن رأسمالها يقارب المليار ريال. سوء الإدارة ليس مجرد هفوات أو أخطاء فردية، بل هو منظومة متكاملة من الفشل، تتجلى في سوء اختيار الكفاءات والقيادات، وغياب الرؤية والأهداف الاستراتيجية الواقعية، واتخاذ قرارات خاطئة دون آليات واضحة للمساءلة، وتكرار الأخطاء من دون الاعتراف بها أو تصحيحها. ورغم وجود عوامل خارجية تؤثر على الشركات، فإن هذه الحالة أظهرت بوضوح أن سوء الإدارة كان السبب الجوهري والمحرك الأساسي للأزمة، حتى اضطرت الشركة إلى مواجهة خيارين: إعلان الإفلاس أو انتظار تدخل الدولة لإنقاذها. الأزمة تفجرت نتيجة صفقات استحواذ أبرمها مجلس الإدارة السابق مع شركتين، شابها الكثير من علامات الاستفهام وشبهات التلاعب. تمت هذه الصفقات دون دراسات جدوى حقيقية وواقعية، وبقيم مالية مضخمة بشكل غير منطقي، وربما بدوافع مصالح شخصية،غياب الرقابة الفعّالة والتراخي في دور الجمعية العمومية سمحا بتمرير تلك الصفقات، فتكبدت الشركة خسائر جسيمة. كما أدى سوء الإدارة السابقة إلى تضخيم الأصول عبر إدراج بند “الشهرة” (Goodwill) بشكل مبالغ فيه، ومع تدهور أداء الشركات المستحوذ عليها اضطرت الإدارة الجديدة إلى شطب بند الشهرة بالكامل، وهو ما اعتُبر أمرًا نادر الحدوث وكان بمثابة اعتراف رسمي بأن الأموال المدفوعة لم تكن تساوي شيئًا، ما أدى إلى تراكم خسائر إضافية. هذه القرارات الخاطئة محَت نحو 79% من رأس المال، وألقت بظلال قاتمة على مستقبل المساهمين، من كبار المستثمرين وحتى صغارهم، فضلًا عن الموظفين والعملاء والموردين. وانتهت الأزمة بإقالات وتغييرات إدارية، أبرزها إنهاء عقد الرئيس التنفيذي والسعي لعزل أعضاء من المجلس السابق. إن هذه القصة هي جرس إنذار لكل الشركات، وخاصة في القطاع الخاص. فهي تؤكد أن النجاح لا يُبنى على حجم رأس المال أو كثرة الفرص الاستثمارية فقط، بل على حسن اختيار القيادات والكفاءات، وأن الحوكمة المستقلة والرقابة الصارمة والشفافية ليست ترفًا تنظيميًا، بل شرطًا أساسيًا للبقاء. والإدارة ليست مجرد مقعد يُشغَر بأشخاص، بل هي أحد أهم أسباب النجاح أو الفشل. لذلك، فإن أي خطة إنقاذ لأي شركة يجب أن تبدأ من إصلاح هياكل الإدارة أولًا، ثم إعادة بناء ثقافة مؤسسية قائمة على النزاهة والمساءلة والكفاءة. أخيرًا: التغيير ليس خيارًا، بل ضرورة للبقاء والنمو….“د. غازي القصيبي”

