رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أنشد جرير قصيدته الخالدة التي مطلعها: أَقِلّي اللَّومَ عاذِلَ وَالعِتابا وَقولي إن أَصَبتُ لَقَد أَصابا وفيها قوله الذي خلد في ذاكرة العرب: فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِن نُمَير فَلا كَعبًا بَلَغتَ وَلا كِلابا قالها ردًا على الراعي النميري، الذي هب في عصبية جاهلية يدافع عن الفرزدق ويهجو جريرًا، فكان جزاء حميّته أن جنى على قومه عارا مقيما، وصار اسمه علمًا على من يهلك نفسه بجهله، حتى غدا مضرب المثل في من يورد قومه موارد السخرية، ويقودهم بعاطفة غافلة إلى المهانة. لم يخطئ الراعي لأنه أحب، بل لأنه جعل الحب عمى، والغيرة سلاحًا أعمى. نسي أن الكلمة إذا خرجت من غير روية كانت كالسهم المرتد إلى صدر صاحبها، فهدم بلسانه ما أراد أن يرفع، وجعل من الدفاع غلوًّا، ومن الحمية جهلًا. وهكذا كل من يتكلم في غير موضعه، يظن أنه يدافع عن الحق، وهو يطعن فيه من حيث لا يشعر، ويحسب الغضب على الخصوم نصرةً للدين أو للمبدأ، وما هو إلا انقياد للهوى. ألا ما أكثر رعاة نمير اليوم! تراهم في كل ساحة يندفعون في خصوماتهم، يرفعون أصواتهم دفاعًا أو طعنًا، يرمون هذا ويصيبون ذاك، لا يزنون كلامهم بميزان العدل ولا يضبطون عواطفهم بعقال الحكمة. يظنون أن القسوة صدق، وأن الغلظة قوة، وأنهم ما داموا ينتمون إلى فئة أو مذهب أو رأي فهم على الحق المطلق، وما سواهم في باطلٍ بيّن. إن بعض الناس لا يحسنون في مواقف الخلاف إلا الخصومة، ولا يعرفون من العدل إلا ما وافق رأيهم، فإذا خالفهم أحد في فكرة جعلوا من رأيه خصومة، ومن زلّته قضية، ومن خطئه ذريعةً لنبذ كل ما قدّمه. وبعضهم يجعل من الخطأ الواحد ذريعة لهدم العمر الطويل، ومن الزلة الواحدة سلمًا للطعن في العلم والعمل، فإذا مات خصومهم لم يسكتوا عنهم، بل وقفوا على ذكراهم بألسنة حادة لا تعرف الرحمة، ويحسبون أنهم يدافعون عن الحق، وهم في الحقيقة يهدمون بعض صروحه بأيديهم. حتى إن أحدهم قال كلامًا من لوازمه تكفير من خالفه وإن لم يقصد! إن كل من يرفع صوته بالهوى، أو يتحدث بغير إنصاف، أو يجعل من العصبية المذهبية أو الحزبية ميزانًا للحق، فهو صدى لذلك الراعي القديم، وإن لبس لبوس العالم أو المفكر أو الغيور! فالراعي يعيش في كل من يسرف في الغيرة حتى تقتله، وفي كل من يخاصم باسم الدين أو الفكر أو الشرف، دون بصيرةٍ تهديه إلى العدل. وما أكثر من يظنون اليوم أنهم على هدى، وما هم إلا أصداء له! ألا ما أشبه زماننا بزمانه، وما أشد حاجة الناس اليوم إلى جرير آخر. يا قومنا: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
600
| 12 أكتوبر 2025
من سنن الله في خلقه: أن يحيى الإنسان في دار ابتلاء، فلا يخلو عمره من ضغوط. تلك تكاليف الحياة وطبيعتها: عمل وأسرة، علاقات ومطالب، تفاصيل صغيرة تتراكم حتى تثقل النفس. ليست هذه علامة على سوء الحظ، بل على حقيقة الوجود: أنك مخلوق في دنيا دار اختبار، لا جنة قرار. والقوة أن ندرك أنّ هذه الضغوط ليست عدوّاً يُستأصل، ولكنها قدر محتوم يجب أن يُستقبل بالإيمان. فبدلاً من الهروب منها أو إنكارها، يكون الوعي بها وقبولها بداية الحصانة الداخلية، التي تمنح القلب طمأنينة وثباتاً في مواجهة العواصف. ثانياً: حين يتسرب الضغط إلى الداخل المصيبة ليست في الخارج، ولكن في الداخل. هناك من يجعل من الحدث المرهق وقوداً لنهوضه، وهناك من يفتحه على نفسه باباً للقلق والوسواس، حتى يصبح أسيراً لردود فعله. انظر مثلا إلى قضية النقد في العمل؛ قد يكون عند مؤمن فرصة لمراجعة وتزكية، وقد يكون عند ضعيف النفس مصدراً لهدم ثقته بنفسه. الحدث واحد، ولكن الاستقبال يختلف باختلاف القلب. فمن عمر قلبه باليقين، جعل من الضغوط سلّماً، ومن خلا قلبه من المعنى صار عبداً للقلق والوهم. ثالثاً: بناء الحصانة الداخلية الحماية ليست في نفي الضغوط، فهذا أمر خارج عن إرادتنا، بل في تقوية الداخل، وصيانته بالإيمان والعمل الصالح. ومن سُبل ذلك: 1. إعادة التفسير بالإيمان: أن ينظر إلى كل ما يجري بأنه امتحان من الله، فيه عبرة وفرصة للتعلم. 2. مجاهدة الخواطر: أن يطرد وساوس السوء، ويستبدلها بذكر الله، وآياته التي تنير البصيرة. 3. تحقيق التوازن: في العمل والراحة، فإن لنفسك عليك حقاً، وإن لبدنك عليك حقاً، والراحة عبادة إن نويت بها التقوّي على الطاعة. 4. المرونة الإيمانية: تقبّل الخسارة والفشل كجزء من قدر الله، والتسليم بأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ومن وسّع أفقه على حكمة الله في قضائه، صغرت في عينه أثقال اللحظة، واستراح قلبه برضا ربه. رابعاً: الأزمة في الداخل لا في الخارج كالقبطان أمام الرياح، لا يملك أن يوقفها، ولكنه يملك أن يوجه شراعه. كذلك المؤمن، لا يملك نفي الضغوط، ولكنه يملك أن يجعل منها طريقاً إلى الله. خطوات عملية لإحكام “أشرعة الداخل”: • الذكر والدعاء: فاللسان إذا انشغل بالتسبيح والتحميد والتهليل، اطمأن القلب وخمدت ثورته. • تنظيم الوقت: فإن كثيراً من القلق وليد الفوضى، والمؤمن مأمور بحسن التدبير: “وكلوا واشربوا ولا تسرفوا”. • صحبة صالحة: تبث فيك العزم، وتذكرك بالله إذا نسيت، وتخفف الحمل عنك بالمشاركة والمساندة. • الصلاة والقيام: فهي صلة بالله، وراحة القلب، وبها يلقى العبد الطمأنينة التي لا تمنحها الدنيا. خامسا: نحو طمأنينة أعمق ليست الطمأنينة فراغاً من المشكلات، ولكنها سكينة يهبها الله لعبده، تمكّنه أن يثبت وسط العواصف. إن كثيراً من الناس يظنون راحة البال تعني انعدام الأزمات، وهذا وهم؛ فالابتلاء جوهر الحياة. لكن المؤمن يجعل من المحنة منحة، ومن الشدة طريقاً إلى رفعة. القلق: جرس إنذار لا عدو القلق في أصله ليس شراً محضاً، بل هو نذير ينبهك أن تعود إلى الله، أو أن تعدّل مسارك. فالخطر حين يتحول إلى وسواس دائم يقعدك عن السير، أما إذا استُقبل بروح إيمانية، صار دافعاً لمراجعة النفس والعودة إلى الجادة. الضغوط كوقود للنمو كم من عظيم صنعته محنة! وكم من إنجاز وُلد في رحم بلاء! • الفشل يوقظ ملكة الإبداع. • الخسارة تعلم قيمة العطاء والشكر. • المرض يذكر بفناء الجسد، ويدفع إلى إعادة ترتيب الأولويات. وهكذا لا تكون الضغوط صخرة تسحق، بل هي وقود يرفع المؤمن درجات عند ربه. ملامح الإنسان المتوازن المؤمن المتوازن ليس من نجا من المنغصات، ولكن من صاغ منها عبادة ومعنى. • يواجه بثبات مستعيناً بالله، ولا يكتم مشاعره البشرية. • يتألم، نعم، لكن يجعل من ألمه زاداً إلى الطاعة. • يسقط أحياناً، لكن يقوم وقد تعلم من سقطة واحدة ما لا يتعلمه من سنين رخاء. إنه يعيش حياة أعمق، لأن كل تجربة عنده لبنة في بناء صرح إيمانه. خطوات عملية نحو طمأنينة أعمق 1. إعادة التفسير بالإيمان: اسأل نفسك أمام كل ضغط: ماذا يريد الله أن يعلّمني من هذا البلاء؟ 2. التركيز على الممكن: اعمل فيما تملك، ودع ما لا سلطان لك عليه لمدبر الكون. 3. تنظيم الطاقة: نومٌ بنية التقوي على العبادة، وحركة تحفظ الجسد، وراحة ترد القلب إلى الطاعة. 4. المرونة الذهنية: تقبّل التغيير كجزء من قدر الله، فخسارة اليوم قد تكون مقدمة لفوز أعظم غداً. إن الطمأنينة لا تعني غياب الرياح، ولكن حسن ضبط الأشرعة بقوة الإيمان، فالضغط ليس نقمة، بل فرصة يفتحها الله لعبده ليكتشف نفسه من جديد، ويزداد قرباً منه، ومن فهم هذه الحقيقة لم ينتظر البحر حتى يهدأ، بل يجعل من العاصفة قوة تدفعه نحو شاطئ أرحب من اليقين، وأوسع من الطمأنينة.
492
| 06 أكتوبر 2025
من أخطر ما يُبتلى به التفكير البشري أن يتحوّل ميزان الحق والباطل من صفاء الفكرة وقوة الدليل إلى مجرد انتماء القائل أو مكانته. فبدل أن يكون العقل أداةً للإنصاف ووسيلةً لوزن الحجج، يصبح تابعًا للهوى، أسيرًا للميل النفسي، مسلوبًا من وظيفته التي أودعها الله فيه. وهذه النقلة ليست مجرد خطأ عابر، بل هي خللٌ منهجيٌّ عميق يطال بنية التفكير كلّها، ويؤدي إلى سلسلة من الانحرافات الفكرية والاجتماعية. أولًا: انكسار معيار الحق حين يُربط الحكم على الأفكار بمقام الأشخاص، فإن معيار العدل ينكسر. فالعقل لا يعود يزن الحُجّة بما تحمله من برهان، بل بما يحمله قائلها من قرب أو بُعد، مكانة أو خصومة. عندئذٍ يتحول ميزان العلم والشرع إلى ميزانٍ عاطفي هشّ، وتصبح الحقائق أسيرةً للانتماءات. وفي هذه اللحظة يضيع الإنصاف، ويغدو الدليل بلا قيمة إن خرج من فم المخالف، بينما يُستَقبل بالتصفيق لو نطق به الموافق. ثانيًا: تعطيل النقد البنّاء النقد ليس غايةً في ذاته، بل هو وسيلة للتقويم والتكميل. غير أن ربط التصويب والتخطئة بالانتماء يُعطِّل هذه الوسيلة تمامًا. فإذا كان الحبيب مصونًا من المراجعة، فإن أخطاءه الصغيرة تتضخّم وتتحوّل إلى كوارث فكرية واجتماعية، لأنه لا أحد يجرؤ على تنبيهها أو تصحيحها. وعلى الجهة الأخرى، إذا كان المخالف محكومًا عليه بالرفض قبل أن يتكلم، فإن صوابه يُدفن مع كلماته، وتُحرم الأمة من خيرٍ كثير كان يمكن أن يُثمر لو قُوبل بالإنصاف. وهكذا يُسدّ بابان عظيمان: باب تقويم المحبوب وباب الاستفادة من المخالف. ثالثًا: صناعة الوهم الجماعي الاستمرار على هذا النهج يُنتج مع مرور الزمن وهمًا جماعيًّا. إذ يُرسَّخ في الوعي أن بعض الأشخاص فوق النقد، وأن بعض الانتماءات تُعطي صاحبها حقًّا بالقول لا يُسائل عليه أحد. وتُزرع في العقول أوهام العصمة لأناس لا عصمة لهم، ويُغدو الانتماء أهم من الحقيقة نفسها. ومع التكرار يصبح الحق ما قاله فلان، والباطل ما قاله خصمه! وتذوب المعايير الموضوعية شيئًا فشيئًا حتى تُستبدل بمعايير شخصية، فيغيب الضابط المنهجي وتُستعبد العقول تحت لافتة الولاء أو الخصومة. هذا المسلك في جوهره انعكاس لغلبة الهوى على سلطان العقل؛ إذ إن النفس تميل بطبعها إلى تصديق من تحب وتكذيب من تبغض، لكن وظيفة العقل أن يُقاوِم هذا الميل بالميزان الموضوعي. فإذا ضُيّعت هذه الوظيفة، انحدر المجتمع كله إلى التفكير الغرائزي بدل التفكير المنهجي. وفوق ذلك، فإن العادات الاجتماعية والتكتلات الفكرية والسياسية تغذي هذا النمط، لأن الجماعة غالبًا تميل إلى حماية صورتها وهيبتها، ولو على حساب الحقيقة. إن استمرار هذا الخلل لا يفسد فقط آلية التفكير الفردي، بل يُعطّل حركة المجتمع بأسره. فالأمة التي تُعلي الأشخاص فوق الحقائق تُعيد إنتاج أخطائهم جيلاً بعد جيل، بينما تحرم نفسها من الاستفادة من خصومها. وبذلك تُصاب بجمود حضاري، وتظل تدور في حلقة مفرغة من التكرار والتعصّب، بدل أن تتقدّم بالنقد والمراجعة والمصارحة. وختاما: العقل أمانة، ومهمته أن يكون ميزانًا للعدل، لا أداةً للتعصّب، والإنصاف لا يُختبر في موافقة المحبوب، بل في الاعتراف بصواب المخالف، وحين يستعيد الناس هذا الميزان، يتحرّرون من سطوة الأشخاص، ويرتبطون من جديد بالمعيار الأعلى: الحق الذي لا يعلو عليه مقام، والبرهان الذي لا تحجبه الأهواء.
