رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

معجم الدوحة التاريخي للغة العربية... مشروع أمة

لم تكن اللغة يومًا مجرد أداة للتواصل، إنما هي الوعاء الحي للفكر، والمرآة الصادقة للمسار العلمي والثقافي والحضاري، والأمم ترتبط بلغاتها ارتباط الجذور بالتربة، فإذا ما ضعفت اللغة تخلخل الوعي، وإذا غاب تاريخها تاهت الهوية. وإيمانًا بأهمية اللغة العربية في حياة الأمة، انطلق مشروع «معجم الدوحة التاريخي للغة العربية»، ذلك المشروع الذي يتجاوز حدود البحوث اللغوية إلى كونه عملًا واعيًا في إعادة ربط الأمة باللغة التي تمثل عمودها الفقري. معجم الدوحة التاريخي مشروع علمي حضاري غير مسبوق، يهدف إلى كتابة السيرة التاريخية لألفاظ اللغة ورصد تحولاتها الدلالية عبر العصور، ويتتبع الألفاظ منذ أقدم نصوصها الموثقة إلى عصرنا الحديث، يوثق استعمالاتها وسياقاتها الثقافية والحضارية، فهو لا يقف عند حدود تعريف الكلمة، بل يقدم سيرة حياتها منذ ولادتها، والتغيرات الطارئة عليها، من خلال منهج علمي صارم يعتمد على مدونات لغوية تشمل آلاف النصوص والحقول المعرفية، ويستند إلى التوثيق الزمني الدقيق، بما يجعله أرشيفًا حيًا للغة العربية. معجم الدوحة ليس مصنفًا كبيرًا أو عملًا موسوعيًا قد فُرغ منه، وليس موقفا عابرًا يُحتفى من خلاله باليوم العالمي للغة العربية، إنما هو محطة فكرية وثقافية فارقة في تاريخ الأمة يرد للغة اعتبارها، ويخرجها من سجن اللحظة، يعيد لها تاريخها الحي، ويعيد فهمها غير منزوعة عن سياقها الزمني والثقافي، ويوقظ كذلك العقل اللغوي للأمة ويعيد ترتيب صلتها بالكلمة والنص والتراث. معجم الدوحة ذو طبيعة جماعية في إنتاجه، إذ التقت عليه عقول وجهود نخبوية من عدة أقطار عربية تكاملت فيما بينها لتؤكد على حقيقة أن اللغة وطن جامع إذا ما تم التعامل معها بإخلاص وصدق وعزيمة، وجدان مشترك، يؤكد على إمكانية الاجتماع والالتفاف في مجالات أخرى وأخرى. وعلى الرغم من أن الغرب سبقنا إلى المعاجم، إلا أن العربية تميزت في العمل المعجمي بأنها لم تغير جلدها ولم تتنكر لتراثها ولم تفقد روحها ولم تفرط في ذاكرتها، بل أدخلت تراثها وثقافتها في قلب البحث اللغوي الحديث. المعجم ينظر إليه باعتباره منصة عابرة للتخصصات، وجسر معرفي يربط اللغة بالتاريخ والفكر والمجتمع، فالفيلسوف يستكشف من خلاله تطور المفاهيم المجردة، والمؤرخ يفهم من خلاله تحولات المفاهيم السياسية والاجتماعية، وعالم الاجتماع يقرأ من خلاله تبدل أنماط التفكير والتعبير. وينظر إلى مشروع المعجم على أنه عمل من أعمال السيادة المعرفية بحكم أنه يمثل أداة تحليل اللغة وتوصيف مفاهيمها، فهو بذلك يدعم حماية خطابها الثقافي والفكري من التبعية، واستثمار على المدى البعيد في استقلال اللغة العربية. المعجم ينهض بالقارئ العربي، إذ إن هذا القارئ لن يقف في التعاطي معه على حد التلقي للمعاني الجاهزة، بل يشارك في فهم وتشكل وتطور المعنى، ما يعزز القراءة النقدية الواعية، ويحل التفاعل محل التلقين العقيم. وبما أن كثيرًا من دلالات اللغة سادت زمنًا طويلا لارتباطها بمصادر وحقب بعينها وتعرضت للهيمنة التأويلية، فإن معجم الدوحة التاريخي يخضع المعنى للتوثيق والاستعمال الفعلي ويخرجه من هذه الهيمنة، فيتحول من رأي إلى مسار. معجم الدوحة يعطي البراهين على أن اللغة العربية لم تنقطع عن التلاقح الحضاري، حيث إنها تفاعلت مع العلوم والثقافات والحضارات الأخرى، ولكن دون أن تفقد هويتها، ليثبت للجميع أن العربية لم تكن عاجزة، وإنما العيب في غياب الوعي بتاريخها وآليات تطورها. المُعجم يعزز من حضور العربية، سواء على صعيد أبنائها باستعادة الثقة فيها بأنها مواكبة لتطورات العصر، ويردم الهوة التي تكونت بين هذا الجيل ولغته لاعتقاده أنها عصية على الفهم، فيشعره أن لغته المعاصرة امتداد طبيعي لتاريخ طويل لا قطيعة معه، وذلك من خلال تتبع المعجم لتطورات الألفاظ. وعالميًا بأن وضع اللغة العربية في مصاف اللغات الكبرى التي تمتلك معاجم تاريخية قوية كالإنجليزية والفرنسية، ويثبت قدرتها على الاستيعاب والتطور والتجدد. هذا المعجم يحتوي تنوع اللهجات وتباين السياقات الثقافية بين بلدان الأمة، فيكشف الجذور المشتركة للألفاظ ويبين كيف تم التعبير عنها في مختلف العصور والأقاليم، فيكون فضاء لغويا واحدًا يمثل هوية جامعة للأمة، ويعزز الانتماء الحضاري، بما يعني أن هذا المشروع ليس مشروعًا محليًا، وإنما هو مشروع أمة أخرجته قطر للنور.

210

| 28 ديسمبر 2025

التاريخ منطلقٌ وليس مهجعًا

«فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتّى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدّين والدّنيا». يؤصل ابن خلدون في تاريخه بهذه العبارة، قاعدة بالغة الأهمية في دراسة التاريخ، مفادها أن استدعاء صفحات الماضي والنظر في التاريخ، لا يكون بغرض التسلية بحكايات الغابرين، ولا للانحباس في حالة انبهار بصفحات مجد تليد، إنما هو أداة لتغيير الحاضر والتهيئة لتحديات المستقبل. لكن أمتنا قد دبّ فيها داء الهروب إلى التاريخ، نعم نحن نهرب من مواجهة واقعنا باستدعاء التاريخ وأمجاده والاكتفاء بذلك، فهي حيلة نفسية نواري بها عجزنا عن مسايرة الغرب الذي أخذ بأسباب القوة والتقدم بينما توقفنا نحن عند حدود الماضي، وأسعد بلادنا حظًا من قطعت بضع خطوات في مجالات محددة، دون أن تكون هناك نهضة شاملة تجعلها على قدم المساواة مع وحوش العالم. نحن نعاني فوضى التفاخر بالماضي، أصبح المجد السابق هو بضاعتنا في التعريف بأنفسنا، مع أن التفاخر بالتاريخ لن يدفع عجلة الاقتصاد، ولن يحل المشكلات والأزمات الاجتماعية، ولن يسهم في التطور التقني والتكنولوجي، ولن يجعل القوى العسكرية في مصاف القوى الكبرى. ما فائدة أن يتراشق أهل كل بلد من بلدان الأمة بسالف أمرها، هذا يتفاخر على هذا بأن له حضارة عمرها كذا ألف سنة، وهذا يتفاخر على ذاك بأن أجداده هم من اخترعوا كذا، وأصبحت كلمة «كنا، وكنا» ديباجة في خطاب الشعوب. أجدادكم فعلوا، فماذا فعلتم أنتم؟ كان هذا ماضيكم فأين حاضركم؟ ليست المشكلة في أن تعتزّ الأمم بتاريخها، فالتاريخ هو الذاكرة الجماعية والرصيد الرمزي الذي يمنح الشعوب هويتها ومعناها، لكن المعضلة الكبرى التي تعانيها أمتنا تكمن في أنّها حبست نفسها داخل الماضي، واكتفت بالنظر إلى تاريخها المجيد نظرة تمجيد وتقديس، دون أن تحوّل هذا التاريخ إلى مصدر للعبرة، أو إلى جسر يعينها على فهم واقعها ومواجهة تحديات عصرها والعبور بثقة نحو المستقبل. لقد علّمنا التاريخ ذاته أن الحضارة لا تُورّث، وأن المجد لا يُستعاد بالتغنّي به، بل بالعمل وفق السنن التي أقامته أول مرة: العلم، والعمل، والهوية، فأسلافنا لم يتقدموا لأنهم عاشوا على أمجاد من سبقهم، بل لأنهم واجهوا واقعهم بشجاعة، وأبدعوا حلولًا تناسب زمانهم، واستثمروا معارف الأمم الأخرى. إنّ أخطر ما تواجهه أمتنا اليوم هو تحويل الماضي إلى بديل عن الحاضر، وإلى مبرر للعجز بدل أن يكون دافعًا للنهوض. فالعالم من حولنا يتغيّر بسرعة هائلة، تُقاس فيها قوة الأمم بقدرتها على الابتكار، وعلى استيعاب التحولات العلمية والتكنولوجية، بينما لا تزال كثير من مجتمعاتنا أسيرة النظر المجرد إلى الماضي انبهارًا واكتفاءً. التذكير بالماضي والأجداد العظام يفلح فحسب مع من يعتبر بذلك الماضي ويتخذ منه نبراسًا ويقتبس منه ما يضيء به الطريق نحو المستقبل المزهر، وهذا هو منهج القرآن الكريم، فهو يذكر بتاريخ الأمم السابقة التي هلكت رغم إغراقها في النعم وأوجه التقدم بسبب حيدتها عن طريق الله، يذكر بذلك من أجل الاتعاظ والاعتبار بأن القوة لابد وأن تُساس بالمنهج الإلهي. يذكرنا القرآن الكريم بالتاريخ المشرق والأجداد العظام حتى نسير سيرهم ونحذو حذوهم لا لنقف عند قول الشاعر: أولئك آبائي فجئني بمثلهم، إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ. فالله تعالى يقول في سورة الإسراء: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، وحولها يقول الإمام ابن كثير في تفسيره: «تقديره: يا ذرية من حملنا مع نوح. فيه تهييج وتنبيه على المنة، أي: يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة، تشبهوا بأبيكم، {إنه كان عبدا شكورا}. فالقرآن هنا لم يذكر سلالة نوح بأبيهم ليتفاخروا به ويقفوا عند هذا التفاخر، بل من أجل التشبه به في خصاله وأفعاله وقيامه بشكر المُنعم على ما أنعم به من النعم. النظر إلى التاريخ لا يصلح أن يكون مهجعًا للاستغراق في النوم، وإنما هو منطلق لأن نستلهم من الماضي لإصلاح الحاضر والعبور المتزن الآمن إلى مستقبل مزهر.

738

| 21 ديسمبر 2025

موعد مع السعادة

السعادة، تلك اللمسة الغامضة التي يراها الكثيرون بعيدة المنال، ويظنون أن تحصيلها لا يكمن سوى في تحقيق طموحاتهم ومضامين خططهم، لكن السعادة ربما تأتيك على هيئة لا تنتظرها، قد تأتي فجأة وأنت في لحظة من الغفلة، فتكون قريبة منك أشد القرب، كما لو كانت تلتف حولك وتحيط بك من كل جانب. كثيرًا ما تختبئ السعادة في تلك التفاصيل التي لا تكترث بها، في تلك اللحظات التي تمر سريعة وكأنها حلم. ربما مر عليك تلك الليلة التي تلوت فيها القرآن، فتوقف قلبك عند آية بعينها، فانبعثت من أعماقك مشاعر جديدة، فسالت دموعك على وجنتيك، أو ربما كانت تلك الدمعة الثمينة قد سكبتها في إناء ركعة بجوف الليل، فسرت فيك طمأنينة وسكينة ورقة لم تعهدها، لا تعدل بها شيئًا من لذات الدنيا، ألم يكن ذلك موعدًا لك مع السعادة؟ وربما مر عليك يوم، كنت تقلب منزلك رأسًا على عقب بحثًا عن شيء مفقود، وبينما أنت في حال من اليأس، تتذكر موضعه، أو يظهر لك في موضع لم تتوقعه كأنه يهدئ من روعك قائلًا: «هأنذا»، فتبتسم وتبتسم وتتسع ابتسامتك، ألم تكن هذه اللحظة الرائعة موعدًا لك مع السعادة؟ وذلك الفقير الذي يعاني من ضيق اليد، ربما قضى ليلته مهمومًا يفكر كيف يدبر قوتًا أو شيئًا من أمور المعاش لأهله، وبينما يخرج مجترًا همومه، يكتشف في جيب سترته القديمة ورقات نقدية قد نسيها منذ العام الماضي، فيتحول ذلك الفقر إلى لحظة من الفرح، ألم يكن هذا الرجل على موعد مع السعادة؟ حدثني أحدهم وكان حديث عهدٍ بالزواج أن صديقًا طرق بابه يطلب منه بعض المال، وهو لا يملك في جيبه غير مبلغ زهيد بالكاد يكفيه، لكنه يأبى أن يرد سائله، ويؤثره على نفسه رغم الخصاصة، ثم في نفس اليوم تزوره خالة له جاءت من سفر على غير موعد، لتبارك له وتهنئه، فأعطته مبلغًا من المال، فإذا به يراه نفس المبلغ الذي بذله إلى صديقه بالتمام والكمال لم ينقص منه قرش، فتجلى أمامه ذلك الوعد الإلهي بالعوض، ألم يكن ذلك الرجل على موعد مع السعادة؟ وذاك الذي كان على وشك أن يسقط في يد أعدائه وقد أشهروا أسلحتهم في وجهه، وبينما كان الخنجر يوشك أن يغرس في صدره، إذا به يستفيق فجأة من حلم مزعج، ويكتشف أنه كان مجرد كابوس، فيحمد الله على نجاته باليقظة من ذلك الهلع، ألم يكن وقت نجاته من ذلك الكابوس على موعد مع السعادة؟ وماذا عن تلك اللحظة التي أخذت فيها بيد عجوز هرم، تمشي بصعوبة وتبدو ملامحها تحمل سنوات من التجاعيد، لتسير بها إلى الجهة الأخرى من الطريق؟ ثم ترى تلك الدعوات التي تتدفق منها، والتي تظل تشعرك بالدفء والسعادة، وكأن دعاءها درعٌ لك، ألم يكن ذلك موعدًا لك مع السعادة؟ وكم هي السعادة حقيقية عندما يتمكن من الإصلاح بين زوجين كانا على شفير الفراق، فيكون سببًا في حماية ذلك البيت من الخراب؟ أو عندما يغمره الضحك على فكاهة بريئة تكاد تطيح به على ظهره من شدة السعادة؟ ألا يجد السعادة في تلك اللحظة الصغيرة عندما يقابل طفلة مبتسمة في الشارع، تملأ قلبه بالفرح بلا سبب آخر سوى ابتسامتها الطفولية؟ أليست كل هذه المشاهد مواعيد للمرء مع السعادة؟ السعادة تكمن في كل زاوية، في لمحة صغيرة، في حديث عابر، في ابتسامة، في دعوة، في لحظة طمأنينة، في إنجاز بسيط. نحن الذين نغفل عنها لأننا نبحث عنها في مكان بعيد، ولو أننا فهمنا أن السعادة ليست في ما نمتلكه من أشياء، بل في قدرتنا على الرضا، لتغيرت حياتنا. ليتنا ندرك أن السعادة ليست حلمًا بعيدًا أو حلمًا محجوزًا لمن يسعى للوصول إلى شيء معين، بل هي لحظات متجددة متغيرة متناوبة في كل يوم. السعادة موجودة في القلوب الراضية، وفي الأرواح الطاهرة، وفي الأبصار التي تلتقط جمال الحياة حتى في أصغر تفاصيلها، وما علينا سوى أن نرصد واقعنا بعين القناعة والتفاؤل، نتخلى قليلًا عن النظارة السوداء، فندرك أن مواعيد السعادة لا تنتهي.

717

| 14 ديسمبر 2025

الإسلام منهج إصلاح لا استبدال

يُتهم الإسلام زورًا وبهتانًا بأنه جاء ليهدم الدنيا ويبنيها من جديد، أو أنه جاء ليسبح بالبشرية عكس اتجاه مسارها التاريخي، أو أنه جاء ليتنكر لميراث البشرية بشكل مطلق. إن من يتأمل في المنهج الإسلامي بموضوعية وحيادية، سيدرك بجلاء، أن هذا المنهج قد أُنزل للبشرية من أجل إصلاح ما فسد، وتعزيز ما صلح، مستثمرًا الأصل الذي خلق عليه الناس، وهو الفطرة البشرية السليمة، فهو يعيد الناس إلى أصل هذه الفطرة، لا أن يخلق منهم شخصيات أخرى من العدم. ذلك المنهج لا يعيد تشكيل المنظومة القيمية والأخلاقية للبشر، بل جاء ليعززها ويستبعد ما فسد منها بفعل تلوث الفطرة، ونستطيع أن نفهم ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، فلم ينشئ الإسلام أخلاقًا من العدم، بل جاء لإتمام رصيد البشرية من فطرتها السليمة وفضائلها الأخلاقية التي لم تُلوث، وقد ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «جاء الإسلام وفي العرب بضع وستون خصلة كلها زادها الإسلام شدة، منها: قرى الضيف وحسن الجوار والوفاء بالعهد». ولم يأت الإسلام كذلك لينسف عادات المجتمعات بل ليهذبها ويصلحها، فلم يأت النبي صلى الله عليه وسلم بلباس جديد ليخالف القوم، ولم يشذ عنهم لمجرد أنهم مشركون، بل كان يلبس مما يلبسون، إلا أنه نهى عن بعض المسائل حيال اللباس صيانة للنفس البشرية، كالنهي عن إطالة الثياب تفاخرًا واستعلاءً. كما أنه أبقى على العادات الحسنة وأكد عليها واستحبها، إذ إنها أمور دعت إليها الفطرة السليمة، كتنظيف الأسنان بالسواك، والاستنجاء، وقص الأظافر ونحوه. ولم يأت الإسلام بمنظومة جديدة في العقود والمعاملات بين الناس، بل أجاز ما يتوافق مع مصالح البشر، فمثلا كانت هناك عقود البيع والشراء، وعقود الربا، فأحل البيع والشراء الذي تصلح به أمور معاش الناس ويحقق لهم المنافع المتبادلة دون إضرار، لكنه في الوقت نفسه استبعد عقود الربا لأنها تدمر اقتصادات الدول والأمم كما هو معروف. وفي عقود الزواج كانت هناك أربعة أنحاء، كما بينت السيدة عائشة، فالأول هو ما يجري عليه العمل اليوم، تُخطب المرأة من وليّها ويتزوجها على الصداق أو المهر، وثلاثة كلها مبنية على استساغة الفحشاء، وتؤدي إلى مفسدة ضياع الأنساب وعدم حفظها، فأبطل هذه الثلاثة، وأقر الأول الذي به تحفظ الأنساب ويتحقق مقصود العفاف واستمرار النسل البشري. الإسلام الذي نزل لإعادة الناس إلى فطرتهم الأولى، لم يستهدف القضاء على الحضارات الأخرى في فتح مصر، لم تكن الحرب بين المسلمين العرب والأقباط، لقد كانت المعارك مع المحتل الروماني الذي سام المصريين سوء العذاب، وبعد أن تحررت هذه البلاد من القهر الروماني، استأمن المسلمون الناس على أرضهم وأعراضهم وعقيدتهم، بل أتى القائد عمرو بن العاص بالقساوسة الذين هربوا في الجبال من بطش الرومان وأقامهم على كنائسهم. الإسلام ليس مسؤولا عمن حمله ولم يقم بحقه وأساء إليه، وهو ليس مسؤولا كذلك عن الأفهام الضالة المنحرفة التي كونت أفكارها عن الإسلام من خلال آراء المبغضين والموتورين والشانئين.

633

| 07 ديسمبر 2025

المجتمع بين التراحم والتعاقد

يحكي العالم الموسوعي عبد الوهاب المسيري في أحد حواراته، أنه في طفولته طرقت فتاة بابهم تحمل سلة بها أشياء ترغب في بيعها، فصرفها لعلمه أن مثل هذه الأشياء لا يحتاجونها، فزجرته والدته، فأخذت السلة من الفتاة بثمن أكثر بكثير من قيمتها المستحقة، فأخبرته أن هذه الفتاة ابنة أحد كبار التجار الذين ماتوا. لقد رسّخت هذه القصة في وجدان المسيري فكرة المجتمع التراحمي والمجتمع التعاقدي، وصارت هذه المقولة مكونًا أساسيًا في فكره، ذلك أن فعل الأم كان في حقيقته صدقة تعبر عن التراحم، وأما كونها أخذت منها السلة رغم عدم احتياجها لها، فهو غطاء التعاقد الذي يحفظ كرامة هذه الفتاة، ويجنبها الشعور بالتسوّل. المجتمع التعاقدي يستند إلى القوانين المكتوبة التي تحقق المصلحة الفردية والجماعية، وتكون واضحة ومحددة، وهذا ما أخذه شكل المجتمعات الحديثة، فتتعامل وفقا لثنائية الحقوق والواجبات. بينما المجتمع التراحمي يستند إلى القيم الدينية والأخلاقية، فهي على الرغم من وجود قانون يحكمها وينظم العلاقات بين أفرادها، إلا أنه ليس المحرك الوحيد لسلوكيات الأفراد في التعامل مع الآخرين، إذ هناك القيم والأعراف والتقاليد والروابط العائلية والقبلية ونحو ذلك، وهي ليست قوانين مكتوبة بل تستنبطها المجتمعات كثقافة ووعي وميراث قيمي وترجمة لما ينبغي أن تكون عليه المشاعر الإنسانية. هذا التصنيف يمثل حالة التباين بين المادية والروحية، بين النص القانوني المجرد وروح النص القانوني، وإنك لترى مثلا في أوروبا تأثير الأوضاع التعاقدية - في الأسر غير المحافظة- على الفتاة التي تكبر وتصبح مسؤولة عن نفسها وتنفصل عن الأسرة وترتبط بها عبر الزيارات والمناسبات، فالأسرة لم تعد ملزمة بها. لكن في الأوضاع التراحمية في المجتمعات التقليدية في الوطن العربي والإسلامي، تجد الفتاة الرعاية والكفالة الكاملة قبل زواجها، بل حتى بعد زواجها تصبح الأسرة ملاذا تأوي إليه الابنة في أي وقت. في المجتمع التراحمي يُنصر المظلوم المستجير لا لشيء إلا بدافع المروءة والشهامة حتى وإن تحمل المجير ضررًا جراء إجارته، بينما في المجتمع التعاقدي يفعل المجير فقط إذا كانت الإجارة تحقق مصالحه وإلا فلا. في المجتمع التراحمي يستشعر الجار المسؤولية الاجتماعية تجاه جيرانه، فيتفقد أحوالهم، يعيدهم في المرض، ويشاركهم الأفراح والأتراح، ويطعمهم أحيانا مما يطعم، بينما في المجتمع التعاقدي المبني على نصوص القوانين المجردة، يتعامل الجار مع جاره على أساس تمسكه بحقوقه المتعلقة بكفالة عدم إزعاجه من قبل الجار بالأصوات العالية، أو عدم وقوف سيارة الجار أمام منزله أو في طريقه ونحو ذلك. ولا شك أن مجتمعاتنا تأثرت نسبيًا بطوفان العولمة ومخرجات الحداثة التي طغت فيها المادة على الروح، حيث طغت لغة المصالح والنفعية في المعاملات على قيم التسامح والإيثار والتضحية والبذل ونفع الآخرين بلا شرط أو مقابل، حتى أصبح في عرف السوق أن التاجر الناجح هو الذي يخلّي العاطفة والإنسانية في تعاملاته التجارية والمالية. وصرنا نرى من ينفق الملايين على حملاته الدعائية بينما يضن بالقرش على المحتاج، بل كثير منهم إذا أقدم على البذل والصدقات فعلها لتخدم فقط الدعاية التي يقوم بها لنفسه أو لمؤسسته. المجتمع الذي يوصف بالصحة هو ذلك المجتمع المازج بين التعاقد كدستور منظم، وبين التراحم الذي يتخطى حدود الحقوق والواجبات، ويترجم المنظومة الأخلاقية والقيمية والإنسانية، وهو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر)، فهو أبلغ وأوقع تعبير عن المجتمع التراحمي، الذي يرتقي فيه الإنسان ويتعامل بما يليق بهذه الخلقة التي كرمها الله عز وجل {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

711

| 30 نوفمبر 2025

عندما تتحكم العاطفة في الميزان

في مدينة نوتنغهام الإنجليزية، يقبع نصب تذكاري لرجل يرتدي ملابس تشبه ملابس العصور الوسطى، ويمسك بيده قوسًا وسهمًا، واقفًا في وضعية قتالية واضحة. هذا التمثال لشخصية شهيرة مثيرة للجدل من حيث حقيقة وجودها، ومن حيث صحة الروايات المتعلقة بها، وهي شخصية روبن هود. تعتبر هذه الشخصية علامة بارزة في الأدب الإنجليزي، وهي من حكايات التراث الشعبي التي تناقلتها الأجيال عبر قرون. روبن هود شخص عاش في القرون الوسطى وهو خارج عن القانون ويقوم بسرقة الأثرياء وتوزيعها على الفقراء، على الرغم من أن بعض الباحثين يشكك في حقيقة هذه الشخصية، وبعضهم كذلك يشكك في كونه فارسًا شهمًا نبيلًا ويقول إنه كان قاسيًا مستبدًا يستمتع بالدماء. لكن دعونا نسير وفق السياق الأشهر للقصة وهو كونه فارسًا نبيلًا يسلب أموال الأثرياء والإقطاعيين ويوزعها على الفقراء. من يشاهد الأفلام العديدة التي أُنتجت حول شخصية روبن هود، والشخصيات المماثلة في الدراما العربية، من حيث منحى السرقة من أجل الفقراء، غالبا ما يتعاطف مع هذه الشخصية، فهو ينظر إلى جانب واحد من القصة وهو تحقيق الفائدة للفقراء، لكنه يغفل عن الجانب الآخر وهو سرقة الأثرياء وسلبهم أموالهم، وكأنّ الغنى والثراء جريمة، وكأن السرقة سبيل مشروع لتحقيق العدالة الاجتماعية، مع أن هناك وسائل أخرى كان يمكن أن يفيد بها الفقراء لمواجهة شظف العيش، كجمع التبرعات مثلًا أو تعليمهم حرفة يتكسبون منها أو توفير بيئة أخرى لهم تستوعبهم، كمساعدتهم في الهجرة إلى أرض أخرى يجدون فيها رغد العيش. هذا الاتجاه النفسي للمتلقي الذي يتعاطف مع السارق الذي يسلب الغني ويعطي الفقير، يكون حاضرًا كذلك لدى البعض عند مشاهدة فيلم أو قراءة رواية أو حتى معاينة حدث واقعي، يتضمن علاقة عاطفية بين امرأة متزوجة ورجل يمنحها المشاعر التي حرمت منها مع زوجها الجامد المادي النائي عن الرومانسية، والذي لا يحسن الغزل والتدليل. كثيرًا ما يحدث التعاطف مع هذه الزوجة، ويلتمس المتلقي لها العذر بسبب إهمال الزوج، والذي يشعر المتلقي بالسخط نحوه، مع أنه في حقيقة الأمر قد ظُلِم، مع أنها بالأساس كان يمكن أن تفارقه بشكل رسمي إذا رأت استحالة العشرة معه. الأمر شبيه برياضة مصارعة الثيران أو «لا كوريدا تي توروس»، ذلك التقليد الذي اشتهرت به عدة دول، أبرزها إسبانيا على مدى قرون، حيث يتعاطف المشاهد مع البطل الشجاع الذي يستفز الثور ويثير غضبه، يوجّه الحربة إلى جسده مرات حتى يستنزف قوته إلى أن يسدد له رمية الموت، وسط هتاف الجماهير، مع أن حقيقة المشهد هو الخروج عن الإطار الإنساني وتعذيب الحيوان بهذه الطريقة البشعة، ومع ذلك يتعاطفون مع الإنسان القاسي الذي يشتهر ويسلي الناس بهذه الوحشية. هذا التعاطف السلبي يعد إخلالًا بميزان العدل، واستحسانًا للمساوئ بتسويل الهوى، والذي يمكن أن يحول أي عمل قبيح إلى حسن، ويؤصل مفهوم الغاية تبرر الوسيلة، والقفز على حتمية مشروعية الوسائل ومشروعية الغايات معًا. فانطلاقًا من هذا المنحى السلبي يمكن أن يُستساغ قتل الظالم – حتى وإن كان ظلمه لا يستوجب القتل- بحجة أنه دفاع عن المظلومين، فتتحول الحياة إلى غابة، وهذا ما لا يقوله عاقل. وبهذا المنطق المعيب أيضًا، سنجد من يتعاطف مع الوجود الصهيوني في فلسطين، ويسلب عنه صفة الاحتلال، انطلاقًا من التعاطف مع تشرد وتشرذم هذه الطائفة في دول العالم وأن من حقهم أن يكون لهم وطن يجمعهم. أصحاب هذا الاتجاه النفسي مدفوعون بغلبة العاطفة وطغيانها على المنطق والعقل لديهم، أو ربما تلامس القصة أو الحدث شيئًا من أحوالهم وأزماتهم، فيتحولون بشكل تلقائي إلى استحسان الخطأ، لا لشيء إلا لأنه يسد ثغرة نفسية لديهم. العاطفة المحضة لا تصلح محركًا أو موجهًا لاتخاذ المواقف إلا إذا وافقت العقل، فالعقل قد أنعم الله تعالى به على الإنسان ليدرك الحقائق، وجعل الشرع المنزل موجها ومرشدا لذلك العقل ومنظمًا لعمله نظرًا لاختلاف العقول في قدراتها واستيعابها ونسبة إدراكها وطريقة عملها.

1188

| 23 نوفمبر 2025

ارتباك النجاة.. حرب ما بعد الحرب في غزة

بعد توقف الحرب الغاشمة الشاملة التي شنها الاحتلال الصهيوني على قطاع غزة، شرع العالم يلتقط أنفاسه المتهدجة، بعد عامين من نزف الإنسانية على مذبحة العصر، وبدأت الأنظار تتجه لرايات السلام التي يؤمل لها أن ترفرف فوق غزة. ولئن توقفت الحرب الشاملة وعاد الاحتلال إلى ما كان عليه قبل الحرب من عمليات عدائية محدودة من حين لآخر، إلا أن توقف أصوات القصف لا يعني أن الحرب توقفت، بل بدأت حرب أخرى صامتة لا ترصدها الكاميرات، ولا تتناولها وسائل الإعلام، على الرغم من أنها أشد ضراوة. إنها حرب ما بعد الحرب، تلك التي يخوضها الإنسان في غزة داخل نفسه التي اهتزت، وفي أعماقه التي تهشمت، حرب استعادة الروح وإعادة ترتيب النفس والبحث عن ملامح الذات التي بدلتها ضغوط الحرب وترقب الموت في كل لحظة وفقد الأحبة وانعدام سبل الحياة. أهل غزة إبان الحرب، عاشوا سكرة الرغبة في النجاة، كل مشاعرهم وحواسهم التفت حول أمنية أن تنتهي الحرب ليبدأوا الحياة، ولكن ما إن توقفت الحرب حتى أفاقوا على حياة أخرى وواقع مختلف، لم يعد المرء منهم يتذكر نفسه السابقة، ولم يعد يعرف إلى أي وجهة يسير، الوجوه قد أنكرت الوجوه، والقلوب قد أنكرت القلوب، وربما يكون أدق توصيف لما عليه الحال في غزة هو «ارتباك النجاة». إنها حرب لا تُرى، فكما خلّفت الحرب أطلالا من الطوب والحجر، خلّفت كذلك أطلالًا من البشر، بقايا من البشر، أطفال قد نُزعت منهم طفولتهم، وشباب قد شابوا قبل الأوان، ونساء ثكالى أنهكتهن المفاضلة بين الخيارات المستحيلة، وقلوب تعلمت أن تتوقع الأسوأ دائمًا. اختلطت مشاعر النجاة لدى أهل غزة بما يعرف في علم النفس بـ «ذنب الناجين»، فما من بيت إلا وقد ذاق مرارة رحيل الأحبة، قد ذرفوا الدموع حينها وتشققت قلوبهم على من فقدوا، لكن ما إن انتهت الحرب حتى بدأت مظاهر هذه الفوضى النفسية، وكأنهم أذنبوا بالنجاة من الموت بينما لم يفلت منه أحبتهم، هذا الشعور الجاثم يضرب جذور الوعي للناجي، ويحول النجاة التي فرح بها فور توقف الحرب إلى عبء ثقيل. الخوف في غزة أصبح حالة مستقرة مستمرة، فالرجل الذي اعتاد الخوف على أسرته وفشل في حمايتهم من القصف والدمار، أصبح أسيرًا للخوف من فقدان القدرة على حمايتهم مجددًا، والمرأة التي كانت تستيقظ على صوت القصف غدت تستيقظ على أسوأ الكوابيس، والطفل الذي كان يصرخ كلما سمع دوي الانفجارات، غدا يخاف من هدوء الليل. أحد جوانب معاناة حرب ما بعد الحرب، أن سكان غزة صاروا بمواجهة أسئلة لم تكن تداهمهم بهذه القوة إبان الحرب، فكيف يعيشون بعد كل هذا الموت، وكيف سيعيشون في حياة فقدت معاييرها، وكيف سيعود كل شيء إلى سابق عهده؟ هناك جيلٌ تشكل وعيه وامتلأت ذاكرته البيضاء بمشاهد الموت والدمار طيلة عامين، هي أول ما وعى وأول ما اكتنزته الذاكرة والوجدان، كيف سيعيش هذا الجيل؟ وكيف سيكون مستقبله؟ التفكير في هذه المسألة حقًا يدمي القلب نعم أهل غزة أهل صلابة قد ألفوا المحن، لكنهم في النهاية بشر، ولا يمكن أن يخوضوا هذه المعركة وحدهم، لذلك ينبغي أن يكون هناك موقف عربي إسلامي داعم يتجاوز المواقف الرمزية. وكما أن هناك تفكيرًا في خطط لإعادة الإعمار، يتعين أن تكون هناك أيضا خطط لاستعادة إنسان غزة. ينبغي تأسيس برنامج عربي إسلامي موحد لدعم الصحة النفسية لأهل القطاع، بإرسال فرق من الأطباء النفسيين وأخصائيي الإرشاد النفسي، وإنشاء مراكز علاج متخصصة للصدمات النفسية، وتأمين منح تدريبية لأخصائيين من أهل غزة في مراكز عربية متقدمة ليعودوا بخبراتهم إلى مجتمعهم للإفادة في هذا الجانب، كما يمكن تأسيس صندوق مستقل للإنفاق على برامج الدعم والتأهيل النفسي لسكان القطاع. تبعات الحرب بشعة وآثارها النفسية الصامتة لا تقل عن نتائجها المرئية، تحتاج إلى وقفة عربية وإسلامية جادة وقوية، ووعي يتخطى المنظور بالعين المجردة وينفذ إلى تلك المعاناة الصامتة ويسلط الضوء عليها ويتعاطى معها.

684

| 16 نوفمبر 2025

عندما يصبح الجدل طريقًا للشهرة

عندما صنّف المفكر خالد محمد خالد كتابه المثير للجدل «من هنا نبدأ»، لم يفلح في بيع نسخة واحدة منه، وبقي الكتاب مغمورًا لا تمتد إليه يد، فاهتدى إلى حيلة تمكنه من تحريك سوق الكتاب، فعمد إلى صديقه محمد حسن البري، وطلب منه أن يكتب مقالًا يتضمن نقدًا لاذعًا للكتاب. يقول الأستاذ خالد محمد خالد في مذكراته: «ثم قلت له (أي للأستاذ البري): اذهب إلى مسكنك واكتب مقالا في نقد الكتاب، ولا تترك كلمة وقحة إلا أقحمتها عليه»، وطلب منه أن يكون عنوان المقال: «كتاب أثيم لعالم ضال». وبالطبع تساءل صديقه عن مغزى هذا الطلب الغريب، لكنه قد اتضح لديه الأمر بعد نشر المقال، حيث تداعت الأقلام لنقد الكتاب المثير للجدل في الصحف، وطالب الأزهر مصادرة الكتاب والتحقيق مع المؤلف، فكانت النتيجة أن كل نسخ طبعة الكتاب قد نفدت، ونال الكتاب شهرة واسعة. المغزى من عرض هذه القصة التي يحسب لصاحبها شفافيته وشجاعته في هذا الاعتراف، أن بعض الناس يصنعون الفوضى ويثيرون الجدل عمدًا من أجل جذب الأنظار أو تثبيت أوضاعهم أو الوصول إلى أهدافهم. لقد أصبحت الشهرة عملة متداولة تفوق في قيمتها الحقيقة والمضمون في كثير من الأحيان، حتى لو كانت على حساب المبادئ والمصداقية، ومع الأسف الشديد يساعد على سلوك ذلك الاتجاه أن الأضواء لا تُسلط غالبا على أصحاب المواهب والإنجازات، بل على من يجيدون فن الصخب وإثارة الجدل. يذكر هذا بالقصة الشهيرة التي وردت في كتب التراث، أن الحُجاج بينما يطوفون بالكعبة ويغرفون الماء من بئر زمزم قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر، فما كان من الحُجاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، فخلّصه الحراس منهم، وجاءوا به إلى الوالي فقال: لم فعلت هذا؟ قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس فيقولون: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم. ومن حيث المبدأ لا يذم الحوار وتبادل الآراء التي تحرك الفكر، لكن ما نشهده في هذا العصر ليس جدلًا فكريًا بالمعنى التقليدي، بل هو استعراضات رخيصة للغرابة والخروج عن المألوف وكسر الخطوط الحمراء، كالسخرية من القيم الدينية والأعراف الاجتماعية، فقط ليتصدر العناوين، وتتحول مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية إلى ميادين حرب بين مؤيد ومعارض حول الموضوع الذي أثار الجدل، ليزداد صاحبه شهرة وتبلغ سيرته الآفاق التي لم يصل إليها، وهو المستفيد الأكبر من هذا الصخب، والضحية هي تلك الجماهير العريضة التي لا يميز أكثرها بين الغث والسمين. لكن هذه القصة توقفنا على مسألة أخرى متعلقة بالأصل، وهو أن مثيري الجدل لا يتحملون وحدهم مسؤولية هذه الفوضى، بل يتحملها كذلك الإعلام الذي يشهره عن طريق التناول والطرح بحجة الحرية في عرض وتعدد الآراء، ويتحملها كذلك الجمهور الذي يردد تلك الموضوعات المثيرة للجدل إلى أن تحتل شهرة واسعة. وكثيرًا ما نجد على مواقع التواصل أصحاب أقلام مجاهيل لا يسمع بهم أحد، يعمدون إلى الخوض في مسائل شائكة يخوضون فيها بأفهام ضالة مغلفة بمعسول الكلِم، ويتخذون إزاءها مواقف غير مسبوقة، تستفز الآخرين فيندفعون إلى الرد عليه، ونشر ما يكتب لهذا الغرض، ويتسببون بذلك في ذيوع اسمه وأفكاره. لذلك قيل «أميتوا الباطل بالسكوت عليه»، فالتجاهل والإعراض عن راغبي الشهرة عن طريق إثارة الجدل وسيلة ناجحة لقطع الطريق أمام تلك الشهرة الزائفة التي يقتات أصحابها على إثارة البلبلة والشكوك لدى الجماهير وضرب ثوابتهم الدينية والوطنية والمجتمعية. السعي للشهرة لا يعيب صاحبه طالما أنه يبغي وصول إنتاجه الهادف إلى الجماهير واتخذ لذلك طريقًا نظيفًا، لكن المذموم منها ما يقوم على إشعال النار في البيوت الآمنة لجذب أنظار المارة، لكن جرت العادة أنها في النهاية تحرق صاحبها.

1290

| 09 نوفمبر 2025

مِن أدوات الصهيونية في هدم الأسرة

ما من ريبٍ أن الحلم الصهيوني لم يكن يوماً محصورًا في إقامة كيانٍ على بقعة من الأرض، بل في بسط النفوذ على العالم بأسره، وإخضاعه لمنظومة فكرية واقتصادية وسياسية تُمكّنهم من التحكّم بمسار البشرية. تتغذّى هذه المنظومة من تسلّطها على المؤسسات والمنظمات الدولية، ومن وجودها الفاعل في دهاليز السياسة لدى الدول الكبرى، فضلًا عن سيطرتها على الاقتصاد والإعلام العالميين. ولأن الأسرة هي نواة المجتمع، والحلقة التي تربط الفرد بجماعته، فقد أدرك القائمون على المشروع الصهيوني أن الطريق إلى إضعاف الأمم يمرّ عبر بوابة الأسرة. ولهذا كان من مآربهم الكبرى «هدم كيان الأسرة وتفكيك روابطها». ولن يكون مستغربًا أن نقرأ في «بروتوكولات حكماء صهيون» قولهم: «سوف ندمر الحياة الأسرية بين الأميين ونفسد أهميتها التربوية». وعلى الرغم من تشكيك البعض في نسبة تلك البروتوكولات إلى الصهاينة، فإنّ الواقع يشهد بتحقّق كثيرٍ مما ورد فيها، بما لا يدع مجالًا للشك في أصالة المنهج الصهيوني القائم على التخريب الممنهج. من الأدوات التي اتخذتها الصهيونية لهدم الكيان الأسري، إعادة تعريف الأسرة، فالأسرة مؤسسة قائمة على اجتماع رجل وامرأة في ظلّ عقد شرعي، يلتزم فيه كل طرف بحقوقه وواجباته، ويثمر هذا الاجتماع ذريةً صالحة تحفظ بقاء المجتمع. لكن في أدبيات المنظمات والهيئات العالمية التي تمسك الصهيونية بخيوطها، يُطرح تعريف مغاير للأسرة، يقدم في ثوب حقوق الإنسان، ويتم الترويج لأن الأسرة التقليدية فكرة متخلفة غير لائقة بالمجتمعات الحداثية. تحت هذا الغطاء، صار يُعترف بما يسمى الأسرة المكوّنة من «ذكر وأنثى في غير زواج، أو اجتماع ذكر وذكر، أو اجتماع أنثى وأنثى». ومن خلال مؤتمرات السكان والتنمية التي تُعقد في العالم الإسلامي، يُعاد تشكيل المفهوم من جديد، لتُقوّض الأسس الشرعية التي صاغها التشريع الإلهي. ومع الأسف، بدأت تلك الأفكار تترك أثرها في واقع العديد من البلدان العربية والإسلامية، حتى غدت العلاقات خارج إطار الزواج ظاهرةً مقلقة. كما عملت القوى الصهيونية عبر أذرعها الإعلامية على تعقيد الزواج، وتأخير سنّ البنات، وتزيين حياة اللهو والمتعة بلا ضوابط، ثم جاء الترويج لموانع الحمل وتبرير الإجهاض ليكتمل مشهد الانهيار الأخلاقي. كما دفعت الصهيونية بعض الأنظمة العربية والإسلامية إلى سن قوانين هدامة للأسرة، بإيجاد مشكلة من الفراغ تتعلق بتقييد تعدد الزوجات بدعوى المحافظة على حقوق المرأة والأبناء، وتصويره على أنه ظلم للمرأة، مع أنه كان أمرًا عاديًا في البيئة العربية، ما انعكس بشكل سلبي على أوضاع الأسرة، وجعل بعض الرجال يقيمون علاقات خارج إطار الزواج. وبلغ من تضخيم هذا الأمر لدى المرأة، أن بعض النساء يرون في خيانة أزواجهن لهن أهون من الزواج بأخريات. إضافة إلى ذلك، عملت الصهيونية من خلال أذرعها الإعلامية وزحفها الفكري الناعم، على تثوير المرأة وإشغالها بقضايا عبثية، فأقنعتها من خلال طوفان الغريب بفكرة الحرص على المساواة المطلقة بالرجل، مع أن المساواة المطلقة أكبر ظلم للمرأة، وهذا ما جنته المرأة الغربية بالفعل عندما خرجت بعد الثورة الصناعية إلى مزاحمة الرجال في سوق العمل، فأصبح لزامًا عليها أن تنفق في البيت كما ينفق الرجل، وأن تكد كما يكد الرجل، وصارت تعرق من أجل غيرها رغم ضعف تكوينها الجسدي، وفقدت كثيرًا من دورها التربوي في المحضن الأسرى تحت دعوى إثبات الذات، وهذا عين ما أرادوه بالفعل. بل تجاوز العبث في ذلك إلى تجريم وسائل التأديب الشرعي للأبناء، فصُنّف الضرب التربوي - الذي وضع الإسلام له ضوابط - في خانة «العنف الأسري»، لينشأ جيلٌ متمرّد لا يعترف بسلطة الوالدين، حتى رفعت بعض الأبناء دعاوى قضائية ضد آبائهم وأمهاتهم. قد يتهمنا البعض بأننا نُسرف في تبنّي نظرية المؤامرة، لكن شواهد الواقع أبلغ من كل دفاع، وليس الأمر ظنونًا أو تخمينات، فالمذكرات الغربية نفسها تزخر باعترافات قادة وزعماء عن النفوذ اليهودي وعن دوره في الحروب والانقلابات وتفكيك الدول. إنه مشروع متكامل، يَستهدف الإنسان في عقيدته وأسرته وأخلاقه، ليُفرّغ الأمة من مضمونها ثم يُحكم قبضته عليها.

1005

| 02 نوفمبر 2025

بين العلم والضمير

عندما تحول العلم من وسيلة لخدمة البشرية إلى ماردٍ مارقٍ متفلّت يسير بمنطقه الخاص دون الالتفات إلى الإنسان كروح وجسد وحقيقة ومعنى، حينها أدركت البشرية حجم المأساة التي تعيشها في عصر الحداثة. الحضارة الغربية المذهلة التي لا نستطيع إنكار جوانبها المضيئة، بلغت من الذكاء ما جعلها تفتح أبواب الكون، لكنها على الرغم من ذلك أغلقت قلب الإنسان، وكأن الجنس البشري تقلص وجوده حين تمدد علمه، تآكل فيه المعنى في الوقت الذي اتجه لفك أسرار المادة. العلم الغربي صار مأزومًا عندما نزع مضمونه الحداثي عن المعرفة ثوبها الأخلاقي، وجعل الإنسان تابعًا لصنم التجريب، وعندما فصل الحقيقة عن القيمة، فتحول التقدم إلى آلة عمياء تدهس الطبيعة والروح. عندما ألقيت القنابل النووية على هيروشيما ونجازاكي، لم تكن تلك اللحظة لحظة انتصار علمي للحضارة الغربية، بل لحظة سقوط أخلاقي مروّع، لحظة غير فيها الإنسان المعادلة، فبدلا من أن تخدم التجربة الإنسان، صار الإنسان جنسًا مُستعبدًا يخدم العلم وتجاربه خدمة العبد لسيده. ثم جاءت الثورة الصناعية لتكشف وجهًا آخر للتوحش المقنّع بالعقل، فبينما تضاعفت المصانع، تناقصت المساحات الخضراء، وارتفعت مداخن الإنتاج كأنها شواهد على قبر الطبيعة. احتبست الأرض أنفاسها، وارتفعت حرارتها، وبدأت الكوارث البيئية تتوالى كنبوءات غاضبة من كوكب أنهكه الجشع. ومع ذلك، لا يزال الغرب يتعامل مع الأزمة كأمرٍ إحصائي، لا كجرحٍ أخلاقي. وفي معامل الهندسة الوراثية، يواصل الإنسان محاولاته في مضاهاة الخالق، يعبث بالخلايا والجينات، يصنع طعامه من الخطر، ويستبدل بالنظام الإلهي معادلات كيميائية. هذه النباتات المعدّلة وراثيًا، التي تُزرع في حقول الاقتصاد، تُثمر في أجساد البشر أمراضًا كامنة، وتُعلن عن زمنٍ جديد: زمن الإنسان المصنع، لم يعد الإنسان يكتفي بتغيير العالم من حوله، بل مدّ يده ليسعى في إعادة تشكيل نفسه، دون أن يعرف إلى أي مصير يركض. يرى إدغار موران، عالم الاجتماع الفرنسي، أن الحداثة الغربية دخلت طور الهمجية العقلانية، حيث صارت الوحشية تتخفّى في ثياب التقدّم. إنّها همجية لا تُسفك فيها الدماء فحسب، بل تُسلب فيها المعاني. فالإنسان الذي كان يقيس الأشياء بالضمير، صار يقيسها بالمنفعة؛ والذي كان يسعى للحق، صار يسعى للربح؛ والذي كان يسأل «لماذا؟» صار يسأل «كيف؟». والمفارقة أن هذا الانفصال بين العلم والقيم لم يحرر الإنسان كما زُعم، بل كبّله بصورة جديدة من العبودية؛ عبودية التقنية والاستهلاك. فالعقل الذي أراد أن يكون سيد العالم، صار خادمًا للآلة التي صنعها. الإنسان الحديث يعيش بين أدواتٍ تراقبه، وأجهزةٍ تُبرمِج رغباته، حتى غدا الكائن الحر الذي حلمت به الحداثة رقمًا في معادلة السوق. ولا يفهم من نقد الحضارة الغربية أننا ندعو لرفضها جملة، أو الانغلاق دونها، فالإسلام لم يأت لهدم الحضارات، وفي المسار التاريخي للحضارة الإسلامية العربية كانت الأمة تفيد وتستفيد من غيرها من الحضارات الأخرى. لكن الغرض من هذه الكلمات إطلاق صيحة تحذير في تعاطينا مع الحضارة الغربية، فمن الخطأ الجسيم أن نستلهم من الغرب تجربته بحذافيرها بكل مضامينها دون أن نزنها بميزان القيم. إن الغاية من هذا النقد هي أن نحذر من الانزلاق وراء التجربة الغربية بكل تفاصيلها، فليست النهضة هي أن نكرر طريق الآخرين، بل أن نبني طريقنا بما يحفظ الإنسان كغاية لكل علم، فالعلم الذي ينفصل عن الضمير يُفقد معناه، ويغدو وبالًا على صاحبه. لقد تسربت إلى عالمنا العربي فكرة خطيرة تقول إن العلم لا يحتاج إلى قيم، ولا يحتاج إلى ضمير، وأن الدين عقبة أمام التقدم. وهي فكرة أثبت التاريخ بطلانها، إذ لم ينتج عنها سوى أزمات بيئية، وأسلحة إبادة، وتوحش حضاري مغلف بالعقل. إن العلم بلا ضمير يجرّ العالم إلى الهاوية، أما العلم المقرون بالقيم فهو الذي يسمو بالإنسان ويرفع شأنه. وبين هذين الطريقين تقف الإنسانية اليوم على مفترق خطير.

1041

| 26 أكتوبر 2025

اللغة العربية وإكسير الخلود

ما أشبه اللغة بالجسد، تنمو كما ينمو، وتذبل كما يذبل، وتمر بذات مراحله في التطور، تولد، وتشب، ثم تشيخ، وبعدها تدلف إلى أحد مصيرين: إما أن تضمحل وتتلاشى، وإما أن تنقلب على ذاتها فتخرج من رحمها لغات أُخَر كأنها ولد خرج من صلب أبيه. اللغة اللاتينية التي صدحت بها روما وملأت بها أسماع البحر المتوسط، كانت في يومها لسان العلم والدرس ثم انكمشت حتى غدت لغة متاحف، لم تمت في صمت، بل تناسلت، فانبثقت منها مذاهب لغوية، الإيطالية والفرنسية والرومانية والإسبانية والبرتغالية. الفرنسية التي يُتحدث بها اليوم ليست هي ذاتها الفرنسية التي تحدث بها فرسان الحملات الصليبية الأولى، والألمانية الحديثة ليست هي الألمانية التي تحدث بها آباء الجرمان، والإنجليزية لم تُبْقِ على وحدة بين لسان البريطاني والأمريكي والأسترالي إلا كما تُبقي الغصون المتفرقة من الشجرة الواحدة على أصل بعيد، فجميعهم أغصان شتى لأصل غائر، لا يتفق لسانهم. وحدها اللغة العربية قد شقت لنفسها سبيلًا آخر، ومصيرًا مختلفًا، وكأنها أبت الوصول إلى سن اليأس الذي تأخذ فيه أخواتها في التداعي والانشطار، والسر - لا ريب - في ذلك الكتاب المنزل من فوق سبع سماوات بلسان عربي مبين، أنزله الله بهذا اللسان وجعله مادة حياة له، فمهما اختلفت لهجات العرب في المشارق والمغارب، ظلت العربية الفصحى هي الخالدة المهيمنة، هي لغة الصلاة والعلم والدراسة والبحث والتأليف، فلن نغلو إن قلنا بأن العربية لم تعصمها الطبيعة وإنما عصمها التنزيل، ولو تُركت لعوامل الزمن الطبيعية لأصابها ما أصاب أخواتها. عندما أشرقت شمس رسالة الإسلام، لم يحتفظ بالعربية لغةً لقوم، بل رايةً لأمة، غدا الانتماء لها عقيدة وثقافة لا عرق ولا جنس، وصار الخطاب لأصحاب اللسان العربي خطابًا للأمة بأسرها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «يا نعايا العرب، يا نعايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية»، يقصد بالعرب الأمة بأسرها. عندما دخل الأعاجم الإسلام احتفوا بالعربية وتعلموها فصارت بابهم إلى العلم ومفتاح الدين ومركب الفهم، بها وصلوا إلى القرآن وحصلوا علومه، فصنفوا الكتب على اللسان العربي وتناقلت الأجيال علومهم. قارن بين العربية وغيرها ترى العجب، فكتب الغرب القديمة لا يُقرأ منها اليوم شيء إلا بمعاجم تُفسر لغتها، لأن اللسان الذي كُتبت به تلك الكتب، قد مضى زمانه، وخلفه لسان آخر. أما العربية، فيقرأ القارئ اليوم كتب الجاحظ وابن قتيبة كما يقرأ الصحيفة اليومية، لا تثقل عليه مفرداتها، ولا تستغلق عليه عباراتها. وسبب ذلك، هو هذا الكتاب العزيز، الذي أمسك اللغة بيدٍ من نور، فجعل أجيال العرب من العصر الأول إلى اليوم، يتحدث بعضهم إلى بعض وإن فرقت بينهم مئات السنين. ولقد نشأت علوم ما كانت لتنشأ لولا هذا القرآن، فالنحو وُضع خشية اللحن فيه، والصرف لضبط ألفاظه، والمعاني والبيان والبديع لتذوق إعجازه، والتفسير لفهمه، والحديث لحمله، والفقه لتطبيقه، فكانت علوم الإسلام كلها دائرة حول هذا الكتاب، فكان القرآن سببًا في اتساع العربية وتعميقها، لا مجرد حامٍ لها من الضياع. وإنك لترى أثر القرآن في أساليب البلغاء والأدباء، حتى كأنهم يُحاكونه، أو يتشبثون بظلاله، من معاني الزهد والجهاد والموت والحياة، والعدل والقدر والمصير. قد أدرك ذلك أعداء القرآن، أرادوا ضربه من خلال ضرب وعائه وهو اللغة العربية، فأطلقوا الدعوة تلو الدعوة: الدعوة إلى العامية، الدعوة إلى اللهجات، الدعوة إلى كتابة العربية بالحرف اللاتيني، والدعوة إلى تفكيك القواعد والتهوين من شأن النحو وتبسيط الصرف لتفريغ اللغة من جوهرها. اللغة العربية لا تواجه خطر التلاشي كما واجهته أخواتها، وإنما تواجه خطر التهميش المتعمد والقطيعة المفتعلة بينها وبين أبنائها، يُراد لها أن تُنسى عن طريق إخماد صوتها في النفوس وتطويقها باللهجات وتحنيطها في الكتب. يُراد لها أن تكون لغة تراث لا لغة حياة، لكنها لن تطفأ ما دام القرآن يتلى، ذلك القرآن الذي منحها البقاء وكان لها إكسير الخلود.

480

| 19 أكتوبر 2025

حماس ونتنياهو.. معركة الفِخاخ

في الوقت الذي كان العالم يترقب رد حركة حماس على مقترح ترامب، كان نتنياهو يزهو ويتفاخر بأنه قلب الطاولة على المقاومة. ذلك لأن بنود المقترح جاءت مجحفة ومنحازة للطرف الإسرائيلي وتحقق طموحات نتنياهو، فقد اطمأن رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى أنه قد نصب الفخ للمقاومة، فقبولها سوف يعد انتصارًا له ويحقق أهدافه، ورفضها يعني أيضًا تحقيق أهدافه ولكن عن طريق استئناف الحرب. رأى نتنياهو أنه حشر حماس في الزاوية، ففي حال رفضها ستظهر على أنها لا تعبأ بشعب غزة وتغلّب شأنها الخاص، كما أنها حال رفضها سوف تكون ضربة للوساطة العربية، وقطعًا سوف يكتسب الاحتلال الإسرائيلي شرعية جديدة من أمريكا في استمرار العدوان على غزة، ولكن بصورة أكثر ضراوة، وهو ما أكده ترامب نفسه عندما أنذر الحركة وحدد لها سقفا زمنيًا للرد. كذلك سوف تفقد المقاومة نسبة كبيرة من تعاطف شعوب العالم، وتكون في النهاية هي المسؤولة عن استمرار المجازر، هذه هي صورة الفخ الذي نصبه نتنياهو للمقاومة. وبين توقّعات القبول التام أو الرفض الصريح، جاء بيان الحركة مخيبًا لآمال العدو، ومتجاوزًا لسقف طموحات الصديق، حيث اتسم بذكاء سياسي يوازن بين مواجهة ضغط الواقع وتحقيق المكاسب. الخطة التي كانت عبارة عن إنذار للاستسلام أكثر من كونها مفاوضات، قد حولها رد المقاومة إلى إعلان مبادئ ومسار تفاوضي مبني على عدم تقديم تنازلات بالمجان، ويبدأ من الأمر الأهم الذي يشغل بال العالم بأسره بما في ذلك الجماهير الإسرائيلية وأهالي الأسرى والمعارضة في الداخل، وهو وقف الحرب وتسليم الرهائن دفعة واحدة وبشكل فوري، وهو ما أبدت حماس استعدادها للدخول فيه مباشرة. البيان أعطى ترامب اللقطة التي يحبها بتثمين جهوده، وهو الذي يسعى إلى جائزة نوبل للسلام، وعلى الفور تلا ترامب نص البيان كما هو، وشكر جهود الوسطاء العرب، وطالب الاحتلال الإسرائيلي بوقف القتال، وهو مكسب كبير أثار ارتباك الاحتلال وأوقعه في التخبط، فللمرة الأولى يتخلى ترامب عن مبدأ التفاوض تحت النار. الرد لم يتضمن موافقة مطلقة، ولا رفضًا مطلقًا، لكن الذكاء التفاوضي تمثل في تجزئة بنود الخطة، فأبدت موافقتها على تسليم الأسرى وتسليم السلطة إلى هيئة فلسطينية مستقلة، وهما بالأساس قد وافقت عليهما الحركة من قبل، وفي الوقت نفسه أحالت المقاومة التفاوض حول مستقبل القطاع وحقوق الفلسطينيين إلى ما بعد وقف الحرب، وربطت التفاوض بموقف وطني جامع تكون حماس من ضمنه، واستنادًا إلى القوانين والقرارات الدولية. وهذا بدوره يضع أيدينا على رغبة المقاومة في وضع وقف الحرب وتحسين المعاش لسكان القطاع كأولوية قصوى، وتكتسب بذلك تأييدا قويا في الداخل الفلسطيني لعدم الانفراد بالقرار في مصير الشعب الفلسطيني والعمل في سياق مشروع وطني، كما أن الإشارة إلى ربط التفاوض بالقوانين والقرارات الدولية لفتة ذكية تحمل رسالة إلى المجتمع الدولي بأنها تتحرك ضمن منظومة الشرعية الدولية. من البنود المهمة التي أحالها بيان المقاومة إلى التفاوض بعد وقف الحرب وتسليم الأسرى قضية تسليم السلاح الذي يعتبره نتنياهو شرطًا يظهر انتصاره، لكن في سياق التفاصيل التي تحدث عنها قادة حماس بعد البيان، أعربت الحركة أنها سوف تسلم السلاح للدولة الفلسطينية القادمة، فلم تمنح نتنياهو فرصة الزهو بالانتصار إزاء هذه القضية. نستطيع القول إن الفخ الذي نصبه نتنياهو للمقاومة، قد جعلت منه المقاومة شرَكًا لنتنياهو، حيث رمت بالكرة في ملعبه، ليس هو فحسب، وإنما لدى ترامب أيضًا، وأي محاولة من نتنياهو للتمرد على ما تم التوصل إليه سوف يصطدم بالمعارضة والشارع وقيادات الجيش في الداخل الإسرائيلي، لأن الهم الأول لهؤلاء هو تخليص الرهائن دفعة واحدة، وأي انقلاب من نتنياهو على الاتفاق لن يكون مبررًا. كما أنه يصطدم بترامب نفسه، والذي أعلن نجاح خطته، ودعا الإسرائيليين إلى وقف القتال للشروع في تنفيذ بنود الاتفاق، وأي إخلال من قبل نتنياهو سوف يوقع رئيس أقوى دولة في العالم في حرج بالغ. أعلم جيدًا أن نتنياهو يجيد الالتفاف حول الاتفاقيات، وأعلم كذلك أن سقف الانحياز الأمريكي للاحتلال شاهق، لكن لا بديل عن القول بأن رد المقاومة جمع عدة لمسات ذكية قلبت الطاولة على رأس نتنياهو.

1296

| 05 أكتوبر 2025

alsharq
السفر في منتصف العام الدراسي... قرار عائلي أم مخاطرة تعليمية

في منتصف العام الدراسي، تأتي الإجازات القصيرة كاستراحة...

1992

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
قمة جماهيرية منتظرة

حين تُذكر قمم الكرة القطرية، يتقدّم اسم العربي...

1581

| 28 ديسمبر 2025

alsharq
محكمة الاستثمار تنتصر للعدالة بمواجهة الشروط الجاهزة

أرست محكمة الاستثمار والتجارة مبدأ جديدا بشأن العدالة...

1116

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
الملاعب تشتعل عربياً

تستضيف المملكة المغربية نهائيات كأس الأمم الإفريقية في...

1080

| 26 ديسمبر 2025

alsharq
بكم تحلو.. وبتوجهاتكم تزدهر.. وبتوجيهاتكم تنتصر

-قطر نظمت فأبدعت.. واستضافت فأبهرت - «كأس العرب»...

924

| 25 ديسمبر 2025

alsharq
لماذا قطر؟

لماذا تقاعست دول عربية وإسلامية عن إنجاز مثل...

666

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
مشــروع أمـــة تنهــض بــه دولــة

-قطر تضيء شعلة اللغة العربيةلتنير مستقبل الأجيال -معجم...

663

| 23 ديسمبر 2025

alsharq
حين يتقدم الطب.. من يحمي المريض؟

أدت الثورات الصناعيَّة المُتلاحقة - بعد الحرب العالميَّة...

618

| 29 ديسمبر 2025

alsharq
احتفالات باليوم الوطني القطري

انتهت الاحتفالات الرسمية باليوم الوطني بحفل عسكري رمزي...

558

| 23 ديسمبر 2025

alsharq
معجم الدوحة التاريخي للغة العربية… مشروع لغوي قطري يضيء دروب اللغة والهوية

منذ القدم، شكّلت اللغة العربية روح الحضارة العربية...

534

| 26 ديسمبر 2025

alsharq
التحول الرقمي عامل رئيسي للتنمية والازدهار

في عالم اليوم، يعد التحول الرقمي أحد المحاور...

513

| 23 ديسمبر 2025

alsharq
أول محامية في العالم بمتلازمة داون: إنجاز يدعونا لتغيير نظرتنا للتعليم

صنعت التاريخ واعتلت قمة المجد كأول محامية معتمدة...

480

| 26 ديسمبر 2025

أخبار محلية