1572

| 01 سبتمبر 2025

رحلة قطر الصناعية

شكَّل اكتشاف النفط والغاز الطبيعي في قطر نقطة تحول مصيرية، نقلها من دولة نامية إلى واحدة من أعلى الدول دخلًا للفرد في العالم. هذا الإنجاز هو نتاج تخطيط إستراتيجي حكيم حوّل الثروة الهيدروكربونية إلى استثمارات متنوعة وصندوق سيادي قوي. شهدت سبعينيات القرن الماضي تقدمًا ملموسًا في الصناعات التحويلية، لا سيما البتروكيماويات والكيماويات، رغم التحديات وقلة كميات الغاز المصاحب في ذلك الحين. أما اليوم، ومع توفر كميات هائلة من الغاز غير المصاحب، تبرز أسئلة جوهرية حول إستراتيجية التنويع الصناعي. هل كان التركيز المستمر على زيادة إنتاج الغاز هو الخيار الأمثل؟ خاصة مع مخاطر انخفاض الأسعار عالميًا بسبب زيادة المعروض وظهور بدائل الطاقة المتجددة وغير التقليدية مثل الغاز الصخري (shale gas) ربما تأخرنا نسبيًا في مواكبة هذه الطفرة الإنتاجية بثورة صناعية تحويلية موازية ومتنوعة. كان من الأفضل التوسع بشكل أسرع وأوسع في الصناعات التحويلية بجميع أنواعها، وليس فقط البتروكيماويات الصلبة، بل والسائلة أيضًا، بالإضافة إلى الكيماويات والألومنيوم، وذلك لاستغلال الطلب العالمي على المنتجات النهائية ذات القيمة المضافة العالية. من شأن هذا أن يخلق قاعدة أوسع من الأسواق والعملاء ويعزز المرونة الاقتصادية، مع دعم وإشراك استثمارات القطاع الخاص الكفء (بشراكة مع مستثمرين أجانب) لضمان المعايير العالمية وتبني أحدث التقنيات والابتكارات، تحت إشراف «قطر للطاقة» ومن خلال امتلاك جزء من حصص هذه المشاريع. في الوقت الحالي، أصبحت فرص إقامة مشاريع تحويلية صناعية جديدة أكثر صعوبة بسبب المنافسة الشرسة من الدول الآسيوية التي تنتج بأسعار منخفضة، مما دفع دولًا مثل الولايات المتحدة إلى رفع التعريفات الجمركية لحماية صناعتها. في هذا السياق، يجب النظر إلى الصناعات التحويلية ليس كغاية بحد ذاتها، بل كجزء أساسي من منظومة صناعية متكاملة تبدأ من المواد الخام وتصل إلى المنتجات النهائية والخدمات المساندة. هذا التنوع يخلق فرص عمل متنوعة، ويبني مستقبلًا اقتصاديًا مستقرًا أقل تأثرًا بتقلبات أسعار الطاقة، ويعزز القدرة التنافسية العالمية. كما يعظم القيمة المضافة بتحويل المواد الخام إلى منتجات نهائية، مما يرفع الناتج المحلي غير النفطي ويقلل من التعقيدات الجيوسياسية المرتبطة بالطاقة، ويعزز الأمن القومي عبر الاكتفاء الذاتي والمشاركة الفاعلة في سلاسل الإمداد العالمية. مع اقتراب عام 2030، فإننا بحاجة إلى تطوير خطط عمل أكثر طموحًا وواقعية، بهدف الاستغلال الأمثل للغاز في بناء قاعدة تحويلية صناعية أوسع والتركيز على مراجعة دور القطاع الخاص الكفء. فمع توفر كل الإمكانات، يمكن لقطر مواصلة رحلتها الاقتصادية المذهلة، وتحويل ثرواتها إلى اقتصاد معرفي وإنتاجي متنوع ومستدام، يحفظ لها ريادتها ويضمن ازدهارها واستقرارها على المدى الطويل، ويضمن حياة مزدهرة للأجيال القادمة. أخيرًا، «اعلم أن الزمان لا يثبت على حال، وأن الدهر لا يستقر على وضع، وأن الفرصة إن فاتت لم تعد». «ابن الجوزي»

627

| 24 أغسطس 2025

التنمية المستدامة قيود أم تقدّم للدول النامية؟

بدأت فكرة “الاستدامة” (Sustainability)، أو ما يُعرف اليوم بـ”التنمية المستدامة” (Sustainable Development)، في ستينيات القرن الماضي، وتحديدًا مع صدور كتاب Silent Spring (الربيع الصامت) للكاتبة الأمريكية راشيل كارسون، الذي يُعد من أولى الدعوات البيئية الحديثة التي أثارت جدلًا واسعًا آنذاك. تطوّرت الفكرة لاحقًا في السبعينيات مع تصاعد الحركات البيئية في الغرب، حتى جاءت قمة الأرض في ريو دي جانيرو عام 1992 لتُكرّس هذا التوجه تحت غطاء دولي رسمي. وفي عام 2015، أعلنت الأمم المتحدة عن أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، كخريطة طريق عالمية لتحقيق ما سُمّي آنذاك “نموًا أخضر” و”عدالة بيئية” بحلول عام 2030. لكن، من وجهة نظري المتواضعة، فإن هذا المشروع العالمي، رغم ما يتضمّنه من شعارات براقة بيئية وإنسانية، ليس إلا “حقًا أريد به باطل”. فالدول الصناعية الكبرى، التي استنزفت موارد ومقدرات القارات لعقود طويلة دون ضوابط، تسعى اليوم إلى فرض قيود صارمة على الدول النامية الغنية بالموارد، بذريعة حماية البيئة وتحقيق الاستدامة. كيف يُعقل أن يُمنع بلدٌ في أفريقيا من استغلال ثرواته النفطية أو الزراعية أو المعدنية بحجة تقليل الانبعاثات الكربونية، بينما تواصل تلك الدول الصناعية إنتاجها واستهلاكها المفرط بلا محاسبة؟ أليس هذا شكلًا جديدًا من الهيمنة المقنّعة؟ لقد تحوّلت الاستدامة، بهذا الطرح، من مبدأ بيئي إلى أداة سياسية واقتصادية تُستخدم لفرض إرادة القوى الكبرى على حساب سيادة الدول وحقها المشروع في التنمية. لقد أصبح مصطلح “التنمية المستدامة” Sustainability Development محورًا أساسيًا في الخطاب الدولي، لكنه يُثير تساؤلات جادة حول مدى عدالته ومصداقيته تجاه الدول النامية. ومن وجهة نظري، فإن هذه الشعارات التي تُروّج من قِبل الدول الكبرى والمؤسسات الدولية ذات النفوذ (كالبنك الدولي، والأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان)، تُستغل لفرض قيود على استغلال الدول النامية لثرواتها الطبيعية، سواء كانت معدنية، أو هيدروكربونية، أو زراعية، أو حتى حيوانية. هذه القيود، التي تُفرض تحت شعار “الاستدامة”، قد تُعوق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في تلك الدول، رغم ما حباها الله به من ثروات طبيعية عظيمة. بل وقد تحرمها من فرص الازدهار والرخاء، وتُكبّل طموحاتها في بناء مستقبل أفضل. وفي تصوري، فإن التنمية المستدامة المفروضة على الدول النامية الغنية لا تقل خطرًا على أمنها واستقرارها من التهديدات الإرهابية. ينبغي أن تكون التنمية المستدامة أداة للتمكين لا وسيلة للتقييد. يجب أن تدعم هذه الدول، سواء كانت في آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، وأن تُعزّز قدرتها على النمو والتقدّم، بما يراعي ثرواتها البيئية والاقتصادية والأمنية، لا أن تُستخدم كذريعة لحرمانها من حقها السيادي في التنمية. آخر الكلام: “إن الهيمنة ليست فقط شكلًا من أشكال السيطرة يتم فرضه بالقوة، بل هي أيضًا طريقة لترسيخ موافقة الخاضعين، من خلال النشر الواسع للأفكار والقيم التي تدعم مصالح الطبقة المهيمنة، بحيث تبدو هذه الأفكار وكأنها هي «الفطرة السليمة» أو الطبيعية». — الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي

219

| 04 أغسطس 2025

المتقاعدون ثروة لا تنتهي صلاحيتها

المتقاعد يمثل استثمارًا وطنيًا بعيد المدى. فخبراته العملية المتراكمة، ومعرفته العميقة بتفاصيل الأمور، وقدرته على التحليل والإرشاد والتوجيه، تجعله رأس مال بشريًا ثمينًا لا يقل أهمية عن الاستثمارات المالية لأي مؤسسة. إن إهمال هذه الشريحة هو إهدار لموارد المؤسسة التي لا يمكن تعويضها بسهولة، ويجب الحفاظ عليها وتنميتها من خلال الاستفادة منها في خطط التنمية الإدارية المستقبلية للمؤسسة. من غير المعقول والمقبول، شرعًا وعرفًا وقانونًا، أن يتعامل مدير المؤسسة، أيًا كانت صفته، مع الموظف الذي اقترب من التقاعد على أنه مشكلة إدارية ومالية يجب تهميشها وركنها للتخلص منها. وبالمقابل، لا يحق للمدير إحالة أي موظف للتقاعد قسرًا، فإنه بذلك يرتكب «جريمة إدارية وأخلاقية ووطنية» بضغطه عليه وركنه في زاوية تهميشية تدفعه إلى الكسل والاستسلام بحثًا عن الراحة الوظيفية والهدوء الإداري، ما يعكس صورة سلبية له أمام زملائه. هذا التصرف يوحي بأنه أصبح عبئًا يجب التخلص منه، وقد يدفعه ويجبره تحت ظروف نفسية طوعًا لطلب التقاعد المبكر. فالموظف الذي اقترب من التقاعد ما زال جزءًا فاعلًا من المؤسسة. يجب أن يُمنح الاحترام والتقدير الكاملين، وأن يُستفاد من خبراته حتى آخر يوم عمل له إن كان في صحة بدنية جيدة. من الأهمية بمكان أن تزرع المؤسسة شعورًا لدى موظفيها بأن الفئة المتقاعدة تحظى بعناية فائقة واحترام شديد حتى بعد انتهاء مدة خدمتهم. هذا الشعور بالتقدير والرعاية يساهم بشكل فعال في غرس الولاء والتفاني لدى الموظفين الحاليين تجاه مؤسستهم، ويؤكد لهم أن مساهماتهم ستظل محل تقدير حتى بعد تقاعدهم. آخر الكلام: المتقاعد ليس كالفاكهة الفاسدة التي تحمل معها تاريخ انتهاء صلاحية، خبرته وقيمته لا تنتهي بانتهاء مدة خدمته.

354

| 22 يوليو 2025

alsharq
في وداع لطيفة

هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات...

4581

| 29 سبتمبر 2025

alsharq
الكلمات قد تخدع.. لكن الجسد يفضح

في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه،...

3396

| 29 سبتمبر 2025

alsharq
ماذا يعني سقوط الفاشر السودانية بيد قوات الدعم السريع؟

بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون...

1356

| 28 سبتمبر 2025

alsharq
فلسطين والكيان والأمم المتحدة

أُنّشِئت الأمم المتحدة في العام ١٩٤٥م بعد الحرب...

1197

| 28 سبتمبر 2025

alsharq
استيراد المعرفة المعلبة... ضبط البوصلة المحلية على عاتق من؟

في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة يمكن وصفها بـ...

1104

| 02 أكتوبر 2025

alsharq
حين يُستَبدل ميزان الحق بمقام الأشخاص

‏من أخطر ما يُبتلى به التفكير البشري أن...

1059

| 29 سبتمبر 2025

alsharq
إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق

منذ أكثر من مائة عام ارتُكبت واحدة من...

885

| 30 سبتمبر 2025

alsharq
النسيان نعمة أم نقمة؟

في لحظة صفاء مع النفس، يطلّ النسيان عليَّ...

852

| 30 سبتمبر 2025

alsharq
الوضع ما يطمن

لسنا متشائمين ولا سلبيين في أفكارنا وتوقعاتنا ولكن...

768

| 03 أكتوبر 2025

alsharq
تعلّم كيف تقول لا دون أن تفقد نفسك

كم مرة قلت «نعم» في العمل بينما في...

708

| 02 أكتوبر 2025

alsharq
الإقامة الدائمة: مفتاح قطر لتحقيق نمو مستدام

تجاذبت أطراف الحديث مؤخرًا مع أحد المستثمرين في...

681

| 05 أكتوبر 2025

alsharq
كورنيش الدوحة بين ريجيم “راشد” وعيون “مايكل جون” الزرقاء

في فجرٍ قطريّ عليل، كان البحر يلمع بألوان...

633

| 30 سبتمبر 2025

أخبار محلية