1062
| 29 سبتمبر 2025
إنّ الطريق إلى الله طريق طويل، محفوف بالابتلاءات، مزروع بالأشواك، تحفّه الفتن، وتزاحمه النفوس المثقلة بضعفها. وفي كل دربٍ ستلقى بشرًا يُعرّفونك بنفسك قبل أن يُعرّفوك بأنفسهم. هم امتحان لروحك، كما أنك امتحان لقلوبهم، فكل وجه تراه، وكل طبع تصادفه، ليس عبثًا، بل هو رسالة خفية إلى روحك، يدعوك إلى أن تصقل وتتهذّب. هناك من يفتح لك باب الرحمة، وهناك من يضع أمامك جدارًا من القسوة. منهم من يذكّرك بنقصك، ومنهم من يستفز فيك كبرياءك أو غضبك أو غيرتك. والحكمة أن تتعلّم فنّ العبور وسط هذه الأمواج البشرية: أن تُدرَّب على الصبر، وتُهذَّب بالحكمة، وتحفظ قلبك من التلوث، وطاقتك من التبديد. وهذه عشر شخصيات ستجدها، مرسومة بعناية في طريقك، تكشف ضعفك وتستخرج قوتك، وتدعوك أن تعلو فوق اللحظة إلى أفق أعلى: 1. الشخصية السلبية هي روح لا ترى إلا الظلام، ولا تلتقط من النور إلا غيابَه. تجرّ خطاك إلى هوّة العجز واليأس. ومخرجك منها أن تعلّق قلبك بالرجاء، وتستمسك بحبل الله المتين، فلا تُسلم روحك لعدوى الإحباط. 2. الشخصية النرجسية أسيرة وهمٍ أجوف، تسعى إلى مديح الناس، وتبخل عليهم بالإنصاف. وحين تقترب منها لا تُقارن نفسك بها، فأنت عبد لله، والميزان عنده لا عندها. 3. الشخصية المتطلّبة تستنزف وقتك وجهدك، وتغريك بشعور الذنب إن قصّرت في عطائها. وعلاجها: أن تُحسن الحدود، وأن تعلم أنّ وقتك أمانة، لا يُهدره كل طارق. 4. الشخصية الانتقادية لا ترى إلا عيبًا، ولا تذكر إلا نقصًا. والنجاة منها أن تزن كلماتها بميزان العدل، فتأخذ ما ينفعك، وتذر ما يجرح بلا طائل. 5. الشخصية الحسودة تذوب قلوبها إذا أُفيض عليك بنعمة. وموقفك منها: أن تستر رزقك ما استطعت، وتحيط نفسك بجوٍّ من الشكر يقيك سموم الحسد. 6. الشخصية المتشائمة ترى الفشل قبل أن يبدأ السعي، وتستدعي الهزيمة قبل أن يُرفع لواء الجهاد. ودواؤها أن تُقيم لها الدليل من الواقع، وأن تبدأ بالخطوة الصغيرة التي تُثبت أن الطريق يُثمر. 7. الشخصية محدودة الوعي تُسيء الفهم وتُربك المعنى. والتعامل معها: بالبيان المبسّط، وبالكتابة التي تثبّت الكلمة فلا يعبث بها الوهم. 8. الشخصية القلقة تعيش في خوفٍ دائم، وتبثّ هذا القلق في الأجواء. ومنهجك معها: أن تُعطيها الطمأنينة بقدر، ثم تحمي نفسك من غرقٍ في بحر لا قرار له. 9. الشخصية الشكّاكة ترى في كل كلمة سوء نية، وفي كل فعل مؤامرة. وطريقك معها: أن تكون شفافًا، وأن توثّق، ثم تُدرك أنّ شكوكها شأنها لا شأنك. 10. الشخصية المزاجية تتقلّب كما تتقلّب الرياح، تُربكك بتغيّرها، وتستنزفك بتقلبها. والتعامل معها: أن تختار لحظات السكون للحوار، وتضع السدود أمام ثوراتها العارضة. هذه النماذج ليست عدوّك في الطريق. إنما هي ابتلاءات يجب التعامل معها: • بالوعي تُدرك أثرها. • وبالحزم تصون وقتك وطاقتك. • وبالتوكل تحفظ قلبك من التلوث. فالناس امتحانك وأنت امتحانهم. والسعيد من خرج من هذا الزحام وقد صفا قلبه، ونما وعيه، وثبت قدمه على الطريق.
228
| 21 سبتمبر 2025
إنّ الأمة لا تحتاج إلى أسئلة تُثير الضجيج وتُبعثر الطاقات، وإنما إلى السؤال الراشد؛ سؤال صادق النية، موجَّه للبناء لا للهدم، يثمر عملًا لا جدالًا. فالسؤال في ميزان الوحي أمانة ومسؤولية؛ إذ قد يكون مفتاحًا للعلم والعمل، وقد يكون مدخلًا للفتنة والانقسام. وإن كنا نريد نهضةً حقيقية، فعلينا أن نتربّى على فنّ السؤال: أن نسأل عمّا ينفع، وندع ما يضر، ونحوّل السؤال إلى مشروع إصلاح وعمل نافع.فالقضية ليست في كثرة السؤال أو قلّته، بل في وعي غايته ومآله: ماذا نسأل؟ ولماذا نسأل؟ الأسئلة الجدلية التي تستنزف العقول وتشتّت الصفوف ليست من العلم في شيء، أما السؤال الذي ينير الطريق، ويكشف مواضع الخلل، ويفتح أبواب العمل، فهو السؤال الذي يبنيه الإيمان. - ضوابط السؤال بين الوحي والعقل لقد رسم القرآن والسنة معالم السؤال الراشد، فجعلت له ثلاثة أطر جامعة: 1) وعي أن ندرك خطورة السؤال، فنزنه بميزان الوحي، فنميّز النافع من الضار. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ وقال أنس رضي الله عنه: «كنا نُنهى أن نسأل رسول الله ﷺ عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع» فالوعي تربية قرآنية ونبوية، تُعلّمنا التمييز بين سؤال يثمر علمًا وعملًا، وسؤالٍ عقيم يفتح أبواب الفتنة. 2) ضبط أن نُحسن كفّ اللسان وتوجيه الفكر، فلا ننجر وراء كل خاطر، بل نختار سؤالًا نافعًا يخدم مشروع الحياة والقرب من الله. قال ﷺ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ومن صور غياب الضبط: ما وقع يوم قال النبي ﷺ وهو يخطب: «سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمتُ في مقامي هذا» فهابه الناس، وجعلوا يغطّون وجوههم وهم يبكون، فقام رجل فقال: «من أبي؟» فقال ﷺ: «أبوك حُذافة». فقال عمر رضي الله عنه: «رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولًا، عائذًا بالله من الفتن».فالضبط يحمي الأمة من الأسئلة التي لا ثمرة لها، ويصونها من الفتن. 3) تسخير أن نحوّل السؤال إلى أداة بناءٍ، ومفتاح مشروعات إصلاح، ووسيلةٍ للتعلّم النافع وخدمة الأمة. قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ وجاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: «أي الناس أحب إلى الله؟ وما أحب الأعمال إليه؟» فقال ﷺ: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا». وقال ﷺ: «من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله» فهذا هو السؤال البنّاء: يحدّد الأولويات، يفتح ميادين العمل، ويحوّل المعرفة إلى حركة إصلاح تمتد في جسد الأمة كله. إنّ السؤال في ميزان الوحي أمانة عظيمة: •وعي يميّز النافع من الضار. •ضبط يكفّ اللسان عن الفضول والفتنة. •تسخير يحوّل السؤال إلى إصلاح وبناء ونهضة. والسعيد من جعل سؤاله سبيلًا إلى النور والعمل، لا بابًا للجدل والانقسام.
198
| 16 سبتمبر 2025
إن هذا الواقع الرقمي لم يأت بجديد من عنده.. إنما كشف ما كان في الصدور، وأزاح الأغطية عن خبايا النفوس. ففي الحياة اليومية، كان كثير من الناس يضعون الأقنعة: -قناع الحياء من المجتمع -وقناع الخوف على السمعة -وقناع الحرص على المكانة. لكن حين فتحت لهم المنصات أبوابًا واسعة بلا رقيب من الناس، ولا حساب عاجل في الدنيا، انطلقت النفوس على حقيقتها، فبان زيف التجميل، وظهر ما تخفيه القلوب. لقد تفجرت سيول الإساءة، وارتفعت صيحات السباب والتحريض والعنصرية، تحت دعاوى كاذبة: “حرية”، و”جرأة”، و”صراحة”! وما هي في حقيقتها إلا انطلاق الغرائز من عقالها، وتفلّت الهوى من زمامه، وتجرّد القلب من رادع الإيمان والخوف من الله. وهنا يتجلّى السؤال الحاسم: هل كانت هذه الأخلاق كامنة، ففضحها هذا الواقع؟ أم أن البيئة الرقمية غذّت النفوس حتى كبرت فيها نوازع الشر؟ الحقيقة أن كليهما قد وقع!! إن الأمم لا تسقط حين تُهزم في الميدان العسكري، ولكنها تسقط حقًّا حين تُهزم في ميدان القيم. فإذا فسد الخُلق، لم يبقَ علمٌ ينفع، ولا مالٌ يدفع، ولا قوةٌ تُقيم. وقد قال رسول الله ﷺ: “إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق.” الواقع الافتراضي ليس لعبةً للتسلية.. إنه ابتلاء، يكشف عن معادن الناس، ويضعهم في ميزان الآخرة قبل أن يضعهم في أنظار الخلق. فمن ضبط لسانه وبصره وقلبه لله، ربح الدنيا والآخرة. ومن أطلق هواه، فليعلم أنه يكتب تاريخه عند الله قبل أن يكتبه على صفحته آثار الواقع الافتراضي على الفرد والمجتمع إن هذا الانفلات الرقمي لا يقف عند حدود الكلمات، ولا يقتصر على لحظة انفعال تُكتب ثم تُنسى، بل يترك أثرًا عميقًا في القلوب والعقول. فعلى مستوى الفرد: • يضعف رادع الضمير، ويتعوّد اللسان على الفحش، فيموت الحياء من الله، ثم الحياء من الناس. • يتربى القلب على الغلّ والحقد، إذ ينغمس صاحبه في سبٍّ وتحريضٍ، حتى يصبح ذلك غذاءً لنفسه، وراحةً مؤقتةً لوهمه. • يذبل نور الإيمان، ويخفت صوت القرآن في النفس، لأن القلب الذي امتلأ باللغو لا يجتمع فيه خشوع ولا ذكر. • ويُصاب الإنسان بعزلة نفسية، إذ يظن أنه يعيش في مجتمع من الأعداء، فيُغلّق أبواب الرحمة في صدره، ويعيش في وحشة لا تنقشع. أما على مستوى المجتمع: • تتفكك الروابط، إذ يتحول الحوار إلى صراع، والاختلاف إلى عداء، والتنوع إلى طائفية ممزِّقة. • تُهدر الطاقات في مهاترات، بدل أن تُبنى بها حضارة، أو تُصنع بها نهضة. • يفقد الناس الثقة في بعضهم، فإذا غابت الثقة انهارت جسور التعاون، وتلاشت فرص النهوض الجماعي. • وتضعف المناعة الأخلاقية للأمة، فإذا جاءها عدوٌّ خارجي وجدها رخوة، قد أُنهكت من الداخل قبل أن تُهزم من الخارج. وهكذا، يصبح الواقع الافتراضي ساحة اختبارٍ حقيقية: إما أن يكون وسيلةً للخير، نُظهر فيه أجمل ما عندنا من خُلقٍ وكلمة طيبة ودعوة راشدة، فيكون صدقة جارية لا تنقطع. وإما أن يكون بابًا للشر، نكتب فيه ما يثقل ميزان السيئات، ويهوي بنا في دركاتٍ لا نتصورها. إنه امتحان الإيمان: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]. فهل نعي أن كلماتنا على الشاشات تُرفع في صحائفنا، وتُعرض على ربنا؟ وهل نستيقن أن أخلاقنا هي التي تحكم مصيرنا، في الدنيا قبل الآخرة؟
390
| 07 سبتمبر 2025
إن الحق في ذاته قاطعٌ جازم، لا يقبل المساومة ولا يحتمل التفاوض؛ لأنه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد، لا يتجزأ ولا يُبعض. هو الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، وهو النور الساطع الذي لا يخالطه غبش. فمن ابتغى غيره فقد انحدر إلى الضلال، وإن سمّاه «اعتدالًا» أو «تسامحًا» أو «عقلانية». ليست هناك «منطقة رمادية» بين الهدى والعمى، ولا جسرٌ يصل بين النور والظلمة. إنها ثنائية حاسمة: حقٌّ أو ضلال، استقامة أو انحراف، إيمان أو هوى. ومن هذا الميزان الرباني يُفهم معنى الوسطية؛ فهي ليست تلفيقًا بين المتناقضات، ولا تسوية بين شريعة الله وأهواء البشر، بل هي الثبات على الصراط المستقيم: لا غلوّ يرفع الدين فوق حدوده، ولا تفريط يُنزل به دون مراد الله. فهي العدل الذي شرعه الله، لا الذي تصوغه الأهواء أو تفرضه مقاييس الحضارات. وعليه، فليست «الوسطية» ما يراه الناس وسطًا بين الإفراط والتفريط، ولا ما ارتاحت له النفوس، أو استحسنه العُرف، أو زكّته المقاييس الوضعية تحت شعارات «العقلانية» و«التسامح». إن الوسطية في ميزان الإسلام أمرٌ أعمق وأجلّ: إنها الاستقامة على صراط الله دون ميلٍ يمنة أو يسرة. قال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا﴾. فالاستقامة هنا هي الوسطية الحقّة؛ لأنها انقيادٌ لأمر الله دون زيادة ولا نقصان، وهي المفهوم من قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾. ليست «وسطًا» بمعنى التنازل عن بعض الحق إرضاءً للبشر، بل «وسطًا» بمعنى خيارًا وعدلًا، لا يميلون إلى غلوّ الغالين ولا إلى تفريط المفرّطين. فالوسطية إذن ثباتٌ على الحق، لا مساومة عليه. وهذه سيرة النبي ﷺ وأصحابه شاهد عدل على ذلك؛ فحين عرضت قريش على رسول الله ﷺ مساومة «وسطية»: أن يعبد آلهتهم عامًا ويعبدوا الله عامًا، كان الرد وحيًا حاسمًا: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ … ثم جاء الختام الفاصل: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾. إنه رفضٌ صريح للتسويات على حساب الحق، وإعلانٌ أن الإسلام لا يقبل التذويب ولا التنازل. وكذلك في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين توسّعت الفتوحات، عرض بعض قادة الفرس والروم أن يتركوا للمسلمين بعض الأرض ويكفّوا عن القتال، لكن عمر ومن معه علموا أن الدعوة لا تقوم على أنصاف الحلول، فقال قولته المشهورة: «نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العز بغيره أذلّنا الله». إن الذين يبحثون اليوم عن «حلٍّ وسط» بين الإسلام والهوى لا يريدون عدلًا، وإنما دينًا على مقاس رغباتهم؛ دينًا يُطعَّم ببعض النصوص ويُخفَّف ببعض الهوى ليُصبح «مقبولًا» عند أصحاب الشاشات والمنابر العالمية. وقد وصف الله حالهم بقوله: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾. هذه الوسطية المزعومة ليست إلا ستارًا للتفريط يُسمّى «تسامحًا»، وخذلانًا يُدعى «عقلانية»، وخيانةً تُزيَّن بعبارات «الحكمة». إن الإسلام جاء ليعلو لا ليُساوِم، جاء ليُعلن كلمة الفصل لا ليذيب الفوارق. فالتوسط بين الحق والباطل؛ باطل. والاعتدال بين المعروف والمنكر؛ منكر. والتوفيق بين الإسلام والتحلل؛ تمييع وهزيمة. إن الوسطية الحقّة هي الثبات على الوحي، والوقوف عند حدود الله لا يُزاد فيها ولا يُنقص. هي أن يكون القرآن هو المعيار، والرسول ﷺ هو الأسوة، والصراط المستقيم هو الدرب. فمن رام غير ذلك، فقد وقع في قول الله تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾.
450
| 31 أغسطس 2025
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ الدنيا بأسرارها المكنونة وأحوالها المتضادة مسرح للناس، يتقلبون فيها بين نور وظلمة، وبين صفاء وكدر، وبين حق يزهق الباطل، وباطل يركب موج الزخرف ليخدع الأبصار. فيها الرجل الصادق الذي صدقت نيته، فوافق ظاهره باطنه، لا يبتغي غير مرضاة الله، وفيها المخادع المتملق، صاحب اللسان الذلق، الذي يُظهر خلاف ما يبطن، كأنما الدنيا خُلقت له وحده، فهو ميزان الحق في زعمه، والناس من حوله رعية أفكاره، يجمل وجهه بالكلام المنمق، ويسوق الأيمان الغليظة كأنما بضاعته الصدق، وما هو إلا ألدّ الخصام، وأعظمهم كذبًا وافتراءً! إن دعي إلى الحق أعرض عنه مستكبرًا، وإن بُصر بالصواب استنكف أن ينزل عن عناده، كأنما أخذته العزة بالإثم، لا يرده واعظ، ولا يثنيه ناصح، فهو ماضٍ في طريقه، يخرب ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، يقطع زرع الخير ويحرق سنابله، وينشر الفساد في الأرض كأنما لم يخلق إلا ليهلك الحرث والنسل! وهؤلاء هم من قال فيهم الله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ». أما المؤمن الصادق، فهو رجل باع نفسه لله، لا يستبقي منها شيئًا، قد جاد بها في سبيل مولاه، وطرح الدنيا وراء ظهره، وآثر رضا ربه على هواه، فسار على درب الفداء، لا يبالي بما يلقى في سبيله، وهؤلاء هم من أحاطتهم رحمة الله، فلم يصلوا إلى مقامهم إلا بعناية الله ورأفته، لا بكدهم واجتهادهم وحده، فهم عباد اصطفاهم الله بقدرته، ولرأفته بهم صاروا كذلك، لا لأنهم استوجبوا رأفته بأعمالهم. وهذان هما النموذجان اللذان يشكلان صلب الجماعة البشرية، وإن نزلت الآية في الأخنس بن شريق الثقفي وصهيب بن سنان الرومي، فهما عنوانان بارزان على خطين لا يزالان يتكرران في الناس. أما الأخنس، فكان رجلًا حسن المنظر، حلو المنطق، يزعم الولاء للنبي ﷺ، ويدّعي الإسلام، ثم ارتد على عقبيه، ومضى يفسد في الأرض، فمر على زرع للمسلمين فأتلفه، وعلى دوابهم فقتلها، فكان ممن يخرب ولا يبني، ويدّعي الخير وهو للشر بؤرة وسندان. وأما صهيب، فكان صورة ناصعة للمؤمن الذي جعل الله بغيته، وترك الدنيا وراءه. خرج مهاجرًا إلى الله ورسوله، فتبعه نفر من قريش يريدون منعه، فوقف لهم بسيفه وقوسه، وقال: والله لا تصلون إليَّ حتى أفني سهامي، ثم أضرب بسيفي، فإن شئتم بعد ذلك فافعلوا. فقالوا: دلنا على مالك، وخلِّ بيننا وبينك، ففعل، فلما بلغ النبي ﷺ قال له: «ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع!». هذان صنفان من الناس: صنف غطى زيفهم لمعان القول، وزينوا وجوههم بأصباغ الخداع، وهم في الحقيقة قلوبهم أشد مرارة من الصبر، يتخذون الدين تجارة، والدنيا غاية، يُظهرون اللين، ويُبطنون الخداع أما الصنف الآخر، فهم الذين اشتروا أنفسهم لله، وباعوا دنياهم بآخرتهم، فكانوا أعزّاء وهم فقراء، وكانوا في عين الخلق مغبونين، لكنهم في ميزان الحق رابحون، والله رؤوف بالعباد. إنها صورة مضيئة مشرقة، تمثل حقيقة التصور الإيماني، الذي لا يتعلق بشيء من عرض هذه الأرض، ولا يقف عند شهوة من شهواتها. وإنما يتجه مباشرة إلى الله، يريد وجهه وحده، ويقدم النفس والمال راضياً مرضياً في سبيل رضاه. وهذا هو النموذج الذي تستقيم عليه حياة الجماعة المسلمة، التي تبتغي إنشاء حياة إنسانية نظيفة كريمة مستقيمة، لا تفلح بغير هذا النموذج من النفوس المتجردة لله، المصلحية بالحق، التي لا تخشى في الله لومة لائم، ولا تقف عند غنيمة أو مغنم.
840
| 24 أغسطس 2025
الذي لا يعرف كيف يقرأ التاريخ، لا يعرف كيف يتحرك في الجغرافيا؛ فلكل بقعة من الأرض لسان ناطق، يحكي، وينذر، ويذكر. ومن لم يجعل من التاريخ له معراجًا للنهضة؛ سيقع في كل هاوية نجا منها السابقون. إنها الحقيقة المرة التي كررها كل عاقل: «الذين لا يقرؤون التاريخ محكوم عليهم أن يكرروه»! وهل نحن اليوم إلا في دوامة تكرار مرير؟ ها نحن نسقط في الحفر ذاتها، ونعيد الأخطاء ذاتها، لأننا نجهل ما وقع، أو نرفض أن نعتبر منه. وما من جديد في هذا العالم - كما قال أحدهم - «إلا ما نجهله من التاريخ» فكل شيء له جذوره، وكل حدث له نظير، ولكن الجهل بالتاريخ يسقط البصر، ويخدع الشعور، ويجعلنا نظن أننا في بداية الطريق، بينما نحن نعيد الدوران في الحلقة ذاتها! ستظل قراءة التاريخ واحدة من أكبر الغيابات في العقل المسلم المعاصر، ما دمنا نبحث عن المستقبل بأدوات الحاضر، وننسى أن مفاتيحه قد وضعت هناك، في صفحات التاريخ المهجورة، وفي العبر المدفونة، وفي السنن الجارية التي لا تتبدل. الأمة التي تتغنى بماضيها، وتعجز عن حمل حاضرها! تقرأ التاريخ لا لفهم السنن، بل لتحاكم من مات! تحيي خصومات دفنتها القرون! لا تنتظر سنة الاستبدال بل تستدعيها {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} إننا لا نقرأ التاريخ! وإن قرأناه، قرأناه بعين عاطفية، باكية، أو مؤدلجة، أو مجتزأة، أو محشوة بمحكمات صنعها الجهل والغفلة والتعصب. فكيف نقرأ التاريخ إذن؟ 1.من الانفعال إلى الفهم، ومن التقديس إلى الوعي: ليست قراءة التاريخ نشيدًا يُنشد، ولا مرثية تُبكى؛ إنها طريق لفهم السنن، واكتشاف موقعنا من دورة الحضارة. ولكن حين نقرأ بعين باكية، أو نفس متعصبة، يتحول التاريخ إلى عبء، لا إلى دليل. وحين نكتفي بالانفعال، نفتقد الفهم؛ فننشغل بردود الفعل، ونتغافل عن قوانين الفعل. وكما يُضللنا الانفعال؛ يضللنا التقديس. فلا تُقرأ الأحداث لأنها قديمة، ولا تُبجل الشخصيات لأنها مشهورة. إننا لا نقدس الأشخاص، بل نمحص المواقف، ونزنها بميزان السنن لا الأسماء. فنحن مأمورون أن نعتبر، لا أن نقدس. مكلفون بأن نفهم، لا أن نحاكم من مات. مأمورون بأن نأخذ الحكمة من كل وعاء، ولو جاء من مخالف، لا أن نغلق الباب على أنفسنا ونحتمي خلف تاريخ معلب. التاريخ لا يقدس… بل يفهم. ولا يقرأ للتماهي، بل للاستبصار. ولا يروى للتنازع، بل للنجاة. 2. فهم العمق… لا الانشغال بالسطح: لا يُبنى الوعي بالتاريخ من خلال تتبع الوقائع فقط، بل بفهم السنن التي تسير خلف الأحداث، وتحرك مساراتها. فلا نسأل: من انتصر؟ ومن انهزم؟ بل نسأل: لماذا انتصر هذا؟ ولماذا سقط ذاك؟ لا نسأل متى النصر ؟ بل نسأل ماذا أعددنا له؟ لا نسأل متى يأتي المنقذ ؟ بل كيف نصنعه؟ هل نهضت أمة لأن قائدًا ملهمًا ظهر فجأة؟ ! أم لأن السنن قد اكتملت، والبيئة قد تهيأت، والنفوس قد نضجت؟ هل سقطت المدن بالسيوف؟ أم لأن قيمها قد تهاوت، ومناعة أهلها قد انهارت؟ إن التفاصيل تخدعنا، أما السنن فلا تكذب. ومن يجهل سنن الله في التاريخ يُفاجأ دومًا، ويُخدع بالسطح، ويتعامل مع الحدث كاستثناء، لا كنتاج لقانون ماض في الأمم. 3.الرؤية المركبة الجامعة التاريخ ليس سلسلة معارك. إنه صورة الأمة في عقيدتها، في علمها، في اقتصادها، في أخلاقها، في إدارتها، في دعوتها. ولا تُبنى المجد بالسيف فقط، بل بالبصيرة التي تحمل السيف في الاتجاه الصحيح. 4.وعي الزمان والسياق ليس الماضي لوحة معقمة، نحاكمها بأدوات اليوم. بل لحظة بشرية، محكومة بظروفها، لا تُفهم إلا بسياقها. وليست كل أدوات الماضي تصلح للحاضر، ولا أدوات الحاضر تطبق على الماضي. ختاما: قراءة التاريخ ليست ترفًا فكريًا؛ بل فريضة نهضة، وسؤال بقاء. ولا يكفي أن نقرأ، بل يجب أن نحسن المنهج، وأن نُعمل العقل، ونستنطق العبرة، ونعرف أين نضع أقدامنا. فإما أن نبصر الطريق أو نُستبدل.
336
| 17 أغسطس 2025
دخل الغرفة متجهمًا. وقف أمام الطبيب، ومدّ ذراعه المرتجفة قائلًا: «ها هنا… الألم لا يفارقني.” تفحّص الطبيب عينيه قبل معصمه، وقال في هدوء: «هل يهمك أن تعرف السبب حقًا؟” أومأ برأسه، وقد تحولت ملامحه من القلق إلى استعطاف. هنا، تتجلى المفارقة: الإنسان يهرول ليشكو وجعه الجسدي، يُفصح عنه دون مواربة، يُقِّدم نفسه على طاولة التشريح دون تردد، لأنه يُدرك أن الألم لا يكذب. لكنه - حين يُصاب في سلوكه، حين يزلّ في رأيه، حين يخذله لسانه أو هواه - لا يعترف. يُخفي خطأه خلف ركام الأعذار، يُجمّله، يُهاجم من نبّهه، ويخاصم من واجهه بالحقيقة. فأيّنا إذًا المريض؟ ذاك الذي يشكو لينجو، أم ذاك الذي يكابر ليغرق؟ وهل الشجاعة أن نُحدّث الطبيب عن ألم الجسد، أم أن نُصغي لصوت الحق حين يُعرّينا من وهم الصواب؟ المرء حين يدرك أن الخطأ لا يُنقص من كرامته، بل يزيده وزنًا عند من يعرفون معنى الإنسانية، يكون قد خطا أولى خطوات التوازن بين عقله ونفسه. أما الذي يتمسك بخطئه، ويجعل منه جدارًا يحتمي خلفه، فهو إنما يُراكم جهلًا فوق جهل، ويُغلق على نفسه باب النور. الخطأ جزء من تكوين الإنسان، بل لعله إحدى ضروراته، لأنه بابٌ إلى التعلم، ومدخلٌ إلى النضج، ومحرّك صادق للتواضع. ولكن لا قيمة للخطأ إذا لم يعقبه اعتراف، ولا وزن للزلل إذا أنكره صاحبه ثم مشى مزهوًا بما لم يُحسن. إن أكثر الناس بعدًا عن الصواب ليسوا الجهلة، بل أولئك الذين يُحسنون تبرير الزلل، ويرَون الاعتراف هزيمة، كأن الحق معركة، وكأن الرجوع ضعف. وهنا يكمُن الكِبْر في أبشع صوره: أن تُنكر ما علمت، وتُجادل فيما بان، وتُسكت صوت ضميرك مخافة أن يُقال عنك: «لقد أخطأت.” الحق لا يُعرف بالوجوه، ولا تُحدّد قيمته بناءً على من نطق به، بل هو أرفع من الأسماء، وأبقى من الألقاب. فما أعظم المرء حين يقول عن قناعة: «كنت على غير هدى”، ثم يترك الطريق الذي سلكه، ويعود إلى الحق وإن جرّ معه خيبته. هذا هو التفوق الحقيقي: أن تنتصر على نفسك، لا أن تنتصر لها. أن تصمت حين يملي عليك الغرور أن ترد، وأن تتراجع حين يملأك العناد برغبة الاستمرار. وما أكثر ما تهوي العروش حين ترفض أن تعترف، وما أكثر ما ترتقي النفوس حين تقرّ بما بدا لها من نور الصواب. الوعي لا يصنعه التعليم وحده، بل يصنعه هذا الصدق الخالص الذي يجعل الإنسان يرى نفسه بعيونٍ خارج نفسه، ويزنها بميزان لا يُعطّل أمام الإغراء، ولا ينكسر تحت الضغط. من قال: «أخطأت”، فقد بدأ في إصلاح ما بعد الخطأ، أما من قال: «أنا لا أُخطئ”، فقد أخطأ قبل أن ينطق. جميل أن نتعلم، لكن الأجمل أن نخلع الكبر إذا بان الطريق. وجميل أن ندافع عن رأينا، لكن الأجمل أن نتخلى عنه إذا خالف الدليل. وجميل أن نُحسن الظن بأنفسنا، لكن الأجمل أن نظن أن غيرنا قد يُحسن حيث قصرنا. هذا هو النضج، وهذه هي الحكمة، وهذا هو الإيمان الذي لا تُرهقه الحقيقة، بل يخضع لها إذا ظهرت.
492
| 10 أغسطس 2025
ليست “حفلة الطلاق” زينة تعلق في صالات الفرح، ولا مجرد انفعال فردي عابر، وليست “احتفالا شخصيا” كما تروج له بعض الأصوات؛ بل هي علامة فارقة على تحول مؤلم في الثقافة الأسرية والمجتمعية. إنها زلزال صامت يهز أعماق القيم، ويشق صفوف البيوت، ويكشف عن فجوة هائلة بين مقاصد الشريعة في الميثاق الغليظ، وبين فهم معاصر اختزل الزواج في صور، والطلاق في انتصار! فما كان الطلاق يوما زينة، ولا الانفصال مسرحا، ولا الميثاق الغليظ خاتمة تزف بالأغاني والضحكات؛ بل كان في الشريعة ضرورة تكره، ودواء مرا يلجأ إليه بعد استفراغ الجهد في الإصلاح. لكن حين يسلب الزواج قدسيته، وتفرغ العلاقة من معانيها، وتبتر النصوص من سياقها، وتزين الفوضى بألوان الفرح… يكون هذا هو المشهد: ضحكات فوق ركام البيوت، وتصفيق فوق جراح الأطفال، و”حرية” مزعومة تشترى بثمن الندم المؤجل، وثقافة مشوهة تبارك الفكاك أكثر مما تبارك الثبات. فما الذي أوصلنا إلى هذا؟ وما الأسباب التي فجرت هذه الظاهرة؟ فلنبدأ من الجذور… الأسباب العميقة لظاهرة حفلات الطلاق: 1. فهم ساذج للزواج الزواج عند كثيرين لم يعد مشروعا للسكينة والبناء، بل تحول إلى “تجربة” ذات طابع عاطفي سطحي. بعض النساء ترى الزواج “رواية حب خالدة” لا تعب فيها ولا مسؤوليات، وبعض الرجال يراه ساحة للهيمنة، دون اعتبار لمفهوم المشاركة أو مراعاة الطبائع. وحين تصطدم هذه التوقعات الحالمة بصخرة الواقع، تصاب العلاقة بالانهيار؛ لا لأن الطرفين أشرار، بل لأن الفهم كان ساذجا، والمقدمات هشة. قال رسول الله ﷺ: «الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة» [رواه مسلم]. فالمتاع لا يعني الترف المؤقت، بل الشراكة الهادفة التي تتطلب صبرا وفهما. 2. فهم مشوه للطلاق الطلاق دواء شرعه الله حين تتعذر الحياة، لا حين تتعكر فقط. لكن في التصور المعاصر، صار الطلاق “تحررا”، و”بداية جديدة”، و”فرصة لإعادة اكتشاف الذات”، كما يروج في القصص المستوردة والمقاطع المؤثرة. وقد حذر النبي ﷺ من الطلاق بلا سبب، فقال: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة». والأسوأ من الطلاق: أن يحول إلى عرض احتفالي، وصرخة نشوة، بدلا من أن يكون لحظة تأمل ومسؤولية. 3. القوامة والتمرد حين تغتال القوامة على يد رجل ظالم، أو ترفض على يد امرأة متمردة، تنهار معاني السكن والرحمة. فالقوامة ليست تسلطا، ولا الطاعة إذلالا، بل توازن شرعي دقيق. قال تعالى: ﴿الرجال قوامون على النساء﴾ لكن حين يفهم النص بمعزل عن روح الشراكة، ترى الرجل يتجبر، وتسمع المرأة تقول: “لن أقاد”، وتتحول العلاقة إلى مواجهة لا مودة. 4. غياب الدفء والحوار البيوت لا تنهار فجأة، إنها تبرد أولا. تبرد حين يسكت الطرفان عن التعبير، ويغيب الحديث الحميم، وتستبدل الكلمات الدافئة بالصمت أو الصراخ. إن من أعظم أسباب الألفة: دوام المراسلة والحديث؛ فإن النفوس مجبولة على من يأنس بها ويحادثها. فالحوار ليس ترفا؛ بل صمام أمان. وإذا جف الحوار، ماتت العلاقة وإن بقيت تحت سقف واحد. 5. شعارات زائفة بين امرأة تقول: “أنا قوية”، “مستقلة”، ورجل يقول: “ما أحتاج أحدا”، و”كلمتي لا تناقش”، تنتشر شعارات غير متزنة تملأ الفضاء، وتشحن بها العقول، لكنها تهدم بيوتا، وتفتت أسرا. ففي كل علاقة ناجحة، قدر من الضعف، وقبول بالاحتياج، وتنازل للود. أما الكبرياء الدائم، فهو طريق مسدود. 6. فوضى الحقوق والواجبات استيراد مفاهيم مشوهة من بيئات متفككة، وتغليفها بثوب “الوعي”، أفسد توازن العلاقة. المرأة تطالب بمساواة لا حدود لها، والرجل يتشبث بالقوامة مع إهمال المسؤوليات. والحل أن نعود إلى أصل الشريعة: ﴿ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة﴾ درجة تكليف وعدل، لا قهر واستعلاء. 7. غياب الناصح الأمين حين يغيب العلماء، ويستبدلون بمؤثرين ومشاهير، تصبح الكلمة الفاصلة في قرار الطلاق تغريدة، أو مقطعا دراميا، لا فتوى ولا نصيحة حكيمة. قال تعالى: ﴿فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها﴾ فأين هؤلاء “الحكماء” اليوم؟ بل أين من يصغي إليهم أصلا؟ 8. المادية القاتلة حين تصبح العلاقة حسابا ماليا، تتساقط فيها معاني المودة، وتتحول النفقة إلى من، والهدايا إلى استثمار، والبيت إلى صفقة! وتغيب المودة التي هي أصل الزواج: ﴿وجعل بينكم مودة ورحمة﴾ ما قال: “صفقة ومقابلا”. المودة لا تشترى، بل تبنى يوما بعد يوم. 9. ضغط الإعلام والمنصات الإعلام المعاصر يصنع من كل طلاق “قصة نجاح”، ويعرضه على أنه تحرر من القيود، وتحقق للذات؛ فيختزل الألم، وتخفى الدموع، ويعرض الوجه اللامع فقط. والخطر حين تصبح هذه الروايات مصدر إلهام، فتتخذها الشابة قدوة، ويتخذها الشاب مخرجا وهميا من مشكلاته. نعم، قد يكون الطلاق مغنما. لكنه استثناء، لا قاعدة. 10. اجتزاء النصوص الشرعية من أكثر ما يستخدم في تبرير الطلاق الآية: ﴿وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته﴾ لكنها ليست رخصة للتمرد، بل وعد بعد عناء. قال ابن عاشور: “الغنى المذكور في الآية ليس دعوة للفراق، بل تسلية لمن اضطر إليه بعد استنفاد الوسائل”. فمن يستدل بها على طلاقه المتهور، يسيء فهم الوحي، ويستخدم النور ليبرر به الهروب. خاتمة: إن حفلات الطلاق ليست سوى العرض الخارجي لمرض داخلي عميق؛ تشوهت فيه المفاهيم، واهتزت القيم، وتقدم الزيف على الصدق، والفرح المصطنع على التأمل العميق. ليس كل طلاق خطأ، وليس كل زواج نعيما. لكن الهروب من الألم لا يكون بالتزييف، ولا يعالج الفشل بالضجيج. الأسرة ميثاق، لا مناسبة، والفكاك حين يقع، ينبغي أن يلف بالحكمة، لا أن يزف بالأهازيج. فلنعد النظر في مفاهيمنا قبل أن نشيع مزيدا من البيوت، ونبني من بقاياها مسارح عبث لا ينتهي.
681
| 03 أغسطس 2025
التاريخ ليس كتابًا مفتوحًا فحسب، بل هو واد كثير الشعاب، متشابكة طرقه، محفوفٌ بالمزالق والمصائد. من دخله بلا بصيرة، خرج منه مثقَلًا بالأوهام لا بالحكمة، وبالحنين لا بالبصيرة! ليس كلّ من قرأ التاريخ وعاه، ولا كلّ من وعاه فقهه، ولا كلّ من فقهه نجا من مصائده. ومن مصائد التاريخ الكبرى: 1. الانبهار بالحوادث لا بالسنن ينشغل الناس غالبًا بـ(ماذا حدث؟) ولا يسألون: (لماذا حدث؟) ولا (كيف يمكن أن يحدث مرة أخرى) فينبهرون بانتصار القادسية، ولا يدرسون كيف صيغت النفوس قبلها! يتغنون بفتح الأندلس، ولا يتأملون كيف فتحت، ولا كيف ضاعت! يحيون ذكرى صلاح الدين، ولا يدرسون كيف انتصر بالأسباب قبل أن ينتصر في الميدان. الحوادث دون سنن؛ تُصبح طقوسًا للتمجيد، لا دروسًا للنجاة. 2. تقديس الرموز دون تفكيك التجربة من أخطر مصائد التاريخ أن نُجمّد العظماء في صور، ونحني لهم الرقاب، دون أن نحني العقول لتتعلّم من صنيعهم. فنحوّل القادة إلى أصنام عاطفية، بدلاً من أن نصنع من تجربتهم منهاجًا للنهضة! حينها يصبح التاريخ متحفا للتمجيد لا مختبرا للفهم، نمشي وراء الظلال، ونترك النور. إن صلاح الدين لم يكن بطلًا لأن التاريخ قال ذلك؛بل لأنه صاغ أمةً قبل أن يفتح قلعة. 3. القياس السطحي بين العصور من أكبر أخطاء العقل المعطوب، أن يتخيّل أنّ أمراض اليوم لا تعالج إلا بوصفات الماضي! دون فقهٍ للمتغيّرات. أن يظنّ أنّ ما نفع في زمنٍ مضى، ينفع بالضرورة في زماننا، ولو تغيّرت البيئة، والعلّة، والجسد، وطبيعة التهديد! نستدعي حلول القرون الفائتة لنعالج بها تعقيدات الدولة الحديثة دون فهم للمتغيرات، ونقيس حاضرنا على لحظة راشدة بغير أدواتها ولا رجالها ولا شروطها. فنقع في عبث المقارنة، وسذاجة القياس، وضياع البوصلة. فلا نحن استفدنا من حكمة الماضي، ولا اجتهدنا لبناء الحاضر. بل بقينا أسرى زمنين: نردّد أمجاد الأول ترديد الغافلين، بلا وعي بشروطه ولا فهم لسياقه، ونخاصم الحاضر خصام العاجز، الذي لا يملك أدوات قراءته ولا جرأة إصلاحه! نُسجّل إعجابنا بالماضي في مجالس التفاخر، ونُعلن عجزنا عن التعامل مع الحاضر في ساحات البناء! فصرنا نُحني رؤوسنا لتاريخٍ لا نفهمه، ونرفع أصواتنا ضد واقع لا نملك له أدوات المواجهة! 4. الماضي كملجأ للهروب لا مرآة للمحاسبة أحيانًا يتحوّل التاريخ إلى وسادة للنوم، لا منارة للصحوة. نرجع إليه لا لنفهم، بل لنهرب. نتفاخر بالأمجاد ونحن في الحضيض، ونتلو قصائد النصر ونحن نُهزم في كل ميدان. فنصير كمن يُغني فوق الرماد، ويحسب الحكايات بعثًا جديدا! هذا الهروب لا يُنتج وعيًا، بل يُكرّس العجز. 5. غياب القراءة الإيجابية للتاريخ وهذه من أعمق المصائد التي لم يسلم منها حتى بعض العقلاء أن تُختزل قراءة التاريخ في الصراع، وتُلوّن بالرأي، وتُحوّل إلى محاكمة لا مدارسة! فلا ننتفع من خبرات الآخر، ولا ندرس تجارب الإصلاح، إلا إذا طابقتنا في فهم العقيدة، أو وافقتنا في الفكر! فندفن مدرسة إصلاحية كاملة، لأن صاحبها خالفنا في مسألة فقهية، أو تأوّل آيةً بغير فهمنا! نقصي عالمًا ربّانيًا لأنه خالفنا في موقف، أو لأنه اجتهد حيث توقّفنا! وهذا خطرٌ مزدوج: •فكرٌ يُعادي سنن الله حين يُقيّدها بالموافقة الحزبية •وعقلٌ يُضيّع ثروة الأمة حين يُقصي أدوات الإصلاح إن جاءت من خارج “الإطار المألوف”. والأصل أن التاريخ يُقرأ لاختبار أدوات الفاعلية، واستخلاص سنن التغيير، لا لمطابقة الأهواء! فنأخذ من كل تجربة أدواتها الناجعة، ونضيف إليها من معارف عصرنا، ونطرح منها ما بلي وتقادم. وذلك هو الفقه الحقيقي، أن نُحيي السنن وإن جاءت من خصم، وأن نُميت البدع وإن جاءت من حبيب! وختاما: ليست الكارثة في أن نُخطئ، بل في أن نُكرر ذات الخطأ باسم التاريخ! أن نُعيد السقوط ونحن نظن أننا نُعيد المجد. أن نسقط في ذات الهاوية، ونحن نظن أننا نمشي على طريق الفاتحين. ما التاريخ إلا صوت السنن، ينادي من وراء القرون: افهموني… قبل أن تكتبوا عني!!
171
| 27 يوليو 2025
مساحة إعلانية
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا...
6735
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت...
6306
| 14 أكتوبر 2025
منذ صدور قانون التقاعد الجديد لسنة 2023، استبشر...
3396
| 12 أكتوبر 2025
في خطوة متقدمة تعكس رؤية قطر نحو التحديث...
2790
| 12 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....
2067
| 16 أكتوبر 2025
مع دخول خطة وقف إطلاق النار حيز التنفيذ،...
1812
| 10 أكتوبر 2025
في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...
1596
| 16 أكتوبر 2025
قمة شرم الشيختطوي صفحة حرب الإبادة في غزة.....
1521
| 14 أكتوبر 2025
الوقت الآن ليس للكلام ولا للأعذار، بل للفعل...
1185
| 14 أكتوبر 2025
لا يخفى على أحد الجهود الكبيرة التي تبذلها...
1062
| 14 أكتوبر 2025
حين نسمع كلمة «سمعة الشركة»، يتبادر إلى الأذهان...
966
| 10 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...
759
| 16 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية