رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

في وداع لطيفة

هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.

4503

| 29 سبتمبر 2025

حين يحتضن المرء طفولته!

ليستْ مجرد صورةٍ عابرةٍ تلك التي يُنتجها الذكاء الصناعي لتُظهر المرء وهو يعانق طفولته. للوهلة الأولى تبدو اللعبة بريئة، ظريفة، وربما مثيرة للعاطفة؛ لكن ما إن يطيل المرء النظر حتى تتكشف طبقات من الرعب المختبئ في هذه التقنية التي تُعيد تركيب الأرشيف الشخصي على نحو يتجاوز الحقيقة. ما الذي يعنيه أن ترى نفسك جالساً إلى جانب طفلٍ كنتَه ذات يوم؟ أهو استدعاء للذاكرة أم اقتحامٌ لها؟ هل نحن أمام لحظة حنينٍ حميمة أم أمام تزويرٍ صامت للتاريخ الشخصي؟ الفارق بين تأمُّل صورةٍ قديمةٍ لك محفوظةٍ في صندوق العائلة، وبين رؤية صورةٍ أُقحِمت قسراً في سياقٍ جديد لم يحدث أبداً، هو الفارق ذاته بين شهادةٍ صادقةٍ وروايةٍ مُختلقة. صنعت لي إحدى المتابعات صورةً من هذا النوع. رأيت فيها نفسي أحتضنُ ذاتي الصغيرة، فارتجفت. لم يكن الخوف من فرط الغرابة بقدر ما كان من فرط الحقيقة المزوَّرة. بدت الصورة كما لو أنّها التقطت فعلاً في زمنٍ بعيد، كأنها أرشيفٌ مهمل عُثر عليه فجأة، مع أني أعلم يقيناً أنني لم أكنها يوماً. لحظة الارتباك تلك كافية ليفتح المرءُ أبواباً واسعة من الأسئلة حول علاقتنا بالذاكرة وبالصور. في الصور القديمة يبقى الأرشيف شاهداً صادقاً، حتى حين يفضح هشاشتنا ويكشف آثار الزمن على ملامحنا. أما في صور الذكاء الاصطناعي، فيُستدعى الأرشيف ليخضع لسيناريو جديد لا وجود له في السيرة. هنا لا نُستعاد ذواتنا بل نؤلّف نسخةً هجينة عنها، نصفها حلم ونصفها تزوير. إنها محاولةٌ لخلق «مصالحةٍ بصرية» مع الذات الطفلة، لكنها مصالحةٌ مشبوهة. كأن المرءَ يحتاج إلى برهانٍ ملموس على أنه ما يزال يحتفظ بصلته بالطفولة، في حين أن هذه الصلة الحقيقية تعيش في القلب والذاكرة، تلمع بلا إنذار، لا في صورةٍ مصطنعة. والمخيف أن هذه الصور قد تتحوّل بمرور الوقت إلى جزءٍ من أرشيفنا الفعلي، فيختلط الحقيقي بالوهمي، ويصبح تاريخُ المرء عرضةً للتلاعب الجمالي. فإذا ضاعَت الحدود بين ما كان حقاً وما كان مجرد تركيبٍ ذكي، فلن نعرف بعد سنواتٍ أيُّ الصور توثّق حياتنا حقّاً وأيها اختراع بارد. ولا يتوقف الأمر عند الذاكرة الفردية فحسب، بل قد يتسع ليطال الذاكرة الجماعية أيضاً. تخيّلوا أن يُعاد تركيب صورٍ لأحداث كبرى، أو أن تُزرع في الأرشيف البصري لشعبٍ ما مشاهدُ لم تقع أصلاً. عندها لا تكون القضية مجرد لعبةٍ عاطفيةٍ شخصية، بل مشروعاً خطيراً لإعادة كتابة التاريخ على مقاس الخيال المصطنع. ومع ذلك، لا يمكن إنكار جاذبية هذه الصور الغامضة. تستفز فينا حلماً دفيناً باللقاء المستحيل؛ أن يلتقي المرء بنفسه قبل أن يبتلعه العمر، أن يضع ذراعيه حول طفولته ليحميها من قسوة ما سيأتي. وربما لهذا السبب لا نقدر على تجاهلها سريعاً، رغم شعورنا بالقلق منها. إنها تجمع بين الرغبة في الاطمئنان والرهبة من الاصطناع، بين الحنين إلى الأصل والفضول تجاه النسخة. هكذا تتحول الصورة المولّدة بالذكاء الاصطناعي إلى اختبارٍ فلسفي لعلاقتنا بالذاكرة. هل نحتاج فعلاً أن نزور طفولتنا كي نتصالح مع حاضرنا؟ أم أن الأرشيف، بما فيه من فجواتٍ وندوبٍ ونقصان، أجمل حين يظلّ على حاله؛ صادقاً، هشّاً، وغير مكتمل؟ كأن الذكاء الاصطناعي حين يصنع لنا هذه الصور لا يُقدّم مجرد لعبةٍ بصرية، بل يضعنا أمام سؤالٍ وجودي ملحّ؛ هل نحن بحاجة إلى اختلاق صورةٍ لنشعر أننا ما زلنا نملك طفولتنا؟ أم أن الطفولة الحقيقية لا تُستعاد إلا بما تركته فينا من دهشةٍ وجرحٍ وحنين؟ ربما يكمن الجمال في أن تبقى تلك المسافة قائمة بيننا وبين صغارنا الذين كناهم يوماً، مسافة تجعل اللقاء مستحيلاً لكنه حاضرٌ أبداً في الذاكرة؛ لتبقى الطفولة حية لأنها ضاعت، لا لأنها استُعيدت في صورة مستعارة.

582

| 22 سبتمبر 2025

مرآة الكلمات وسرّ الذات

ثمة لحظة تتفجّر فيها الرغبة بالكتابة كما لو أنها حاجة جسدية لا تحتمل التأجيل. لحظة تشبه انفتاح نافذة في غرفة خانقة، يدخل منها هواء جديد يوقظ الروح من سباتها، ويمنحها فرصة أن تتأمل وجهها في مرآة اللغة. الكتابة ليست استعراضًا لغويًا ولا عرضًا لإبهار جمهور مجهول؛ إنها، قبل كل شيء، امتحان عميق للذات، ووسيلة لاكتشاف ما يختبئ في الزوايا المظلمة من وعينا، حيث تتكدس الأسئلة والخيبات والأحلام المؤجلة. حين يضع المرء قلمه على الورق، فإنه يتخلى عن كثير من الأقنعة التي يلبسها في الحياة اليومية. الكلمات تتسلل إلى ما وراء الحذر الاجتماعي والتمثيل المفروض، لتصل إلى جوهره الصافي. الكتابة بهذا المعنى ليست طقسًا من طقوس التجميل، بل فعل مواجهة. مواجهة مع الذات أولًا، ثم مع العالم. لكنها مواجهة بلا سيوف ولا شعارات، مواجهة حقيقية تحدث في صمت الورقة وهدوء اللحظة، حيث يكون الكاتب عاريًا من كل تزييف، محاطًا فقط بحروفه التي تحاكمه وتمنحه في الوقت نفسه فرصة النجاة. ما يكتبه المرء ليُرضي الآخرين يفقد حرارته سريعًا، لأنه لا يشبهه. يظل أشبه بوجهٍ مزيّنٍ بمساحيق مؤقتة، ينهار عند أول قطرة مطر. بينما الكلمات التي تنبع من الداخل، حتى لو جاءت بسيطة أو مرتجفة، فإنها تحمل صدقًا لا يمكن تزويره، وتظل قادرة على ملامسة الآخر، لأنها كتبت بدم صاحبها لا بحبر زائف. وحده الصدق يملك هذه القدرة السحرية على العبور من قلب إلى قلب، ومن تجربة فردية ضيقة إلى أفق إنساني واسع. الكتابة تشبه الرسم بألوان شخصية لا تتكرر. كل جملة لون، وكل فكرة خط، وكل صمت مساحة بيضاء تحتمل احتمالات لا حصر لها. الكاتب الحقيقي لا يستعير ألوان الآخرين، بل يصنع لوحته الخاصة، حتى لو لم تنل إعجاب أحد. فالإعجاب الخارجي زائل بطبيعته، أما اللوحة التي تخرج من عمق الذات فتبقى جزءًا من هوية المرء، شاهدة على أنه كان هنا ذات يوم، يحاول أن يقول شيئًا يخصه وحده. قد يظن البعض أن الكتابة وسيلة للتجمّل أمام القراء أو لادعاء الحكمة، لكن التجربة الحقيقية تكشف عكس ذلك. الكتابة تجعل صاحبها يكتشف ضعفه قبل قوته، ارتباكه قبل يقينه، وتردده قبل قراراته الكبرى. إنها مرآة بلا رحمة، لكنها أيضًا مرآة كريمة، لأنها تمنح من يتأملها فرصة إعادة التشكل، وترتيب الفوضى الداخلية بطريقة أكثر إنسانية. من يكتب لن يخرج من النص كما دخل إليه؛ يخرج مختلفًا، محمّلًا بمعرفة جديدة عن ذاته وعن معنى أن يكون حيًا في هذا العالم المليء بالتناقضات. لهذا، لا يجوز أن تُختزل الكتابة في محاولة كسب إعجاب عابر. إن أعظم ما تمنحه هو تلك اللحظة التي يرى فيها المرء صورته الحقيقية منعكسة على بياض الصفحة. صورة ربما لم يكن يجرؤ على مواجهتها في المرايا التقليدية. صورة تحمل شروخه الصغيرة، جراحه القديمة، وكذلك بقايا الضوء الذي لم ينطفئ فيه رغم كل شيء. في تلك اللحظة يدرك أن الكتابة لم تكن ترفًا، بل ضرورة وجودية، وأن كل نص يكتبه ليس سوى محاولة لإنقاذ نفسه من الغرق في صمت لا يطاق. إن الكتابة، في جوهرها، ليست سوى سعي دائم للعثور على الذات بين الكلمات. ليست درسًا في البلاغة ولا استعراضًا للنصوص المحفوظة، بل تجربة حميمة، تبدأ بجرأة الاعتراف وتنتهي بحكمة الاكتشاف. ومن يمارسها بصدق، سيكتشف أن النص الحقيقي لا يشبه إلا صاحبه، وأن أعظم جائزة يمكن أن ينالها الكاتب ليست تصفيق الآخرين، بل تلك الطمأنينة العميقة التي تأتيه حين يجد نفسه أخيرًا وجهًا لوجه مع صورته في مرآة الكلمات.

429

| 15 سبتمبر 2025

وما زال الكتاب مفتوحاً..!

.. وكأن الحلم كائن غامض من طينة سرية لا يموت تمامًا مهما أُجهِز عليه، بل يظل يتهيأ في أعماقنا على نحوٍ آخر، حتى إذا ظننّا أننا واريناه تحت تراب الخيبة، أطلّ فجأة من شقٍّ صغير في قلبنا ليعلن نفسه بطريقة أكثر جمالًا. نحن نظن أننا ندفنه، لكن الحقيقة أنه يغيّر جلده ويبدّل ملامحه ويعود منتحلًا هيئة أكثر نضجًا وأعمق إشراقًا، حتى ليبدو أن كل كسر نعيشه هو في الوقت نفسه بابٌ سري لبعثٍ جديد. كلما خسرتُ حلمًا، شعرتُ أنني أخسر قطعة منّي، غير أنني ما ألبث أن أكتشف أن تلك القطعة المفقودة سرعان ما تستعيد وجودها في شكل آخر أكثر حيوية. نحن نظن أن الحياة تعاقبنا حين تكسر حلمًا لنا، لكنها في حقيقة الأمر تختبر قابليتنا للولادة من جديد، لا كما كنّا، بل كما صرنا بعد التجربة. الحلم لا ينكسر إلا ليمنحنا درسًا في هشاشتنا وقوتنا معًا. هو المرآة التي تعكس ضعفنا حين نغرق في دموع الخيبة، لكنه في الوقت ذاته يكشف لنا أننا قادرون على التماسك والنهضة، حتى ولو كنّا نجرّ خلفنا أثقال الفقد. ولعل سرّ الإنسان، أو بالأحرى سرّ المرء، أنه كائن يتغذّى من خساراته أكثر مما يتغذّى من انتصاراته. الانتصارات تملأ الصدر بالزهو، لكنها سرعان ما تمرّ، أما الخيبات فإنها تتجذّر عميقًا، تدفعنا إلى إعادة ترتيب وعينا، وتفتح أبوابًا جديدة لأحلام لم تخطر لنا على بال. كم من حلم فقدناه ونحن نعتقد أنه كان محور حياتنا، ثم اكتشفنا لاحقًا أنه لم يكن سوى خطوة ضرورية لحلم أوسع وأرحب. كأن الخسارة في جوهرها ليست سوى انتقال من ضفة ضيقة إلى أفق أكثر اتساعًا، وإن كان هذا الانتقال مؤلمًا وصعبًا. نعم.. هناك أحلام تترنح أمامنا كجسور هشة، لكنها حين تنهار لا تدعونا للسقوط معها، بل تدفعنا إلى عبور غير متوقع نحو برّ آخر لم نكن نراه من قبل. أحيانًا نفقد حلمًا صغيرًا لنكتشف أن خسارته أنقذتنا من ضيق رؤيتنا. حلمتُ مرةً بمكان أرسو فيه وأستقر، لكن انكسار ذلك الحلم قادني إلى رحلة جعلتني أكثر وعيًا بأن الاستقرار ليس بالضرورة غاية، بل قد يكون قيدًا، وأن الحركة المستمرة هي ما يبقينا أحياء. وربما لهذا السبب يولد الحلم الأجمل دومًا من ضلوع حلم ميت، لأن في موته إشارة إلى أن الطريق لم يكن هناك، بل أبعد قليلًا، أو أعلى. الحياة تعرف كيف تضعنا على المحكّ، وكيف تجعلنا نعيد التفكير في قيمتنا ومعنى وجودنا. حين يُكسر حلم كبير، نصبح فجأة في مواجهة أنفسنا بلا أقنعة، ونكتشف أن ما حسبناه نهاية العالم ليس سوى فصل من كتابنا، وأن الكتاب ما زال مفتوحًا على احتمالات أخرى. تلك اللحظة، بكل ما تحمله من وجع، هي في الحقيقة لحظة تنوير، لأنها تعلّمنا أن الحلم الأجمل ليس ما نرسمه بوعي كامل، بل ما يتسرّب إلينا من خلف جدار الخيبة. الذين يظنّون أن الأحلام تموت حين تُكسر لم يتأملوا كيف يخرج العشب من بين شقوق الإسفلت. الخيبة لا تجهز على الحلم، بل تحوّله. الخسارة لا تلغي الرغبة، بل تهذّبها. والمرء الذي يظن أنه انتهى حين خسر حلمه الأول، سيكتشف أنه يبدأ لتوّه، وأن ما حدث لم يكن موتًا، بل تحوّلًا. أكتب هذه الكلمات وأنا أفكر في كل الضلوع الميتة التي حملت في جوفها بذورًا لولادة جديدة. وأتذكر أنني في كل مرة بكيت فيها على حلم انكسر، كنت أجهل أنني أبكي على لحظة انتقال إلى حلم آخر لم يحن أوانه بعد. ربما لهذا صرنا نحتاج أن نؤمن بأن ما ينهدم فينا ليس خسارة كاملة، بل إعادة ترتيب لبنائنا الداخلي. وما ينبُت تحت الضلع الميت ليس مجرد حلم جديد، بل هو نسخة أكثر صدقًا من ذاتنا التي قاومت ونجت، وها هي الآن تبتسم من بين دموعها. الحلم إذن ليس وعدًا بالنجاح بقدر ما هو وعد بالقدرة على التجدّد. ومهما انكسر لنا حلمٌ ومات، فإن في صمت الأرض الداخلية استعدادًا سرّيًا لأن تمنحنا حلمًا أجمل، كما لو أن الحياة، على قسوتها، لا تزال تملك قلبًا يعرف كيف يعوّضنا بما لم نتوقعه.

393

| 08 سبتمبر 2025

الاختلاف ليس ترفاً

لا أحد يُذكر لأنه كان نسخة مطابقة لغيره، ولا أحد يُخلّد لأنه اختار الطريق السهل حيث الأصوات متشابهة والخطوات متكررة. الذين يظلون في الذاكرة هم أولئك الذين امتلكوا الجرأة على الخروج من الصف، على أن يخطوا ببطء في طريق وعر لا دليل فيه إلا ما يوقظونه من بوصلة داخلية تصرّ على أن تكون مخلصة لصوتها، حتى ولو بدا نشازًا أمام الضجيج العام. التاريخ لا ينحني إلا لمن آمن بأن سرّ الحياة لا يكمن في التماهي مع الآخرين، بل في القدرة على أن يعيش المرء وفياً لما يؤمن به، مهما بدا ذلك غريبًا أو مثيرًا للريبة أو الاستنكار. ثمة أشخاص يسيرون بيننا وكأنهم أشجار غريبة نبتت في أرض لا تشبهها، لكنهم لا يحاولون اقتلاع جذورهم ولا استبدال أوراقهم لتتلاءم مع الغابة الكبيرة. يعرفون أن الصدق مع الذات أثمن بكثير من التصفيق المؤقت، وأن البحث عن معنى خاص يضيء لهم الطريق خير من ألف قنديل يوزعه الآخرون في مسالك مستهلكة. إنهم يرفضون أن يعيشوا حياة مؤجلة أو حياة مستعارة، ويختارون أن يكونوا على حقيقتهم، بكل ما في الحقيقة من هشاشة وصلابة، من عثرات وانتصارات. الذين يتذكرهم الناس بعد رحيلهم ليسوا بالضرورة الأكثر ثراء ولا الأرفع مكانة في السجلات الرسمية، بل هم الذين تركوا أثرًا إنسانيًا يُشعر الآخرين أن الحياة يمكن أن تُعاش بطريقة أعمق وأكثر صدقًا. إنهم الذين علّمونا أن الحرية لا تُهدى، بل تُنتزع حين يجرؤ المرء على مواجهة خوفه من الاختلاف. تلك الحرية التي لا تبدأ من الخارج، بل من الداخل، حين يتحرر الفرد من عبودية نظرات الآخرين وأحكامهم المسبقة. كل واحد منا يواجه لحظة فاصلة يسأله فيها قلبه؛ هل ستختار أن تكون نسخة محسّنة من الآخرين، أم أن تكون النسخة الوحيدة من نفسك؟ الإجابة لا تتحدد بالكلمات، بل بالأفعال الصغيرة التي يخطوها المرء كل يوم، حين يقول لا لما يتعارض مع قناعاته، وحين يرفض أن يساوم على جوهره في مقابل رضا جماعي زائف. ربما يبدو الطريق في البداية موحشًا، وربما ينال صاحبه نصيبًا من السخرية أو الاستهجان، لكن ذلك الثمن يظل أقل بكثير من الخسارة الكبرى؛ خسارة الذات. لقد اعتاد الناس أن يُثنوا على من ساروا وفق التقاليد، لأن ذلك يمنحهم شعورًا بالطمأنينة. غير أن الذين كسروا تلك القوالب هم وحدهم الذين فتحوا للآخرين أبوابًا لم يكن أحد يتخيل وجودها. الفلاسفة، المبدعون، المصلحون، وحتى أولئك البسطاء الذين عاشوا بصدق مع أنفسهم بعيدًا عن الأضواء؛ جميعهم أثبتوا أن المغامرة بأن يكون المرء نفسه ليست رفاهية، بل مسؤولية. مسؤولية أن يُضيف للعالم معنى جديدًا بدلاً من أن يكرر المعاني الباهتة. حين يفكر المرء في مصير حياته، لا بد أن يدرك أن الحشود لا تصنع تاريخًا إلا بقدر ما تمنح مكانًا للذين تجرأوا على السير خارجها. الجماعة تمنح الأمان، لكنها في الوقت ذاته تسلب الفرد حقه في المغامرة والاختيار. وحده المختلف يفتح نافذة يرى منها الآخرون اتساع الأفق، ووحده الذي قاوم ضغط التشابه يكتب سطرًا جديدًا في سجل الحياة. إن الشجاعة ليست دائمًا في رفع الشعارات الكبيرة أو في خوض معارك صاخبة، بل أحيانًا في اتخاذ قرار بسيط: أن أكون أنا، بكل ما فيَّ من اختلاف. أن أتحمل عواقب هذا القرار بصبر، وأتذكر أن أعظم انتصار يمكن أن يحققه المرء هو أن يظل صادقًا مع نفسه حتى النهاية. وما من إرث أبهى يمكن أن يُترك خلفنا سوى ذلك الأثر الخفي الذي يجعل الآخرين يهمسون: لقد عاش بصدق، لذلك لم يذهب عبثًا. بهذا المعنى يصبح الاختلاف ليس ترفًا ولا تحديًا عابرًا، بل جوهر الوجود نفسه. فمن لا يجرؤ على أن يكون مختلفًا، سيذوب في صفوف متراصة لا تُميز بين وجه وآخر. أما من يختار أن يكون ذاته، فإنه يكتب قصته الخاصة، قصة قد لا تكون مدهشة للجميع، لكنها تبقى صافية ونقية، وتمنح الآخرين شجاعة إضافية لأن يبحثوا عن قصصهم هم أيضًا. وإذن؛ ليست البطولة أن نُدهش العالم، بل أن نكون أوفياء لذلك الصوت الداخلي الذي يرفض أن يخفت. ذلك الصوت الذي يهمس للمرء كل صباح: لا تمشِ حيث سار الجميع، بل حيث يقودك قلبك، فثمة حياة لا تُكتشف إلا حين تجرؤ على أن تكون نفسك.

354

| 01 سبتمبر 2025

القراءة كرحلة هروب لأن الاطمئنان شقيق الوهم!

يقول العقاد: «نحن نقرأ لنبتعد عن نقطة الجهل، لا لنصل إلى نقطة العلم». جملة تبدو للوهلة الأولى بسيطة، لكنها تفتح أبوابًا واسعة للتأمل في معنى القراءة، وفي طبيعتها كفعل مقاومة قبل أن تكون وسيلة وصول. ثمة لحظة صامتة، يكتشف فيها المرء أن القراءة ليست مجرد فعلٍ يتباهى به أو عادة يدرجها ضمن أنشطته اليومية كما يفعل مع الرياضة أو المشي أو متابعة الأخبار، بل هي فعل خلاصٍ داخلي يخلّصه من ثِقَل الجهل أكثر مما يمنحه ادعاء امتلاك العلم. القراءة في جوهرها حركة انسحابية بطيئة من دائرة العتمة، وليست اندفاعة متعجّلة نحو منصة النور. إنها مقاومة مستمرة ضد الركود، وضد التواطؤ مع الجهل الكامن فينا وفي الآخرين، أكثر مما هي وصول إلى نهاية بعينها. حين يفتح المرء كتابًا، لا يفعل ذلك لأنه على يقين من أن الحقيقة الكبرى تنتظره في الصفحة الأخيرة، بل لأنه يتلمس مسافةً جديدة بينه وبين ضيق العالم. يقرأ ليبعد نفسه قليلًا عن ذلك الفراغ الثقيل الذي يتركه الجهل في الروح، يقرأ ليخفف من وطأة الغموض، ليمنح نفسه فرصةً للبقاء في فضاء مفتوح، لا يُسدل ستاره سريعًا على عقلٍ مغلق أو وعيٍ مكتفٍ بذاته. فالمعرفة في حقيقتها ليست رصيفًا نهائيًا تصل إليه القطارات، وإنما سككٌ متجددة لا تنتهي، تَعِد القارئ بمزيدٍ من الرحلة، لا بمزيدٍ من الاطمئنان. والقارئ الحقيقي لا ينشد الاطمئنان أصلًا، لأنه يعرف أن الاطمئنان شقيق الوهم. يقرأ لأنه يريد أن يتقلّص حجم الجهل في داخله، ولو بمقدار ذرة، ويترك مسافةً أرحب للتساؤل. فكل كتابٍ يفتحه المرء يُنقص شيئًا من جهله، لكنه لا يضيف بالضرورة يقينًا ثابتًا إلى رصيده. كأن القراءة ضربٌ من التخفّف، وليست تخمة. تخفّف من الأحمال الميتة التي يتركها الجهل على صدورنا، لا تخمةً بالمعارف الجاهزة التي نُخدّر بها فضولنا ونقفل بها أسئلتنا. ولذلك فإن الكتاب الجيد هو الذي يزعزع ولا يطمئن، يفتح ثغرةً جديدة للضوء بدل أن يغلق النافذة بمصطلحات لامعة أو ادعاءات شمولية. الكتاب الجيد ليس قاموسًا جامدًا يكدّس المعارف، بل سؤال متجدد يجعل القارئ في حالة حركة، كمن يسير على جسر طويل بين ضفتين لا يكتمل عبورهما أبدًا. إنه جسر يُبقيه دائمًا في الوسط، حيث المتعة الحقيقية في أن تكون مسافرًا لا واصلًا، متخففًا من الجهل لا متخمًا بالعلم. وكم هو بائس ذلك القارئ الذي يظن أن الكتب تصنع منه عالمًا في ليلةٍ وضحاها، فيتحول إلى نسخة متعالية من نفسه، متوهمًا أن المعرفة درعٌ لحماية كبريائه لا نافذة لتوسيع إنسانيته. القراءة، حين تُستعمل كأداة تزيينية للذات، تتحول إلى قشرة أخرى من الجهل، لكنها جهل مُتخفٍّ بثياب أنيقة. أما القارئ الذي يواجه الكتب بروح متواضعة، بروح الجائع إلى النور لا المتخم به، فهو الذي يدرك أن كل ما يحصل عليه ليس أكثر من مصابيح صغيرة على طريق مظلم، تكفيه كي يواصل السير، لكنها لا تكفي لإلغاء الظلام. لقد علّمتني الكتب أن الجهل ليس عدوًا يُهزم دفعة واحدة، وإنما شريكٌ ثقيل نحاول أن نضع بيننا وبينه مسافة. وربما لذلك يبدو القارئ الحقيقي دائمًا في حالة قلق، كأنه لم يعرف بعد ما يكفي، وكأن ما قرأه كلّه مجرد مقدمة لكتاب آخر، وكأن الحياة نفسها مكتبة مفتوحة لن تكفي أعمارنا كلها لقراءتها. تلك هي لذّة القراءة: أن تبقى دائمًا على مسافة من الاكتمال، أن تكون ناقصًا بشكل جميل، ناقصًا بما يكفي كي يظلّ فضولك حيًا، وناقصًا بما يكفي كي تتذكر أنك تقرأ لا لتصل، بل لتبتعد قليلًا عن نقطة العمى. ولعل أجمل ما في القراءة أنها لا تحتاج إلى تبرير. أنت لا تقرأ كي تصبح أفضل من الآخرين، ولا لتضيف لقبًا جديدًا إلى سيرتك الذاتية، ولا حتى لتكتشف كل الحقيقة. أنت تقرأ فقط لتمنح نفسك حياةً أوسع مما يتيحها لك جدار بيتك أو جدول عملك أو ضيق واقعك. تقرأ لتتسع، ولتتخفف، ولتبتعد. كل قراءة صادقة هي خطوة إضافية في هذا الابتعاد الجميل، ابتعاد عن الجهل الذي يثقل أرواحنا. إنها رحلة لا تنتهي، لكنها تُبقيك حيًا. فالكتب لا تنقذ المرء من موته، لكنها تمنحه حياةً أغنى داخل موته المؤجل. تمنحه متعة أن يكون في مواجهة نفسه كل يوم، ومتعة أن يعرف أنه لن يعرف كل شيء، لكنه على الأقل يعرف أنه لا يزال يبتعد، صفحةً بعد أخرى، عن الجهل!

273

| 25 أغسطس 2025

هل يمكن للكلمة أن تحمي نفسها؟

اللغة.. تلك الأداة التي اكتشفها الإنسان ليعبر عن أفكاره ومشاعره، يمكن أن تصبح في يد من يجيد التلاعب سلاحًا مزدوج الحد. كم من كلمة بريئة أُلبست ثوب الاتهام، وكم من حقيقة ناصعة جرى تسخيفها لتبدو مجرد رأي عابر، وكم من موقف نبيل جرى تشويهه ليظهر كأنه انحياز غير مبرر! وفي هذا العالم، لا يكفي أن تكون الكلمة صحيحة، بل يجب أن تحمي نفسها من الذين يملكون مهارة التلاعب بمعانيها. لكن، هل يمكن للكلمة أن تحمي نفسها؟ أم أن على صاحبها أن يظل واقفًا في وجه العواصف، مستعدًا للدفاع عنها كلما حاول أحدهم اقتلاعها من سياقها الطبيعي؟ هنا تكمن المعضلة، وهنا يبدأ الاستنزاف غير المجدي. فالمحاججة مع من لا يبحث عن الفهم، بل يسعى إلى ليّ عنق الحقيقة لتناسب قناعاته، ليست سوى عبث مرهق. فليست المشكلة في وضوح الفكرة، بل في نوايا المستمع الذي قد يختار عمدًا أن يفهمها بشكل مختلف، ثم يصرّ على جرّك إلى ساحة معركة وهمية، حيث عليك أن تشرح ما لا يحتاج إلى شرح، وتبرر ما لا يحتاج إلى تبرير. إنه اختبار قاسٍ، لكن الحل ليس في الدخول في معركة التفسيرات مع كل من يصرّ على تحوير الكلام، بل في إدراك أن بعض النقاشات ليست سوى فخاخ، لا تهدف إلى الوصول إلى الحقيقة، بل إلى استنزاف القائل وإرهاقه حتى يتخلى عن كلمته أو يشعر بأنه مسؤول عن تصحيح الفهم الخاطئ لدى الآخرين. والحقيقة أنه لا أحد مسؤول عن ذلك. فالكلمة الواضحة ليست بحاجة إلى شهادة حسن سلوك، وليست مطالبة بأن ترضي الجميع، ولا أن تلتوي لتناسب من لم يكن ينوي تقبلها منذ البداية. والأمر يشبه محاولة شرح اللون الأزرق لمن يصرّ على رؤيته أخضر. يمكنك أن تذكر كل التعريفات العلمية، أن تستعين بالمصادر، أن تضع الأدلة أمامه، لكنه إن قرر أن اللون ليس أزرق، فلن يراه كذلك مهما فعلت. هنا، يكمن الدرس؛ لا تجهد نفسك في الشرح حين يكون الإنكار مقصودًا، وحين يكون الفهم الخاطئ جزءًا من استراتيجية الآخر لإرهاقك وإفقادك الثقة بكلامك. والمرء الذي يعرف نفسه، ويثق في كلمته، لا يحتاج إلى أن يقضي عمره في تصحيح سوء الفهم المتعمد. يقول كلمته ويمضي، لأنه يدرك أن الصادقين سيفهمونها كما هي، وأن المخلصين سيقرأونها بنقاء، أما الآخرون، فليس مهمًا أن يقنعهم، لأنهم لم يأتوا ليقتنعوا، بل ليعيدوا تشكيل الحقيقة وفق ما يناسبهم. وهؤلاء، مهما اجتهدت في شرح وجهة نظرك لهم، سيظلون يدورون في دوائرهم المغلقة، يبحثون عن ثغرة، أو زاوية، أو حتى كلمة واحدة يمكنهم استغلالها ليعيدوا ترتيب المشهد كما يريدون. لهذا، لا ينبغي أن نكون أسرى لرغباتنا في أن يفهم الجميع ما نقوله، ولا أن نرهق أنفسنا في محاولة تصحيح كل سوء فهم متعمد. نقول كلماتنا بوضوح، وننطقها بثقة، ثم نواصل الطريق. فالوضوح ليس في عيون الآخرين، بل في يقينك الداخلي أنك قلت ما يجب أن يُقال، كما يجب أن يُقال، من دون تردد أو تبرير زائد أو استجداء لفهم من لم يكن ينوي الفهم أصلاً.

312

| 18 أغسطس 2025

لماذا نهرب من الحقيقة.. أحياناً؟

هناك لحظات لا تحتاج فيها الحقائق إلى من يبحث عنها، إذ تأتيك وحدها، بكامل ملامحها الواضحة، كما لو أنها تقف أمامك وتقول؛ أنا هنا. ورغم ذلك، يختار المرء أحيانًا أن يدير وجهه عنها، كأنه يخشى أن يلتقي بعينيها فيكتشف في انعكاسهما شيئًا لا يريد الاعتراف به. ذلك الاختيار ليس دائمًا بدافع الجهل، بل قد يكون وليد خوفٍ من يقينٍ لا يترك مساحة للهرب، أو من مسؤوليةٍ ستثقل الكتف إن أقرّ بها. إن الوضوح، على قسوته، أرحم من العيش في منطقة الظلال. لكن النفس البشرية بارعة في ابتكار ستائر كثيفة، تخفي بها ما تعرفه مسبقًا، لتبقى في مساحة بينية، تتظاهر فيها بالبحث عن الحقيقة وهي تعرف جيدًا أين تقف. هناك مثلا من يفسّر علامات الطريق على هواه، لا لأنه لا يفهمها، بل لأنه لا يريد الوصول إلى المحطة التي تشير إليها. والتجاهل، بهذا المعنى، ليس غيابًا عن الوعي، بل فعل وعيٍ مضاد، يلتف على نفسه ليصنع منطقة آمنة مؤقتة، تمامًا كما يغمض الطفل عينيه ظنًا منه أن الظلام سيجعل الخطر يختفي. لكن في حياة الكبار، لا يختفي الخطر حين نغمض أعيننا، بل يزداد رسوخًا، ويستقر في زوايا حياتنا حتى يصير جزءًا من هوائها. المفارقة أن الحقائق التي نتظاهر بعدم رؤيتها لا تغادر، بل تنتظر بصبرٍ لا يُصدق. قد تطرق بابك مرةً في لحظة هدوء، ثم تعود لتطرق في قلب عاصفة، ثم تقرر أن تجلس أمامك، حتى وأنت تواصل الانشغال عنها. هي تعرف أنك تراها، وأنك لم تخدع أحدًا إلا نفسك. ولعل أشد أنواع الإنكار إيلامًا هو ذاك الذي يدرك فيه المرء أنه يرى الحقيقة بوضوح، لكنه يصر على تصنيفها في خانة الشك، كي يحتفظ لنفسه بحق البقاء حيث هو. يظن بعضنا أن تجاهل ما هو واضح يمنحهم فسحة أمان، لكنه في الواقع يؤجل فقط لحظة الاصطدام. والاصطدام المؤجل أقسى من المباشر، لأنه يأتي محملًا بوزن الأيام التي قضاها المرء في بناء قلعته الورقية، معتقدًا أنها منيعة. وعندما ينهار كل شيء في لحظة، يدرك فجأة أن كل ذلك الجهد كان مكرسًا لحماية وهم، لا لحماية نفسه. ليس الاعتراف بالحقيقة عملًا سهلًا، لكنه في جوهره فعل تحرير. أن تواجه ما تعرفه، حتى لو كان موجعًا، يعني أنك اخترت أن تمشي على أرض صلبة بدلًا من أن تواصل الدوران على رمال رخوة. والمرء حين يفتح عينيه على اتساعهما، يكتشف أن الوضوح لا يقتله، بل يمنحه قوة لم يكن أن يتصور أنه يملكها، لأن الشجاعة الحقيقية ليست في خوض معركة ضد خصم مجهول، بل في مواجهة ما تعرفه جيدًا وتخشى أن تنطق باسمه. وثمة حقيقة لا بد من الاعتراف بها؛ نحن لا نتهرب من الواقع لأنه غامض، بل لأنه واضح إلى حد يربكنا. فالغموض يترك للخيال مساحة للترتيب والتأويل، أما الوضوح فيحشرنا في زاوية ضيقة، لا يسعنا فيها سوى أن نقرر؛ إما أن نعترف ونمضي، أو نستمر في تجاهل لا يحمي أحدًا من تبعاته. ويظل السؤال معلقًا: ما الذي نكسبه فعلًا حين نغض الطرف عما نعرفه؟ ربما لحظات قصيرة من سلامٍ كاذب، لكنها تنقضي، تاركة وراءها صدى الحقيقة يزداد قوة مع كل تجاهل جديد. وما إن يحين الوقت الذي لا يعود فيه ممكناً التهرب، نكتشف أن مواجهة الحقيقة في بدايتها كانت أيسر ألف مرة من مواجهة تراكماتها بعد أن تضخمت وصارت جبلاً لا سبيل لتجاوزه إلا بتسلقه، حجرًا بعد حجر، وجملة بعد جملة، حتى نصل إلى قمته ونرى العالم من علٍ، خاليًا من كل تلك الستائر التي علّقناها بأيدينا يوم اخترنا ألا نرى.

282

| 11 أغسطس 2025

لقد فعلتها.. أخيراً!

ثمة أيام تبدأ بثقلٍ لا يُطاق، كأنك تجرُّ خلفك سلسلة من الأسئلة المؤجلة والقرارات المعلّقة التي ظللت تهرب منها طويلاً. تسير كأنك تحمل على ظهرك حجارة لا يراها أحد، لكنك تشعر بثقلها في كل خطوة أو تنهيدة، بل في كل لحظة صمت تفرض نفسها عليك في زحام اليوم، حتى يجيء ذلك الصباح المختلف. صباح لا يختلف في ملامحه عن غيره من الصباحات، لكنك تستيقظ فيه بروحٍ أخرى، لا لأنك أصبحت أكثر قوة فجأة، ولا لأن الأمور أصبحت أوضح، بل فقط لأنك تعبت من المماطلة. تنهض من سريرك وفي قلبك شيء يشبه الحسم. لا هو يقين تام، ولا هو اندفاع أعمى. إنه فقط قرار. القرار المؤجل منذ أسابيع أو شهور أو ربما سنوات. القرار الذي كنت تراقبه من بعيد وتتمنى لو أن أحداً آخر يتخذه عنك، أو أن الحياة تعفيك منه بطريقة ما. لكن لا أحد أتى بدلاً عنك، ولا الحياة منحتك معجزة. فقط أنت وحدك أمام المرآة، بوجهك الشاحب من القلق، وعينيك التي باتت تعرف ثقل الانتظار. حسناً.. اتخذت القرار ببساطة، من دون أن يرفّ جفن، بصوت داخلي خافت بالكاد تسمعه، وربما برسالة واحدة أرسلتها في لحظة هدوء، أو مكالمة قصيرة وضعت فيها نقطة النهاية، أو حتى بحركة عادية جداً كانت إعلاناً صامتاً عن بدء صفحة جديدة. لكنك تعرف جيداً ما فعلت. تعرف أن شيئاً ما تغير إلى الأبد. ومع أنك لا تعرف إلى أين سيقودك هذا القرار، إلا أنك تشعر بشيء من الخفة. كأنك أخيراً وضعت حقيبة ثقيلة عن كتفيك. لقد حررت نفسك من الانتظار الطويل. تمضي اليوم بوجه أكثر صفاء وبخطى أكثر ثباتاً وصمت أقل توتراً. ليس لأنك مرتاح تماماً، بل لأنك أنهيت مرحلة الإنكار.. ومضيت. لكن لا شيء سهل. الخفة التي تشعر بها لا تلغي الغصة تماماً، فربما كان القرار يعني خسارة، أو فراقاً، أو تخلياً عن حلم قديم، أو حتى مواجهةً كنت تتهرب منها. والغصة هنا لا تعني الندم، لكنها اعتراف مؤلم بأنك اخترت طريقاً تعرف أنه ليس معبّداً، وأنك وافقت على أن تخوض معركتك من دون ضمانات. ومع ذلك، فإن في هذه الغصة ما يشبه النُبل. إنها دليل على أنك لم تتخذ قرارك بتهوّر، بل بشجاعة فيها حسٌ عميق بالمسؤولية، وأنك لم تكن تافهاً أو لا مبالياً، بل صادقاً مع نفسك إلى الحد الذي جعلك تختار ما تعتقد أنه الأصح، ولو كان مؤلماً. الغصة تذكّرك بأنك إنسان، وأن المشاعر لا تُلغى بجرّة قلم، ولا تختفي بقرار واحد. والذين اعتادوا تأجيل قراراتهم، يعرفون هذا الشعور جيداً. يعرفون كم من الوقت يمكن أن يضيع في التفكير والتردد وصناعة المبررات وإقناع النفس أن “الوقت لم يحن بعد”. يعرفون مرارة العيش على الهامش، في منطقة رمادية، لا قرار فيها ولا انسحاب، ويعرفون أيضاً أن الحياة لا تنتظر، وأن الأبواب لا تظل مفتوحة إلى الأبد. والشجاعة ليست في أن تكون متأكداً من كل شيء، بل في أن تختار، وأن تتحمل نتيجة اختيارك. وما أجمل تلك اللحظة، حين تمضي في يومك بعد أن اتخذت قرارك، وتشعر بأن العالم لم يعد ثقيلاً كما كان. ربما لا تزال غصتك حاضرة، لكنها لا تشلّك. بل تعلّمك أن تمضي، وأن تنظر للأمام، وأن تتنفس بعمق، وتقول في سرك: “لقد فعلتها. أخيراً فعلتها «.

249

| 04 أغسطس 2025

معارك الكلام الميتة

لستُ من أنصار الهروب، لكنني أيضاً لا أؤمن بأن كل معركة تستحق عناء الدخول فيها. وهذا ينطبق على المعارك الحقيقية ومعارك الكلام أيضا! هناك نوع من النقاشات يولد ميتًا، لا لأن الفكرة فاسدة، بل لأن النية فاسدة. وهنا، لا يعود النقاش سبيلاً للفهم، بل يصبح ملعبًا للكيد والمراوغة واستعراض البلاغة على جثث المعاني. والمرء، إن أراد أن يصون طمأنينته، عليه أن يتقن فن الانسحاب المهذب، لا بالصمت وحده، بل بما هو أبلغ من الصمت: جملة طيبة، تخمد نار السجال كما تخمد قطرة ماء جمرًا يتوهج. كم مرة قلت فيها لشخص كان على وشك الانفجار؛ “أقدّر وجهة نظرك، وأتمنى لك التوفيق”، ورأيت كيف ارتبك؟ وكيف تلعثم؟ وكيف أعاد حساباته فجأة؟ اللطف لا يعني الضعف، كما أن الرد العنيف لا يعني القوة، وبين الردود يوجد دائماً خيار ثالث، الخيار الذي لا يلغي ذاتك، لكنه لا يحوّلك إلى مرآة لغضب الآخر. هو خيار النضج، حين يكبر المرء كفاية ليرى أن ليس كل قذيفة تحتاج إلى درع، فبعض القذائف تسقط من تلقاء ذاتها حين لا تجد أرضًا تتلقى ارتطامها. واللطف ليس مناورة ولا تجميلاً للموقف. اللطف سلوك وجودي، يتطلّب وعيًا عميقًا بالكرامة الشخصية. أن تقول شيئًا نبيلاً في حضرة من يستدرجك للسقوط، يعني أنك اخترت الوقوف على ضفة أخرى، حيث لا يعلو الصوت بل يعلو المعنى. وقد يبدو هذا خيارًا صعبًا، خصوصًا حين يكون الآخر متسلحًا بكل قبح الممكنات، لكنّك، حين تقول عبارة تفتح باباً بدلاً من أن تُغلقه، فإنك لا تُنقذ نفسك فقط من الغرق، بل تنقذ الآخر أحيانًا من نفسه. كم من النقاشات لم تكن بحاجة سوى لكلمة لطيفة تنهيها قبل أن تتورم، وكم من الخصومات الطويلة بدأت من جملة لم تُقَل، أو من ابتسامة بخلنا بها، أو من نبرة ساخرة حسبناها دعابة فاستقبلها الآخر طعنة. لا أقول إن المرء مسؤول دومًا عن نوايا الناس، لكنه مسؤول تمامًا عن شكل حضوره في العالم، وعن اللغة التي يختار أن يبلّغ بها وجوده. في كثير من الأحيان، يُساء فهم اللطف، لأنه يربك من لا يجيده. فبعضهم يظنه ضعفًا أو تواطؤًا أو تنازلًا عن الحق، لكنه في حقيقته قدرة على التحرر من القيد الذي يفرضه الآخر، وعلى ألا تكون ردّ فعل، وأن تكون فاعلاً في طريقتك بالرد، حتى لو اخترت ألا ترد كما يتوقع الآخر. وهذا، في ذاته، فعل جمالي وإنساني عميق، يُذكّرنا بأن الجدال ليس إلا حقل ألغام لمن لا يعرف أين يضع قدميه، وأن العبارة اللطيفة قد تكون أحيانًا عصا موسى التي تفرق بحر الغضب إلى ضفّتين: ضفّة هدوئك، وضفّة فيها خيبة من حاول إشعالك. تعلّمت، متأخرًة ربما، أن الأسلوب أحيانًا أبلغ من المحتوى، وأن الطريقة التي تقول بها ما تقول، قد تغيّر مسار الحوار بأكمله. وليس أجمل من أن تقول شيئًا ناعمًا في لحظة صلبة، شيئًا يُظهر أنك قادر على الحدة، لكنك آثرت ألا تستخدمها. ففي النهاية، نحن لا نُعرَف فقط بما نقوله، بل بما اخترنا ألا نقوله حين كان بمقدورنا أن نقول كل شيء. اللطف ليس ترفًا سلوكيًا، بل هو فعل مقاومة في زمن التعصب، وهو الموقف الأعلى حين يتهاوى الآخرون إلى درك النزق. هو سلاحك حين تريد أن تربح نفسك لا خصمك، أن تنجو بسلامك الداخلي لا أن تقتل سلام الآخر. وإذا كان هناك من يسأل عن حسم النقاشات العقيمة، فلا أنصح بأن ننتصر فيها، بل أن نتجاوزها، بكلمة جميلة، تريح الآخر أمامنا وتشعره بالرضا وربما بالخجل ولو مؤقتاً.. !

321

| 28 يوليو 2025

ليست كل الخسائر هزائم!

ثمّة خسائر تشبه الشفاء، تنسلّ من روحك كما ينسلّ السمّ من الجرح، وتتركك أخفّ، أنقى، وربما أكثر قدرة على التنفس من جديد. لطالما توهّمنا أن العلاقات، كل العلاقات، أشبه بعقود أبدية. نتمسّك بها حتى وهي تفتك بنا وتستنزف أعصابنا وتفتّت أرواحنا وتشوّش بوصلة سلامنا الداخلي. نربّي في صدورنا أحيانًا صداقة سامة أو علاقة حب خانقة، فنُقنع أنفسنا أن الصبر فضيلة، وأن الاحتمال شكل من أشكال الإخلاص، حتى نجد أنفسنا نتقوقع حول قلق لا يهدأ، وحزن لا يُبرر، وجسد لا ينام إلا مرهقًا من التفكير، وروح لا تفرح إلا حين تهرب. نعم.. بعض الخسائر لا تُقدّر بثمن، لأنها ببساطة تستردّ منك ذاتك التي كنت قد أودعتها لدى من لا يستحق، وتنازلت عنها وأنت تظن أنك تُحب، أو تَصل رحمًا، أو تَصنع معروفًا. ثم يأتي الفقد، فجأة أو بالتقسيط، ليذكّرك أنك كنت تضحّي بأهم ما تملك؛ نفسك. قبل أيام تعرفت على سيدة تبدو وقد تجاوزت الستين من عمرها. التقيتها في حفلة عرس. كانت تضحك وترقص بخفّة لا تشبه عمرها، وحين سألتها عن سرّ تلك الخفة المغرية، قالت بمرح: “طردت من حياتي كل من جعلني أشكّ في قيمتي، أو أخجل من نفسي، أو أبكي أكثر مما أضحك.” لم تكن تقصد الطرد حرفيًا، بل تقصد أنها وضعت لكل علاقة سقفًا، ولكل قلب مفتاحًا، وأنها أعادت توزيع مساحاتها على من يستحقون فقط. لا شيء شخصيا، فقط مسألة صحة نفسية. ولعلّ أجمل ما في الأمر، أن المرء حين يتخلّص من أول علاقة مرهِقة، يشعر برعشة حرية تشبه الرجوع من منفى طويل. ثم تتوالى «الخسائر الجميلة»! كما لو أن جسده الداخلي أصبح لديه جهاز مناعة جديد، يرفض العدوى ويتنبّه للأذى قبل أن يستفحل. ليس انتقامًا، بل نضجًا. وليس تعاليًا، بل حفظًا لكرامة النفس التي أُهدرت كثيرًا باسم الوفاء. أحيانًا لا تكون المشكلة في الآخر بقدر ما تكون في المرء ذاته. في خوفه من أن يكون وحيدًا، أو من أن يبدو قاسيًا، أو من أن يُتّهم بالأنانية. ولهذا يتحمّل ويتنازل ويبرّر، حتى يتورّط في شبكة عنكبوتية من التناقضات لا يُفكّها إلا فقدٌ كبير، أو وعي مفاجئ، أو انهيار يوقظه على فداحة ما فرّط فيه. إن خسارة الأشخاص لا تعني دائمًا أن الخطأ فيهم، كما لا تعني أن الخطأ فيك. أحيانًا لا تناسبنا القوالب، وأحيانًا أخرى نتغير ببساطة، وتفشل العلاقة في مواكبة هذا التغيّر. تمامًا كما يحدث مع الثياب التي كنا نحبها في صغرنا، ثم صارت تقيّد حركتنا حين كبرنا. لا نكرهها، ولكن لا نعود نرتديها. كل ذلك لا يعني أن نتحوّل إلى كائنات بلا حنين، أو أن نقطع علاقاتنا بالجملة، أو أن نُقدّس العزلة. بل أن نتحلّى بالجرأة الكافية لنقول؛ هذه العلاقة لم تعد تشبهني، هذه الصداقة تؤذيني أكثر مما تُسعدني، هذا القرب يستنزفني، هذه الرفقة تمضي بي إلى الخلف. وأن نقول ذلك من دون شعور بالذنب. لقد خُلقت الروح لتسكن في الطمأنينة، لا في التوتّر الدائم. وكل ما يهدد هذه الطمأنينة، يجب أن يُعاد النظر فيه. فسلام النفس ليس رفاهية، بل ضرورة. والصحة النفسية ليست شعارًا، بل حياة كاملة يجب أن نعتني بها كما نعتني بقلوبنا وأجسادنا. وهكذا، حين تقرّر أن تُنقذ نفسك من علاقة سامّة، لا تنظر خلفك كثيرًا. لا تسأل عن الرأي العام، ولا تفتش عن مبررات. فقط كن صادقًا مع نفسك، وضع هذه الخسارة في سجل المكاسب. وثق أن الحياة بعد ذلك ستمنحك ما هو أطيب، وربما تمنحك نفسك من جديد… نقية، خفيفة، ومليئة بإمكانية الفرح.

423

| 21 يوليو 2025

مجرد فضفضة..!

تبدو الكلمات أحيانًا مجرد جسور عابرة، لا تُفضي إلا إلى الضفة التي نُريد أن نظهرها للعابرين، لا إلى أعماقنا حيث تقيم الحكايات الحقيقية. نحن نتحدث كثيرًا، نتبادل الأحاديث مع من نعرف ومن لا نعرف، نناقش ونُعلّق ونُعلِّم ونُجادل ونبتسم ونصغي ونتظاهر بالاهتمام أحيانًا… ولكن، هل كل حديث هو فضفضة؟ وهل كل من نتحدث إليه يجدر بنا أن نُسميه صديقًا؟ الحقيقة التي كثيرًا ما نهرب منها، أو نُخفيها خلف ضحكاتٍ مصطنعة، أن الفضفضة ليست ترفًا لفظيًا، بل طقس روحي خاص، لا يُمارَس إلا في حضرة من يُحسن الإصغاء من دون أن يُدين. وحدهم الذين نكاشفهم بالقلب قبل اللسان، هم الذين لا نُخجل منهم حين تنكسر أرواحنا، ولا نرتبك أمامهم إذا تلعثمت مشاعرنا، ولا نخاف من صمتهم لأن صمتهم ملاذ لا محكمة. الفضفضة، ببساطة، هي تلك الحالة التي تخلع فيها النفس عباءتها الثقيلة، وتجثو على ركبتيها كطفلٍ يُريد أن ينام في حضنٍ آمن. هي ليست مجرد حديثٍ طويل، بل هي إفشاء أسرار الداخل، وإعلان هدنة مع الذات، ومناشدة دفءٍ إنساني لا يُشترى ولا يُطلب. ولهذا، لا يُمكن للمرء أن يُمارسها مع الجميع. الفضفضة فعل نخبوي خاص، يستحقه من ينصت ويحافظ على ما يُقال كما لو أنها صلاة سرية لا يجوز كشفها. كم من مرة تحدّثنا إلى غرباء، وخرجنا من حديثنا كما دخلنا.. مثقلين! وكم من مرة جلسنا إلى أصدقاء العمر وخرجنا وقد تضاعف الألم! لأن الحديث لا يعني دائمًا البوح، والكلمات ليست دائمًا مفاتيح للراحة. هناك من يتحدث كثيرًا ويظل غريبًا عن نفسه، وهناك من يصمت طويلًا ثم يُلقي في حضرة من يحب كل ما في جوفه دفعة واحدة، وكأنه كان ينتظر هذا الحضن العاطفي كي ينهار. والقلوب، حين تُحب، لا تسأل كثيرًا، لكنها تُنصت أكثر مما نظن، وتلتقط خبايا الوجع بلا حاجة إلى تفصيل. ولذا، لا عجب أن كنا نفضّل الصمت على الإفصاح حين نفتقد هذا النوع من القلوب، فنمشي بين الناس كأننا نؤدي أدوارًا محفوظة، بينما الجزء الأصدق فينا يظل ساكنًا في الأعماق، لا يُخاطب إلا حين يُطل من نُحب. في تفاصيل يومنا، أشياء لا تُقال، لا لأنها تُخجلنا، بل لأنها لا تستحق أن تُقال إلا لمن يعرف كيف يراها بعين القلب. تلك التفاصيل الصغيرة والبسيطة والتي لا تعني لأحد شيئًا، لكنها تحمل لنا معنى العالم كله، لا نفصح عنها إلا لأرواح تشبهنا، أرواح عرفناها ربما مصادفة لكننا أحببناها عمدًا. هؤلاء، هم الذين نكتب لهم نصوصنا غير المكتوبة، ونُهديهم لحظاتنا الموشاة بالصمت، ونُشاطرهم اتساع قلوبنا حين تضيق الدنيا. نعم.. يبقى دائما بحاجة إلى هذا الواحد الذي لا يُشبه غيره. الواحد الذي نُحب أن نُحادثه قبل أن ننام، لا لنتحدث عن قضايا العالم الكبرى ولا عن مسارات الحرب التي نسمع ضجيجها حولنا، بل لنسرد له كيف علقنا ملابسنا على المشجب فانقطع منها زر مهمل، وكيف نسينا المفاتيح فاضطررنا للعودة، وكيف شعرنا بالحزن من كلمة عابرة، أو بالفرح من أغنية في الطريق. نبوح له بكل هذا وكأننا نعترف، لا لأنّ ما نبوح به عظيم، بل لأن الإصغاء في وجدانه يُعطي لكل شيء أهمية. أن تفتح قلبك لأحد، يعني أنك منحته مفاتيح العزلة، وأذنت له بأن يُقيم في منطقة لا يصل إليها غيره. ولهذا، لا أحد يستحق هذه المفاتيح إلا من أثبت أنه لن يستعملها إلا ليُضيء المكان.

630

| 14 يوليو 2025

alsharq
في وداع لطيفة

هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات...

4503

| 29 سبتمبر 2025

alsharq
الكلمات قد تخدع.. لكن الجسد يفضح

في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه،...

3369

| 29 سبتمبر 2025

alsharq
ماذا يعني سقوط الفاشر السودانية بيد قوات الدعم السريع؟

بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون...

1344

| 28 سبتمبر 2025

alsharq
فلسطين والكيان والأمم المتحدة

أُنّشِئت الأمم المتحدة في العام ١٩٤٥م بعد الحرب...

1197

| 28 سبتمبر 2025

alsharq
استيراد المعرفة المعلبة... ضبط البوصلة المحلية على عاتق من؟

في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة يمكن وصفها بـ...

1077

| 02 أكتوبر 2025

alsharq
حين يُستَبدل ميزان الحق بمقام الأشخاص

‏من أخطر ما يُبتلى به التفكير البشري أن...

1059

| 29 سبتمبر 2025

alsharq
إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق

منذ أكثر من مائة عام ارتُكبت واحدة من...

885

| 30 سبتمبر 2025

alsharq
النسيان نعمة أم نقمة؟

في لحظة صفاء مع النفس، يطلّ النسيان عليَّ...

843

| 30 سبتمبر 2025

alsharq
تعلّم كيف تقول لا دون أن تفقد نفسك

كم مرة قلت «نعم» في العمل بينما في...

669

| 02 أكتوبر 2025

alsharq
النعمة في السر والستر

كيف نحمي فرحنا من الحسد كثيرًا ما نسمع...

612

| 30 سبتمبر 2025

alsharq
كورنيش الدوحة بين ريجيم “راشد” وعيون “مايكل جون” الزرقاء

في فجرٍ قطريّ عليل، كان البحر يلمع بألوان...

609

| 30 سبتمبر 2025

alsharq
الوضع ما يطمن

لسنا متشائمين ولا سلبيين في أفكارنا وتوقعاتنا ولكن...

582

| 03 أكتوبر 2025

أخبار محلية