رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
حين تتكلم اللغة، فإنها لا تفعل ذلك طلبًا للاحتفاء، بل إعلانًا للسيادة. لا تتحدث من باب العاطفة، بل من موقع الوعي والقوة والمعرفة. ومع اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، لم تُنجز قطر كتابًا، بل أرست موقفًا حضاريًا واضحًا يقول إن اللغة ليست هامشًا ثقافيًا، بل ركيزة وجود، وأداة وعي، وعنوان ثقة لقد تلاقت الدلالة مع الزمن؛ يوم عالمي للغة العربية في الثامن عشر من ديسمبر، ويوم وطني لدولة جعلت من الهوية مشروعًا، ومن الثقافة قرارًا، ومن اللغة استثمارًا استراتيجيًا وكأن التاريخ نفسه يتكلم، ليقول بوضوح لا يحتمل التأويل: هذا إنتاجنا، وهذه لغتنا، وهذه ثقتنا بأنفسنا وبمكاننا في العالم. هنا، لا تُصان العربية بالحنين، ولا تُرفع بالشعارات، بل تُبنى بالمشاريع، وتُحفظ بالعلم، وتُؤرَّخ بمنهج يليق بحضارتها من معجم إلى موقف حضاري: إن اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية لا يمكن قراءته بوصفه إنجازًا لغويًا معزولًا، بل هو تعبير عن رؤية دولة تدرك أن القوة الحقيقية تبدأ من المعرفة، وأن الحضور العالمي لا يُبنى فقط بالاقتصاد والسياسة، بل باللغة، والهوية، والعمق الثقافي. وقد أكد حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى أن اكتمال هذا المعجم يمثل مظهرًا من مظاهر التكامل العربي المثمر، ويعزز تمسك الشعوب بهويتها مع انفتاحها الواثق على العصر. فالمعجم لا يعرّف الكلمات، بل يؤرخها، ولا يشرح الألفاظ، بل يكشف مسيرتها وتحولاتها وسياقاتها. إنه ينقل العربية من كونها لغة استعمال إلى لغة وعي، ومن كونها تراثًا محفوظًا إلى معرفة مُحلَّلة، ومن كونها لغة ماضٍ مجيد إلى لغة زمن ممتد يصل الماضي بالحاضر ويفتح أبواب المستقبل اللغة كقوة ناعمة في زمن العولمة: في عالم اليوم، لم تعد القوة تقاس فقط بما تملكه الدول من اقتصاد أو نفوذ، بل بما تملكه من سردية ثقافية قادرة على العبور والتأثير. وهنا تتجلى أهمية معجم الدوحة بوصفه أداة من أدوات القوة الناعمة. فتوثيق اللغة العربية تاريخيًا، وفق منهج علمي صارم، يمنحها قابلية أوسع للحضور في المنصات العالمية، والجامعات، ومراكز البحث، والتقنيات الرقمية. كما أنه يضع العربية في موقع الندّية مع لغات كبرى سبقتها في مشاريع التأريخ اللغوي، ويكسر الصورة النمطية التي تحصرها في إطار التراث أو القداسة وحدها، دون الاعتراف بديناميكيتها وقدرتها على التفاعل مع الحداثة. ومن هذا المنطلق، يمكن قراءة معجم الدوحة كجزء من استراتيجية ثقافية أوسع تعيد تعريف علاقة العرب بلغتهم، وعلاقة العالم بالعربية، ليس كلغة “آخر”، بل كلغة معرفة وشراكة إنسانية. انعكاسات الحدث… من الدوحة إلى العالم: هنا تبدأ الانعكاسات الكبرى. فمعجم الدوحة ليس مشروعًا عربيًا داخليًا فحسب، بل رسالة ثقافية عالمية. إنه يضع اللغة العربية على خريطة البحث اللغوي العالمي بوصفها لغة موثقة تاريخيًا وفق أعلى المعايير العلمية، وقابلة للاندماج في