رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

الميليشيات.. قنابل موقوتة تهدد استقرار الدول

الإدارة السورية الجديدة لم تحد عن الصواب عندما أعلنت الاتجاه إلى حل هيئة تحرير الشام وغيرها من الفصائل ودمجها في الجيش الوطني، وطالبت في الوقت نفسه كل الطوائف والقوميات أن تسلم السلاح لئلا يكون هناك أي تكتل عسكري مستقل مواز للجيش السوري الجديد. ما تتجه إليه القيادة السورية ضرورة أمنية قصوى، لكنها تتهددها مخاطر رفض بعض الأطراف تسليم السلاح وإصرارها على أن تكون كيانات عسكرية مستقلة بذاتها حتى وإن لم تعلنها في التصريحات الرسمية. وجود أي كيان عسكري مواز للجيش الوطني داخل البلد الواحد كارثة كبرى تهدد استقرار الدولة، لأن هذه الكيانات أو الميليشيات لها أهدافها وسياساتها وتوجهاتها التي تمارسها بعيدًا عن السياق الوطني، وما من دولة سمحت فيها الأنظمة بوجود مثل هذه الميلشيات إلا وأدت إلى كوارث أمنية وسياسية، فإما أن تؤدي إلى صراع عسكري داخلي، أو يتفاقم نفوذ هذه الميليشيات داخل الدولة فتصبح دولة داخل الدولة، ولها توجهاتها المغايرة للتوجهات الرسمية في إطار السياسة الخارجية. أمامنا الحالة السودانية كمثال حي على خطورة وجود ميليشيات مسلحة داخل الدولة في ظل وجود جيش وطني. قوات الدعم السريع في السودان، والتي يتزعمها حميدتي وتضم المرتزقة الأفارقة، وارتكبت وما تزال الجرائم البشعة بحق الشعب السوداني، كانت بالأساس ميليشيات استعان بها الرئيس السابق عمر البشير في دارفور وأضفى عليها الشرعية بتسميتها قوات الدعم السريع. بعد الإطاحة بالبشير، برز حميدتي على المسرح السياسي وعين نائبا للبرهان في المجلس العسكري، ثم عضوا في مجلس السيادة الانتقالي الذي يترأسه البرهان. لكن الخطر الميليشياوي قد أفصح عن نفسه، عندما اختلف حميدتي مع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان حول الجدول الزمني للانتقال إلى حكم مدني بموجب الاتفاق الإطاري ودمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني ومن يقود المؤسسة العسكرية التي تتمخض عن دمج الجبهتين، فتم تأجيل التوقيع على الاتفاق النهائي، واشتعل الصراع المسلح. الأنظمة التي تحرص على استقرار شعوبها وتحقيق مصالحها لا يمكن أن تسمح بوجود ميليشيات مسلحة توازي الكيان العسكري الوطني، ويفرض عليها حماية الوطن عدم وجود السلاح بأيدي الأفراد إلا على جهة الترخيص بشروطه المستوفاة أمنيا، فكيف إذا كانت تكتلات عسكرية لها توجهاتها وأهدافها المستقلة داخل الدولة؟ والحديث ها هنا عن حالة وجود دولة مستقلة لها جيشها الوطني، أنوه إلى ذلك منعا للالتباس، وقطعا للطريق على استغلال هذه السطور في الإسقاط على المقاومة الفلسطينية، ففلسطين دولة محتلة، وليس لها نظام حقيقي يقود مسيرتها، والمقاومة الفلسطينية المسلحة تمارس حقها المشروع في النضال ضد المحتل. ومع الأسف الشديد، هناك بعض الدول العربية تنشأ فيها ميليشيات مسلحة تتقاطع مصالحها مع مصالح الأنظمة، بل وترعاها هذه الأنظمة لتحقيق أهدافها في الداخل، لكنها قنابل موقوتة توشك أن تنفجر في أي وقت وتهدد استقرار هذه الدول. تأسيسا على ذلك، لا ينبغي أن يكون في سوريا الجديدة سوى جيشها الوطني، وأما الفصائل والجماعات والطوائف، فينبغي إذابتها في هذا الجيش الوطني، وإلا كانت سوريا عرضة لاندلاع الاقتتال الداخلي في أي وقت، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

1119

| 12 يناير 2025

لا لقيود الساحرة

السحر ليس تمائم وتعاويذ فحسب، فالبيان سحر، واستمالة المرأة قلب الرجل سحر، وهناك سحر آخر في هذا العصر يتمثل في كرة القدم، والتي أطلق عليها الساحرة المستديرة. ما من بيت في هذا العالم إلا وتجد فيه متابعًا أو أكثر لمباريات كرة القدم، والتي تحولت من كونها هواية ورياضة ترفيهية، إلى صناعة ومجال اقتصادي كبير، يتضمن الصفقات والمقاولات والسمسرة والمراهنات. وعلى الرغم من أهمية كرة القدم في عصرنا هذا، إلا أن كثيرًا من الناس في كافة الشعوب قد تجاوزوا بها الحد، وتحولوا من متفرجين بغرض الاستمتاع والترفيه، إلى جنود يصطفون خلف الفرق التي يشجعونها، ويعقدون عليها معاقد الولاء والبراء، ويدخلون في صراعات ومشاحنات مع مشجعي الفرق الأخرى، سواء في نفس البلد أو من البلدان الأخرى، والطامة الكبرى أن مباريات الكرة صارت أداة بغيضة للفرقة والشقاق والكراهية بين الشعوب. أقسم بالذي رفع السماء بلا عمد، حدثني بعض الثقات من إحدى الدول العربية، أن شابا عُرض عليه فتاتان ليختار بينهما زوجة له، كانت إحداهما أفضل من الأخرى في كل شيء، فاختار التي هي أدنى لأنها تشجع الفريق نفسه الذي يشجعه هو. وحدثني بعضهم، أن زوجين أوشكا على سن الستين، والخلافات تتفاقم بينهما إلى حد لا يطاق يصل إلى القطيعة والتفكير في الانفصال، كل ذلك بسبب أن كلا منهما يشجع فريقا غير الفريق الذي يشجعه الآخر. وبعضهم له أسرة وزوجة وأولاد، وتجده يترك أعماله التي يتكسب منها ليذهب ويقطع المسافات ويطيل السفر، ليشهد مباريات فريقه في المكان الذي تُقام فيه، بل تعدى الأمر إلى إزهاق النفس بسبب الخلاف بين المشجعين. هذا التعصب الأعمى لفرق الكرة على النحو الذي ذكرنا، يعد من أمارات ضعف العقل، فاللاعب إذا خسر المباراة سوف ينزل التدريب في اليوم التالي وينسى ما حدث ويفكر في المباراة التالية، وإذا ربح المباراة فسوف ينال الثناء والتهاني والشهرة والمكافآت المالية المجزئة، فماذا عن المشجع الذي لا يخرج من ذلك إلا بنفسية مستنزفة من فرط الانفعال، وحسرة تؤدي في بعض الأحوال إلى سكتة قلبية والوفاة بسبب خسارة الفريق، وفي حالة الربح لن يجني المشجع من ذلك سوى لحظات من الفرح الصبياني. فكيف يوصف المرء بأنه عاقل وهو لا يستطيع التمييز بين مواطن النفع والضر والربح والخسارة، وكيف يوصف بالعقل وهو يعطي أمرًا عاديًا أكبر من حجمه ويرفعه من كونه مادة ترفيه إلى سقف الأولويات في حياته؟ هذا التعصب على هذا النحو، يدل كذلك على الخواء الروحي وحياة الفراغ، فكلما كان المرء ممتلئا بالأفكار الإيجابية والأهداف السامية، لن يتعدى اهتمامه بالكرة كونها مادة ترفيهية يتعرض لها بكل هدوء، وتنتهي علاقته بها بمجرد انتهاء المباراة ثم يمضي إلى معالي الأمور. هذا الهوس الذي نعيشه في الاهتمام بحياة لاعبي كرة القدم يضعنا في مصاف الحمقى والمغفلين والسذّج، فمع احترامنا لكرة القدم ولاعبيها وأنديتها، إلا أنها في النهاية مجرد رياضة يمارسها اللاعب، ومادة ترفيهية للمشاهد، لكنّ كثيرا من الجماهير ينغمسون في تتبع حياة اللاعبين وتدريباتهم وتنقلاتهم ومشكلاتهم مع الأندية وإداراتها، والأجور التي يحصلون عليها، ومستوياتهم المتغيرة، وعائلاتهم، في الوقت الذي تجد الواحد منهم لا يستطيع أن يذكر لك اسم عالم واحد من علماء بلده في الكيمياء أو الفيزياء أو الطب ونحوه. وأشد مظاهر هذا الخلل، هو التناحر بين الشعوب العربية والإسلامية بسبب مباريات كرة القدم، فهل يعقل أن هذه الشعوب التي ارتبطت بأواصر الدين واللغة والدم والجوار، تفرقها تلك الساحرة المصنوعة من الجلد أو البلاستيك الصناعي ويركلها اللاعبون بالأرجل؟ مثل هذه الحماقات تقتل فينا آمال الوحدة، فإذا سمحنا للكرة أن تفرقنا، فكيف نتصدى للمؤامرات الخارجية التي تنال من وحدتنا؟ أنا لا أدعو للنقمة على رياضة كرة القدم، ولا أدعو الناس إلى مقاطعتها، ولكنني أدعوهم إلى أن يجعلوها في وضعها الصحيح، وألا يسمحوا لأنفسهم بالوقوع أسارى لسحرها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

780

| 05 يناير 2025

التطرف... والتطرف المضاد

مالكوم إكس أو الحاج مالك الشاباز، داعية مسلم أمريكي من أصل إفريقي عاش ما بين 1925 إلى 1965، من ذوي البشرة السوداء، قُتل أبوه وستة من أعمامه وأحرقت بيوتهم بسبب لونهم. وبسبب اللون أيضا، طُردت والدته من العمل كخادمة، ورفضت الهيئات الاجتماعية تقديم المعونة لها، فدخلت إحدى المصحات النفسية، فصار ثمانية أبناء من بينهم مالكوم إكس، وحيدين بلا أب أو أم. وعلى الرغم من أن مالكوم إكس كان تلميذا متفوقا، إلا أنه لم يسلم من العنصرية داخل المدرسة، حتى أن معلمه قد نصحه بالتنازل عن حلمه بأن يكون محاميًا لأنه زنجي، ووجهه إلى العمل كنجار أو إسكافي لأن هذه الأعمال تناسب الزنوج. وبسبب بعض الأعمال الإجرامية المخالفة للقانون، دخل مالكوم إكس السجن، وخلف القضبان أرسل إليه إخوته بأنهم قد أسلموا على يد رجل يسمى إليجاه محمد، زعيم حركة سميت بحركة أمة الإسلام، هذا الرجل اعتنق أفكارا غريبة لا تمت للإسلام بصلة، فدعوته كانت عبارة عن دين للسود وحدهم، وأن الله هو إله السود وحدهم، ويعتبر أن البيض شياطين. ولأن مالكوم إكس قد عاش حياته مكتويا بنيران العنصرية، فقد لاقت هذه الأفكار قبولا لديه، فاعتنق الإسلام على هذه الأفكار الغريبة، وأصبح من أشهر دعاتها. لكن رحلة الحج التي قطعها مالكوم إكس، قد نسفت كل هذه المفاهيم لديه، حيث تعرف على الإسلام الصحيح والعقيدة الصحيحة التي تضبط تصورات الإنسان عن الكون والحياة والبشر، فكانت ولادة جديدة لأفكار مالكوم إكس، فعاش بقية حياته مدافعا مناضلا عن صحيح الاعتقاد. يقودنا هذا السرد المختصر لحياة مالكوم إكس، إلى أن التطرف دائما ينجم عنه تطرف مضاد، ما لم ينضبط بالمنهج الصحيح للإسلام، فالرجل قد واجه تطرفا متمثلا في العنصرية، بتطرف آخر وهو اعتناق فكرة لقيطة منسوبة للإسلام ولا تمت له بصلة، فكان مدفوعا في تطرفه بالحالة النفسية، وهذا نفسه ما حدث في نشأة جماعة التكفير والهجرة في السجون المصرية إبان فترة جمال عبد الناصر، ففي ظل التطرف الذي مورس ضد المعتقلين من قبل النظام متمثلا في التعذيب الشديد، تحول بعض أبناء التيار الإسلامي إلى اعتناق فكرة تكفير النظام وجنوده والمجتمع الساكت على بطشه، فكان التطرف الذي أعقبه تطرف مضاد. لذلك لابد في مواجهة أشكال التطرف بالاعتدال والانضباط بضوابط الشريعة، ففي قضية اللون مثلا، حسم الإسلام الأمر، فجعل الأفضلية للناس بتقواهم لله لا شيئا آخر، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بتقوى الله، وعلى هذا الأساس قام المجتمع الأول في المدينة، وعندما خرج أحد الصحابة يوما عن هذا المسار، وعيّر صاحبه بأن أمه سوداء، أوقفه النبي صلى الله عليه وسلم على المسار الصحيح ورهّبه لهذه الفكرة الجاهلية، فقال له (إنك امرؤ فيك جاهلية)، فاستقام الرجل واعتذر وأبدى ندمه. فلذلك يجب الحذر في مواجهة الأفكار المتطرفة من الانزلاق نحو أفكار مضادة متطرفة، فالفكر الإرجائي المتطرف الذي يقول بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، جاء كردة فعل لتطرف آخر وهو تطرف الخوارج الذين كانوا يكفرون الناس بالذنب. بل ينبغي أن نواجه التطرف بإشاعة الفكر الوسطي المعتدل، والذي نعتمد فيه على التقيد بتعاليم الشريعة الغراء، التي لم تترك المعاملات للأهواء والأمزجة، وإلا زدنا التطرف تطرفًا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

675

| 29 ديسمبر 2024

في الميزان.. الغاية تبرر الوسيلة!!؟

في مدينة فلورنسا الإيطالية، وتحديدا عام 1469م، ولد نيقولا مكيافيلي، السياسي والمفكر والفيلسوف الذي ترقى في الوظائف الحكومية إلى أن صار المستشار الثاني للجمهورية. بعد أن استولت أسرة ميديتشي على الحكم، وُضع مكيافيلي في السجن لأنه كان من المعارضين، إلا أنه في محبسه قد ألف كتابا مِن أخبث الكتب التي ألفها البشر، ولا تزال الإنسانية تعاني من آثاره إلى اليوم. ذلك الكتاب هو كتاب «الأمير»، الذي تودد به لآل ميديتشي، يدعو فيه إلى قيام دولة إيطالية موحدة في ظل حكم قوي لا يقيم للأخلاق وزنا في سبيل السيطرة على البلاد، لكنه مع ذلك فشل في استرضائهم، إلا أن مضمون الكتاب الخبيث أصبح نظرية رائجة تترجمها سلوكيات الأفراد والجماعات والأمم. النظرية التي أرسى مكيافيلي دعائمها في الكتاب هي مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، فمن أجل الوصول إلى الغاية يتجاوز السياسي أو الحاكم كل أطر الأخلاق والقيم والفضائل، فليس هناك محظور أمام الحاكم للسيطرة على شعبه. هذا المبدأ الشيطاني قد أوغل في سلوكيات كثير من البشر، يخدّر به الناس ضمائرهم لتجاوز الفضيلة، فطالما أن الهدف مشروع تتهاوى في سبيل تحقيقه كل القيم والأعراف، فلا بأس من أن يرتشي الموظف أو يختلس من أجل توفير حياة كريمة لأسرته، ولا مانع من شهادة الزور أمام القضاء من أجل أن ينجو من يهمه أمره من العقوبة، ولا ضير في أن يقوم بالتزوير في الأوراق الرسمية من أجل السفر أو الحصول على وظيفة.. وأخطر ما في النظرية أنها صارت معتمدة لدى كثير من الدول والحكومات والأمم، فمن أجل غاية سيطرة الأوروبيين على العالم الجديد، أُبيد الملايين من الهنود الحمر السكان الأصليين للأرض بتصدير الأوبئة وارتكاب المجازر. ومن أجل أحلام السيطرة وسيادة الأجناس، أدخلت النازية والفاشية العالم في أتون حربين عالميتين قُتل فيهما عشرات الملايين من البشر، بخلاف الآثار المدمرة على الصحة والبيئة والاقتصاد. ومن أجل إقامة دولة إسرائيل الكبرى، يقوم العدو الصهيوني بتدمير كامل لقطاع غزة ويصب الصواريخ صبا على المدنيين العُزّل في المساكن والخيام، ويحول القطاع إلى أرض لا تصلح لاحقا للحياة. ومن أجل السيطرة على مقاليد الأمور في الدول، استبدت أنظمة بشعوبها وسامتها سوء العذاب، من تجويع وقهر وسجن وتشريد على غرار ما فعله طاغية الشام الذي أراح الله العباد والبلاد من شره. هذا المبدأ الشيطاني موجود منذ القدم بين البشر، لكن الخطورة فيما كتبه مكيافيلي أنه قد أوجد له غطاء شرعيا وألبسه ثوب البراعة السياسية والضرورات الإصلاحية. لقد وقفت تعاليم الإسلام من هذا المبدأ الشيطاني موقفا صارما، فقضت بأن الغاية لابد وأن تكون مشروعة وأن تكون الوسيلة كذلك مشروعة، والأدلة على ذلك كثيرة، فعلى سبيل المثال، وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم أمته للتداوي، لكنه قيد التداوي بما أحله الله، فقال بشأن التداوي بالخمر: (ليس بدواء، ولكنه داء)، وقال: (إن الله تعالى أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام). وأما قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، فهي تختلف تماما عن نظرية مكيافيلي، فالإسلام أباح إتيان المحرم عند الضرورة، كأكل المضطر من الميتة إذا أشرف على الهلاك، والضرورة تقدر بقدرها، فحينئذ يأكل منها ما يبقيه على قيد الحياة لا ما يملأ بطنه ويُسكن شهوته، فهي لدفع الضرر الجسيم. أما مبدأ مكيافيلي فهو لا يقتصر على إتيان المحظور عند الضرورة، ولكن يشمل الوصول إلى كل غاية طالما رآها محمودة فيتخذ إليها أي وسيلة ولو كانت قذرة فلابد من مشروعية الوسيلة مع مشروعية الغاية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

657

| 22 ديسمبر 2024

هل الطبع يغلب التطبّع؟

يأتي المثل الشعبي وكذلك الحكمة، ضمن الموروثات الشعبية التي مصدرها ملاحظة تجريبية أو نصيحة شعبية أو موقف ساخر من عادة اجتماعية أو نظام سياسي، وكثيرًا ما تكون الحكمة أو المثل يناقضه غيره، ويرجع ذلك إلى ظاهرة التغير الثقافي الاجتماعي التي تطرأ على المجتمعات عبر الحقب الزمنية المختلفة. هذا التناقض يجعل من هذه الموروثات من حكم وأمثال، قابلة للنقد والتمحيص ووزنها بالميزان الصحيح، إذ إنها ليست نصًا معصومًا، بل تعبير عن حالات وتجارب إنسانية حدثت في ظروف معينة، لا تعبر عن أصل عام ثابت في البشرية. ومن هذه الأقوال التي تحتاج إلى تمحيص (الطبع يغلب التطبع)، وتكاد تكون هذه المقولة راسخة في الوجدان العربي بشكل يرتقي إلى اليقين بمدلولها ومعناها. لكن عندما نضع هذه المقولة في ميزان الشرع الذي هو عصمة أمر المسلم، سوف نجد أنها ليست قاعدة مطردة، فهناك من الناس من يغلبه طبعه حتما، لكن هناك منهم من يسعى لتغيير طباعه السلبية وينجح في ذلك. خطورة اعتبار هذه المقولة قاعدة مطردة في البشر، تتمثل في كونها مقولة محبطة موهنة لعزائم من يرغبون في تغيير أنفسهم للأفضل، وهي في نفس الوقت عند آخرين منطق تبريري لسلبياتهم، فمن يطلق العنان لغضبه مثلا ولا يكبحه، يعلل ذلك بأن طبعه الغضب وهكذا في كل طبع سلبي، يبرر صاحبه لنفسه بأن الطبع يغلب التطبع.تغيير الطباع ونيل أحسن الخصال والأخلاق أمر ممكن، والدليل على ذلك أن الله تعالى أمرنا في كتابه الكريم وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن نتحلى بالأخلاق الحسنة، ومعنى هذا أن الأخلاق والطباع قابلة للتغيير، فالله تعالى لا يأمر عباده إلا بما هو في وسعهم، قال تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها). ولذلك يقول الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين: «لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حسنوا أخلاقكم». وهذا حق لا مرية فيه، فإذا كانت الطباع لا تتغير، وحُكم على البخيل بأنه سوف يظل بخيلا، وعلى الجبان بأن يظل جبانا، وعلى الغضوب بأن يظل قابعا في أسر غضبه، فحينئذ لن تكون هناك فائدة من كل الوصايا النبوية بتحسين الأخلاق كقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)، والشاهد هنا: لمن حسن خلقه. وحينئذ هل سيكون معنى لأن ينهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مساوئ الطباع كقوله صلى الله عليه وسلم (لا تغضب)؟ والمشاهد أن طباع الحيوانات ذاتها قد تتغير، فتُستأنس الصقور، ويتحول الفرس من الجماح إلى سلاسة الانقياد، والكلب المعروف بالشره في الأكل يعلمه صاحبه التأدب والتخلي عن بعض الأطعمة كما هو مشاهد فيستجيب، فكيف بالإنسان الذي وهبه الله العقل وأنزل عليه الرسالة! وكم من إنسان تبدلت طباعه، فتحول من الطبع إلى نقيضه، ولا يستطيع أن ينكر هذا من يطلق بصره في الواقع الذي يعيش فيه. لكن لا شك أن تغيير الطباع يحتاج إلى جهد وبذل، وأول ذلك اقتناع المرء بضرورة التغيير، فطالما أن الإنسان لا يعترف بأن لديه مشكلة في طباعه، فلن يتحرك قيد أنملة لافتقاد الدافع. كما أن من أهم أسباب تغيير الطباع تكلف الصفة أو الطبع الحسن، ومع استمرار التخلّق به يصبح بعد ذلك عادة وسجية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم)، ويقول: (ومن يتصبر يصبره الله). فتغيير الطباع ممكن، والقول بأن الطبع يغلب التطبع ليس قاعدة مطردة، بل هناك من يسعى للتغيير فيتغير، وهناك من يركن إلى طبعه فيطغى عليه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

1320

| 15 ديسمبر 2024

الأدب العربي وأثره في غرس الفضائل

جرت العادة أن يطلق الأدب في اللغة العربية على الكلام المنظوم والمنثور على أساليب العرب، سواء كان موافقا للفضائل أو خارجًا عنها، فهناك من كتب الأدب العربي مثلا ما احتوى على مضامين خادشة للحياء، لذلك ظهر مصطلح الأدب الإسلامي الذي يهذب قريحة الأدباء ويضبطها بميزان الفضيلة، وهذا هو الأدب العربي الذي أتناوله في هذا المقام، الأدب العربي الهادف البناء. للأدب العربي تأثير بالغ على صياغة الشخصية وبنائها وتربيتها وتهذيبها وغرس الفضائل فيها، وأبرز مظاهر تأثير الأدب العربي الهادف هو بناء وتعزيز الإطار القيمي الأخلاقي وغرس الفضائل في النفس البشرية، وذلك لأن مضامينه المرتكزة على جودة الصياغة وحسن البيان، تحرك النفس والعقل، وهذا ما يفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن من البيان لسحرا). فالبيان هو اجتماع الفصاحة والبلاغة وذكاء القلب مع اللسان، فيشبه السحر من حيث غلبته على النفوس والتأثير فيها. هذا التأثير يأخذ بالهمم صوب الرقي الأخلاقي، فهو ينقل إلى الأذهان والقلوب والنفوس مضامينه الفكرية والتوجيهية، فيجعل لها مواطن مستقرة فيها، ثم يجعلها فعالة وموجهة للسلوك، وفقا لعبد الرحمن الميداني في كتابه "قضايا حول الشعر العربي والأدب الإسلامي". ولذا لا تخلو حياة عالم من علماء الإسلام من التضلع بالأدب العربي، وتجد لهم باعًا في الشعر مثل الشافعي وعبد الله بن المبارك وابن حزم وغيرهم، ومنهم من ألف في الأدب ذاته كالفقيه المحدث الأديب ابن قتيبة، والذي صنف كتاب "أدب الكاتب" تناول فيه أصول الكتابة وآدابها ومعارفها. وكم من امرئ تأثر ببيت من الشعر فأحدث في نفسه تغييرا، أو كان سببا في استقامته، أو رقة قلبه، كحال الإمام أحمد عندما سأله أحدهم عن شعر الرقاق، فقال أحمد: مثل ماذا؟ فأنشد الرجل: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني فجعل الإمام يرددها ويبكي. كما أن الأدب يربي المرء على تقويم لسانه بأجمل الألفاظ والعبارات والمعاني الدقيقة، فيكون نمطًا من أنماط التهذيب والتربية، إذ إن تحري الألفاظ الجميلة يكون له عادة، فالأديب أو المتضلع بالأدب العربي يتعرض لغيث اللغة العربية المتضمن لعذوبة المعاني واتساع المعجم وكثرة المترادفات وروعة تركيب الجمل. ونظرا لأن الأدب بمختلف فنونه يتضمن الحكم والأمثال ومواطن العِبر التي جادت بها قريحة أهل الأدب والعلم في الشعر والنثر، فلذلك فإنه يربي الذهن وينمي الفكر ويوسع المدارك ويمد بساط الخيال للتأمل والتفكر، وحاجة الإنسان إلى ذلك جدّ هامة، يقول عبد الله بن المقفع: ولسنا إلى ما يمسك أرماقنا من المأكل والمشرب بأحوج منا إلى ما يثبت عقولنا من الأدب الذي به تقاوت العقول، وليس غذاء الطعام بأسرع في نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل. ومن ثم ينبغي على كل طالب علم أو مبتغٍ للثقافة، أن يجعل لكتب الأدب العربية الهادفة نصيبا من قراءاته ومطالعاته، فإنه لا غنى عنها لعالم أو طالب علم أو مثقف. وتعظم أهمية الأدب في هذا العصر الذي فسدت فيه الأذواق، وأعرض فيه الناس عن اللغة وفنونها وآدابها حتى صارت جزءًا من الماضي لا علاقة لها بحاضرنا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

786

| 09 ديسمبر 2024

ضريبة الأخلاق

لكل نعمة وفضيلة يحوزها الإنسان ضريبة يدفعها عنها، ومن أعظم النعم على العبد أن يكون له حظ من صالح الأخلاق. وقد جاءت النصوص القرآنية والنبوية لتؤكد على أهمية حسن الخلق، فبه يُستكمل الإيمان، وهو دلالة على خيرية صاحبه، وبه يدرك العبد درجة الصائم القائم، وهو من أعظم ما يثقل ميزان العبد يوم القيامة، وصاحبه أقرب الناس مجلسا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة. ومن الطبيعي أن يكون لهذه الفضيلة ضريبة يدفعها الإنسان، تماما كما يدفع الضرائب عن ماله، المتمثلة في الزكاة. وضريبة الأخلاق يدفعها العبد من خلال التعامل مع الآخرين الذين ربما كانوا فتنة لصاحب الأخلاق الحسنة، وهو ما يستشف من قوله تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة)، فيحدث أن تُخالق الناس بخلق حسن، ثم تجد منهم ما يضغط عليك للتخلي عن هذه الفضيلة وعن هذا الخلق، فحينها إما أن تتخلى عنها أو تدفع الضريبة عنها بالصبر عليها أمام ضغط الواقع. عندما تكون حليمًا، فربما تكون ضريبة هذا الخلق أن تحلم على من يستغل حلمك فيمعن في استفزازك لعلمه أنك امرؤ حليم، فهو اختبار لحلمك هل يصدر منك عندما تقع تحت الضغط؟ وعندما تكون كريمًا جوادًا منفقًا، فهذا الموطن تتوالى فيه الاختبارات لكرمك وجودك، فيحدث مثلا أن ترى محتاجا أو غارمًا ثم تفك عنه كربه، فحينئذ قد لا يكف عن طرق بابك كل حين، ويتفنن في إظهار احتياجه كل مرة، أو ربما تُبتلى بالحسد من قبل الآخرين فتكون مخيرًا بين الاستمرار في العطاء أو الكف. وقد تكون من أهل صلة الأرحام وتفقد أحوال الأقارب وتحرص على ذلك بكل جهدك، ثم تُبتلى بتجاهلهم وتقصيرهم في صلتك، فحينها يمثل هذا التجاهل ضغطا عليك، فهل تعاملهم بالمثل أم أنك ترضى بدفع الضريبة وتتمسك بما أنت عليه من أخلاق؟ عندما تكون صادقا وتتحرى الصدق في جميع أحوالك، قد تُبتلى في محيط عملك أو دراستك بمن يتعاطون الكذب كما يشرب أحدنا الماء، وتجد نفسك بينهم كالغريب أو عابر السبيل، وتواجه صراعًا نفسيًا إزاء هذا النداء الشيطاني الذي يريد لك أن تضعف بإلْف الكذب الذي يجري على سمعك وبصرك، فهل تتمسك بهذا الخلق وتعض عليه بالنواجذ أم أنك تتماهى مع الكاذبين. وربما كنت من أهل الأمانة ثم تقع في ضائقة مالية، فتتزين لك الفتنة في عمل يعتمد على المعاملات المالية ووجود الأموال الطائلة بين يديك، بينما الفرصة سانحة أمامك لأن تختلس دون أن تقع تحت طائلة المحاسبة الدنيوية، فحينها تقع أمانتك تحت الاختبار، فهل تلبي نداء الباطل أم تقدم الصبر ضريبة لأمانتك؟ قد علم الله تعالى أن أخلاق العبد تختبر بالآخرين، فلذلك عندما قال لعباده (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) أعقبها بهذه الوصية التي هي في ظاهرها تساؤل: (أتصبرون)، فهي دعوة إلى الصبر والتمسك بهذه الفضائل والأخلاق مهما كان سلوك الآخرين، فذلك الصبر هو الضريبة التي يدفعها الإنسان عن أخلاقه. والإنسان مهما ادعى من أخلاق وفضائل، فإنها لا تثبت له إلا من خلال اختباره بالتعامل مع الناس، وهذا أمر بديهي، فالذي يعيش وحيدًا في بطن الجبل بمعزل عن الناس ويدعي أنه صادق، كيف يتكشف صدقه؟ لذلك فالإنسان مأمور أولا بتحسين خلقه، ومن بعد ذلك بالصبر على هذه الأخلاق أمام الفتن الناتجة عن معاملة الآخرين والوقوع تحت ضغط سلوكياتهم التي تستفزه للتخلي عن تلك الأخلاق، ولذا يدعو الإنسان دائما بأن يحسن خُلقه كما حسّن خَلْقه، وأن يهديه لأحسن الأخلاق فلا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنه سيء الأخلاق لا يصرف عنه سيئها إلا هو، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

1086

| 01 ديسمبر 2024

نور الدين زنكي.. الهمة المضيئة

الهمة العالية مُجنّحة، تتجاوز أسوار الواقع، لا تثنيها قسوة الحاضر عن التطلع إلى المستقبل واستشراف النجاح، ومن ثَمّ تُلهم الآخرين وتضيء لهم الطريق. ومعنا في هذه العجالة شخصية من الشخصيات الفريدة في التاريخ الإسلامي، ارتقت همتها حتى لامست الثريا، لم يلتفت صاحبها إلى الواقع المر وسطوة الباطل، فتجاوزت همته ذلك وتعامل مع النصر في المستقبل كأنه رأي عين، فألهم غيره وأضاء لهم الطريق. إنه نور الدين محمود زنكي، الملقب بالملك العادل، حاكم الشام وموحد أقطارها، المعروف بجهاده المستمر ضد الصليبيين لتحرير بلاد الشام من دنسهم. تشبع نور الدين برؤية التحرير من خلال والده عماد الدين زنكي ومراحل نضاله المختلفة، والتي وطد خلالها الأوضاع في إمارة الموصل ثم فتح حصن الأثارب وقلعة حارم، وكان فتح الرها من أعظم إنجازاته. استكمل نور الدين الطريق بعد وفاة أبيه، وكانت عينه دائما على تحرير الشام من الصليبيين، وقام بتوحيدها تزامنا مع الإصلاحات الداخلية التي أجراها، وواجه الصليبيين في العديد من المعارك، كان من أهمها في مصر، والتي كانت خاضعة لحكم الدولة العبيدية، فاجتاحها الصليبيون، فأرسل نور الدين جيشا بقيادة أسد الدين شيركوه ومعه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي لكسر شوكة الصليبيين وطردهم من مصر، فألحقوا بهم هزيمة نكراء، ثم توفي أسد الدين بعد توليه منصب الوزارة، فعين نور الدين مكانه صلاح الدين الأيوبي. لست هنا بصدد عرض سيرة هذا الملك الصالح المجاهد، لكن ما يهمني هو تسليط الضوء على همته العالية في تحرير المسجد الأقصى في خضم الواقع القاسي الذي كان العلو فيه للصليبيين بينما يمر العالم الإسلامي بفترة حالكة من فترات الضعف والتفرق. لم يكن تحرير الأقصى مجرد حلم للرجل، بل كان رؤية، شكلتها همته السامية، وبكل يقين وثقة في نصر الله، استدعى نور الدين أمهر النجارين وأمرهم ببناء أعظم منبر تشهده الخلائق، وأشرف بنفسه على بناء هذا المنبر، واستغرق ذلك خمسة أعوام، وعندما كان يُسأل عن المنبر يقول: «مستقره في بيت المقدس إن شاء الله». يبني المنبر ليضعه في المسجد الأقصى ويخطب عليه، بينما كان الأقصى أسيرا في أيدي الصليبيين، فأي همة هذه، وأي يقين هذا! يصف العماد الأصفهاني حال نور الدين ومنبره فيقول: «فكان حاله وهو يأمر بالبناء ويصنعه، كحال نوح عليه السلام وهو يصنع الفلك، كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه». خاض نور الدين المعارك العديدة مع الصليبيين في طريقه إلى تحرير القدس، فوحد بلاد الشام، وطهر مصر من الصليبيين وأعادها إلى حظيرة السنة، إيمانا منه بأن تحرير الأقصى يمر بمصر. عاجلته المنية قبل أن يحقق حلمه، لكنه قد أضاء بهمته ورؤيته الطريق لغيره، فاستكمل تلميذه صلاح الدين الأيوبي الطريق نفسه، وتحررت القدس على يديه، ويدخل الأقصى فاتحا، ويأمر بالمنبر الذي صنعه نور الدين ليضعه في المسجد، ليصبح شاهدا على تلك الهمة الملهمة المضيئة. إن العبرة في هذا المشهد التاريخي الجليل، تتمثل في أهمية تجاوز المحن والواقع الأليم وعدم التقوقع في مآسيه، إلى آفاق المستقبل والعمل على التغيير بكل طاقة ممكنة، وضرورة أن يكون للإنسان همة عالية نحو هذا التغيير، وذلك يتطلب إيمانا راسخا وثقة في موعود الله بالنصر وأن العاقبة للمتقين. هذه الهمة التي تتحدى بأس الواقع، وتكون نقطة مضيئة في الظلام، حتى إن لم يصل صاحبها إلى مرامه، فهي حتما سوف تضيء الطريق للآخرين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

1029

| 24 نوفمبر 2024

كيف تصير أدوارنا في الحياة تكاملية؟

كثير منا قد تربوا على نظرة انفصالية تجاه مناحي ومجالات الحياة، إذ ينظر المرء إلى الأدوار المختلفة في حياته على أن كلا منها ينتزعه من غيره، ومن ثم يترسخ في وجدانه أن دوره في العمل ينفصل عن دوره في المنزل، عن دوره في المجتمع، عن دوره في تطوير ذاته، وهكذا دواليك. تقود هذه النظرة صاحبها غالبا إلى التركيز على أحد الجوانب في حياته على حساب غيره، فتراه مثلا يغلب جانب التكسب والتربح لضمان رغد العيش لأسرته، ويجعله محور حياته، على حساب صحته والاهتمام بذاته وتطويرها، وعلى حساب المسؤولية الاجتماعية ومحاولة إيجاد دور فاعل في مجتمعه. السبب في وجود هذه النظرة الانفصالية هو غياب الرسالة، فمتى كان للإنسان رسالة واضحة يعيش من أجلها، تحولت إلى مبادئ عامة تلقي بظلالها على كل مناحي الحياة، فيتحقق ذلك الانسجام والتكامل بين الأدوار. عندما يكون للإنسان رسالة واضحة، تصبح جميع الأدوار في حياته أشبه بفروع نضرة من أصل جذر واحد. ورسالة المسلم في حياته هي إرضاء الله تعالى بتحقيق العبودية، لأنها الغاية من الخلق (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، فمتى كانت هذه الرسالة واضحة لدى الإنسان، ارتبطت كل الأدوار بها، فيتحقق التوازن بينها عندما تنبع جميعها من غاية واحدة. فعندما يستحضر المرء هذه الرسالة يتعامل مع كل مجال من مجالات الحياة على أنه ميدان للتعبد يحقق من خلاله رضا الله تعالى، فهو في عمله يتكسب للإنفاق على أهله وذلك من صميم التعبد، وهو في ذلك العمل يجتهد ويتقن ما يفعله لعلمه أنه الله يحب إذا عمل المرء عملا أن يتقنه. وإذا انتقل إلى منزله دخله بنفس المنظومة الأخلاقية التي يتعامل فيها مع زملاء العمل، لعلمه أن أهل بيته هم أولى الناس بهذه الأخلاق، وفي المنزل يستحضر دوره التربوي ويقوم به لعلمه أنه راع وأنه مسؤول عن رعيته. ووفقا لهذه الرسالة فإنه يهتم بصحته لعلمه أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ويعمل على تطوير ذاته ليحقق الإفادة لنفسه ولغيره وهو من صميم العبودية لله تعالى. كلما كانت هذه الرسالة واضحة في حياة الإنسان نظر إلى الحقوق والأعباء والأدوار نظرة تكاملية لا انفصالية، وهنا تبرز القاعدة الذهبية التي جرت على لسان الصحابي سلمان الفارسي وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال سلمان كما جاء في صحيح البخاري: «إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان». ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خير من حمل هذه الرسالة، فإن المتأمل في سيرته العطرة يدرك هذا التوازن بوضوح في حياته صلى الله عليه وسلم على كثرة الأعباء وتشعبها. فهو الصائم القائم القانت، وهو الذي يجلس في مسجده يعلم الناس أمور دينهم، وهو نفسه الذي يدير الدولة ويقود الجيوش، وهو نفسه الذي يمازح أصحابه، وهو نفسه الذي يصل رحمه، وهو ذاته الذي يسابق زوجته أو يستمع إلى أحاديثها الطويلة بإنصات فعال للتسرية عنها، فكل هذه الأدوار التي يقوم بها نابعة من الرسالة التي يؤمن بها، فيتعبد إلى ربه بكل سكناته وكلماته وأفعاله وخصاله، وذلك هو السبيل إلى تحقيق التوازن في حياة الإنسان، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

768

| 15 نوفمبر 2024

الثبات في منظومة الأخلاق الإسلامية...العدل نموذجاً

تختلف المنظومة الأخلاقية في الإسلام عن غيرها من المنظومات الأخلاقية الخاضعة لنسبية القيم، والتي يضعها المجتمع وفقا لاستحسانه ضمن العقد الاجتماعي، ويضع بنفسه معاييرها ومحدداتها، ثم يتنكر لها إذا تعارضت مع مصالح الزمرة المتنفّذة. منظومة الأخلاق التي جاء بها الإسلام ربانية المصدر، فهي أخلاق تنسجم مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، وفي نفس الوقت مستمدة من التشريع الرباني، سواء ما أثبته التشريع ابتداءً، أو ما أقرّه من الأخلاق التي تعارف عليها الناس ووافقت التشريع. ولأنها ربانية المصدر، فلم يتركها الشارع لعادات الناس وذائقتهم واستحسانهم العقلي، فالعادات والعقل لا يصلحان لوضع ملامح الإطار الأخلاقي، نظرا لتغيرهما واختلافهما من بيئة لأخرى، ومن إنسان لآخر، وكما يقول الدكتور محمد العبدة: العادات قد تعمي الضمير الداخلي، والعقل قد يسخر نفسه لخدمة الغرائز البهيمية». ولأنها ربانية المصدر قد حدد الكتاب والسنة ملامحها، فهي تتسم بالثبات، لا تدور في فلك المصالح الجزئية الضيقة لكل فئة ما أو دولة ما، وميزانها لا يتغير بتغير الأشخاص ولا الأزمنة ولا الأمكنة ولا حتى بتغير العقائد والملل. خلق العدل في المنظومة الأخلاقية الإسلامية مثلا، هو قيمة ثابتة حتى مع الخصم والمخالف، فقد أنصف اليهود مع شدة عداوتهم للمؤمنين، ولم يجحف ما يظهر من شمائل خيرٍ فيهم، ويكفي أن القرآن شهد لبعضهم بأنهم أمناء {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]. ويقول عن ملكة سبأ التي استشارت قومها بشأن الرد على رسالة نبي الله سليمان {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34]. جاء في تفسير ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما: قَالَتْ بِلْقِيسُ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}، قَالَ الرَّبَّ، عَزَّ وَجَلَّ {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}. فهذه المرأة مع كونها تعبد الشمس من دون الله، قد صدّق القرآن حديثها عندما صدقت فيه. وألزم الإسلام باتباع خلق العدل مهما كانوا بعيدين ومهما ناصبونا العداء كما قال الله تعالى، وأكد على ضرورة اتباع العدل وعدم التنكر له بسبب عداوتهم {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. لقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ خضوع الجميع بلا استثناء للقانون الرباني، عندما قال (لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)، وهي صورة فريدة في إقامة العدل بين الناس. ولقد أفاض التاريخ الإسلامي بيانه بشأن تمثّل قيمة العدل واقعا في حياة المسلمين مع أصحاب الملل الأخرى، فيحكي ابن كثير واقعة عظيمة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عندما سقط درعه وأخذه رجل نصراني فتخاصما إلى القاضي شريح، يقول ابن كثير في البداية والنهاية: «ثم قال (أي علي): هَذَا الدِّرْعُ دِرْعِي وَلَمْ أَبِعْ وَلَمْ أَهَبْ. فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلنَّصْرَانِيِّ: مَا تَقَولُ فِيمَا يَقُولُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا الدِّرْعُ إِلَّا دِرْعِي، وَمَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدِي بِكَاذِبٍ. فَالْتَفَتَ شُرَيْحٌ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ ؟ فَضَحِكَ عَلِيٌّ وَقَالَ: أَصَابَ شُرَيْحٌ، مَا لِي بَيِّنَةٌ. فَقَضَى بِهَا شُرَيْحٌ لِلنَّصْرَانِيِّ. قَالَ: فَأَخْذُهَا النَّصْرَانِيُّ، وَمَشَى خُطًى ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنَّ هَذِهِ أَحْكَامُ الْأَنْبِيَاءِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدَّمَنِي إِلَى قَاضِيهِ، وَقَاضِيهِ يَقْضِي عَلَيْهِ ! أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدِّرْعُ وَاللَّهِ دِرْعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اتَّبَعْتُ الْجَيْشَ وَأَنْتَ مُنْطَلِقٌ إِلَى صِفِّينَ فَخَرَجَتْ مِنْ بَعِيرِكَ الْأَوْرَقِ. فَقَالَ: أَمَا إِذْ أَسْلَمْتَ فَهِيَ لَكَ. وَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ». إنما نسلط الضوء على هذا الخلق، تبيانا لعظمة البناء الأخلاقي في الإسلام، ليكون المسلم معتزا بدينه، وهو يعلم طبيعة المنهج الإسلامي، وأن ما يظهر به بعض المسلمين من أخلاق الظلم والجور، لا يعبر عن المنهج، وإنما كان غرقهم في الظلم ناتجا عن بعدهم عن ذلك المنهج، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

900

| 01 نوفمبر 2024

أحوال السائرين إلى رب العالمين

العبد منذ أن جاء إلى هذه الدنيا في سفر إلى ربه تعالى، كلما مر عليه يوم اقترب وقت وصوله إلى محطة الآخرة، يقول الحسن البصري: «يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يومٌ ذهب بعضك». فأما الذين تنكّبوا عن الصراط السوي، فإنهم يسيرون إلى دار الشقاء تسوقهم الشياطين إلى هذا الطريق كما قال الله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [مريم: 83].قال ابن كثير: «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تُغْوِيهِمْ إِغْوَاءً. وأما السائرون إلى الله وجنّاته، فأولئك قال الله تبارك وتعالى عنهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]. ثلاثتهم من أهل التوحيد والإيمان، ومآلهم إلى جنات النعيم، إلا أنهم متفاوتون في حمل الزاد، كما أنهم متفاوتون في سرعة المسير إلى رب العالمين، وها هو ابن القيم رحمه الله يُحلّق حول أقسام السائرين إلى ربهم فيقول: «فالظالم لنفسه مقصر في الزاد غير آخذ منه ما يبلغه المنزل لا في قدره ولا في صفته، بل مفرط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوده، ومع ذلك فهو متزود ما يتأَذى به في طريقه، ويجد غب أذاه إذا وصل المنزل بحسب ما تزود من ذلك المؤذي الضار». والمقتصد اقتصر من الزاد على ما يبلغه، ولم يشدَّ مع ذلك أحمال التجارة الرابحة، ولم يتزود ما يضره، فهو سالم غانم لكن فاتته المتاجر الرابحة وأنواع المكاسب الفاخرة. والسابق بالخيرات همه في تحصيل الأَرباح وشد أَحمال التجارات لعلمه بمقدار الربح الحاصل، فيرى خسراناً أن يدخر شيئاً مما بيده ولا يتجر به، فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأَرباح تجاراتهم». ويلزم المسافر إلى ربه تعالى قيامه بحق العبودية التي جاء من أجلها إلى الحياة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فإنه لم يُخلق عبثًا {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. ولا يحسبنّ العبد أن عمله كفيلٌ بإدخاله الجنة، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَةٍ). فمهما أتى العبد من الأعمال الصالحة فإنه لا يستحق بها الجنة، إنما هي سبب لنيل رحمة الله تبارك وتعالى، وهذا هو سبيل جمع العلماء بين الحديث وبين الآية الكريمة {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]، وهو ما يجليه ابن تيمية إذ يقول: «{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فَهَذِهِ بَاءُ السَّبَبِ أَيْ: بِسَبَبِ أَعْمَالِكُمْ وَاَلَّذِي نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاءُ الْمُقَابَلَةِ كَمَا يُقَالُ: اشْتَرَيْت هَذَا بِهَذَا أَيْ: لَيْسَ الْعَمَلُ عِوَضًا وَثَمَنًا كَافِيًا فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عَفْوِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فَبِعَفْوِهِ يَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَبِرَحْمَتِهِ يَأْتِي بِالْخَيْرَاتِ وَبِفَضْلِهِ يُضَاعِفُ الْبَرَكَاتِ». فلا يغتر العبد بعمله، فإنه لن يوفي حق الله تعالى، بل إن ملائكته المقربين الذين لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يقولون يوم القيامة عندما يوضع الميزان والصراط: (سبحانك ما عبدناك حق عبادتك). فلن يؤدي المرء حق ربه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن رجلا يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرما في مرضاة الله تعالى لحقره يوم القيامة). العمل سبب لنيل رحمة الله ومغفرته، ولو عاملنا سبحانه بعدله دون رحمته لهلكنا جميعًا، فقد آتانا من النعم ما لا نستطيعه إحصاءً وعدًّا، فعلى السائر إلى الله تعالى أن يجتهد في طاعة ربه وهو يرجو رحمته ويخاف عذابه، يثق في ربه لا في عمله، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..

558

| 25 أكتوبر 2024

حيوية العقيدة

مما اتفقت عليه كلمة أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، ويقصد بالقول: قول القلب بالتصديق وقول اللسان، ويقصد بالعمل: عمل القلب من الإخلاص والنية الصالحة والحب والخوف والرجاء وغيرها من العبادات القلبية، وعمل الجوارح المعروف. وأصل الإيمان في القلب وأعمال الجوارح ثمرة له ودليل عليه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : «فأصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب فلابد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجِب إيمان القلب ومقتضاه وهي تصديقٌ لما في القلب». كان أهل القرون المفضلة يركزون على تلك الحقيقة التي أرساها الدين، أن الإيمان قول وعمل، وأن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان، كما قال الله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة لن تضيع كما قال ابن كثير وغيره من المفسرين، فسمى الصلاة التي هي من أعمال الجوارح إيمانًا، وهو ما دل عليه الحديث (الإيمان بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان). وهذه حقيقة ينبغي الانتباه إليها، فليست العقيدة الإسلامية مجموعة من التصورات النظرية التي يختزنها العبد في أرشيف الذاكرة دون أن يكون لها صدى في واقعه وآثار على جوارحه وسلوكه، فالعقيدة الصحيحة هي التي تترجم إلى عمل ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة. الارتباط بين العقيدة والعمل ينبغي أن يكون أصلًا من أصول الدعوة والتربية الإسلامية، يستصحبها الدعاة في حركاتهم وسكناتهم وبرامجهم الدعوية والتربوية، فليست العقيدة حزمة من المعلومات النظرية التي تصيغ تصورات الإنسان عن الله والكون، إنما هي عقيدة حية، تحيي القلوب والأبدان للتحرك صوب تحقيق العبودية لله تبارك وتعالى وإعمار هذا الكون بمنهج الله. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على هذا الربط، فعندما جاءه رجلٌ يسأله عن الساعة، قال له: (وما أعددت لها)؟، فوجّه السائل إلى ما ينفعه من الأعمال الصالحة التي تنفعه إذا قامت الساعة ووقف بين يدي الله للحساب، خاصة وأن علم الساعة من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل. فالمطلوب من الدعاة الربط دائما بين الكلام عن العقيدة وبين التوجيه للسلوك العملي، ويلاحظ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤية الله تعالى يوم القيامة أنه لم يكتف بتقرير الرؤية، لكنه وجّه معها إلى العلم بمقتضى هذا العلم فقال «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»، ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]، فحوّل الحديث عن مسائل العقيدة وهي رؤية الله إلى برنامج عملي وهو الصلاة. ولما زفّ النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه البشارة بأن سبعين ألفا من أمته يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، أرشدهم إلى ما يُنال به ذلك الفضل العظيم من الأعمال الصالحة، ولم يتركهم أسارى التمنِّي، فبين صفاتهم بقوله (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون). لقد انعكس هذا المسلك النبوي على سلوك صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان التركيز على العمل لا الاكتفاء بالعلم النظري في مسائل التوحيد، يخبرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم (ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له) فآمنوا وصدقوا، ولم يصرفوا تركيزهم في ما لا طائل من السؤال عنه ولا سبيل إلى إدراكه، فلم يسألوا عن كيفية النزول، وإنما اتجهت همتهم لإطالة القيام بالليل والناس نيام، والاستغفار في الأسحار. فحريّ بالدعاة أن يعلموا الناس العقيدة بحيويتها الدافعة إلى العمل لا الاقتصار على حشد المعلومات، فإنما الإيمان قول وعمل، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

648

| 18 أكتوبر 2024

alsharq
السفر في منتصف العام الدراسي... قرار عائلي أم مخاطرة تعليمية

في منتصف العام الدراسي، تأتي الإجازات القصيرة كاستراحة...

1992

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
قمة جماهيرية منتظرة

حين تُذكر قمم الكرة القطرية، يتقدّم اسم العربي...

1584

| 28 ديسمبر 2025

alsharq
محكمة الاستثمار تنتصر للعدالة بمواجهة الشروط الجاهزة

أرست محكمة الاستثمار والتجارة مبدأ جديدا بشأن العدالة...

1122

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
الملاعب تشتعل عربياً

تستضيف المملكة المغربية نهائيات كأس الأمم الإفريقية في...

1083

| 26 ديسمبر 2025

alsharq
بكم تحلو.. وبتوجهاتكم تزدهر.. وبتوجيهاتكم تنتصر

-قطر نظمت فأبدعت.. واستضافت فأبهرت - «كأس العرب»...

927

| 25 ديسمبر 2025

alsharq
لماذا قطر؟

لماذا تقاعست دول عربية وإسلامية عن إنجاز مثل...

666

| 24 ديسمبر 2025

alsharq
مشــروع أمـــة تنهــض بــه دولــة

-قطر تضيء شعلة اللغة العربيةلتنير مستقبل الأجيال -معجم...

663

| 23 ديسمبر 2025

alsharq
حين يتقدم الطب.. من يحمي المريض؟

أدت الثورات الصناعيَّة المُتلاحقة - بعد الحرب العالميَّة...

642

| 29 ديسمبر 2025

alsharq
احتفالات باليوم الوطني القطري

انتهت الاحتفالات الرسمية باليوم الوطني بحفل عسكري رمزي...

558

| 23 ديسمبر 2025

alsharq
معجم الدوحة التاريخي للغة العربية… مشروع لغوي قطري يضيء دروب اللغة والهوية

منذ القدم، شكّلت اللغة العربية روح الحضارة العربية...

534

| 26 ديسمبر 2025

alsharq
التحول الرقمي عامل رئيسي للتنمية والازدهار

في عالم اليوم، يعد التحول الرقمي أحد المحاور...

513

| 23 ديسمبر 2025

alsharq
أول محامية في العالم بمتلازمة داون: إنجاز يدعونا لتغيير نظرتنا للتعليم

صنعت التاريخ واعتلت قمة المجد كأول محامية معتمدة...

480

| 26 ديسمبر 2025

أخبار محلية