مشاريع الترجمة، والدراسات المقارنة، والذكاء الاصطناعي، وصناعة المعرفة الرقمية. كما يعيد هذا المشروع تقديم العربية للعالم لا كلغة مقدسة فقط، بل كلغة إنسانية حيّة، ساهمت في تشكيل الفكر الإنساني، وشاركت في بناء الحضارة، وما زالت قادرة على الإسهام في خطاب العصر. ومن هنا، تتحول قطر عبر هذا المعجم إلى فاعل ثقافي عالمي، يمارس عولمة لغوية مختلفة،عولمة تقوم على المعنى لا الهيمنة، وعلى الهوية لا الذوبان، وعلى الشراكة المعرفية لا الاستهلاك الثقافي. العربية… لغة قرآن ولغة مستقبل ولا يمكن فصل هذا الإنجاز عن مكانة اللغة العربية في القرآن الكريم؛ فهي لغة الوحي، ولغة المعنى العميق، ولغة القيم. والعناية بتاريخها هي في جوهرها عناية بالرسالة التي تحملها، وبالإنسان الذي خُوطب بها. ومعجم الدوحة يعيد الربط بين قداسة اللغة وحيويتها، بين ثبات النص ومرونة اللفظ، بين الجذور العميقة وآفاق العصر. عولمة قطر اللغوية… حين تتكلم اللغة إن ما فعلته قطر عبر معجم الدوحة هو أنها قدّمت نموذجًا جديدًا للحضور العالمي: حضور لا يفرض نفسه بالقوة، بل بالمعرفة؛ لا يذوب في العولمة، بل يعيد تعريفها؛ ولا ينسخ تجارب الآخرين، بل يقدّم تجربته الخاصة بثقة ووضوح. وهكذا، حين تتكلم اللغة من الدوحة، فهي لا تخاطب العرب وحدهم، بل تخاطب العالم كله، قائلة: هذه لغة لها تاريخ، وهذه دولة تعرف وزن لغتها، وهذه أمة قادرة على أن تكون جزءًا من العالم… دون أن تفقد نفسها.
459
| 24 ديسمبر 2025
هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل التطوير مجرد عنوان جميل يتكرر على الورق، لكنه لا يعيش على الأرض (غياب النضج المهني) لدى القيادات. وهذا الغياب لا يبقى وحيدًا؛ بل ينمو ويتحوّل تدريجيًا إلى ما يمكن وصفه بالتحوّذ المؤسسي، حالة تبتلع القرار، وتحدّ من المشاركة، وتقصي العقول التي يُفترض أن تقود التطوير. تبدأ القصة من نقطة صغيرة: مدير يطلب المقترحات، يجمع الآراء، يفتح الباب للنقاش… ثم يُغلقه فجأة. يُسلَّم له كل شيء، لكنه لا يعيد شيئًا، مقترحات لا يُرد عليها، أفكار لا تُناقش، وملاحظات تُسجَّل فقط لتكملة المشهد، لا لتطبيقها. هذا السلوك ليس مجرد إهمال، بل علامة واضحة على غياب النضج المهني في إدارة الحوار والمسؤولية. ومع الوقت، يصبح هذا النمط قاعدة: يُطلب من المختصين أن يقدموا رؤاهم، لكن دون أن يكونوا جزءًا من القرار. يُستدعون في مرحلة السماع، ويُستبعدون في مرحلة الفعل. ثم تتساءل القيادات لاحقًا: لماذا لا يتغير شيء؟ الجواب بسيط: التطوير لا يتحقق بقرارات تُصاغ في غرف مغلقة، بل بمنظومة تشاركية حقيقية. أحد أكثر المظاهر خطورة هو إصدار أنظمة تطوير بلا آلية تنفيذ، تظهر اللوائح كأحلام مشرقة، لكنها تُترك دون أدوات تطبيق، ودون تدريب، ودون خط سير واضح. تُلزم بها الجهات، لكن لا أحد يعرف “كيف”، ولا “من”، ولا “متى”. وهنا، يتحول النظام إلى حِمل إضافي بدل أن يكون حلاً تنظيميًا. في كثير من الحالات، تُنشر أنظمة جديدة، ثم يُترك فريق العمل ليخمن طريقة تطبيقها، وعندما يتعثر التطبيق، يُحمَّل المنفذون المسؤولية وتصاغ خطابات الإنذار. هذا المشهد لا يدل فقط على غياب النضج المهني، بل على عدم فهم عميق لطبيعة التطوير المؤسسي الحقيقي. ثم يأتي الوجه الأوضح للخلل: المركزية المفرطة، مركزية لا تُعلن، لكنها تُمارس بصمت. كل خطوة تحتاج موافقة عليا، كل فكرة يجب أن تُصفّى، وكل مقترح يمر عبر «فلترة» شخصية، لا منهجية. في هذا المناخ، يفقد الناس الرغبة في المبادرة، لأن المبادرة تصبح مخاطرة، لا قيمة. وهنا تتحول المركزية تدريجيًا إلى تحوّذ مؤسسي كامل. القرار محتكر. المبادرات محجوزة. المعرفة مقيّدة. والنظام الإداري يُدار بعقلية الاستحواذ، لا بعقلية التمكين. التحوّذ المؤسسي هو الفخ الذي تقع فيه الإدارات حين يغيب عنها النضج. يبدأ من عقلية مدير، ثم ينتقل إلى أسلوب إدارة، ثم يتحول إلى ثقافة صامتة في المؤسسة. والنتيجة؟ - تجميد للأفكار. - هروب للعقول. - فقدان للروح المهنية. - تطوير شكلي لا يترك أثرًا. أخطر ما في التحوّذ أنه يرتدي ثياب التنظيم والجودة واللوائح، بينما هو في جوهره خوف مؤسسي من المشاركة، ومن نجاح الآخرين، ومن توزيع الصلاحيات. القيادة غير الناضجة ترى الأفكار تهديدًا، وترى الكفاءات منافسة، وترى التغيير خطرًا، لذلك تفضّل أن تُبقي كل شيء في يدها حتى لو تعطلت المؤسسة بأكملها. القيادة الناضجة لا تعمل بهذه الطريقة. القيادة الناضجة تستنير بالعقول، لا تستبعدها. تسأل لتبني، لا لتجمّل المشهد. تُصدر القرار بعد فهم كامل لآلية تطبيقه. وتعرف أن التطوير المؤسسي الحقيقي لا يقوم على السيطرة، بل على الثقة، والتفويض، والوضوح، وبناء أنظمة تعيش بعد القائد لا معه فقط. ويبقى السؤال الذي يجب أن يُطرح بصراحة لا تخلو من الجرأة: هل ما نراه هو تطوير مؤسسي حقيقي… أم تحوّذ إداري مغطّى بشعارات التطوير؟ المؤسسات التي تريد أن ترتقي عليها أن تراجع النضج المهني لقياداتها قبل أن تراجع خططها، لأن الخطط يمكن تعديلها… لكن العقليات هي التي تُبقي المؤسسات في مكانها أو تنهض بها.
750
| 11 ديسمبر 2025
في زمن تتسارع فيه المتغيرات، وتتوسع فيه متطلبات التنمية، لم يعد العمل الحكومي التقليدي قادرًا على مواكبة حجم التحديات وتعقيدات التحول. اليوم، أصبحت الحاجة ملحّة إلى نماذج عمل أكثر مرونة، وأعلى تركيزًا، وأكثر قدرة على صناعة أثر سريع وملموس. ومن بين أكثر الأدوات التي أثبتت جدواها عالميًا، اللجان التركيزية داخل الوزارات؛ وهي لجان صغيرة محددة المهام، تُشكَّل لدراسة ملف أو تطوير جانب محدد بعمق، لتقدم حلولًا سريعة وواقعية، بدل الخطط المكتبية التي قد تبقى حبيسة الأدراج. هذه اللجان ليست مجرد هياكل إدارية، بل منصات تفكير مركّزة تتبنى ثقافة «العقل الجماعي»، حيث تتداخل الخبرات الوطنية من أكاديميين، متقاعدين، وقيادات تعمل على رأس مؤسسات أخرى أثبتت جدارتها، لتشكل روافد فكرية تغذّي هذه اللجان بوعي تجريبي لا يقدّره إلا من عاش بيئة العمل على حقيقتها. فمن غير المقبول أن تُهدر ثروة معرفية تراكمت لعقود لدى مبدعين خرجوا إلى التقاعد أو لدى قيادات أثبتت نجاحًا في جهات أخرى، بينما الوزارات بحاجة إلى تجاربهم داخل غرف القرار. وزارة التعليم: يمكن تشكيل لجنة تطوير منظومة التعليم العالي والتدريب المستمر، تكون مسؤولة عن مواءمة البرامج الأكاديمية مع سوق العمل، وتطوير رأس المال البشري الوطني. وزارة الصحة: تتشكل لجنة تُعنى بالخدمات الصحية الرقمية، لتقود ملف السجلات الطبية الموحدة، والمواعيد الذكية، وربط المنظومة وفق أعلى المعايير العالمية. وزارة البيئة والتغير المناخي: تتولى لجنة التحول الأخضر مهمة صياغة سياسات تقلل الانبعاثات وتعزز مشاريع الطاقة المستدامة. وزارة التنمية الاجتماعية: تُشكّل لجنة التمكين المجتمعي عبر استثمار خبرات المتقاعدين والاختصاصيين في التدريب والحوكمة والتنمية البشرية، ودمجهم في مبادرات تعزز المشاركة الوطنية. وزارة الداخلية: لجنة ابتكار خدمات الأمن الذكي، تستثمر الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات لصناعة تجربة خدمات أكثر سلاسة وفاعلية. وزارة المواصلات: لجنة متخصصة في النقل المستدام والأنظمة الذكية. وزارة التجارة والصناعة: لجنة تطوير البيئة الاستثمارية وتسهيل الإجراءات وتعزيز فرص الاستثمار الوطني والأجنبي. هذه اللجان تمثل عقلًا وطنيًا موجّهًا، يتكامل مع طموحات الدولة ويجسّد مبادئ رؤية قطر الوطنية 2030 في التنمية البشرية، والاقتصادية، والاجتماعية. ومن عمق الرؤية تبرز فكرة تشكيل لجنة تركيزية متخصصة في كل وزارة، بحيث تُعنى كل وزارة بجانب إستراتيجي واحد تشرف عليه بتركيز كامل حتى يتحول إلى علامة فارقة وطنية في مجالها. محليًا، ظهرت ملامح هذه التجربة في لجان التحول الرقمي التي قادت تطوير الخدمات الحكومية الإلكترونية وتبسيط الإجراءات، وأثبتت أن فرقًا صغيرة متخصصة تستطيع تحويل ملفات معقدة إلى قصص نجاح في وقت قياسي. وإقليميًا، جسدت رؤية السعودية 2030 نموذجًا حيًا عبر لجان تركيز طورت قطاعات حيوية مثل التخصيص، القدرات البشرية، والقطاع اللوجستي، لتصبح السعودية أحد أسرع الاقتصادات نموًا. عالميًا، يمكن استحضار تجربة سنغافورة في تطوير التعليم، وفنلندا في سياسات الرعاية الصحية، واليابان في الصناعة الذكية. جميعها اعتمدت لجان تركيز مصغرة، جمعت العقول، ودرست الفجوات بتركيز، ثم قدمت حلولًا عملية شكلت ثورة في مسار النهضة. إن أهم قيمة لهذه اللجان أنها تقلص البيروقراطية، وتُسرّع القرار، وتعمل بمؤشرات أداء واضحة ترتبط مباشرة بالرؤية الوطنية والتنمية المستدامة. كما أنها قادرة على خفض الهدر المالي، وتوجيه الإنفاق نحو الأولويات، وتعزيز التكامل بين الوزارات والجامعات والقطاع الخاص. آن الأوان لأن نتبنى في وزاراتنا نموذج اللجان التركيزية كمنهج عمل مستدام، يمنح صلاحيات للتحليل والتشخيص ووضع الحلول ومتابعة الأثر. فصناعة النهضة ليست شعارات، بل لجان تفكر، وخبرات تُستثمر، وقرارات تتحرر من القيود. ومن هنا، يصبح تشكيل لجان تركيزية داخل الوزارات قصة تحول وطني تليق برؤية 2030… وتليق بقطر.
354
| 02 ديسمبر 2025
في زمن تتسارع فيه المفاهيم وتتباين فيه مصادر التأثير، لم يعد سؤال (من يصنع القيم في المجتمع سؤالًا فلسفيًا، بل سؤال دولة تبحث عن تماسكها وهويتها وسط عولمة جارفة. فالقيم اليوم لا تُلقَّن… بل تُدار، وتُحكم، وتُصنع عبر منظومة متشابكة من الجهات. وهنا يظهر مفهوم الحوكمة المجتمعية بوصفه (الإطار الذي ينظم هذه المنظومة) ويمنحها الاتجاه الصحيح لضمان أن يبقى المجتمع ثابتًا رغم تغيّر العالم من حوله. الحوكمة الأسرية: الأسرة ليست مؤسسة صغيرة كما تبدو، بل هي أوّل نظام حوكمة يواجهه الإنسان في حياته. فيها يتعلم الاحترام، حدود الحرية، معنى المسؤولية، وكيف يُدار الخلاف. لكن المؤثرات الحديثة من الإعلام الرقمي إلى الألعاب الإلكترونية جعلت دور الأسرة أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. لذلك تأتي الحوكمة هنا عبر وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة التي يقع على عاتقها بناء برامج دعم للأسرة، وتطوير سياسات للحماية الرقمية، وتقديم إرشادات عملية تعيد للوالدين القدرة على قيادة السلوك، فالأسرة المحكومة بوعي، تنتج مجتمعًا محكومًا بالقيم. الحوكمة التعليمية: المدرسة والجامعة مصانع لإعادة تشكيل العقل والقيم والانتماء. تتمثل الحوكمة التعليمية في إدماج القيم في المناهج عبر تجارب تطبيقية، وتدريب المعلمين على أن يكونوا قدوات قبل أن يكونوا ناقلي معرفة، وتقييم الأنشطة المدرسية والجامعية كأدوات لبناء السلوك. ويظهر دور مجلس الشورى هنا كجهة تشريعية تراقب سياسات التعليم، وتضمن أن مخرجاته تتوافق مع الاحتياجات الوطنية ومعايير الهوية. الحوكمة الإعلامية: الإعلام لم يعد ناقلًا للخبر، بل صانعًا للاتجاهات والقيم الجديدة. وتحتاج حوكمة الإعلام إلى سياسات تحمي المجتمع من المحتوى الهادم والهش، وآليات لمراقبة الانحرافات الرقمية، وتشجيع الابتكار الإيجابي في صناعة المحتوى. وهذا ما يقع ضمن مسؤوليات وزارة الإعلام التي تقود التوازن بين الحرية والهوية، وبين الإبداع وضبط التأثير. الحوكمة الدينية: القيم الدينية هي الأساس الذي يقوم عليه الضمير الأخلاقي للمجتمع. وتتجلى حوكمة الأوقاف في خطب معاصرة تربط القيم بالواقع، وبرامج شبابية تمنح روح الدين بُعدًا إيجابيًا، وإعداد كوادر دينية قادرة على التأثير بلغة يفهمها الجيل الجديد. الدين حين يُحكم بوعي… يصبح عامل وحدة لا عامل خوف. الحوكمة الثقافية: الثقافة ليست فعاليات أو احتفالات، بل هي الذاكرة الجمعية للمجتمع. وتقود وزارة الثقافة حوكمتها عبر دعم التراث واللغة العربية، وإنتاج محتوى ثقافي ينافس عالميًا، وأنشطة تعزز الانتماء وتعيد الاعتزاز بالهوية القطرية. الحوكمة التشريعية: لا يمكن لأي منظومة قيم أن تستمر دون تشريعات. ومجلس الشورى هو الضامن لوجود قوانين تحمي الأسرة، وتنظم التعليم والإعلام، وتدعم الثقافة، وتراقب تنفيذ السياسات. إنه الحارس التشريعي للهوية والقيم واستدامتها. القيم لا تُصنع بجهة واحدة، ولا تُدار بالعاطفة. إنها مشروع وطني وعندما تعمل هذه المنظومة بتناغم… ينهض المجتمع بقيمه، ويواجه العالم بثقة، ويحمي هويته من التشتت والذوبان.
900
| 25 نوفمبر 2025
تحمل كلمة «الحوكمة» في المخيال الشعبي العربي قدراً من الغموض والالتباس. يربطها كثيرون بالبيروقراطية وتعقيد الإجراءات، ويختزلونها في لوائح جامدة تعطل الإنجاز. لكن تعريف الحوكمة يوضح أنها مجموعة من القواعد والمعايير والسياسات والإجراءات التي تنظم العلاقة بين المنظمة والعاملين فيها وأصحاب المصلحة لتحقيق العدالة، والشفافية، والمصداقية، والاستدامة. الهدف إذن ليس تقييد المؤسسات، بل تحريرها من الفوضى وتحويلها إلى كيانات مسؤولة تستجيب لمطالب المجتمع. يعود جزء من سوء الفهم إلى التركيز على الجانب التنظيمي وإهمال روح الحوكمة. في قطاع التدريب مثلاً يعتقد البعض أن الحوكمة تعني تشديد الرقابة على الدورات وحصرها في قوالب جامدة. غير أن الخبراء يوضحون أن حوكمة التدريب لا تقتصر على ضبط السياسات والإجراءات، بل تمتد إلى بناء منظومة متكاملة تعزز المساءلة، وتربط أهداف التدريب مباشرة بالرؤية المؤسسية، وتضمن الاستخدام الأمثل للموارد التدريبية. إن تبني إطار متكامل يربط التدريب بالأهداف الإستراتيجية، ويقيس أثره على الأداء، يحوّل التدريب من نشاط تكميلي إلى أداة لتحسين الأداء وتطوير الكفاءات. وفي التعليم، يُعد تطبيق الحوكمة أساساً للنهوض بالمدارس والجامعات. إذ تعرف بأنها النظام الذي يوجّه ويُدير ويُراقب القطاع التعليمي لضمان تحقيق أهدافه بكفاءة وشفافية ومساءلة. تتضمن الحوكمة التعليمية عناصر مثل الشفافية والمشاركة والمحاسبة والكفاءة. فهي تتيح لأولياء الأمور والطلاب والإداريين المشاركة في صنع القرار، وتضمن أن الموارد تُستخدم بفعالية، وأن النتائج التعليمية تُقاس وتُعلَن بشفافية. تكشف الدراسات أن الأنظمة التعليمية التي تبنت حوكمة فعالة شهدت تحسناً في جودة المخرجات وتقليصاً للهدر والفساد. أما القطاع الصحي، فبعض العاملين فيه يرون الحوكمة عبئاً إضافياً على العمل الطبي. لكن الحقيقة أن الحوكمة الصحية تعني ضمان إدارة الخدمات الصحية بشفافية ومسؤولية وعدالة. تقوم على مبادئ المساءلة والشفافية والكفاءة والعدالة، وتستخدم أدوات تقنية مثل أنظمة المعلومات الصحية لتسجيل البيانات وتحليلها وتحسين الأداء. بتطبيقها، يمكن تقليل الأخطاء الطبية، وتحسين توزيع الموارد، وضمان حصول جميع المرضى على رعاية عادلة، بعيداً عن الولاءات والمحسوبية. وفي البيئة، تشير الحوكمة إلى مجموعة الإجراءات التي ترشد تعامل الإنسان مع بيئته للحفاظ على الموارد الطبيعية. فهي تتخطى الإدارة التقليدية التي تركز فقط على حماية الطبيعة، لتشمل الأبعاد الإنتاجية والاجتماعية وتحفّز المشاركة والمسؤولية المشتركة. هذه الحوكمة تدعو إلى صياغة سياسات واضحة لإدارة المياه والطاقة والنفايات، وإشراك المجتمع المدني في مراقبة تنفيذها. عندما تصبح حماية البيئة جزءاً من ثقافة المجتمع ومنظومة المؤسسات، يتحول الحديث من منع التلوث إلى تعزيز التنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر. القطاع الاجتماعي أو غير الربحي يقدم مثالاً آخر لكيفية تحرير الحوكمة للعمل الخيري. فالقواعد المعتمدة لتنظيم الجمعيات والمؤسسات الأهلية تهدف إلى تطوير أدائها وتعزيز مساهمة الأفراد والداعمين ورفع كفاءة الشفافية والإفصاح. وهي تضمن أن التبرعات تُستخدم كما ينبغي، وأن القرارات تُتخذ بشكل تشاركي، ما يعزز ثقة المجتمع في العمل الخيري ويشجع المزيد من العطاء. إن الحوكمة إذن ليست قيداً، بل أداة تمكين. فهي تحرر المؤسسات من الشخصنة والفوضى، وتمنح أصحاب المصلحة الحق في الشفافية والمساءلة. من التعليم إلى التدريب، ومن الصحة إلى البيئة والقطاع الاجتماعي، تبرهن الحوكمة على قدرتها في تحسين الأداء وتعزيز العدالة. والمطلوب منا اليوم تغيير ثقافتنا، والانفتاح على هذا المفهوم باعتباره مدخلاً لتطوير مؤسساتنا وفتح آفاق جديدة للتنمية، لا كعبء بيروقراطي يرهقها.
189
| 20 نوفمبر 2025
على مدى أكثر من ستة عقود، تستثمر الدولة في الإنسان باعتباره محور التنمية وغايتها. تستثمر في صحته ليكون معافى قادرًا على العطاء، وفي تعليمه ليكون وعيه أساس البناء، وفي تأهيله المهني ليقود عجلة الإنتاج، وفي دعمه النفسي والاجتماعي ليبقى متوازنًا فاعلًا في مسيرة الوطن. لقد كان - وما زال - الاستثمار في الإنسان هو الخيار الإستراتيجي الأذكى الذي صاغ ملامح النهضة الحديثة للدولة، ورسّخ مكانتها بين الأمم من خلال الإيمان بأن التنمية تبدأ من الإنسان وتنتهي إليه. غير أن مرحلة التقاعد، على أهميتها، تحوّلت لدى كثير من الأفراد إلى نقطة توقف لا انتقال. فبعد سنوات طويلة من الخبرة والعطاء، يُحال الموظف إلى التقاعد لينسحب بهدوء من المشهد العملي والمجتمعي، فتُطوى معه خبرات ميدانية متراكمة وذاكرة وطنية غنية بالتجارب. إن ما نملكه اليوم من طاقات بشرية متقاعدة يشكّل رصيدًا وطنيًا غير مستثمر يحتاج إلى آلية منهجية لإعادة دمجه في دورة التنمية. وفي خطاب سمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أُشير بوضوح إلى أن الاستثمار في الإنسان هو الضمانة الأولى لمستقبل الدولة. ومن هذا المنطلق، فإن إعادة استثمار طاقات المتقاعدين لا تُعد ترفًا اجتماعيًا، بل ركيزة من ركائز التنمية البشرية المستدامة. التقاعد في جوهره ليس نهاية الخدمة، بل بداية مرحلة جديدة من العطاء، غير أن كثيرًا من المتقاعدين يواجهون تحديات معقدة في هذه المرحلة. فمنهم من يشعر بفقدان الهوية المهنية بعد أن كان اسمه مرتبطًا بوظيفة أو منصب رسمي، ومنهم من يعيش فراغًا يوميًا بعد عقود من الالتزام والانضباط، ومنهم من يواجه تراجعًا في المكانة الاجتماعية أو شعورًا بانقطاع الدور. وهذه التحديات لا تمس المتقاعد وحده، بل تمتد آثارها إلى المجتمع، إذ يخسر المجتمع خبرة تراكمية ضخمة. اتجاهات مقترحة لإعادة توظيف المتقاعدين: 1. مبادرة “المدرب المجتمعي”: تأهيل المتقاعدين ليكونوا مدربين في مجالات القيم، والهوية الوطنية، والتنمية الشخصية والمهنية، من خلال برامج تدريبية متخصصة، ليصبحوا جسورًا تربط الأجيال وتغذي المجتمع بخبرات حقيقية. 2. مراكز “حاضنة القيم”: إنشاء حاضنات مجتمعية تحت مظلة وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة، تعمل على استثمار المتقاعدين كموجهين ومرشدين للأسر والشباب، بما يعزز الترابط الاجتماعي وينقل الخبرة الإنسانية إلى المجال التطبيقي. 3. العمل التطوعي المؤسسي: إدماج المتقاعدين ضمن المنظومة الوطنية للتطوع ببرامج نوعية، بحيث يتم توظيف خبراتهم في المبادرات المجتمعية والتنموية، مما يمنحهم قيمة إضافية ويعزز رأس المال الاجتماعي للوطن. إن التقاعد لا يعني نهاية الدور، بل بداية فصل جديد من العطاء، والدولة التي تستثمر في الإنسان منذ أكثر من ستين عامًا قادرة على أن تحوّل هذه الخبرات إلى قوة تنموية ناعمة ترفد المجتمع بخبرة، وتثري الأجيال الجديدة بوعي وتجربة. إن إعادة استثمار المتقاعدين ليست مسألة إنسانية بل خيار تنموي إستراتيجي ينسجم مع رؤية قطر الوطنية 2030، ويؤكد أن الإنسان القطري يظلّ شريكًا في التنمية مهما تقدّم به العمر.
4974
| 11 نوفمبر 2025
من الطرائف العجيبة أن تجد اسمك يتصدر أجندة مؤتمر لم تُدعَ إليه أصلًا، وتكتشف أنك فجأة “قصة نجاح ملهمة” ضمن برنامج لم تسمع عنه. نعم، نحن في زمنٍ صار فيه (الاستعارة) أسلوب إدارة، و(الانتحال) وسيلة للتنظيم، والسطو على الأسماء أقصر طريق لرفع مستوى حدثٍ بائس لا يجد ما يقدمه سوى الظلال. لكن الأكثر غرابة أن تفاجأ بعد انتهاء الملتقى بأن اسمك كان في أجندة اليوم الأول، وأن الحضور كانوا ينتظرونك! يتصل البعض مستفسرًا “ليش ما التزمتِ بالحضور؟ كنا نبي نسمع قصة نجاحج ؟ وها أنا أمام مشهدٍ عبثي: ملتقيات تنشر اسمك دون إذن، ثم تُحمّلك مسؤولية الغياب! أي عبث هذا الذي يحوّل غياب الدعوة إلى (تقصير شخصي) ويجعل من الضحية موضع تساؤل؟ إنه ليس مجرد سوء تنظيم، بل تشويه للسمعة تحت غطاء الاحتفاء. ما حدث ليس خطأ بروتوكوليًا عابرًا، بل فوضى مهنية تُمارس بلباقة شكلية، خلفها عقل تنظيمي يعتقد أن وضع اسم معروف على غلاف الملتقى يكفي لتلميعه. هذه ليست شراكة، بل قرصنة ناعمة على الرصيد المهني للآخرين. هل يعقل أن يصبح اسم المتحدث جزءًا من الديكور الإعلامي؟ يوضع إلى جانب الشعار والموسيقى الافتتاحية؟! وكأن الحضور مجرد ديكور شرفي لحدثٍ لا يعرف معنى التنظيم، ولا يفرّق بين التكريم والاستغلال. الغريب أن هذه الجهات نفسها تتحدث في بياناتها عن تمكين الكفاءات، والتميز المهني والقيم المؤسسية، بينما تفشل في أبسط مظاهر الاحترافية: التواصل الرسمي والدعوة الصريحة. كيف نثق بملتقى لا يعرف كيف يرسل دعوة؟ كيف نقنع الجيل الجديد أن النزاهة هي أساس العمل، وهم يرون بعض المؤسسات تقتبس النجاحات وتلصقها بلا خجل؟ المؤتمرات لا تُقاس بعدد الأسماء اللامعة في جدولها، بل بصدق الفكرة، ودقة التنظيم، واحترام العقول. فالمشكلة ليست في الحدث نفسه، بل في العقلية التسويقية التي تعتقد أن النجاح يمكن استعارته مثل صورة من الإنترنت. كلمة “ملتقى” يجب أن تعني التقاء الفكر لا التقاء الشعارات. والتنظيم لا يعني تكديس فقرات وكلمات وتصفيقات، بل إدارة واعية تعرف متى تدعو، ومتى تعتذر، ومتى تصمت. رسالتي إليهم: إذا كنتم تبحثون عن الحضور الإعلامي، فابنوه بأنفسكم. لا تستوردوا قصص نجاح الآخرين لتلميع فعالياتكم. فالنجاح لا يُستعار، ولا يُستنسخ، ولا يُستخدم لتغطية سوء التنظيم. وشكرًا على المشاهدة… حتى وإن لم أحضر!.
1443
| 04 نوفمبر 2025
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6840
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6609
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5208
| 20 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2958
| 16 أكتوبر 2025
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
8058
| 13 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
في منتصف العام الدراسي، تأتي الإجازات القصيرة كاستراحة...
2022
| 24 ديسمبر 2025
حين تُذكر قمم الكرة القطرية، يتقدّم اسم العربي...
1635
| 28 ديسمبر 2025
أرست محكمة الاستثمار والتجارة مبدأ جديدا بشأن العدالة...
1152
| 24 ديسمبر 2025
تستضيف المملكة المغربية نهائيات كأس الأمم الإفريقية في...
1089
| 26 ديسمبر 2025
-قطر نظمت فأبدعت.. واستضافت فأبهرت - «كأس العرب»...
1002
| 25 ديسمبر 2025
أدت الثورات الصناعيَّة المُتلاحقة - بعد الحرب العالميَّة...
792
| 29 ديسمبر 2025
لماذا تقاعست دول عربية وإسلامية عن إنجاز مثل...
672
| 24 ديسمبر 2025
منذ القدم، شكّلت اللغة العربية روح الحضارة العربية...
537
| 26 ديسمبر 2025
صنعت التاريخ واعتلت قمة المجد كأول محامية معتمدة...
492
| 26 ديسمبر 2025
حين تتكلم اللغة، فإنها لا تفعل ذلك طلبًا...
459
| 24 ديسمبر 2025
أين المسؤول؟ سؤال يتصدر المشهد الإداري ويحرج الإدارة...
459
| 29 ديسمبر 2025
لُغَتي وما لُغَتي يُسائلُني الذي لاكَ اللسانَ الأعجميَّ...
447
| 24 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية