رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

محليات alsharq
"فقه الأسرة وقضايا المرأة" أحدث إصدارات الشيخ القرضاوي

تحقيق الزواج لأهدافه والمثل الأعلى الذي يصبو إليه المسلم والمسلمة الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أوْلى الإسلام الأسرةَ رعايتَه وعنايتَه. وقد جعل القرآن تكوينَ الأسر هو سنّة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21). زواج المسيار إن زواج المسيار كما يُسمَّى، ليس شيئًا جديدًا، إنما هو أمر عرفه الناس من قديم، وهو الزواج الذي يذهب فيه الرجل إلى بيت المرأة، ولا تنتقل المرأة إلى بيت الرجل، وفي الغالب: تكون هذه زوجة ثانية، وعنده زوجة أخرى هي التي تكون في بيته وينفق عليها. فرُوح هذا الزواج هو إعفاء الزوج من واجب المسكن والنفقة والتسوية في القَسم بين من تزوجها هذا الزواج، وبين زوجته الأولى أو زوجاته، تنازلًا منها، فهي تريد رجلًا يعفُّها ويُحصِنها ويؤنسها، وإن لم تكلفه شيئًا، بما لديها من مال وكفاية تامة. أذكر في صباي جارة لنا توفي عنها زوجها وترمَّلت، ولم تزل شابة، وترك لها طفلين، وبعد عدة سنوات تزوجت رجلًا من قرية قريبة من قريتنا، ونظرًا لأن لها بيتًا وأولادًا، فكان الرجل هو الذي يأتي إليها كل أسبوع يومًا أو يومين، وقد أعفته من السكنى بحكم وجودها في بيت زوجها السابق مع ولديها، ولم تلزمه بكل النفقة، بحسبها أن يساعدها في ذلك. وكان جاراتها يتغامزْن عليها في أول الأمر، فإن الأرامل في العرف الاجتماعي عندنا لا يُستحسنُ منهن الزواج ( )، ولكن هذه المرأة العاقلة لم تبالِ بذلك، واستفادت من إجازة الشرع لها، واستقر الأمر بعد ذلك، ورضي به الجميع. وقد كان هذا في الأزمنة الماضية قليلًا؛ فقد كان الزواج سهلًا ميسَّرًا، ولم تكن هناك عوائق مادية ولا اجتماعية كالتي نراها في عصرنا، وكان قليل من النساء من لهن مال خاص جاءهن عن طريق الميراث في الغالب، ولهذا لم ينتشر كثيرًا هذا النوع من الزواج الذي تتنازل فيه المرأة الموسرة عن بعض حقوقها. أسباب ظهور بعض أنواع الزواج المعاصر أما في زمننا فقد كثرت عوائق الزواج، ومعظمها مما كسبت أيدي الناس، ونشأ عن ذلك كثرة (العوانس) اللاتي فاتهن القطار، وعشن في بيوت آبائهن محرومات من الحق الفطري لهن في الزواج وفي الأمومة، إضافة إلى المطلقات، وهن للأسف كثيرات، وإلى الأرامل اللاتي مات عنهن أزواجهن، وخلّفوهن وحيدات، أو مع أطفال، وكثيرًا ما يكون معهن ثروة ومال. كما أن الأوضاع في عصرنا قد أعطت كثيرًا من النساء فرصة لتكون لهن موارد خاصة بهن من كسبهن المشروع، كمن تعمل مدرِّسة أو موجِّهة أو طبيبة أو صيدلانية أو محامية أو غير ذلك من أنواع المهن. فكل هذه الأسباب أدَّت إلى شيوعٍ نسبي لهذا النوع من الزواج الذي سمَّوْه (زواج المسيار). وأنا لا أعرف معنى (المسيار)، فهي ليست كلمة معجمية فيما رأيت، إنما هي كلمة عامية دارجة في بعض بلاد الخليج، يقصدون منها: المرور وعدم المكث الطويل. لا عبرة بالأسماء والعناوين وأنا عندما سُئِلت عن هذا الزواج (المسيار)، قلتُ: أنا لا تُهمُّني الأسماء، فالعبرة في الأحكام ليست بالأسماء والعناوين، ولكن بالمسميات والمضامين. وفي القواعد الشرعية لمجلة الأحكام العدلية الشهيرة: العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، وليست للألفاظ والمباني ( ). سمُّوا هذا الزواج ما تسمُّونه، ولكن المهم عندي أن تتحقق أركان عقد الزواج وشروطه. وأول أركان عقد الزواج هو الإيجاب والقبول ممن هو أهل للإيجاب والقبول. وأن يتحقق الإعلام والإعلان به، حتى يتميَّز عن الزنى واتخاذ الأخدان، الذي يكون دائمًا في السر، وهناك حد أدنى في الشرع لهذا الإعلان، وهو وجود شاهدين، ووجود الولي في رأي المذاهب الثلاثة المعروفة: مالك والشافعي وأحمد( ). وألا يكون هذا الزواج مؤقتًا بوقت، بل يدخله الرجل والمرأة بنية الاستمرار( ). وأن يدفع الرجل للمرأة مهرًا، قل أو كثر، وإن كان لها بعد ذلك أن تتنازل عن جزء منه أو عنه كله، لزوجها إذا طابت نفسها بذلك، كما قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}[النساء:4]. بل لو تزوَّجت بغير مهر، صح العقد، وكان لها مهر مثلها ( )، لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236]. والفريضة هنا المهر. فإذا وجدت هذه الأمور الأربعة: الإيجاب والقبول من أهلهما، والإعلام ولو في حده الأدنى، وعدم التأقيت، والمهر، ولو تنازلت عنه المرأة بعد ذلك، فالزواج صحيح شرعًا، وإن تنازلت المرأة فيه عن بعض حقوقها، ما عدا حق الجماع الذي لا يجوز أن يشرط في العقد، لأنه شرط ينافي مقصود العقد، فيبطله ( ). ولا يملك الفقيه أن يبطل مثل هذا العقد المستوفي لأركانه وشروطه، ويعتبر هذا الارتباط لونًا من (الزنى) لمجرد تنازل المرأة فيه عن بعض حقوقها، فهي إنسان مكلَّف، وهي أدرى بمصلحتها، وقد ترى- في ضوء فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد- أن زواجها من رجل يأتي إليها في بعض الأوقات من ليل أو نهار: أولى وأفضل من بقائها وحيدة محرومة أبد الدهر. والعاقل الحكيم هو الذي يعرف خير الشرين، ويرتكب أخف الضررين، ويفوّت أدنى المصلحتين. فهل يجوز للمرأة أن تتنازل عن بعض حقوقها؟ وهل يؤثر هذا في صحة العقد؟ أعتقد أن فقيهًا لا يملك أن يمنع المرأة من التنازل عن بعض حقوقها بمحض إرادتها لمصلحتها هي التي تقدِّرها، وهي امرأة بالغة عاقلة رشيدة، ليست طفلة ولا مجنونة ولا سفيهة. وإذا أخذنا بمذاهب الأئمة الثلاثة الذين يشترطون وجود الولي أو إذنه- وهو المعمول به في بلاد الخليج، حيث ينتشر المذهب المالكي والحنبلي- فمع المرأة أيضًا وليها من أب أو أخ، ولا يُتصوَّر أن يرضى لها الضياع أو الهوان. ولا يخفى أن في الحياة- كما نشاهدها- عوامل وأسبابًا، تجعل الإنسان يتنازل عن بعض حقوقه، تحصيلًا لما هو أهم منها. وأنا أفضِّل ألا يُشترط مثل هذا التنازل في صُلْب العقد، وأن يكون أمرًا متفاهمًا عليه عُرفًا، على أن ذكره في صلب العقد لا يبطله. وأرى وجوب احترام هذه الشروط. زواج المسيار وتحقيق أهداف الزواج الشرعي ويقول بعض المعترضين على زواج المسيار: إن هذا الزواج لا يحقق كل الأهداف المنشودة من وراء الزواج الشرعي، فيما عدا المتعة والأنس بين الزوجين، والزواج في الإسلام له مقاصد أوسع وأعمق من هذا، من الإنجاب والسكون والمودة والرحمة. وهذا يتَّفق مع رواية نقلت عن الإمام أحمد في زواج النهاريات أو الليليات، قال: ليس من نكاح الإسلام. يعني: ليس هو النكاح الكامل، كما تقول: ليس بمؤمن من لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وأنا لا أنكر هذا، وأن هذا النوع من الزواج ليس هو الزواج الإسلامي المثالي المنشود، ولكنه الزواج الممكن، والذي أوجبته ضرورات الحياة، وتطور المجتمعات، وظروف العيش، وعدم تحقيق كل الأهداف المرجوة لا يلغي العقد، ولا يبطل الزواج، إنما يخدشه وينال منه، وقد قيل: ما لا يدرك كله، لا يترك كله. والقليل خير من العدم. هب أن رجلا تزوج امرأة عاقرًا لا تنجب، أو أن امرأة تزوجت رجلًا عقيمًا، فهل يكون هذا الزواج باطلًا، إذ لا إنجاب فيه؟ هب أن رجلا تزوج امرأة في سن اليأس لم تعد صالحة للحمل، فهل في ذلك مانع شرعًا؟ وهب أن رجلا تزوج امرأة (نكدية) كدرت عليه حياته، ونغصت عليه عيشه، ولم يجد معها سكينة ولا مودة ولا رحمة، هل يفسخ العقد بينهما بذلك؟ إن تحقيق الزواج لأهدافه كلها هو المثل الأعلى الذي يصبو إليه المسلم والمسلمة، ولكن ما كل ما يتمنَّى المرء يدركه، والمسلم يحاول أن يحصل من هذه الأهداف ما يقدر عليه. والأصل في الزواج أن يعيش الزوج مع زوجته ليلًا ونهارًا صيفًا وشتًاء، ولكن كثيرًا من الأزواج يسافرون في مهام تجارية أو صناعية أو وظيفية أو غيرها، ويتركون زوجاتهم أيامًا وليالي، بل أشهرًا عدة في بعض الأحيان، وهذا لا يبطل الزواج القائم. ولهذا اشترط بعض المذاهب ألَّا يغيب الزوج عن زوجته أربعة أشهر- وبعضها قال: ستة أشهر- متصلة، إلا لضرورة، أو بإذن الزوجة ( ). وكان الناس في قطر وبلاد الخليج أيام الغوص يتغرَّبون عن وطنهم وأهليهم بالأشهر، وبعضهم كان يتزوج في بعض البلاد الإفريقية أو الآسيوية التي يذهب إليها، ويقيم مع المرأة الفترة التي يبقى فيها في تلك البلدة، التي تكون عادة على شاطئ البحر، ويتركها ويعود إلى بلده، ثم يعود إليها مرة أخرى، إن تيسر له السفر. فهذا زواج اقتضته الحاجة، ورضيت به المرأة وأهلها، وهم يعلمون أن هذا الرجل لن يبقى معهم إلا فترة من الزمن، وقد يعود إليهم وقد لا يعود، ولم يعترض على هذا الزواج معترض. وأحب أن أقول لبعض الإخوة الذين يهوِّنون من هدف الإمتاع والإحصان، ويحقِّرون من شأن المرأة التي تتزوج لتستمتع بالرجل في الحلال، ولا تفكر في الحرام، ويعتبرون هذا انحطاطًا بكرامة المرأة، ونزولًا بقدرها، أحب أن أقول لهؤلاء كلمة صريحة: إن هدف الإمتاع والإحصان ليس هدفًا هيِّنًا، ولا مَهينًا، كما تتَصَوَّرون وتُصَوِّرون. بل هو أول أهداف الزواج، ولهذا لا يجوز التنازل عنه في العقد، وفي الحديث الصحيح المعروف: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج" ( ). العفة والإحصان فالعفة والإحصان قيمة كبيرة من قيمنا الإسلامية، وهي مما يميز مجتمعنا عن المجتمعات السائبة المتحللة، وحاجة الرجل إلى المرأة، وحاجة المرأة إلى الرجل: حاجة فطرية، ولا ينظر الإسلام إليها نظرة بعض الأديان الأخرى على أنها قذارة أو رجس، بل هي غريزة فطر الله الناس عليها، ولا بد من تسهيل الطرق الشرعية إليها، حتى لا يضطر النـاس إلى ركوب الحرام، ولا سيما في عصر فتحت فيه أبواب المحرمات على مصاريعها، وكثرت فيه المغريات بالمنكر، والمعوقات عن المعروف. إن الإسلام لم يستنكف من الاستمتاع الجنسي، ولم يقلل من شأنه إذا كان حلالًا، بل قال الرسول الكريم: "وفي بضع أحدكم صدقة!". قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أليس إذا وضعها في حرام، كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر"( ). والمجتمع الغربي المعاصر- في إطار حضارته المادية الإباحية المعاصرة- حَلَّ هذه المشكلة: مشكلة الغريزة الجنسية، وحاجة الرجل والمرأة الفطرية كليهما للآخر، بإطلاق العنان لكل منهما، يستمتع بصاحبه بلا عقد ولا رباط مقدس، ولا مسؤولية أخلاقية، ولا دينية، ولا قانونية. أجل، حل الغرب هذه المشكلة عن طريق ما سموه (البوي فرند) و(الجيرل فرند). ونحن لا نملك أن نحل هذه المشكلة بهذه الطريقة، إذ لا بد عندنا من عقد ومن رباط شرعي. فلماذا يحقر بعض الناس هذا الجانب المهم في حياة الإنسان، وهو جانب فطري لا حيلة في دفعه، ولماذا يتظاهرون وكأنهم ملائكة مطهَّرون، لا يحتاجون إلى الجنس، ولا يفكرون فيه؟!

7096

| 04 يوليو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: لا يجوز للزوجة التصرف في مال زوجها إلا بإذنه

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د.يوسف القرضاوي الحلقة : التاسعة والعشرون الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21). فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معا، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم وأحفال الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك". "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". وهو — إذ يُيَسِّر أسباب الحلال — يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35) أنواع النفقات قال في الانتصار: ومذهب الشافعي، لا تجب أجرة الحمَّام وثمن الأدوية وأجرة الطبيب؛ لأن ذلك يراد لحفظ البدن، كما لا يجب على المستأجر أجرة إصلاح ما انهدم من الدار. وقال في الغيث: الحجة أن الدواء لحفظ الروح، فأشبه النفقة. انتهى. قلت: هو الحق لدخوله تحت عموم قوله: "ما يكفيكِ". وتحت قوله: {رِزْقُهُنَّ}. فإن الصيغة الأولى عامة باعتبار لفظ (ما)، والثانية عامة، لأنها مصدر مضاف، وهي من صيغ العموم واختصاصه ببعض المستحقين للنفقة لا يمنع من الإلحاق)). انتهى كلام الإمام الشوكاني، وقد نقله السيد صديق حسن خان في (الروضة الندية). هل يدخل علاج الزوجة ضمن النفقة؟ من الفتاوى ما يحمل طابع زمانه؛ لأن الإنسان وإن كان من الفقهاء لا يستطيع أن يتحرَّر من تأثير زمانه ومكانه، إلا نادرًا، ولهذا قرر المحقِّقون من علمائنا: أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال. وهو ما يلحظه كل دارس للفقه وأثر هذا التغير فيه. وهو ما جعلنا نصدر كتابنا (موجبات تغير الفتوى في عصرنا). وأوردنا فيه عشرة موجبات في عصرنا لتغير الفتوى. ومن ذلك: ما قرره الفقهاء حول دخول المداواة والعلاج في (نفقه المرأة) الواجبة على الزوج، والتي ينبغي أن تدخل ضمن المعاشرة بالمعروف، التي أمر بها القرآن في قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[النساء:19]، وليس من المعروف أن يراها الزوج تتلوى أمامه من الألم، لوجع في الكلية او المثانة أو الضرس، ولا يُحضر لها الدواء اللازم لها، أو يعرضها على الطبيب الذي يشخِّص الداء ويصف الدواء. وهذا يتنافى مع ما شرعه الإسلام من الرحمة بالضعفاء، والمريض منهم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء". بل هذا يتفق مع القسوة التي ذمَّ الله أصحابها، كما قال مخاطبًا بني إسرائيل: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}[البقرة:74]. {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}[المائدة:13]. ثم هناك قاعدة فقهية متَّفق عليها، وهي: لا ضرر ولا ضرار. وهي قاعدة قطعية عامة، مقتبسة من نص حديث نبوي، وهي كذلك مقتبسة من جملة آيات صريحة من القرآن في منع الضرر والضرار. ومنها أخذت قواعد فرعية، مثل قاعدة: الضرر يزال بقدر الإمكان. ولا ريب أن المرض ضرر بصاحبه، وخصوصًا إذا كان مؤلِمًا لصاحبه، وإذا كان علاجه معروفًا. مال الزوج ليس للمرأة الحق في التصرف بمال زوجها إلا بإذنه، حتى الصدقة لا يجوز لها أن تتصدق إلا بإذنه، فإذا أذن لها إما بالكلام أو بدلالة الحال فيها، وإلا فليس لها أن تفعل، خاصة إذا علمت أنه يغضب لهذا، أو إذا نهاها أن تفعل، فعندئذ لا يجوز لها أن تخالف وتفعل بماله ما لم يأذن به. الحقوق الجنسية بين الزوجين إن العلاقة الجنسية بين الزوجين أمر له خطره وأثره في الحياة الزوجية، وقد يؤدي عدم الاهتمام بها، أو وضعها في غير موضعها، إلى تكدير هذه الحياة، وإصابتها بالاضطراب والتعاسة. وقد يفضي تراكم الأخطاء فيها إلى تدمير الحياة الزوجية والإتيان عليها من القواعد. وربما ظن بعض الناس أن الدين أهمل هذه الناحية برغم أهميتها، وربما توهم آخرون أن الدين أسمى وأظهر من أن يتدخل في هذه الناحية بالتربية والتوجيه، أو بالتشريع والتنظيم، بناء على نظرة بعض الأديان إلى الجنس على أنه ((قذارة وهبوط حيواني)). والواقع أن الإسلام لم يغفل هذا الجانب الحسَّاس من حياة الإنسان وحياة الأسرة، وكان له في ذلك أوامره ونواهيه، سواء منها ما كان له طبيعة الوصايا الأخلاقية، أم كان له طبيعة القوانين الإلزامية. وأول ما قرره الإسلام في هذا الجانب هو الاعتراف بفطرية الدافع الجنسي وأصالته، وإدانة الاتجاهات المتطرفة التي تميل إلى مصادرته، أو اعتباره قذرًا وتلوثًا.. كما قرَّر بعد الزواج حق كل من الزوجين في الاستجابة لهذا الدافع، ورغب في العمل الجنسي الحلال إلى حد اعتباره عبادة وقربة إلى الله ولكن الإسلام راعى أن الزوج بمقتضى الفطرة والعادة هو الطالب لهذه الناحية والمرأة هي المطلوبة. وأنه أشد شوقًا إليها، وأقل صبرًا عنها، على خلاف ما يشيع بعض الناس أن شهوة المرأة أقوى من الرجل، فقد أثبت الواقع خلاف ذلك.. وهو عين ما أثبته الشرع. ولهذا أوجب على الزوجة أن تستجيب للزوج إذا دعاها إلى فراشه، ولا تتخلف عنه كما في الحديث: "إذا دعا الرجل زوجته لحاجته، فلتأته وإن كانت على التَّنُّور" وحذرها أن ترفض طلبه بغير عذر، فيبيت وهو ساخط عليها، وقد يكون مفرِّطًا في شهوته وشبقه، فتدفعه دفعًا إلى سلوك منحرف أو التفكير فيه، أو القلق والتوتر على الأقل: "إذا دعا الرجل امرأته، فأبت أن تجيء، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح". وهذا كله ما لم يكن لديها عذر معتبر من مرض أو إرهاق، أو مانع شرعي، أو غير ذلك. وعلى الزوج أن يُراعي ذلك، فإن الله سبحانه — وهو خالق العباد ورازقهم وهاديهم — أسقط حقوقه عليهم إلى بدل أو إلى غير بدل، عند العذر، فعلى عباده أن يقتدوا به في ذلك. وتتمة لذلك نهاها أن تتطوع بالصيام، وهو حاضر إلا بإذنه؛ لأن حقه أولى بالرعاية من ثواب صيام النافلة، وفي الحديث المتفق عليه: "لا تصوم المرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه". والمراد صوم التطوع بالاتفاق كما جاء في ذلك حديث آخر، بخلاف صوم رمضان، فهو فرض عليها، فلا يحق له أن يلزمها بالفطر. والإسلام حين راعى قوة الشهوة عند الرجل، لم ينس جانب المرأة، وحقها الفطري في الإشباع بوصفها أنثى. ولهذا قال النبي لمن كان يصوم النهار ويقوم الليل من أصحابه مثل عبد الله بن عمرو: "إن لبدنك عليك حقًّا، وإن لأهلك (أي امرأتك) عليك حقًا" ومما لفت الإسلام إليه النظر: ألا يكون كل هم الرجل قضاء وطره هو دون أي اهتمام بأحاسيس امرأته ورغبتها. ولهذا روي في الحديث الترغيب في التمهيد للاتصال الجنسي بما يشوِّق إليه من المداعبة والقبلات ونحوها، حتى لا يكون مجرد لقاء حيواني محض، كل همه أن يفرغ ماءه فيها ويستريح. ولم يجد أئمة الإسلام وفقهاؤه العظام بأسًا أو تأثيمًا في التنبيه على هذه الناحية التي قد يغفل عنها بعض الأزواج. خلاصة القول إن الإسلام عُنِي بتنظيم الناحية الجنسية بين الزوجين، ولم يهملها حتى ان القرآن الكريم ذكرها في موضعين من سورة البقرة التي عنيت بشؤون الأسرة: أحدها: في أثناء آيات الصيام وما يتعلق به حيث يقول تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}[البقرة:187]. وليس هناك أجمل ولا أبلغ ولا أصدق من التعبير عن الصلة بين الزوجين من قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}[البقرة:187] بكل ما توجبه عبارة "اللباس" من معاني الستر والوقاية والدفء والملاصقة والزينة والجمال. الثاني: قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[البقرة:222، 223]. وقد جاءت الأحاديث النبوية تفسِّر الاعتزال في الآية الأولى بأنه اجتناب الجماع فقط دون ما عداه من القبلة والمعانقة والمباشرة ونحوها من ألوان الاستمتاع، كما تفسِّر معنى {أَنَّى شِئْتُمْ} بأن المراد: على أي وضع أو أي كيفية اخترتموها ما دام في موضع الحرث، وهو القُبُل، كما أشارت الآية الكريمة. وليس هناك عناية بهذا الأمر أكثر من أن يذكر قصدًا في دستور الإسلام وهو القرآن الكريم.

4362

| 03 يوليو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: لا يحل لمسلم أن يضرب وجه زوجته لما فيه من إهانة

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د. يوسف القرضاوي الحلقة: الثامنة والعشرون الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21). فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معا، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم وأحفال الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك". "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". وهو — إذ يُيَسِّر أسباب الحلال — يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35) حقوق عامة بين الزوجين والزواج — كما أسلفنا — عهد وثيق، ربط الله به بين رجل وامرأة، أصبح كل منهما يسمى بعده (زوجًا) بعد أن كان (فردًا)، هو في العدد فرد، وفي ميزان الحقيقة (زوج)؛ لأنه يمثل الآخر، ويحمل في حناياه آلامه وآماله معًا. وقد صوَّر القرآن الكريم مبلغ قوة هذا الرباط بين الزوجين فقال: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}[البقرة:187]. وهو تعبير يُوحي بمعاني الاندماج والستر، والحماية والزينة، والغطاء والدفء، يحققها كل منهما لصاحبه. ولهذا كان على كلٍّ من الزوجين حقوق لصاحبه، لا بد أن يرعاها، ولا يجوز له أن يفرِّط فيها، وهي حقوق متكافئة، إلا فيما خصت الفطرة به الرجال، كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}[البقرة:228]. وهي درجة القوامة والمسؤولية. من حقوق الزوجة على زوجها: وقد سأل رجلٌ النبيَّ فقال: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الـوجـه، ولا تُقبِّح، ولا تهجر إلا في البيت". فلا يحل للزوج المسلم أن يهمل النفقة على زوجته وكسوتها، وفي الحديث النبوي: "كفى إثمًا أن تحبس عمن تملك قوته"، وفي رواية: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع من يقوت". ولا يحل له أن يضرب وجه زوجته، لما فيه من إهانة لكرامة الإنسان، ومن خطر على هذا العضو الذي يجمع محاسن الجسم. وإذا جاز للمسلم عند الضرورة أن يؤدِّب زوجته الناشزة المتمرِّدة، فلا يجوز له أن يضربها ضربًا مُبرِّحًا، أو ضربًا يصيب وجهها أو مقاتلها. كما لا يحل للمسلم أن يُقبِّح زوجته، بأن يؤذيها بلسانه، ويُسمعها ما تكره، ويقول لها: قبحك الله، وما يشابهها من عبارات تثير النفور. من حقوق الزوج على زوجته ومن حق الزوج على الزوجة ألا تهجر له فراشًا، قال رسول الله : "إِذَا بَاتَتِ المَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا، لَعَنَتْهَا المَلاَئِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ". وألا تُدخِل أحدًا بيته دون علمه وإذنه، ولهذا قال : "ولكم عليهن أن لا يوطِئْن فرشكم أحدًا تكرهونه". والظاهر من كلمة (أحدًا) في الحديث هو الرجل. وعند أحمد وغيره حديث: "إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئتِ". على كل من الزوجين أن يصبر على صاحبه ويجب على المسلم أن يصبر على زوجته، إذا رأى منها بعض ما لا يعجبه من تصرفها، ويعرف لها ضعفها بوصفها أنثى، فوق نقصها باعتبارها إنسانًا، ويعرف لـهـا حسناتـهـا بجانب أخطائها، ومزاياها إلـى جـوار عيوبها. وفـي الحديث: "لا يَفْرَك — أي لا يُبغض — مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلُقًا رضي منها آخر". وقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}[النساء:19]. وكما أوجب الإسلام على الزوج الاحتمال والصبر على ما يكره من زوجته، أُمرت الزوجة هي الأخرى أن تعمل على استرضاء زوجها، بما عندها من قدرة وسحر، وحذَّرها أن تبيت وزوجها غاضب عليها. وفي الحديث: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرًا: رجل أمَّ قومًا وهـم لـه كـارهـون، وامـرأة باتت وزوجـها عليـها سـاخـط، وأخـوان متصارمـان". أي: متخاصمان. حق الزوجة في النفقة الملائمة لحالها وحال زوجها ولم يحدِّد الشرع في النفقة على المرأة مقدارًا معينًا من الدراهم أو غيرها، بل الواجب هو تلبية حاجتها بالمعروف، والحاجة تختلف من عصر لآخر، ومن بيئة لأخرى، ومن وسط لآخر، ومن رجل لآخر، فالمدنية غير الريفية، والحضرية غير البدوية، والمثقفة غير الأمية، والناشئة في بحبوحة النعيم غير الناشئة في خشونة الشظف، وزوجة الثري غير زوجة المتوسط غير زوجة الفقير وفي متعة المطلقة نبَّه على هذا المعنى فقال: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:236]. وقيل: كان لعلي أربع نسوة، فكان يشتري لكل واحدة في كل أربعة أيام لحمًا بدرهم. وقال ابن سيرين: يستحبُّ للرجل أن يعمل لأهله في كل جمعة فالوذجة (نوعًا من الحلوى))). قال الغزالي: ((وكأن الحلاوة وإن لم تكن من المهمات، ولكن تركها بالكلية تقتير في العادة. ولا ينبغي أن يستأثر عن أهله بمأكول طيب، فلا يطعمهم منه، فإن ذلك مما يوغر الصدور، ويبعد عن المعاشرة بالمعروف، فإن كان مزمعًا على ذلك، فليأكل بخُفية، بحيث لا يعرف أهله، ولا ينبغي أن يصف عندهم طعامًا لا يريد إطعامهم إياه. وإذا أكل فيقعد العيال كلهم على مائدته..)). نفقة المرأة بقدر كفايتها ولكن ما الذي يفرضه الشرع للزوجة من النفقة ومطالب المعيشة؟ لنسمع ما يقوله في ذلك الفقه المستند إلى الكتاب والسنة.. قال شيخ الإسلام ابن قدامة الحنبلي في كتابه (الكافي): ((يجب للمرأة من النفقة قدر كفايتها بالمعروف، لقول النبي لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". ولأن الله قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة:233]. والمعروف: قدر الكفاية؛ لأنها واجبة لدفع الحاجة. فتقدَّرت بالكفاية كنفقة المملوك، فإذا ثبت أنها غير مقدَّرة، فإنه يرجع في تقديرها إلى الحاكم (أي القاضي) فيفرض لها قدر كفايتها من الخبز والأُدْم. ويجب لها في القوت الخبز؛ لأنه المُقتات في العادة. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}[المائدة:89] الخبز والزيت. وعن ابن عمر: الخبز والسمن، والخبز والزيت، والخبز والتمر. ومن أفضل ما تطعمهم: الخبز واللحم. ويجب لها من الأُدْم بقدر ما تحتاج إليه من أُدْم البلد: من الزيت والسِّيرج (دهن السمسم) والسمن واللبن واللحم، وسائر ما يؤتدَم به؛ لأن ذلك من النفقة بالمعروف، وقد أمر الله تعالى ورسوله به. ويختلف ذلك بيسار الزوج وإعساره، لقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}[الطلاق:7] ويعتبر حال المرأة أيضًا، لقول النبي : "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". فيجب للموسِرة تحت الموسِر من أرفع خبز البلد وأُدْمه بما جرت به عادة مثلها ومثله، وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد وأُدْمه على قدر عادتهما، وللمتوسطة تحت المتوسط (يعني: أوسط ذلك). وإذا كان أحدهما غنيًا والآخر فقيرًا، ما بينهما كل على حسب عادته؛ لأن إيجاب نفقة الموسرين على المعسر، وإنفاق الموسر نفقة المعسرين، ليس من المعروف، وفيه إضرار بصاحبه. وتجب الكسوة للآية والخبر، ولأنه يحتاج إليها لحفظ البدن على الدوام، فلزمته كالنفقة. ويجب للموسرة تحت الموسر من رفيع ما يُلبس في البلد من الإبريسم والخز (نوعان من الحرير) والقطن والكتان، وللفقيرة تحت الفقير من غليظ القطن والكتان، وللمتوسطة تحت المتوسط. وإذا كان أحدهما موسرًا، والآخر معسرًا، ما بينهما على حسب عوائدهم في الملبوس، كما قلنا في النفقة. ويجب لها مسكن؛ لأنها لا تستغني عنه للإيواء، والاستتار عن العيون، للتصرف والاستمتاع، ويكون ذلك على قدرهن، كما ذكرنا في النفقة. وإن كانت ممن لا يخدم نفسها، لكونها من ذوات الأقدار، أو مريضة، وجب لها خادم، لقوله تعالى {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[النساء:19]. وإخدامها من العِشرة بالمعروف، ولا يجب لها أكثر من خادم؛ لأن المستحق خدمتها في نفسها، وذلك يحصل بخادم واحد، ولا يجوز أن يُخدِمها إلا امرأة، أو ذو رحم محرم، أو صغير)). وقال صاحب (الروضة الندية) في بيان ما يجب للزوجة على الزوج من النفقة: ((هذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، والأحوال والأشخاص، فنفقة زمن الخَصْب المعروف فيها غير المعروف في زمن الجدب. نفقة أهل البوادي ونفقة أهل البوادي المعروف فيها ما هو الغالب عندهم، وهو غير المعروف من نفقة أهل المدن. وكذلك المعروف من نفقة الأغنياء على اختلاف طبقاتهم، غير المعروف من نفقة الفقراء، والمعروف من نفقة أهل الرياسات والشرف، غير المعروف من نفقة أهل الوَضَاعات. فليس المعروف المشار إليه في الحديث، هو شيء متَّحد، بل مختلف باختلاف الاعتبار))( )اهـ. وذكر الإمام الشوكاني في كتابه (الفتح الرباني) اختلاف المذاهب في تقدير النفقة بمقدار معين، وعدم التقدير، فذهب جماعة من أهل العلم، وهم الجمهور، إلى أنه لا تقدير للنفقة إلا بالكفاية، وقد اختلفت الرواية عن الفقهاء القائلين بالتقدير، فقال الشافعي: على المسكين المتكسب مُدٌّ، وعلى الموسر مُدَّان، وعلى المتوسط مُدٌّ ونصف. وقال أبو حنيفة: على الموسر سبعة دراهم إلى ثمانية في الشهر، وعلى المعسر أربعة دراهم إلى خمسة. قال بعض أصحابه: هذا التقدير في وقت رخص الطعام، وأما في غيره فيعتبر بالكفاية.

2324

| 02 يوليو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: تكريم المرأة بأن تكون هي المطلوبة لا الطالبة وراء شرعية المهر

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د. يوسف القرضاوي الحلقة: السابعة والعشرون الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21). فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معا، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم وأحفال الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك". "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". وهو — إذ يُيَسِّر أسباب الحلال — يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35) * ما يترتب على عقد الزواج الصحيح رتب الشرع على عقد النكاح الصحيح، عدة أمور بعضها يكون بمجرد العقد، وبعضها يجب بالبناء بالزوجة: 1- ثبوت حرمة المصاهرة: فيحرم على الزوج بمجرد العقد أم زوجته وإن علت على التأبيد، سواء دخل بها، أم لم يدخل بها، وسواء طلقها قبل الدخول أم توفيت قبل الدخول، وكذا يحرم عليه أن يجمع بينها وبين عمتها وخالتها حتى تموت أو يطلقها، وكذا يحرم على الزوجة المعقود عليها أصول العاقد وفروعه، لكن لا تحرم بنت المعقود عليها إلا بالدخول بالأم لقوله تعالى في آية المحرمات: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}[النساء:23]. وقد فصلنا القول في ذلك في أثناء حديثنا عن المحرمات من النساء. 2- المهر: المهر أو الصداق، وهو ما يعطى من الرجل للمرأة عند الزواج ثابت بالكتاب والسنة وبالإجماع، استقر العمل عليه، وعرفه الخاص والعام من أبناء المسلمين فأصبح من المعلوم من الدين بالضرورة. أما الكتاب فقوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء:24]. وقال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}[النساء:4]. وأما السنة، فلحديث المرأة التي وهبت نفسها للنبي، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجةٌ فزوِّجنِيها. فقال: "فهل عندك من شيء؟". فقال: لا والله يا رسول الله. فقال: "اذهب إلى أهلِك فانظر: هل تجِدُ شيئًا؟". فذهب، ثم رجع، فقال: لا والله، ما وجدت شيئًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظُرْ ولو خاتَمًا من حديد". فذهب، ثم رجع فقال: "لا، والله يا رسول الله، ولا خاتَمًا من حديد، ولكن هذا إزاري، فلها نصفه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تصنع بإزارك؟ إن لَبِستَهُ لم يكن عليها منه شيء، وإن لبِسَتْهُ لم يكن عليك منه شيء". فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا، فأمر به فَدُعِيَ، فلما جاء قال: "ماذا معك من القرآن؟". قال: معي سورة كذا، وسورة كذا - عَدَّدها - قال: "تقرؤهنَّ عن ظهر قلبك؟". قال: نعم. قال: "اذهب، فقد ملَّكْتُكَها بما معك من القرآن"( ). وأما الإجماع فقد أجمعت الأمة سلفا وخلفا على مشروعية الصداق. ولا يحل للزوج أن يمطل زوجتها مهرها إذا طلبته، أو يسترده منها- كله أو بعضه- بعد دفعه لها، قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}[النساء:20، 21]. إلا أن تختلع هي من غير مضارة من الزوج، لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}[البقرة:229]. فإذا تنازلت له عن شيء منه راضية غير مكرهة فلا بأس بأخذه، لقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}، وإذا رضي الزوج بالزيادة على ما تراضيا عليه فلا حرج في ذلك. قال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}. والحكمة من وراء شرعية هذا المهر عدة أمور: أ‌- تكريم المرأة بأن تكون هي المطلوبة لا الطالبة، والتي يسعى إليها الرجل لا التي تسعى إلى الرجل، فهو الذي يطلب ويسعى ويبذل، على عكس الأمم التي تُكلِّف المرأة أن تبذل هي للرجل من مالها، أو مال أهلها، حتى يقبل الزواج منها. وهذا عند الهنود وغيرهم، حتى إن المسلمين في باكستان والهند ما زال فيهم رواسب من هذه الجاهلية الهندوسية إلى اليوم، مما يكلف المرأة وأهلها شططًا، ويرهقهم عسرًا، إلى حد أن بعض الأسر تبيع ما تملك لتزوج بناتها، ويا ويل أبي البنات الفقير، وأم البنات الأرملة المسكينة! ب‌- إظهار الرجل رغبته في المرأة ومودته لها، فهو يعطيها هذا المال نحلة منه، أي عطية وهدية وهبة منه، لا ثمنًا للمرأة كما يقول المتقولون.. وفي ذلك يقول القرآن بصريح العبارة: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}[النساء:4]. ج‌- الإشعار بالجدية، فالزواج ليس ملهاة يتسلى بها الرجال، فيتزوج الرجل المرأة ويربطها به، ثم لا يلبث أن يدعها ليجد أخرى.. وهكذا. وقد اتفق الفقهاء على وجوب المهر كاملًا للمدخول بها، فإذا لم يسم لها مهرا فلها مهر المثل إن تنازعا، أو مهر المثل إن اتفقا على ذلك. ويجب للمعقود عليها نصف المهر المُسمَّى إن طلقت قبل الدخول لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة:237]. والمتوفى عنها قبل الدخول لها المهر كاملا، بالإجماع، تستحقه من تركته بعد تجهيزه وقبل تقسيم الميراث؛ لأنه دين. أما إذا لم يسم المهر في عقد الزواج( )، وطلقت المرأة، أو توفي عنها زوجها، فما يكون لها؟ اتفق الفقهاء على أنها إن طُلِّقت ليس لها إلا المتعة لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:236]. على خلاف بينهم في وجوبها، فإلى الوجوب ذهب جمهور الفقهاء؛ لأن الأمر يقتضي الوجوب، ولا يعارضه قوله {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} لأن أداء الواجب من الإحسان، ولأن المفوضة لم يجب لها شيء فتجب لها المتعة للإيحاش، وإلى الندب ذهب المالكية، وهو القديم عند الشافعية، لقوله تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} قالوا: ولو كانت واجبة لم يخص بها المحسنون دون غيرهم، والحقيقة أن المحسنين يراد بهم المؤمنون، الذين يحرصون على الإحسان ما استطاعوا. أما موته عنها قبل الدخول، فذهب الجمهور إلى أنه إن مات الزوج عن المفوضة قبل الدخول، فلها مهر مثلها، لحديث عبد الله بن مسعود، في رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها الصداق، فقال: لها الصداق كاملا، وعليها العدة، ولها الميراث. فقال معقل بن سنان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بروع بنت- وكان زوجها مات ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقا- فجعل لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط ( ). وذهب المالكية إلى: أنه لا صداق لها وإن ثبت لها الميراث( ). 3- التوراث بين الزوجين: رتب الإسلام على مجرد عقد النكاح الصحيح التوارث بين الزوجين، قال تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}[النساء:12] فللزوج نصف تركة زوجته المتوفاة إن لم يكن لها ولد ذكرا كان أو أنثى، فإذا كان لها ولد كان للزوج الربع، وللزوجة الربع من تركة زوجها إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد فلها الثمن، وسواء في ذلك كون الوفاة قبل الدخول أو بعده. 4- عدة الوفاة: فتجب العدة على المتوفَّى عنها قبل الدخول وبعده، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة:234]. ولم يقيده بدخول ولا غيره، أما عدة المطلقة فلا تجب إلا بالدخول، لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}[الأحزاب:49].

6435

| 01 يوليو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: زواج " التحليل" من الشروط الفاسدة التى تبطل الزواج

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د. يوسف القرضاوي الحلقة: السادسة والعشرون الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21). فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معا، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم وأحفال الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك". "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". وهو — إذ يُيَسِّر أسباب الحلال — يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35) * الشروط الفاسدة أما الشروط الفاسدة فهي نوعان: نوع يُبطل الزواج، ونوع لا يبطله. فأما الذي يبطله فله أقسام: الشغار: الأول: ما يعرف بـ(الشِّغَار)، ومعناه: أن يزوِّج الرجل ابنته، على أن يزوِّجه الآخر ابنته، وليس بينهما صداق. وقد نهى عنه النبي، ورُوِيَ عن الصحابة أنهم فرَّقوا بين الزَّوْجين. زواج التحليل الثاني: ما يعرف بزواج (التحليل)، وهو الذي يتزوج المرأة المطلَّقة من زوجها ثلاثًا، بشرط أن يطلِّقها إذا أحلَّها للأول، فهذا ليس زوجًا وإنما هو واسطة، وقد حرمه النبي ولعن فاعله. فقال: "لعن الله المحلِّل والمحلَّل له". والسر في ذلك أن الزواج الذي شرعه الإسلام لا بد من أن تصحبه نية التأبيد، حتى يؤتي ثماره المرجوة من السكن والمودة والرحمة والنسل وغيرها. وزواج المحلَّل على غير هذه السُّنة، فإنه إنما يتزوجها ليلة أو ليلتين، أو ساعة أو ساعتين، أو أدنى من ذلك أو أكثر، لا لشيء من تلك الأغراض النبيلة، بل لمجرد أن تحلَّ للأول، وسواء اشترط ذلك باللسان أم نواه بقلبه، فهو حرام وباطل. روى نافع عن ابن عمر: أن رجلًا قال له: تزوجتها أحلُّها لزوجها، لم يأمرني، ولم يعلم! قال: لا؛ إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها. ثم قال: وإن كنا لنعده على عهد رسول الله سفاحًا. زواج المتعة الثالث: ما يعرف بزواج (المتعة)، ومعناه: أن يتزوج الرجل امرأة لمدة يحددانها؛ نظير أجر معين. والزواج في الإسلام عقد متين، وميثاق غليظ، يقوم في الأصل على نية العِشْرة المؤبَّدة من الطرفين؛ لتتحقق ثمرته النفسية التي ذكرها القرآن — من السكن النفسي والمودة والرحمة — وغايته النوعية العمرانية، من استمرار التناسل وامتداد بقاء النوع الإنساني: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً}[النحل:72]. أما زواج المتعة، فلا يتحقق فيه المعنى الذي أشرنا إليه. وقد أجازه الرسول قبل أن يستقر التشريع في الإسلام. أجازه في السفر والغزوات، لشدة حاجة الصحابة ومعظمهم شباب إليه، ثم نهى عنه وحرَّمه على التأبيد، وإن قال بعض الصحابة والتابعين ببقاء الإباحة في حالة الضرورة كأكل الميتة. وكان السِّر في إباحته أولا أن القوم كانوا في مرحلة يصح أن نسميها (فترة انتقال) من الجاهلية إلى الإسلام؛ وكان الزِّنى في الجاهلية ميسرًا منتشرًا. فلما كان الإسلام، واقتضاهم أن يسافروا للغزو والجهاد: شق عليهم البعد عن نسائهم مشقَّة شديدة، وكانوا بين أقوياء الإيمان وضعفائه؛ فأما الضعفاء، فخيف عليهم أن يتورَّطوا في الزِّنى، أقْبِح به فاحشة وساء سبيلًا! وأما الأقوياء فعزموا على أن يُخصوا أنفسهم أو يجُبُّوا مذاكيرهم، كما قال ابن مسعود: كنا نغزو مع رسول الله، ليس معنا نساء، قلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا رسول الله عن ذلك، ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل. وبهذا كانت إباحة المتعة رخصة لحل مشكلة الفريقين من الضعفاء والأقوياء، وخطوة في سير التشريع إلى الحياة الزوجية الكاملة، التي تتحقَّق فيها كل أغراض الزواج، من إحصان واستقرار وتناسل، ومودة ورحمة، واتساع دائرة العشيرة بالمصاهرة. وكما تدرَّج القرآن بهم في تحريم الخمر، وتحريم الربا — وقد كان لهما انتشار وسلطان في الجاهلية — تدرج النبي بهم كذلك في تحريم الفروج، فأجاز عند الضرورة المُتعة، ثم حرم هذا النوع من الزواج، كـمـا روى ذلك عنه عليٌّ، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم. ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن سبرة الجهني: أنه غزا مع النبي في فتح مكة، فأذن لهم في متعة النساء، قـال: فلم يخرج حـتـى حـرَّمـهـا رسول الله، وفي لفظ من حديثه: "وإن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة". ولكن هل هذا التحريم باتٌّ كزواج الأمهات والبنات، أو هو تحريم مثل تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، فَيُباح عند الضرورة وخوف العَنَت؟ الذي رآه عامة الصحابة أنه تحريم باتٌّ حاسم، لا رخصة فيه بعد استقرار التشريع. وخالفهم ابن عباس وأصحابه، فرأوا أنها تُبَاح للضرورة، فقد سأله سائل عن متعة النساء، فرخص له. فقال مولى له: إنما ذلك في الحال الشديدة، وفـي النساء قلة أو نحوه؟ قال ابن عباس: نعم. ثم لما تبيَّن لابن عباس رضي الله عنه أن الناس توسَّعوا فيها، ولم يقتصروا على موضع الضرورة، أمسك عن فتياه ورجع عنها. واستمر بعض أصحابه كعطاء وسعيد بن جبير وطاوس يفتون بجوازها. وهو ما استأنسنا به ونحن نفتي بعض الشباب المسلم الذي يعيش في بلاد الغرب في أوربا وأمريكا لدراسة الماجستير وأحيانا البكالوريوس، ولم يتمكن من الزواج قبل الذهاب أن يتزوج من بعض الفتيات مدة دراسته، ويطلقها بعد ذلك، وقد يعجبه طيب أخلاقها وحسن سلوكها، وقد تتأثر بدينه وأخلاقه، فتغير دينها إلى دينه، وتربط حياتها بحياته، فيبقيها زوجة لها، وبذلك ينقلب الزواج إلى زواج إسلامي دائم، قائم على الأهداف الشخصية والعائلية والاجتماعية. من سنن عقد النكاح ومستحباته يسن في عقد الزواج أن يكون في المسجد، ويسن إعلانه وإعلام الناس به، لحديث: "أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف". كما يُسَنُّ أن يصحبه شيء من اللهو والغناء المباح، لما في ذلك من إشاعة السرور، وتمام الإعلان، روى البخاري عن عائشة: أنها زفَّت امرأةً إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله: "يا عائشة، ما كان معكم لهو؟ فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني؟!". أما الأغاني الخليعة والاختلاط العابث؛ فحرام بالإجماع. ومن السنن: الوليمة، وذلك أن يعد الزوج طعامًا لأحبائه وأصدقائه على قدر طاقته، {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}[الطلاق:7]. وقد قال عليه السلام لعبد الرحمن بن عوف: "أولم ولو بشاة". ولما تزوج النبي زينب بنت جحش أوْلَمَ بشاة. وأولم على بعض نسائه بمُدَّيْن من شعير. ومن دُعِي إلى هذه الوليمة، فواجب عليه أن يجيب، لحديث: "من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله". وذلك ما لم يكن عذر، أو يعلم بوجود منكر كالخمر والتماثيل واللهو المحرم، وفي الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر". ويستحب من الحضور الدعاء للزوجين أو لأحدهما بعد العقد بالبركة والسعة وحسن العشرة، ويندب تهنئة الزوجين وإدخال السرور على كل منهما، أو عليهما. والسنة أن يقال للزوج: بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير، لما ورد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفَّأ إنسانًا إذا تزوج قال: "بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير". ويستحب أن يُبدأ عقد النكاح بخطبة يبين فيها مكانة الزواج في الإسلام، وحقوق كل من الزوجين، ويوصيهما بحسن العشرة. ويستحب للعروس إذا زفت إليه زوجته أول مرة أن يأخذ بناصيتها، ويدعو أن يبارك الله لكل منهما في صاحبه، "إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادمًا، فليقل: اللهم إني أسالك خيرها، وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها، وشر ما جبلتها عليه، وإذا اشترى بعيرا فليأخذ بذروة سنامه، وليقل مثل ذلك". ويسن في الزواج تخفيف المهر، لما فيه من القصد والبعد عن الإسراف، والترغيب في الزواج، وفي الحديث: "خير الصداق أيسره". وقال عمر: "لا تغالوا في صدقات النساء". ومن يسر المؤنة: الاعتدال في الجهاز، فإن الله لا يحب المسرفين. والمغالاة في المهور إحدى المشاكل التى تواجه الشباب، وتؤخر إتمام الزواج. أيسر المهور الواقع أن هذه تعقيدات من الناس على أنفسهم، شددوا فيما يسره الله تعالى عليهم، لقد قال النبي في الزوجات: "أيسرهن مهرًا أكثرهن بركة". والنبي حينما زوج بناته زوجهن بأيسر المهور، لم يشترط لهن المئات ولا الآلاف، وإنما أخذ أيسر المهور، وكذلك السلف الصالحون، لم يكونوا يبحثون عن مال الرجل، وماذا يدفع؛ لأن البنت ليست سلعة تباع، إنما هي إنسان، فليبحث لها الأب أو الولي عن إنسان مثله، إنسان كريم، كريم الدين، كريم الخلق، كريم الطباع، ولهذا جاء في الحديث عن النبي : "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه، تكن فتنة في الأرض وفساد عريض". فالمهم، والذي يجب أن يطلبه الأب أو الولي هو الدين والخلق، قبل كل شيء. فماذا يغني الفتاة أن تتزوج ويُدفع لها مهر كبير، إذا تزوَّجت من لا خُلُق له، ولا دين له؟ ولهذا قال السلف: إذا زوجت ابنتك فزوِّجها ذا دين، إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها. لأن دينه يمنعه، وخلقه يردعه، حتى في حالة الكراهية، كما قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}[النساء:19].

3641

| 30 يونيو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: الإسلام حرَّم على المسلمة أن تتزوَّج غير مسلم

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د. يوسف القرضاوي الحلقة: الحلقة الخامسة والعشرون الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21). فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معا، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم وأحفال الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك". "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". وهو — إذ يُيَسِّر أسباب الحلال — يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35) لا يجوز الزواج من الكتابية في عصرنا إلا لحاجة ملحَّة، ومن هنا نعلم أن الزواج من غير المسلمات في عصرنا — وخصوصا الأجنبيات — ينبغي أن يُمنع سدًّا للذريعة إلى ألوان شتى من الضرر والفساد، ودرء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة، ولا يسوغ القول بجوازه إلا لضرورة قاهرة أو حاجة ملحَّة، والضرورة تقدر بقدرها، كما قعَّد الفقهاء. ولا ننسى هنا أن نذكِّر أنه مهما ترخَّص المترخِّصون في الزواج من غير المسلمة، فإن مما لا خلاف عليه أن الزواج من المسلمة أولى وأفضل من جهات عدة، فلا شك أن توافق الزوجين من الناحية الدينية أعون على الحياة السعيدة، بل كلما توافقا فكريًّا ومذهبيًّا كان أفضل. وأكثر من ذلك أن الإسلام لا يكتفي بمجرد الزواج من أية مسلمة، بل يرغب كل الترغيب في الزواج من المسلمة المتدينة، فهي أحرص على مرضاة الله، وأرعى لحق الزوج، وأقدر على حفظ نفسها وماله وولده، ولهذا قال الرسول، في الحديث الصحيح: "فاظفر بذات الدين تربت يداك". حرمة زواج المسلمة من غير المسلم: إذا كان الإسلام قد أباح للمسلم أن يتزوج من امرأة كتابية، بالقيود التي ذكرناها، فإنه حرَّم على المسلمة أن تتزوَّج غير مسلم، كتابيًّا أو غير كتابي، ولا يحل لها ذلك بحال. وقد ذكرنا قوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}[البقرة:221]. وقال في شأن المؤمنات المهاجرات: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[الممتحنة:10]. ولم يرد نص باستثناء أهل الكتاب من هذا الحكم، فالحرمة مُجمَع عليها بين المسلمين. الحكمة من تحريم زواج المسلمة من غير المسلم: وإنما أجاز الإسلام للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية، ولم يُجز للمسلمة أن تتزوَّج بأحدهما؛ لأن الرجل هو رَبُّ البيت، والقوَّام على المرأة، والمسؤول عنها. والإسلام قد ضمن للزوجة الكتابية في ظل الزوج المسلم حرية عقيدتها، وصان لها بتشريعاته وإرشاداته حقوقَها وحرمتها. ولكن دينًا آخر كالنصرانية أو اليهودية لم يضمن للزوجة المخالِفة في الدين أي حرية، ولم يَصُن لها حقها، فكيف يغامر الإسلام بمستقبل بناته، ويرمي بهن في أيدي من لا يرقبون في دينهن إلًّا ولا ذِمَّة؟! وأساس هذا: أن الزوج لا بد أن يحترم عقيدة زوجته؛ ضمانًا لحسن العشرة بينهما، والمسلم يؤمن بأصل اليهودية والنصرانية دينين سماويين — بغض النظر عما حُرِّف منهما — ويؤمن بالتوراة والإنجيل كِتَابَيْن في الأصل من عند الله، ويؤمن بموسى وعيسى رسولَيْن من عند الله من أولي العزم من الرسل. فالمرأة الكتابية تعيش في كَنَف رجل، يحترم أصل دينها وكتابها ونبيها، بل لا يتحقق إيمانه إلا بذلك. أما اليهودي أو النصراني، فلا يعترف أدنى اعتراف بالإسلام، ولا بكتاب الإسلام، ولا برسول الإسلام. فكيف يمكن أن تعيش في ظلِّه امرأة مسلمة يطالبها دينها بشعائر وعبادات، وفروض وواجبات، ويشرع لها أشياء، ويحرم عليها أشياء؟! من المستحيل أن تبقى للمسلمة حرية عقيدتها، وتتمكن مـن رعاية دينها، والرجل القوَّام عليها يجحده كل الجحود!! ولا سيما أن الإسلام يطلب من كل مسلم ومسلمة مطالب كثيرة، كالصلوات اليومية الخمس، وصيام رمضان، وزكاة المال والفطر، وحج البيت، بالإضافة إلى الواجبات الاجتماعية الكثيرة. ومن هنا كان الإسلام منطقيًّا مع نفسه، حين حرَّم على الرجل المسلم أن يتزوج وثنية مشركة؛ لأن الإسلام ينكر الشرك والوثنية كل الإنكار، فكيف يتحقق بينهما السكون والمودة والرحمة؟! بطلان زواج المسلمة من شيوعي: إذا كان الإسلام لم يُجِز للمسلمة أن تتزوج بأحد من أهل الكتاب — نصراني أو يهودي — مع أن الكتابي مؤمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر في الجملة، فكيف يجيز أن تتزوج رجلًا لا يدين بألوهية ولا نبوة ولا قيامة ولا حساب؟ إن الشيوعي الذي عُرفت شيوعيته يعتبر في حكم الإسلام مارقًا مرتدًّا زنديقًا، فلا يجوز بحال أن يقبل أبٌ مسلم زواجَه من ابنته، ولا أن تقبل فتاة مسلمة زواجها منه وهي ترضى بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، وبالقرآن إمامًا. وإذا كان متزوجًا من مسلمة وجب أن يُفرَّق بينه وبينها، وأن يحال بينه وبين أولاده، حتى لا يُضِلَّهم، ويُفسِد عليهم دينهم. وإذا مات هذا مصرًّا على مذهبه، فليس بجائز أن يُغَسَّل، أو يصلَّى عليه، أو يدفن في مقابر المسلمين. وبالجملة يجب أن تطبق عليه في الدنيا أحكام المرتدِّين والزنادقة في شريعة الإسلام، وما ينتظره من عقاب الله في الآخرة أشد وأخزى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 217]. زواج المسلمة من البهائي وإذا كان زواج المسلم من بهائية باطلًا بلا شك، فإن زواج المسلمة من رجل بهائي باطل من باب أولى، إذ لم تجز الشريعة للمسلمة أن تتزوج الكتابي، فكيف بمن لا كتاب له؟ ولهذا لا يجوز أن تقوم حياة زوجية بين مسلم وبهائية أو بين مسلمة وبهائي، لا ابتداء ولا بقاء، وهو زواج باطل، ويجب التفريق بينهما حتمًا. وهذا ما جرت عليه المحاكم الشرعية في مصر في أكثر من واقعة، وللأستاذ المستشار علي علي منصور حكم في قضية من هذا النوع قضى فيه بالتفريق، بناء على حيثيات شرعية فقهية موثَّقة، وقد نُشر في رسالة مستقلة، فجزاه الله خيرًا. الشروط المقترنة بعقد الزواج مثلما عُني فقهاء الإسلام بتفصيل الشروط في البيوع والمعاملات المالية، ما يعتبر منها وما لا يعتبر، وما يفسد العقد وما لا يفسده، حرصًا على مصلحة المتعاقدين، ورفعًا للضرر والحرج عنهما، ورغبة في استقرار التعامل بين الناس — عُنوا كذلك بأحكام الشروط في عقد الزواج، لما له من أهمية وقدسية، ولما يترتب عليه من آثار هي أعمق وأعظم من آثار بيع دابة، أو إجارة مسكن، أو نحوهما، آثار في حياة الزوجين، وحياة أسرتيهما، وحياة المجتمع كله. ولهذا قال الرسول: "إن أحق الشروط أن يوفَّى به، ما استحللتم به الفروج". وقت اعتبار الشرط: والمعتبر من الشروط ما كان في صلب العقد، أو اتفقا عليه قبله، أما إذا وقع الشرط بعد لزوم العقد، فالوفاء به غير لازم. الشروط المقترنة بعقد الزواج قسمان ما يشترطه أحد الزوجين على الآخر مما له فيه غرض صحيح، ولا ينافي مقتضى العقد. وهو لازم للزوج لا يملك فكَّه، كما إذا اشترطت الزوجة — أو وليها — عليه ألا يخرجها من دارها أو بلدها، أو ألا يتزوج عليها، أو ألا يفرِّق بينها وبين أولادها من غيره، أو بينها وبين أبويها، أو أن ترضع ولدها من غيره.. أو نحو ذلك؛ لأن لها في هذه الشروط قصدًا صحيحًا، فوجب اعتباره؛ لأن الشارع أمر بالوفاء بالعقود والعهود والشروط أمرًا عامًّا، فيتناول كل ما ذُكِر، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة:1]. وفي الحديث: "أحق الشروط أن توفُّوا به ما استحللتم به الفروج". وفي الحديث الآخر: "المسلمون على شروطهم". ووقع في عهد عمر رضي الله عنه: أن رجلًا تزوَّج امرأة وشرط لها دارها، ثم أراد نقلها، فخاصمه أهلها إلى عمر، فقال: لها شرطُها. فقال الرجل: إذن يُطَلِقْنَنا!! يعني: النساء. فقال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط. فإذا لم يفِ الزوج للزوجة بما شرط، فلها أن تفسخ العقد على التراخي؛ لأنه شرط لازم في عقد، فثبت حق الفسخ بفواته، ولا يسقط حقها في الفسخ إلا بما يدل على رضاها: من قول صريح، أو تمكين له من نفسها، مع علمها بعدم وفائه بالشرط، لما في التمكين مع العلم من الدلالة على الرضا. وباعتبار الشريعة الإسلامية لهذه الشروط التي للمرأة قصد صحيح فيها، يكون الإسلام قد وقف إلى جانب المرأة، ومكَّنها أن تأخذ لنفسها من الضمانات ما تراه في مصلحتها، وألزم الرجل بالوفاء، وإلا كان لها الخيار في الفسخ.

11351

| 29 يونيو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: الأصل هو إباحة زواج المسلم من الكتابية ترغيبًا لها في الإسلام

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف : د. يوسف القرضاوي الحلقة : الثالثة والعشرون الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21). فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معا، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم وأحفال الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك". "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". وهو — إذ يُيَسِّر أسباب الحلال — يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35) إباحة الزواج من الكتابية الأصل في الزواج من نساء أهل الكتاب عند جمهور المسلمين( ) هو الإباحة. فقد أحل الله لأهل الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب ومصاهرتهم في آية واحدة من سورة المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم. قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}[المائدة:5]. رأي ابن عمر وبعض المجتهدين: وخالف في ذلك من الصحابة عبدالله بن عمر رضى الله عنهما، فلم ير الزواج من الكتابية مباحًا، فقد روى عنه البخاري: أنه كان إذا سُئل عن نكاح النصرانية واليهودية قال: إن الله حرم المشركات على المؤمنين- يعني قوله تعالى: {لَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}[البقرة:221]- ولا أعلم من الإشراك شيئًا أكبر من أن تقول: ربُّها عيسى. وهو عبد من عباد الله( )! ومن العلماء من يحمل قول ابن عمر على كراهية الزواج من الكتابية لا التحريم، ولكن العبارات المرويَّة عنه تدل على ما هو أكثر من الكراهية. وقد أخذ جماعة من الشيعة الإمامية( ) بما ذهب إليه ابن عمر استدلالًا بعموم قوله تعالى في سورة البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ..}[البقرة:221]. وبقوله في سورة الممتحنة: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ..}[الممتحنة:10]. ترجيح رأي الجمهور: والحق أن رأي الجمهور هو الصحيح، لوضوح آية المائدة في الدلالة على الزواج من الكتابيات، وهي من أواخر ما نزل. وأما قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ..}[البقرة:221]. وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}[الممتحنة:10]. فإما أن يقال: هذا عام خصَّصته سورة المائدة. أو يقال: إن كلمة (المشركات) لا تتناول أهل الكتاب أصلًا في لغة القرآن، ولهذا يعطف أحدهما على الآخر كما في سورة البينة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ..}[البينة:1]. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا..} [البينة:6]. وفي سورة الحج يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.. }[الحج:17]. فجعل الذين أشركوا صنفًا متميزًا عن باقي الأصناف، ويعني بهم الوثنيين. والمراد بـ(الكوافر) في آية الممتحنة: المشركات، كما يدل على ذلك سياق السورة. قيود تجب مراعاتها عند الزواج من الكتابية: وإذن يكون الراجح ما بيَّناه من أن الأصل هو إباحة زواج المسلم من الكتابية، ترغيبًا لها في الإسلام، وتقريبًا بين المسلمين وأهل الكتاب، وتوسيعًا لدائرة التسامح والألفة وحُسْن العشرة بين الفريقَيْن. ولكن هذا الأصل معتبر بعدة قيود، يجب ألَّا نغفلها: القيد الأول: الاستيثاق من كونها (كتابية) بمعنى أنها تؤمن بدين سماوي الأصل كاليهودية والنصرانية، فهي مؤمنة في الجملة بالله ورسالاته والدار الآخرة. وليست ملحدة أو مرتدة عن دينها، ولا مؤمنة بدين ليس له نسب معروف إلى السماء. ومن المعلوم في الغرب الآن أن ليست كل فتاة تولد من أبوين مسيحيَّيْن تكون مسيحية. ولا كل من نشأت في بيئة مسيحية تكون مسيحية بالضرورة، فقد تكون شيوعية مادية، وقد تكون على نحلة مرفوضة أساسًا في نظر الإسلام كالبهائية ونحوها. القيد الثاني: أن تكون عفيفة مُحصَنة، فإن الله لم يُبِحْ كل كتابية، بل قيَّد في آياته الإباحة نفسها بالإحصان، حيث قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}[المائدة:5]. قال ابن كثير: والظاهر أن المراد بالمحصنات العفيفات عن الزنى، كما في الآية الأخرى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}[النساء:25]. وهذا ما أختاره. فلا يجوز للمسلم بحال أن يتزوَّج من فتاةٍ تُسلم زمامها لأي رجل، بل يجب أن تكون مستقيمة نظيفة بعيدة عن الشبهات. وهذا ما اختاره ابن كثير، وذكر أنه رأى الجمهور، وقال: ((وهو الأشبه، لئلَّا يجتمع فيها أن تكون ذِمِّية، وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصَّل زوجها على ما قيل في المثل: حَشَفًا وسوء كِيلَة!))( ). وقد جاء عن الإمام الحسن البصري أن رجلًا سأله: أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ فقال: ((ما له ولأهل الكتاب، وقد أكثر الله المسلمات؟! فإن كان ولا بد فاعلًا. فليعمد إليها حَصَانًا (أي محصنة) غير مسافِحة. قال الرجل: وما المسافِحة!؟ قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينه اتَّبعته))( ). ولا ريب أن هذا الصنف من النساء في المجتمعات الغربية في عصرنا يعتبر شيئًا نادرًا بل شاذًّا، كما تدل عليه كتابات الغربيِّين وتقاريرهم وإحصاءاتهم أنفسهم، وما نسميه نحن البكارة والعفة والإحصان والشرف.. ونحو ذلك، ليس له أية قيمة اجتماعية عندهم، والفتاة التي لا صديق لها تُعيَّر من ترائبها، بل من أهلها وأقرب الناس إليها. القيد الثالث: ألَّا تكون من قوم يعادون المسلمين ويحاربونهم. ولهذا فرَّق جماعة من الفقهاء بين الذميَّة والحربيَّة. فأباحوا الزواج من الأولى، ومنعوا الثانية. وقد جاء هذا عن ابن عباس، فقال: من نساء أهل الكتاب من يحل لنا، ومنهم من لا يحل لنا. ثم قرأ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ..}[التوبة:29]. فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه، ومن لم يُعْطِ الجزية لم يحلَّ لنا نساؤه( ). وقد ذُكر هذا القول لإبراهيم النخعي- أحد فقهاء الكوفة وأئمتها- فأعجبه( ). وفي مصنف عبد الرزاق عن قتادة قال: لا تنكح امرأة من أهل الكتاب إلا في عهد( ). وعن علي رضي الله عنه بنحوه( ). وعن ابن جريج قال: بلغني ألا تنكح امرأة من أهل الكتاب إلا في عهد( ). وفي مجموع الإمام زيد عن علي: أنه كره نكاح أهل الحرب، قال الشارح في (الروض النضير): ((والمراد بالكراهة: التحريم؛ لأنهم ليسوا من أهل ذمة المسلمين. قال: وقال قوم بكراهته ولم يحرِّموه، لعموم قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}[المائدة:5]. فغلَّبوا الكتاب على الدار))( ). يعني: دار الإسلام. والذي من أهل دار الإسلام بخلاف غيره من أهل الكتاب. ولا ريب أن لرأي ابن عباس وجاهته ورجحانه لمن يتأمل، فقد جعل الله المصاهرة من أقوى الروابط بين البشر، وهي تلي رابطة النسب والدم، ولهذا قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا}[الفرقان:54]. فكيف تتحقق هذه الرابطة بين المسلمين وبين قومٍ يحادُّونهم ويحاربونهم، وكيف يسوغ للمسلم أن يُصهر إليهم، فيصبح منهم أجداد أولاده وجداتهم وأخوالهم وخالاتهم؟ فضلًا عن أن تكون زوجه وربة داره وأم أولاد منهم؟ وكيف يؤمن أن تطَّلِع على عورات المسلمين وتخبر بها قومها؟ ولا غرو أن رأينا العلامة أبا بكر الرازي الحنفي يميل إلى تأييد رأي ابن عباس، محتجًّا له بقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[المجادلة:22]. والزواج يوجب المودَّة، يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}[الروم:21]. قال: فينبغي أن يكون نكاح الحربيات محظورًا؛ لأن قوله تعالى: { يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[المجادلة:22] إنما يقع على أهل الحرب؛ لأنهم في حدٍّ غير حدِّنا( ). يؤيد ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الممتحنة:9]. وهل هناك تولٍّ لهؤلاء أكثر من أن يزوِّج إليهم، وتصبح الواحدة من نسائهم جزءًا من أسرته، بل العمود الفقري في الأسرة؟ استعمال المباحات كلها مقيَّد بعدم الضرر لا يجوز لمسلم في عصرنا أن يتزوَّج يهودية، ما دامت الحرب قائمة بيننا وبين إسرائيل، ولا قيمة لما يقال من التفرقة بين اليهودية والصهيونية، فالواقع أن كل يهودي صهيوني؛ لأن المكونات العقلية والنفسية للصهيونية إنما مصدرها التوراة وملحقاتها وشروحها والتلمود. وكل امرأة يهودية إنما هي جندية بروحها في جيش إسرائيل، إلا من كان منهم معاديا بوضوح لإسرائيل، ويرى أنها خطر على اليهود في العالم، ويصدرون النشرات والصحف المعلنة عن ذلك، كما رأينا بعضهم في لندن وفي قطر وفي عدد من البلاد، ويظهرون معلنين عن شخصيتهم في البرامج التليفزيونية المعروضة، كما في جماعة (حراس المدينة) أو (ناطوري كارتا). القيد الرابع: ألا يكون من وراء الزواج من الكتابية فتنة ولا ضرر، محقَّق أو مرجَّح، فإن استعمال المباحات كلها مقيَّد بعدم الضرر، فإذا تبين أن في إطلاق استعمالها ضررًا عامًّا مُنعت منعًا عامًّا، أو ضررًا خاصًّا منعت منعًا خاصًّا، وكلما عظُم الضرر تأكَّد المنع والتحريم، وقد قال r: "لا ضرر ولا ضرار"( ). وهذا الحديث يمثِّل قاعدة شرعية قطعية من قواعد الشرع؛ لأنه وإن كان بلفظه حديث آحاد، إلا أنه مأخوذ من حيث المعنى من نصوص وأحكام جزئية جمَّة من القرآن والسنة، تفيد اليقين والقطع. ومن هنا كانت سلطة ولي الأمر الشرعي في تقييد بعض المباحات إذا خشي من إطلاق استخدامها أو تناولها ضررًا معينًا.

62997

| 27 يونيو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: من تزوَّج مرتدة فنكاحه باطل

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د.يوسف القرضاوي الحلقة: الواحدة والعشرون الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21). فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معا، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم وأحفال الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك". "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". وهو — إذ يُيَسِّر أسباب الحلال — يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35). * المحرمات تحريما مؤقَّتًا بعد هذا الاستطراد في الرضاع، وما يحرِّم منه وما لا يحرِّم، نعود إلى موضوعنا الأصلي وهو (المحرمات من النساء)، ونفصل القول في المحرمات من النساء تحريما مؤقتا: أ‌ — زوجة الغير ودليلُ ذلك قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}[النساء:24]، فالمرأة المتزوِّجة ما دامت في عصمة زوجها لا يحل لها الزواج بآخر. ولكي تحل لزوج آخر لا بد من شرطين: أن تزول يد الزوج عنها بموت أو طلاق أو فسخ أو خلع، وأن تستوفي العدة التي أمر الله بها وجعلها وفاء للزوجية السابقة وسياجا لها، وقد فصلنا ذلك في أثناء حديثنا عن الخطبة المحرمة. ب‌ — الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وقد حرم الإسلام على المسلم، وكان مشروعا في الجاهلية: أن يجمع بين الأختين، فإن الرابطة بين الأختين التي يحرص الإسلام على دوامها، ينافيها أن تكون إحداهما ضَرَّة للأخرى. وقد صرح القرآن بتحريم الجمع بين الأُختين، وأضاف الرسول إلى ذلك قوله: "لا يُجمع بين المرأة وعمَّتِها، ولا بين المرأة وخالتها". كما في الصحيحين وغيرهما. وقال: "إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم". والإسلام يؤكِّد صلة الأرحام، فكيف يشرع ما يؤدي لتقطيعها؟! وإذا زال سبب التحريم، وهو الزواج من الأخت أو بنتها أو بنت الأخ أو العمَّة أو الخالة، بموت أو طلاق، فهنا يجوز للرجل أن يتقدم لخطبة أخت مطلقته أو زوجته المتوفاة أو عمتها أو خالتها أو بنت أختها أو بنت أخيها. ج — المشركات غير الكتابيات حتى يؤمن ومن المحرَّمات المؤقَّتات: المشرِكة، وهي التي تعبد الأوثان، كمشركات العرب ومن شابههن من الهندوسيات والبوذيات وغيرهن من ذوات الأديان الوثنية، قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}[البقرة: 221]، فالزواج منها حرام بنص القرآن الكريم. وقال تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}[الممتحنة:10] وسياق الآية والسورة كلها — سورة الممتحنة — وسبب نزولها يدل على أن المراد بالكوافر: المشركات، أعني: الوثنيات. والحكمة في هذا التحريم ظاهرة، وهي عدم إمكان التلاقي بين الإسلام والوثنية، فعقيدة التوحيد الخالص، تناقض عقيدة الشرك المحض، ثم إن الوثنية ليس لها كتاب سماوي معتبر، ولا نبي معترف به، فهي والإسلام على طرفي نقيض. ولهذا علَّل القرآن النهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين بقوله: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}[البقرة: 221]، ولا تلاقي بين مَن يدعو إلى النار ومن يدعو إلى الجنة. أَيُّها المنكِحُ الثُرَيّا سُهَيلًا عَمرَكَ اللَهَ كَيفَ يَلتَقِيانِ هي شامية إذا ما استقلَّت وسهيل إذا استقلَّ يمانِ( ) وهذا الحكم — منع الزواج من المشركات الوثنيات — ثابت بالنص، وبالإجماع أيضًا، فقد اتفق علماء الأمة على هذا التحريم، كما ذكر ابن رشد في (بداية المجتهد) وغيره( ). ويلحق بالمشركة الملحدة والمرتدة والبهائية. بطلان الزواج من الملحدة وأعني بالملحدة: التي لا تؤمن بدين، ولا تقر بألوهية، ولا نبوة ولا كتاب ولا آخرة، فهي أولى من المشركة بالتحريم؛ لأن المشركة تؤمن بوجود الله، وإن أشركت معه أندادًا أو آلهة أخرى اتخذتهم شفعاء يقربونها إلى الله زلفى فيما زعموا. وقد حكى القرآن عن المشركين هذا في آيات كثيرة مثل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[لقمان:25]. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[الزمر:3]. فإذا كانت هذه الوثنية المعترفة بالله في الجملة قد حُرِّمَ نكاحها تحريمًا باتًّا، فكيف بإنسانة مادية جاحدة، تنكر كل ما وراء المادة المتحيِّزة، وما بعد الطبيعة المحسوسة، ولا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا بالملائكة ولا الكتاب ولا النبيين؟ إن الزواج من هذه حرام بل باطل يقينًا. وأبرز مثل لها: الشيوعية المصرة على شيوعيتها، التي تؤمن بالفلسفة المادية، وتزعم أن الدين أفيون الشعوب، وتفسر ظهور الأديان تفسيرًا ماديًّا على أنها إفراز المجتمع، ومن آثار ما يسوده من أحوال الاقتصاد وعلاقات الإنتاج. وإنما قلت: الشيوعية المصرَّة على شيوعيتها؛ لأن بعض المسلمين والمسلمات قد يعتنق هذا المذهب المادي، دون أن يسبر غوره، ويعرفه على حقيقته، وقد يُخدع به حين يعرضه بعضُ دعاته على أنه إصلاح اقتصادي لا علاقة له بالعقائد والأديان.. إلخ. فمثل هؤلاء يجب أن يزال عنهم اللبس، وتزاح الشبه، وتقام الحجج، ويوضح الطريق، حتى يتبين الفرق بين الإيمان والكفر، والظلمات والنور، فمن أصر بعد ذلك على شيوعيته؛ فهذا كافر مارق ولا كرامة، ويجب أن تجري عليه أحكام الكفار في الحياة وبعد الممات. والحق أن الشيوعية مذهب مادي، لا يعترف إلا بكل ما هو مادي مُحَسٌّ، ويجحد كل ما وراء المادة، فلا يؤمن بالله، ولا يؤمن بالرُّوح، ولا يؤمن بالوحي، ولا يؤمن بالآخرة، ولا يؤمن بأي نوع من أنواع الغيب، وبهذا ينكر الأديان جملة وتفصيلًا، ويعتبرها خرافة من بقايا الجهل والانحطاط والاستغلال، وفي هذا قال مؤسس الشيوعية كارل ماركس كلمته المعروفة: الدين أفيون الشعوب. وأنكر مع الماديين على الذين قالوا: إن الله خلق الكون والإنسان. فقال متهكمًا مع الذين قالوا: إن الله لم يخلق الإنسان، بل العكس هو الصواب، فإن الإنسان هو الذي خلق الله. أي اخترعه بوهمه وخياله. وقال لينين: إن حزبنا الثوري لا يمكن أن يقف موقفًا سلبيًّا من الدين، فالدين خرافة وجهل. وقال ستالين: نحن ملحدون، ونحن نؤمن أن فكرة (الله) خرافة، ونحن نؤمن بأن الإيمان بالدين يعرقل تقدمنا، ونحن لا نريد أن نجعل الدين مسيطرًا علينا؛ لأننا لا نريد أن نكون سكارى. هذا هو رأي الشيوعية وزعمائها في الدين، ولهذا لم يكن غريبًا أن نرى دستور الحزب الشيوعي ودستور الشيوعية الدولية يفرضان على كل عضو في الحركة الشيوعية أن يكون ملحدًا، وأن يقوم بدعاية ضد الدين. ويطرد الحزب من عضويته كل فرد يمارس شعائر الدين، وكذلك تنهي الدولة الشيوعية خدمات كل موظف يتجه هذا الاتجاه. ولو صحَّ جدلًا أن شيوعيًّا أخذ من الشيوعية جانبها الاجتماعي والاقتصادي فقط، دون أساسها الفكري العقائدي — كما خيل للبعض، وهو غير واقع ولا معقول — لكان هذا كافيًا في المروق من الإسلام والارتداد عنه، لأن للإسلام تعاليم محكمة واضحة في تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية ينكرها النظام الشيوعي إنكارًا، كالملكية الفردية والميراث والزكاة، وعلاقة الرجل بالمرأة.. إلخ. وهذه الأحكام مما علم بالضرورة أنه من دين الإسلام، وإنكارها كفر بإجماع المسلمين. هذا إلى أن الشيوعية مذهب مترابط، لا يمكن الفصل بين نظامه العملي وأساسه العقائدي والفلسفي بحال. يحرم الزواج بالمرتدة ابتداء ويبطل إذا ارتدت بعد الزواج: مثل الملحدة: المرتدة عن الإسلام والعياذ بالله. ونعني بالمرتدة والمرتد: كل من كفر بعد إيمانه كفرًا مُخرجًا من الملة، سواء أدخل في دين آخر، أم لم يدخل في دين قط، وسواء أكان الدين الذي انتقل إليه كتابيًّا أم كان غير كتابي، فيدخل في معنى المرتدين ترك الإسلام إلى الشيوعية، أو الوجودية، أو المسيحية، أو اليهودية، أو البوذية، أو البهائية، أو غيرها من الأديان والفلسفات. والإسلام لا يُكره أحدًا على الدخول فيه، حتى إنه لا يعتبر إيمان المُكْرَه ولا يقبله، ولكن من دخل فيه بإرادته الحرة لم يجُزْ له الخروج عنه. وللردة أحكام بعضها يتعلق بالآخرة، وبعضها بالدنيا. فممَّا يتعلَّق بالآخرة: أن من مات على الردة فقد حبط كل ما قدَّمه من عمل صالح، واستحقَّ الخلود في النار، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:217]. من تزوَّج مرتدة فنكاحه باطل من أحكام الدنيا أن المرتد لا يستحق معونة المجتمع الإسلامي ونصرته بوجه من الوجوه، ولا يجوز أن تقوم حياة زوجية بين مسلم ومرتدة، أو بين مرتد ومسلمة، لا ابتداء ولا بقاءً، فمن تزوَّج مرتدة فنكاحه باطل، وإذا ارتدَّت بعد الزواج فُرِّق بينهما حتمًا، وهذا حكم متفق عليه بين الفقهاء، سواء من قال منهم بقتل المرتد رجلًا كان أو امرأة وهم الجمهور، أم من جعل عقوبة المرأة المرتدة الحبس لا القتل، وهم الحنفية. ومن قال: إن المرتد يحبس ويظل يستتاب ولو طال. ومما ينبغي التنبيه عليه هنا: أن الحكم بالرِّدَّة والكفر على مسلم هو غاية العقوبة. لهذا وجب التحرِّي والاحتياط فيه، ما وُجد إليه سبيل، حملًا لحال المسلم على الصلاح، وتحسينًا للظن به، والأصل هو الإسلام، فلا يخرج منه إلا بأمر قطعي، واليقين لا يزُول بالشك.

7643

| 25 يونيو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: الفتوى يجب أن تقوم على أساس تصحيح ما وقع حتى لا نشتِّت الشمل المجتمِع

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د. يوسف القرضاوي الحلقة : العشرون الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أَولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته، وقد جعل القرآن تكوين الأسر سنة الله في الخلق، قال عز وجل: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به، ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) سورة الروم:21.. فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل؛ يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معاً، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعِّبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم واحتفالات الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات.. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين "فاظفر بذات الدين تربت يداك".. "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". والزواج إذ يُيَسِّر أسباب الحلال يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف. لبن الفحل قال يحيى بن سعيد الأنصاري: كانت امرأة سالم بن عبد الله بن عمر قد أرضعت حمزة بن عبد الله بن عمر، فوُلِد لسالم بن عبد الله من امرأة أخرى غلام اسمه عمر، فتـزوَّج بنت حمزة بن عبد الله بن عمر. أي أن سالمًا زوَّج ابنه أختًا له من أبيه من الرضاعة. وكيف لا وقد قال عبد الله بن عمر — وهو معروف بورعه وشدة اتباعه — لا بأس بلبن الفحل.. والعجب أن أم المؤمنين عائشة ذاتها راوية حديث أفلح أخي أبي القعيس قد ثبت عنها من عملها ما يخالف روايتها، فقد روى عنها ابن أخيها القاسم بن محمد: أنها كانت تأذن في الدخول عليها لمن أرضعته أخواتها وبنات أخيها، ولا تأذن لمن أرضعته نساء إخوتها وبني إخوتها. قال ابن حزم بعد أن ذكر أن الذين أذنت لهم رأتهم ذوي محرم منها، وأن الذين لم تأذن لهم لم ترهم ذوي محرم منها، قال: "وقال بعضهم: للمرأة أن تحتجب ممن شاءت من ذوي محارمها، فقلنا: إن ذلك لها. إلا أن تخصيصها رضي الله عنها بالاحتجاب عمن أرضعته نساء أبيها ونساء إخوتها لا يمكن إلا للوجه الذي ذكرنا — لا سيما مع تصريح ابن الزبير — وهو أخص الناس بها — بأن لبن الفحل لا يحرم، وأفتى القاسم بذلك". وقد ألزم ابن حزم هنا الحنفية والمالكية بأن قواعدهم تقتضي ترك الحديث الذي يعمل راويه بخلافه؛ لأن هذا يدل على أنه منسوخ عنده أو مؤول، وأنه لم يخالفه إلا لفضل علم عنده عرف به ذلك. وهنا صح عن عائشة خلاف ما روت كما ذكرنا، فكان يلزمهم على قاعدتهم أن يتبعوا عمل عائشة ويعرضوا عن روايتها، ولو كان هذا الحكم روي عن غير عائشة لكان لهم معذرة، لكنه لم يروه غيرها، وهو إلزام قوي كما قال الحافظ في الفتح. ومما استدلُّوا به من جهة النظر: أن التحريم إنما هو لشُبهة البَعْضية التي بها ينبت اللحم، وينشز العظم، واللبن بعض المرأة المرضِعة لا بعض الرجل؛ لأنه ينفصل منها لا منه. بدليل أنه لو درَّ من الرجل لبن بالفعل، فرضعه الطفل حتى شبع، لم يصر ابنًا له بالرضاع، ولم تترتب عليه آثار التحريم. وقال المخالِفون: إن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا، فوجب أن يكون الرضاع منهما. وإلى هذا أشار ابن عباس بقوله في هذه المسألة: اللقاح واحد. لكن قال الشافعي: نشر الحرمة إلى الفحل خارج عن القياس، فإن اللبن ليس ينفصل منه، وإنما ينفصل منها، والمتَّبع الحديث. قال في (الروض النضير): وإذا كان خارجًا عن القياس، فالحديث إنما ورد في العمِّ من الرضاع لا غير، وحقه أن يقتصر منه على ما ورد، ولا يتعدَّى حكمه إلى غيره من القرابات. إلا أن قوله: "إنه عمك". تصريح بأن العلة العمومة، فيلحق بها ما عداها مما هو أولى منها كالأبوة.. أو مساوٍ كالأخوة لأب من غير المرضِعة، وكذا الخؤولة ونحوها، وهو الذي يشير إليه قول عائشة بعد رواية الحديث: "حرِّموا من الرضاع ما يحرم من النسب". وليس من القياس على ما خالف القياس، لما تقرر في الأصول: أن ذلك ليس على إطلاقه. وقال الإمام القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ): "استدل به من نفى لبن الفحل — وهو سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن — وقالوا: لبن الفحل لا يحرم شيئًا من قِبَل الرجل. وقال الجمهور: قوله تعالى: (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) يدل على أن الفحل أب؛ لأن اللبن منسوب إليه، فإنه درَّ بسبب ولده.. وقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب". يقتضي التحريم من الرضاع، ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل مثل ظهور نسبة الماء إليه، والرضاع منها. نعم الأصل فيه حديث الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة. وذكر قصة (أفلح) أخي أبي القعيس. قال: وهذا أيضًا خبر واحد. ويحتمل أن يكون (أفلح) مع أبي بكر رضِيعَي لِبان. فلذلك قال: "ليلج عليكِ فإنه عمُّك". وبالجملة: فالقول فيه مشكل، والعلم عند الله.. ولكن العمل عليه، والاحتياط في التحريم أولى، مع أن قوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ﴾ يقوي قول المخالف. والواقع أن تأويل القرطبي لمعنى العمومة في الحديث بعيد، فقد بيَّنت الروايات: أن (أفلح) أخو أبي القَعَيْس وليس أخا أبي بكر. وأن عائشة نفسها قالت: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل.. إلخ. هل لحديث عائشة من تأويل؟ على أن الذي لا ينقضي منه العجب هو: كيف يخالف جمٌّ غفير من الصحابة وأمهات المؤمنين وسادات التابعين، وأعلام الفقهاء حديث عائشة في قصة (أفلح)؟ أم هل خفي عليهم ولم يبلغهم؟ فلماذا لم يَحتجَّ به عليهم مخالفوهم؟ بل كيف خالفت عائشة روايته؟ وكيف خالفه أقرب الناس إليها مثل ابن أختها عبد الله بن الزبير — أحد العبادلة الأربعة — وابن أخيها القاسم بن محمد بن أبي بكر أحد الفقهاء السبعة؟! بل كيف لم يقل به فقهاء المدينة بصفة عامة وهم أتبع الناس للحديث وأعلم الناس به؟! ما خالفهم في ذلك إلا الزهري؟!. لقد فكرت في هذه المسألة طويلًا، وطالعت فيها عددًا غير قليل من الكتب، ولكني لم أجد فيها ما ينقع الغُلَّة، ويجيبني عن السؤال الذي حيَّرني، وهو: كيف لم يقل مثل ابن عمر وابن الزبير وغيرهما من الصحابة وأمهات المؤمنين وسادات التابعين من فقهاء المدينة وغيرهم بمقتضى حديث عائشة في أخي أبي القعيس؟ فإما أنهم لم يبلغهم الحديث، وهذا بعيد مع قرب العهد والمعاصرة من بعضهم، ومع إثارة المشكلة من ابن الزبير وبنت أم سلمة في عهد الصحابة، ثم خلاف بعضهم لبعض بعد ذلك واستناد بعضهم إلى الحديث. وإما أنهم بلغهم الحديث وتعمَّدوا مخالفته، وهذا أشد بُعدًا، فقد كانوا أتبع الناس للسنة إذا عرفوها، ولا يَسَع أحدًا منهم مخالفتُها. وإما أنهم بلغهم الحديث وكان لهم فيه تأويل سائغ صرفهم عن الأخذ به. وهذا في رأيي، هو أقرب الاتجاهات في ذلك، وأليقها بهؤلاء الأعلام من صحابة وتابعين وأتباع. ولكن ممَّا يؤسف له أن شيئًا من تأويلهم لم يصل إلينا. فعلينا نحن أن نجد تأويلًا مقبولًا للحديث يمكن الاعتماد عليه، والذي يبدو لي أحد تأويلين: الأول: أن حديث عائشة واقعة حال معينة، حكم فيها الرسول عليه الصلاة والسلام في حادث خاص بلفظ خاص، فلعله راعى ظرف هذا الرجل وسنه، ونظرته إلى عائشة أنها ابنة أخيه، وغير ذلك من الاعتبارات، التي يمكن أن يكون لها تأثير في الفتوى في هذه الواقعة الشخصية، مع ثبوت الحاجة، وانتفاء الشبهة، وأمن الفتنة. وقد جاءت الفتوى بلفظ خاص خوطبت به عائشة رضي الله عنها، والحكم في مثل هذه الواقعات المعيَّنة الخاصَّة لا يجب تعدِّيه إلى غيرها، ولعل هذا كان هو ملحظ عائشة حين خالفت هذا الحديث، فلا يُظَنُّ بها أن تتعمد مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام في أمرٍ علمَتْه من شرعه. التأويل الثاني: أن يقال: إن الحديث قد جاء في الإذن بالدخول، فيجب الاقتصار عليه، ولا يُعَدَّى الحكم إلى تحريم الزواج، إذ ليس في الحديث تصريح بذلك، وبخاصة أنه جاء على خلاف القياس كما نُقِل عن الشافعي رضي الله عنه. وقد يتسامح في الرؤية والدخول إذا اقتضت الحاجة وأُمنت الفتنة. أما تحريم الحلال، فهو قرين الشرك، وهو ممَّا شدَّد فيه القرآن النكير على من اقترفه من آيات كثيرة، مثل قوله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) النحل:116. ملاحظات حول قضية الاحتياط في الدين وهنا نجد وجهتين من قضية (الاحتياط) في الدين عند العلماء: الأولى: وجهة الذين يحتاطون بالتوسع في دائرة التحريم، فكل ما يخشى منه الوقوع في محرم أو شائبته يفتون بمنعه أو تحريمه احتياطًا. وهذه هي الوجهة الشائعة. والثانية: وجهة من يرون (التحريم) نفسه — بغير قاطع — أمرًا محظورًا محذورًا، يخشى خطره، ويتوقى شرُّه، فلهذا يفرُّون منه، ويرون الاحتياط هنا: أن يبقوا الأشياء والأمور على الإباحة الأصلية، أو يقولوا بمجرد الكراهة بمثل: أكره، أو لا أستحب، أو لا أرى.. ونحوها، وقد يتوقفون عن الحكم نهائيًّا إذا تعارضت أمامهم الأدلة، ولم ينقدح في أنفسهم مرجِّح معتبر يستندون إليه. ولا بد أن أنبِّه هنا على أمرين في قضية الاحتياط أيضًا: أولهما: أن المبالغة في الاحتياط عن طريق المنع والتضييق تنتهي إلى نوع من التنطُّع أو الغلو الذي ذمه الرسول عليه الصلاة والسلام أبلغ الذم: "هلك المتنطعون". قالها ثلاثا. "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين". وقد ذكرتُ في مقدمة كتابي (فتاوى معاصرة) أن استمرار الأخذ بالأحوط في كل شيء يجعل الدين في النهاية مجموعة (أحوطيات) تنتهي بالناس إلى الحرج، وهو منفي في شرع الله. ولهذا أرى الاعتدال في الاحتياط مطلوبًا — أيضًا — حتى لا نشدِّد على عباد الله، وندخلهم في دائرة العسر، والله يريد بهم اليسر. والثاني: أن الاحتياط والخروج من الخلاف والبعد عما فيه أدنى شبهة مطلوب من الإنسان الورع قبل الوقوع في الأمر، أما إذا وقع الأمر، وكان هناك وجه معتبر لتصحيحه، فالفقه هنا هو تصحيح ما وقع، حفظًا لمصالح الناس التي ما جاءت الشريعة إلا لترعاها. ومن ثم كان كثير من الفقهاء المعتَبَرين يفتون بالتخفيف وبالرخص على المُبتَلَى بالواقعة فعلًا، بخلاف غير المبتلى. فمن حلف بالطلاق على شيء، ولم يحنث فيه بعد، وأمكنه أن يبقى — بلا حرج — مع امرأته على جميع المذاهب، فلا داعي لإفتائه بالمذاهب المخفِّفة في أمر الطلاق، وأما من وقع بالفعل، فهنا تُطلب له الرخصة، ويُدفع عنه الحرج. سأل رجل ابن عباس: هل للقاتل من توبة؟ فقال: لا. فلما راجعه أصحابه في ذلك، وأنه كان يفتي قبل ذلك بأن للقاتل توبة. أخبرهم بأنه رأى في عينيه نية القتل، فأراد أن يسد عليه الطريق حتى لا يتورَّط في المعصية، بل في الكبيرة. ومعنى هذا أنه لو كان قاتلًا بالفعل، لكان له منه موقف آخر. وعلى هذا الأساس أقول: في مسائل الرضاع التي وقع فيها الاختلاف بين العلماء، ولم يترجَّح فيها رأي واضح حاسم، ينبغي أن تكون الفتوى فيها — قبل الوقوع — بتجنُّبها ابتداء، أخذًا بالاحتياط، وخروجًا من الخلاف، وبعدًا عن أي ارتياب، وأما بعد الوقوع، فالفتوى يجب أن تقوم على أساس تصحيح ما وقع، حتى لا نهدم الأبنية المستقرَّة، ونشتِّت الشمل المجتمِع، بغير نصٍّ قاطع، ولا إجماع متيقَّن.

4429

| 24 يونيو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: حرمة الرضاع تثبت بين زوج المرضعة والرضيع ذكرا أو أنثى

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د. يوسف القرضاوي الحلقة : التاسعة عشر الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أَولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته، وقد جعل القرآن تكوين الأسر سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به، ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21).. فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل؛ يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معاً، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعِّبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم واحتفالات الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات.. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك".. "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". والزواج إذ يُيَسِّر أسباب الحلال يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35). الرضاع من جهة زوج المرضعة أو ما يسمى (لبن الفحل): أجمعت الأمة على ثبوت محرمية الرضاع بين الرضيع- ذكرًا كان أو أنثى- وبين مرضعته، إذا تحقق الرضاع بأوصافه وشروطه في مدته الموقوتة، فهي تصير له أمًّا، ويصير ابنها، وبهذه البنوة الرضاعية يحرم عليه زواجها حرمة مؤبَّدة، ويحل له النظر إليها، والخلوة بها، والمسافَرة بها، ولكن لا تترتب على هذه البنوة الرضاعية أحكام الأمومة من كل وجه، فلا يتوارثان، ولا يتحمل الدية عنها، ولا يسقط عنها القصاص لو قتلته.. إلخ، فهما كالأجنبيَّيْن في هذه الأحكام . وأجمعت الأمة كذلك على انتشار المحرمية بين المرضعة وأولاد الرضيع، وبين الرضيع وأولاد المرضعة، وأنه من ذلك كولدها من النسب . وأما زوج المرأة المرضعة- الذي كان اللبن بسبب حملها وولادتها منه- ففي شأنه خلاف كبير وقديم منذ عهد الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ومَنْ بعدهم، وهي المسألة التي يعبِّرون عنها في الفقه بعنوان (لبن الفحل)، أي: لبن الرجل الذي منه كان الحمل والولادة، وبالتالي الإرضاع: هل تثبت الحرمة من جهته، وتنتشر كما ثبتت وانتشرت من جهة المرأة أو لا؟ في هذه القضية أربعة مذاهب، ترويها كتب الآثار والفقه المقارن: 1ـ مذهب من يحرِّم بلبن الفحل: مذهب الأئمة الأربعة، بل المذاهب الثمانية المعروفة (الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، والظاهري، والزيدي والجعفري والإباضي): أن حرمة الرضاع تثبت بين زوج المرضعة وبين الرضيع- ذكرا كان أو أنثى- ويصير ولدا له، ويصير أولاد الرجل إخوة وأخوات للرضيع، ويكون إخوة الرجل أعمامًا للرضيع، وأخواته عماته، ويكون أولاد الرضيع أولاد ولد الرجل.. وهكذا. ودليل هؤلاء، ما رواه الشيخان- واللفظ لمسلم- عن عائشة أم المؤمنين أنها أخبرت عروة بن الزبير: أنه جاء أفلح أخو أبي القُعَيْس يستأذن عليها، بعدما نزل الحجاب، وكان أبو القُعَيس أبا عائشة من الرضاعة. قالت عائشة: والله لا آذَنُ لأفلح حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته! قالت عائشة: فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، إن أفلح أخا أبي القعيس جاءني يستأذن عليَّ، فكرهت أن آذن له حتى أستأذنك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائذني له". قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرِّموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب. وفي رواية أخرى لمسلم: قالت: استأذن عليَّ أفلح بن قعيس، فأبيتُ أن آذن له. فأرسل: إني عمُّك، أرضعَتْك امرأةُ أخي. فأبيت أن آذن له، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: "ليدخل عليك؛ فإنه عمك". وفي رواية: "فإنه عمُّك، تربت يمينك". وفي أخرى: فقال لها: "لا تحتجبي منه؛ فإنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". والحديث برواياته كلها صريح في المطلوب؛ لأنه أثبت العمومة من طريق الرجل زوج المرضعة، وهي فرع عن ثبوت أبوته للرضيع، وبنوَّة الرضيع له. يؤيِّد هذا الحديث عموم حديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". 2ـ مذهب من قال: لبنُ الفحل لا يحرم: والمذهب الثاني في هذه المسألة، على عكس المذهب الأول، فهو لا يرى بلبن الفحل بأسًا، ولا يرى التحريم به بحال، وهو مذهب عدد كبير من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، وسنعرض بعد ذكر المذهبَيْن الآخرَيْن للقائلين بهذا المذهب وأدلتهم بتفصيل. 3ـ مذهب من يرى كراهية لبن الفحل: وهناك من الفقهاء من وقف موقفًا وسطًا بين من لم ير بلبن الفحل أي بأس، وبين من رآه محرِّما. فلم يقل بالإباحة المطلقة، ولا بالتحريم المطلق، بل قال بالكراهة فقط. ذكر ابن حزم في (المحلى) بالسند إلى مجاهد: أنه كره لبن الفحل. وذكر أيضا من طريق سعيد بن منصور وأبي عبيد بسندهما إلى عبد الله بن سبرة الهمداني أنه سمع الشعبي يكره لبن الفحل. 4ـ مذهب المتوقِّفين في المسألة: وهناك مذهب رابع لبعض الفقهاء، أنهم توقَّفوا في المسألة، ولم يُفتوا فيها برأي، حيث تعارضت عندهم الأدلة، ولم يوجد أمامهم مرجِّح. فقد روى سعيد بن منصور بسنده إلى عبَّاد بن منصور، قال: سألت مجاهدا عن جارية من عُرْض الناس (أي: من العامة) أرضعتها امرأة أبي، أترى لي أن أتزوجها؟ فقال: اختلف فيها الفقهاء، فلست أقول شيئًا. (وهذه رواية أخرى غير الرواية التي نسبت إليه القول بالكراهة). قال: وسألت ابن سيرين، فقال مثل قول مجاهد. وهذا هو موقف الفقيه المتثبِّت حين تتعارض في نظره الدلائل، ولا يجد أمامه سبيلًا للتوفيق، أو الترجيح بينها. فهنا لا يسعه إلا التوقُّف، وقول: (لا أدري)، ومن قال: لا أدري فقد أجاب. والآن نعود لتفصيل القول في المذهب الثاني. تفصيل مذهب من قال: لا بأس بلبن الفحل: ذهب جمٌّع غفير من الصحابة وأمهات المؤمنين والتابعين ومَن بعدهم مِن الفقهاء إلى أن لبن الفحل لا يحرِّم. فمن الصحابة: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، ورافع بن خديج، وزينب بنت أم سلمة، بل عائشة نفسها راوية حديث أفلح أخي أبي القعيس، وغيرهم من الصحابة. ومن التابعين: القاسم بن محمد بن أبي بكر ابن أخي عائشة وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وسالم بن عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن يسار، وسليمان بن يسار، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة، وإبراهيم النخعي، وأبو قلابة، ومكحول، والشعبي، وإياس بن معاوية، وربيعة بن عبد الرحمن (ربيعة الرأي شيخ مالك)، وإبراهيم بن عُلَيَّة، وابن بنت الشافعي، وداود الظاهري وأتباعه، والشافعي في قول قديم له( ). وحجتهم في ذلك أولًا: مفهوم قوله تعالى في بيان المحرمات في النكاح بعد ذكر المحرمات من جهة النسب- الأمهات والبنات والأخوات.. إلخ-: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}[النساء:23] ولم يذكر العمة ولا البنت وغيرهما كما ذكر في النسب، فدل تخصيصهن بالذكر على أن من عداهن- ممن يُدلي بجهة غير جهة الأم- بخلافهن.

10070

| 23 يونيو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: الرضاع يُعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د. يوسف القرضاوي الحلقة: الثامنة عشر الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أَولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به، ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21).. فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل؛ يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معاً، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعِّبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم واحتفالات الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات.. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك".. "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". والزواج إذ يُيَسِّر أسباب الحلال يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35). رضاع الكبير عمدة المخالفين القائلين ان الرضاعة تحرُم ولو في الكبير: حديث عائشة وأم سلمة المشهور في قصة سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة بن عتبة ومولاهما سالم، والذي أخرجه الشيخان وأصحاب السنن والمصنفات والمسانيد. ففي صحيح مسلم، عن عائشة قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي فقالت: يا رسول الله، إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم — وهو حليفه — فقال النبي: "أرضعيه". قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟! فتبسَّم رسول الله وقال: "قد علمتُ أنه رجل كبير". وفي رواية أخرى لمسلم عن عائشة أيضًا: ان سالمًا مولى أبي حذيفة، كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فأتت — تعني ابنة سهيل — النبيَّ، فقالت: إن سالمًا قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوا، وإنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئًا. فقال لها النبي: أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة، فرجعت، فقالت: إني قد أرضعته. فذهب الذي في نفس أبي حذيفة. ولم يكن سالم بالنسبة لأبي حذيفة وأهله مجرد شخص أو حليف يعيش معهم في بيتهم، بل كان يُعَدُّ واحدًا منهم، وابنًا لهم، إذ كان أبو حذيفة قد تبنَّاه في الجاهلية، واعتُبر ابنًا له سنين عددًا، حتى أبطل الإسلام التبنِّي، وقد بيَّنت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في رواية لها عند البخاري والبرقاني وأبي داود والبيهقي وغيرهم. فروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس — وكان ممن شهد بدرًا مع النبي — تبنَّى سالمًا، وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنَّى النبي زيدًا، وكان من تبنَّى رجلًا في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث من ميراثه، حتى أنزل الله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}[الأحزاب:5]. فرُدُّوا إلى آبائهم، فمن لم يُعلم له أبٌ، كان مولًى وأخًا في الدين، فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري — وهي امرأة أبي حذيفة بن عتبة — النبيَّ ، فقالت: يا رسول الله، إنا كنا نرى سالمًا ولدًا، وقد أنزل الله فيه ما قد علمت.. فذكر الحديث. قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): ((ساق بقيته البرقاني وأبو داود: فكيف ترى؟ فقال رسول الله : "أرضعيه". فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنـزلة ولدها من الرضاعة. فبذلك كانت عائشة تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبَّت عائشة أن يراها ويدخل عليها — وإن كان كبيرًا — خمس رضعات، ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي أن يُدخِلْن عليهن بتلك الرضاعة أحدًا من الناس حتى يرضع في المهد)). وفي صحيح مسلم عن زينب بنت أم سلمة: أن أم سلمة قالت لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع (أي الذي قارب البلوغ) الذي ما أُحِبُّ أن يدخل عليَّ.. فقالت عائشة: أما لكِ في رسول الله أسوة؟ وذكرت قصة امرأة أبي حذيفة. وفي مسلم أيضا عن زينب: أن أمها أم سلمة زوج النبي كانت تقول: أبى سائر أزواج النبي أن يدخلن عليهن أحدًا بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا. وهذا — أي حمل الحديث على الخصوصية لسالم — هو أحد المخارج من هذا الحديث الذي جاء مخالفًا لما دلَّت عليه الدلائل التي سقناها من قبل: أن الرضاعة المؤثِّرة ما كانت في وقت الصغر وتكوين اللحم والعظم. وحكى الإمام الخطَّابي عن عامة أهل العلم: أنهم حمَلوا الأمر في ذلك على أحد وجهين: إما على الخصوص، وإما على النسخ، ونحوه عن ابن المنذر. وقد تُعِقِّبت دعوى النسخ بأنه متوقِّف على معرفة التاريخ، على أن قولها للنبي : كيف أرضعُه وهو رجل كبير؟ دالٌّ على تأخُّره عمَّا دل على اعتبار الصغر، فلم يبق إلا أنها واقعة عَيْن تُوقَف على محلِّها. ودافع بعض العلماء عن عائشة بأن الأصل عدم الخصوصية، والتخصيص يفتقر إلى دليل، وأين هو؟! وأجيب بأن الدليل هو الآية والأحاديث والآثار التي قيَّدت الرضاعة بما كان في الحولين وفي الثدي. أي وقت حاجة الرضيع إليه، واستغنائه به، وهذا التأويل هو ما فهمتْه أمُّ سلمة وسائر أمهات المؤمنين، يؤيد ذلك أن مباشرة الرجل الأجنبية ممنوعة قطعا بالإجماع. وهو حكم عام مستمرٌّ، فهذا أقوى من الحديث المذكور، فيتعين صحة اجتهاد أم سلمة ومن معها، وخطأ اجتهادها، رضي الله عنهن جميعا. وقد تعرَّض القاضي عياض لدفع ما ذكر من المُباشرة بأن سهلة لعلَّها حلبته ثم شربه من غير أن يمسَّ ثديها. قال النووي: ((وهذا حسن، ويحتمل أنه عُفِيَ عن مسِّه للحاجة، كما خص بالرضاعة مع الكبر)) . وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الرضاع يُعتبر فيه الصغر، إلا فيما دعت إليه الحاجة، كرضاع الكبير الذي لا يُستغى عن دخوله إلى المرأة، ويشقُّ احتجابها عنه، كحال سالم مع امراة أبي حذيفة، فيكون في مثله مؤثِّرًا، وأما من عداه فلا بد من الصغر. وفي هذا جمع للأحاديث الواردة، والعمل بها مهما أمكن هو الواجب. وأيَّد الإمام ابن القيم هذا المسلك لشيخه، وقال: ((والأحاديث النافية للرضاع في الكبر، إما مطلقة، فتقيد بحديث سهلة، أو عامة في الأحوال، فتخصص هذه الحال من عمومها، وهذا أولى من دعوى النسخ، ودعوى التخصيص لشخص بعينه، وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبَيْن، وقواعد الشرع تشهد له)). قال العلامة الشوكاني في (نيل الأوطار): ((وهذا هو الراجح عندي، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث، بأن تجعل قصة سالم المذكورة مخصصة لعموم: "إنما الرضاعة من المجاعة". و"لا رضاع إلا في الحولين" .. إلخ. وهذه طريق متوسطة بين طريقة من استدل بهذه الأحاديث على أن لا حكم لرضاع الكبير مطلقًا، وبين من جعل رضاع الكبير كرضاع الصغير مطلقًا، كما لا يخلو عنه كل واحدة من هاتين الطريقتين من التعسُّف)). ولقد تناولت بعض الأقلام في بعض الصحف المصرية هذا الحديث، وما فيه من إرضاع سهلة لسالم، منكرين له، متهجِّمين على كل من رواه أو نشره، أو استشهد به في كتاب، وتطاولوا على فضيلة الشيخ سيد سابق، لذكره هذا الحديث في كتابه (فقه السنة)، سالكين هذا الحديث ضمن الموضوع المكذوب على رسول الله ، إذ لا يعقل في نظرهم أن يرضع رجل كبير من امرأة، وكيف يأذن له النبي ولها في ذلك؟ وإذ لم يعقل ذلك، فالحديث مكذوب، وإن ورد في البخاري ومسلم!! ولا ريب أن الاجتراء على رد الأحاديث الثابتة بهذه السهولة، والتطاول على الأئمة الأعلام بمثل هذه الجرأة، بل الوقاحة، لا يتأتى من إنسان شم رائحة العلم، وعايش أهله أحياءً في حلقاتهم، أو أمواتا في كتبهم. إنما هو شأن (الأدعياء) المتطفِّلين على موائد العلم وأهله، أو (الخطَّافين) المتسرِّعين المغرورين، الذين فقدوا فضيلة التواضع فلم يسألوا، وفقدوا خلق الأناة فلم يتثبتوا، وفقدوا أصالة العلم، فلم يتبينوا. إن هذا الحديث لم يذكره كتابٌ ولا اثنان ولا ثلاثة، ولم يروه صحابي أو اثنان فقط، ولا تابعي أو اثنان، إنه — كما قال الإمام ابن حزم — منقول نقل الكافة عن الكافة. ثم إنه حديث شغل الصحابة وأمهات المؤمنين منذ العصر الأول، وشغل التابعين وأتباع التابعين، وأئمة الفقهاء من بعدهم، وقسمهم شطرين: شطر يؤيده ويأخذ بظاهره، ويرى الرضاع محرِّمًا في الصغر والكبر، وشطر يتخذ منه موقفًا آخر يتمثل في القول بالخصوصية لسالم، أو القول بأنه منسوخ، أو القول بأنه رخصة للحاجة. الاستهانة بالعلم أمر لا يُقبل بحال قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار: ((هذا حديث قد رواه من الصحابة أمهات المؤمنين وسهلة بنت سهيل، وهي من المهاجرات، وزينب بنت أم سلمة، وهي ربيبة النبي . ورواه من التابعين: القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وحميد بن نافع، ورواه عن هؤلاء الزهري، ثم رواه عن هؤلاء أيوب السختِيَاني وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة وشعبة، ومالك وابن جريج، وشعيب ويونس وجعفر بن ربيعة ومَعْمَر وسليمان بن بلال وغيرهم. وهؤلاء هم أئمة الحديث المرجوع إليهم في أعصارهم، ثم رواه عنهم الجم الغفير والعدد الكثير، وقد قال بعض أهل العلم: إن هذه السنة بلغت طرقها نصاب التواتر. وقد استدلَّ بذلك من قال: إن إرضاع الكبير يثبت به التحريم)). وأعتقد أن حديثًا بهذه الدرجة من الصحة والقوة والشهرة — التي جعلت بعض العلماء يبلغ به إلى مرتبة التواتر اليقيني — لا يجوز في منطق العلم، وعرف العلماء، أن يتهوَّر متهوِّر، فيرميه بأنه حديث باطل أو مكذوب!! دون أن يكلِّف نفسه الرجوع إلى مصادر الحديث، ورأي علماء الأمة فيه، وكأنه نصب نفسه وحده حكمًا على الأمة كلها منذ عهد الصحابة إلى اليوم، فما قبله فهو المقبول، وما رفضه فهو المرفوض! إن الاستهانة بالعلم وبالنقول إلى هذا الحد، أمر لا يُقبل بحال.

9915

| 22 يونيو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: الرضاع المحرِّم ما كان في الصِّغَر

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د.يوسف القرضاوي الحلقة: السابعة عشر الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أَولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به، ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21).. فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل؛ يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معاً، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعِّبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم واحتفالات الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات.. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك".. "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". والزواج إذ يُيَسِّر أسباب الحلال يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35). فتوى للشيخ شلتوت: وقد عرض شيخنا العلامة الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق رحمه الله في كتابه (الفتاوى) لمذاهب العلماء في قدر الرضاع الذي يحرِّم الزواج بين الرضيعَيْن، وكثرة اختلافهم في ذلك، تبعًا لاختلاف النظر في الآية مع الأحاديث الواردة في الموضوع، والمتعارضة في ظواهرها، وتحكيم كل فريق ما صحَّ عنده منها. ثم قال: ((ولكن لم نرَ منهم من عرَّج نحوَ دلالةِ كلمة: "وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ" على قدر الرضاع المحرم، ولا شكَّ أنَّ عنوان (الأمهات) يعطي أن مدة الرضاعة امتدت، حتى شعرت معه المرضعة بمعنى الأمومة للرضيع، ولا شك أن هذا الوقت الذي يتحقَّق به معنى العطف والحُنُوِّ والشوق من المرضعة للرضيع، ليس هو وقت (القطرة)، ولا هو وقت (الثلاث رضعات)، ولا هو وقت الخمس رضعات. وخاصة إذا قدرنا أن الرضاع المحرِّم هو ما يكون في حولَيْن أو أكثر، كما يذهب إليه بعض العلماء. فالخمس رضعات، أو الرضعات المعدودات، لا يمكن أن تُحدِثَ معنى الأمومة عند المرضِعة، متى لوحظ تفرُّقها على الحولين، أو أكثر منهما. وهذه ناحية أعرضها للبحث الذي يستعان فيه برأي الأطباء الواقفين على المدار الذي ينبت فيه اللحم وينشز العظم. ونرجو أن يصل العلماء إلى ما يرفع اختلاف المفتين في هذه المسألة التي كثيرًا ما رأيت بنفسي ما تُحدث عقدًا نفسية بين الزوجين، حين يجدان أن فلانة أرضعتهما. وإذا كان جمهور العلماء يفتون برأي الشافعية ـ نظرًا إلى أنه المتوسط بين الآراء ـ فإن كثيرًا من المفتين يزعجون الأسر الهادئة، بأن قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم. والواقع أن مسألة التحريم بالرضاع على الوجه المذكور به في كتب الفقه، في حاجة إلى التمحيص، لاختيار الأوفق والأيسر، والأبعد عما يثير في نفوس الأسر الزعزعة والاضطراب)). وقفات أمام فتوى الشيخ شلتوت وهنا لا بد لنا أن نقف وقفات أمام فتوى شيخنا رحمه الله: أولًا: لا يزال ما أنكره الشيخ منذ عدد غير قليل من السنين قائمًا، وهو اختلاف المفتين الذين يُسألون في هذه القضية، اختلافًا يدعُ السائلين من جماهير المسلمين في حيرة لا يدرون معها أي مذهب يختارون، ولم تبذل محاولة من الهيئات العلمية المرموقة، أن ترجِّح في ذلك رأيًا؛ يريح الناس من البلبلة والشك والاضطراب. ثانيًا: لا يزال الكثيرون يتبنَّون أشد الآراء في هذه المسألة، ويفتون بأن المصة الواحدة تثبت التحريم إلى الأبد، مدَّعين أن هذا رأي جمهور الأئمة، وأن ثلاثة من الأئمة الأربعة يقولون به، يعنون: أبا حنيفة ومالكًا وأحمد، هذا مع أن ظاهر مذهب أحمد عدم التحريم إلا بالخمس، كما هو مذهب الشافعي، وكمَّا نصت على ذلك كتب الحنابلة. ثالثًا: ذكر الشيخ أنه لم يَرَ من السابقين من عرَّج على دلالة كلمة "وأمهاتكم" على قدر الرضاع المحرِّم، وقد ذكرنا نقل النووي عن الشافعية اعتراضهم على مخالفيهم بدلالة ذكر (الأمومة) في الآية.. وقد عرض العلامة الآلوسي في تفسيره الشهير "روح المعاني" لذكر كلمة "أمهاتكم" في الآية، ونقل عن الحافظ السيوطي؛ أن عنده في سر ذكرها كلامًا كثيرًا، لو شاء لكتب عليه عدة مؤلفات! وأشار ضمن كلامه إلى أنه لو قيل: (واللاتي أرضعنكم) يكفي في التحريم رضعة واحدة، ولكنه قال: "وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ" ليرتب عليها خمس رضعات واردة.. وذكر الآلوسي خمس ملحوظات من باب الإشارة، مما يقوي الاستئناس بالآية على مذهب التحريم بالخمس. ثم نقل عن الإمام النووي ما سبق أن ذكرناه، وعقب عليه بقوله: "لم يصرح رحمه الله تعالى بأن الآية التي استدلَّ بها المالكية مُشعِرة بالخمس، بل اقتصر على أن الدلالة على الواحدة لا تحصل بها، وأراد أن ما أشرنا إليه من الإشعار القوي إلى التعدد، يأبى حمل الماهية على أقل ما تتحقَّق فيه". على أن الذين تكلَّموا من قريب أو بعيد حول دلالة كلمة "أمهاتكم اللاتي أرضعنكم"، لم ينتهوا بقيد "الأمومة" هنا إلى ما انتهى إليه الشيخ، الذي يفيد كلامه: أنه لا بد من وقت طويل حتى تتكوَّن. وقد يرد على هذا بأن التشريع لا بد أن يضع حدًّا أدنى، كما وضع حدًّا أعلى (الحولين على الصحيح)، فكانت الرضعات الخمس هي الحد الأدنى الذي يتحقق به معنى الأمومة في أقل درجاته، وهذا ما يمكن أن نسميه (نِصَاب الرضاع) كما في نظائره (نصاب الزكاة)، و(نصاب السرقة).. ونحوها. رابعًا: ما طرحه الشيخ رحمه الله للبحث الذي يشترك فيه علماء الشرع مع علماء الطب، كلٌّ فيما يخصه، لبيان قدر الرضاع الذي ينبت اللحم وينشز العظم، كما جاء في بعض الأحاديث. أقول: هذه الدعوة لم تجد صدًى لا عند الفقهاء، ولا عند الأطباء، لا بالقبول والتأييد، ولا بالرد والتفنيد، وذهبت صيحةً في واد، ونفخةً في رماد، كما يقولون.. غير أن في ثبوت هذا الحديث نفسِه كلامًا، من حيث صحَّة سنده، وإنما يستدل به مع مجموعة الأحاديث والآثار الأخرى، الدالة على اعتبار الصغر في التحريم بالرضاع. 3 ـ التضييق في مدة التحريم بالرضاع: إذا كان قيد الأمومة في الآية: "وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ"، قد أيَّد مذهب من اشترطوا العدد في الرضاع، فإن هذا القيد يقوِّي أيضًا مذهب من يرى أن الرضاع المحرِّم، ما كان في الصغر قبل الحَوْلين، وكان قبل الفطام والاستغناء عن اللبن بالطعام. فإن الأمومة تتكوَّن حقيقة في هذه السنِّ المبكِّرة، التي يعتمد الطفل فيها اعتمادًا كليًّا على مرضِعته ماديًّا وعاطفيًّا. وقد قال تعالى: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ"[البقرة:233]. فجعل تمامها في الحولين، فدل على أنه لا حكم للرضاع بعدهما، كما قال ابن قدامة. وروى الترمذي عن أم سلمة قالت: قال رسول الله : "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، في الثدي، وكان قبل الفطام". ومعنى في الثدي: أي في زمن الثدي، وهو تعبير معروف عند العرب. ومعنى (فتق الأمعاء): وسَّعها لاغتذاء الصبي به، وقت احتياجه إليه.. وفي سنن الدارقطني عن ابن عباس، قال: قال رسول الله : "لا رضاع إلا ما كان في الحَوْلَين". وروى البيهقي بسنده: أن رجلًا كان معه امرأته وهو في سفر، فولدت، فجعل الصبيُّ لا يمص، فأخذ زوجها يمص لبنها ويمُجَّه، حتى وجد طعم لبنها في حلقه، فأتى أبا موسى (الأشعري) فذكر ذلك له، فقال: حرُمتْ عليك امرأتُك، فأتى ابن مسعود، فقال (أي لأبي موسى): أنت الذي تفتي هذا بكذا وكذا؟! وقد قال رسول الله : "لا رضاع إلا ما شدَّ العظمَ وأنبت اللحم"؟. وفي رواية أن ابن مسعود قال لأبي موسى: أرضيع هذا؟! وأن أبا موسى قال: لا تسألوني ما دام هذا الحَبْر فيكم. الرضاع المحرِّم ما كان في الصِّغَر عن جابر مرفوعاً: "لا رضاع بعد فِصال". وقد قال القرآن الكريم: "وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ"[لقمان:14]. وعن عائشة قالت: دخل عليَّ رسول الله وعندي رجل، فقال: من هذا؟ قلتُ: أخي في الرضاعة. قال: "يا عائشة، انظرن مَن إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة". وفي قوله: "انظرن مَن إخوانكن". أمرٌ بالتأمُّل فيما وقع من الرضاع؛ هل هو رضاع صحيح مستجمِع للشروط المعتبرة أو لا؟ وقوله: "فإنما الرضاعة من المجاعة". تعليل للباعث على إمعان النظر والتفكر، بأن الرضاعة التي تثبت بها الحرمة، هي حيث يكون الرضيع طفلًا، يسد اللبن جوعته، وأما من كان يأكل ويشرب، فرضاعه لا من مجاعة؛ لأن في الطعام والشراب ما يسد جوعته. ومثل هذا حديث: "لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم". فإن هذا إنما يكون لمن كان غذاؤه اللبن. وعن ابن عمر: أن امرأة من الأنصار عمدت إلى جارية لزوجها، فأرضعتها (أي بدافع الغَيْرة)، فلما جاء زوجُها، قالت: إن جاريتَك هذه قد صارت ابنتَك! فانطلق الرجل إلى عمر، فذكر ذلك له، فقال له عمر: عزمتُ عليك لَمَا رجعتَ فأصبتَ جاريتكَ، وأوجعتَ ظهر امراتك؛ فإنما الرضاعة رضاعة الصغير. وهذا هو قول ابنه عبدالله بن عمر: لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الصِّغَر.. فهو إذن قول عمر وابنه وابن مسعود وأبي موسى وابن عباس. قال البيهقي: ورُوِّينا هذا التحديد بالحَوْلَين، عن التابعين عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والشعبي. وهو قول جمهور الفقهاء: إن الرضاع المحرِّم ما كان في الصِّغَر. وهذا هو المعروف من شأن الرضاعة والرضيع، ولم يستطعْ المخالفون أن يردُّوا هذه الدلائل إلا بالتعسُّف في التأويل.

4220

| 21 يونيو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: تيسير الزواج يسدُّ أبواب الحرام والمثيرات إليه

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د.يوسف القرضاوي الحلقة: السادسة عشر الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به، ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21).. فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معاً، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعِّبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم واحتفالات الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات.. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك".. "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". والزواج إذ يُيَسِّر أسباب الحلال يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35). مجالات التضييق في التحريم بالرضاع والتضييق الذي أذهب إليه هنا يشمل عدة مجالات: 1ـ صفة الرضاع. 2ـ مقدار الرضاع. 3ـ مدة الرضاع. 4ـ ما يحرم بالرضاع. 5ـ ما يثبت به الرضاع. 1- التضييق في صفة الرضاع المحرِّم: أما صفة الرضاع المحرم فأرجِّح فيه ما ذهب إليه الإمام الليث بن سعد، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وهو مذهب ابن حزم، وهو ((ما امتصه الراضع من ثدي المرضعة بفيه فقط. فأما من سُقِي لبن امرأة، فشربه من إناء، أو حُلِبَ في فيه، فبلعه، أو أُطْعِمه بخبز، أو في طعام، أو صُبَّ في فمه أو في أنفه أو في أذنه أو حقن به، فكل ذلك لا يحرِّم شيئًا، ولو كان ذلك غذاء دهرِه كله)). قال ابن حزم: ((برهان ذلك قول الله عز وجل: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}[النساء:23]. قال رسول الله : "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". فلم يحرم الله تعالى ولا رسوله في هذا المعنى نكاحًا، إلا بالإرضاع والرضاعة والرضاع فقط، ولا يسمى إرضاعًا إلا ما وضعته المرضعة من ثديها في فم الرضيع. يقال: أرضعته ترضعه إرضاعًا. ولا يسمى رضاعة ورضاعًا إلا إذا أخذ المرضَع أو الرضيع بفيه الثدي وامتصاصه إياه، نقول: رضع يرضع رضاعًا ورضاعة. وأما كل ما عدا ذلك مما ذكرنا: فلا يسمَّى شيء منه إرضاعًا ولا رضاعة ولا رضاعًا، إنما هو حلب وطعام وسقاء وشرب وأكل وبلع وحقنة سَعُوط وتقطير. ولم يحرِّم الله عز وجل بهذا شيئًا)). فابن حزم يستدل هنا بالمدلولات اللغوية للألفاظ التي تعلَّقت بها الأحكام، وهذا هو الأصل، فلا يجوز إخراج الألفاظ عن حقيقة مدلولاتها في اللغة إلا بسبب صارف عن ذلك، ولم يوجد هنا. يؤكد ذلك من ناحية المعنى: أن حقيقة الرضاع ليست مجرد تغذية. بل هي معنى عاطفي بجوار المعنى المادي، وهذا المعنى العاطفي يتكون بالاحتضان والالتصاق، والامتصاص مع الغذاء. 2- التضييق بالنسبة لمقدار الرضاع المحرم: والتضييق الثاني هنا: يتمثَّل في مقدار الرضاع الذي يترتب عليه التحريم، فـلا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الرضعة ولا الرضعتان, ولا الإملاجة ولا الإملاجتان ، كما صحَّت بذلك الأحاديث عن النبي ، على خلاف ما ذهب إليه الجمهور من العلماء من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم: أبو حنيفة ومالك وأحمد في إحدى رواياته وابن المسيب في أحد قوليه والحسن والزهري وقتادة والحكم وحماد والأوزاعي والثوري. ويُروى عن علي وابن عمر، حتى ادَّعى الإمام الليث بن سعد في ذلك الإجماع: أن التحريم يثبت بما قل أو كثر من الرضاع، ولو بقطرة. قال ابن القيم: ((زعم الليث بن سعد: أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يُحرِّم في المهد ما يُفْطِر به الصائم)). وهذا وهم. فالخلاف ثابت بيقين، منذ عهد الصحابة فمن بعدهم، وادعاء الإجماع فيما فيه الخلاف أمر يكثر. فقد روى عروة بن الزبير عن خالته عائشة وأخيه عبد الله: قالا جميعًا: لا تحرم المصة ولا المصتان. وفي رواية: ليس بالمصة والمصَّتين بأس، إنما الرضاع ما فتق الأمعاء. وكذا جاء عن ابن عباس في أحد قوليه. وأُتِيَ عمر بن الخطاب بغلام وجارية أرادوا أن ينكحوا بينهما، قد علموا أن امرأة أرضعت أحدهما، فقال لها عمر: كيف أرضعتِ الآخر؟ قالت: مررت به وهو يبكي، فأرضعته، أو قالت: فأمصصته. فقال عمر: ناكحوا بينهما، فإنما الرضاعة الخصابة. يعني رضي الله عنه: أن الرضاعة المؤثِّرة هي التي تُخصِب الجسم وتنمِّيه، كما يخصب السماد الأرض. وعن أبي هريرة: لا يحرِّم إلا ما فتق الأمعاء. وعن ابن مسعود: لا يحرِّم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم، ووافقه على قوله أبو موسى الأشعري. وكذلك جاء عن سعيد بن المسيب في أحد قوليه: لا رضاع إلا ما أنبت اللحم والدم. ومن الفقهاء من وقف عند مفهوم أحاديث: لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الرضعة أو الرضعتان.. إلخ، وهي- كما قال ابن حزم- آثار صحاح، رواها أم المؤمنين وأم الفضل والزبير وأبو هريرة وابن الزبير، كلهم عن رسول الله ، فجاءت مجيء التواتر- فيما يرى ابن حزم- فهي مستثناة من عموم قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}[النساء:23]. فذهب هؤلاء الفقهاء- داود وأبو عبيد وابن المنذرـ وأبو ثور ويروى عن زيد بن علي وعن أحمد- إلى أن ثلاث رضعات فأكثر يثبت بها التحريم. ولو لم يرد غير هذه الأحاديث لكان القول ما قالوا، ولكن قد صحَّ عن عائشة: أن التحريم إنما هو بخمس رضعات معلومات. بل روى مسلم أن ذلك كان قرآنًا نُسخت تلاوته وبقي حكمه، وأن رسول الله توفي والأمر على ذلك. ذكر ذلك ابن حزم في محلَّاه، ثم ذكر خبرًا آخر من طريق عبد الرزاق عن عائشة في قصة سالم مولى أبي حذيفة ومولاته سهلة بنت سهيل- وستأتي بعد ذلك بتفصيل- وقول الرسول لها: "أرضعيه خمس رضعات تحرمي عليه" . فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة. قال أبو محمد بن حزم: ((وهذان خبران في غاية الصحة وجلالة الرواة وثقتهم، ولا يسع أحدًا الخروجُ عنهما)). وهذا هو مذهب الشافعي، وظاهر مذهب أحمد، وهو قول ابن حزم مخالفًا داود في هذه المسألة، وهو قول ابن مسعود وابن الزبير من الصحابة، وعطاء وطاوس من التابعين، وإحدى الروايات الثلاث عن عائشة، فقد رُوِي عنها أيضًا التحريم بالعشر وبالسبع. وهذا المذهب هو أقوى المذاهب وأرجحها دليلًا، لصريح الأحاديث الواردة في التحريم بالخمس، ونفي التحريم بالرضعة والرضعتين صريح في عدم تعليق التحريم بقليل الرضاع وكثيره، وهي ثلاثة أحاديث صحيحة صريحة، بعضها خرج جوابًا للسائل، وبعضها تأسيس حكمٍ ابتداءً. وتعليق التحريم بالخمس ليس فيه مخالفة للنصوص وللأحاديث العامَّة أو المُطْلقة في الموضوع، وإنما كل ما فيه تقييد مطلقها بالخمس، وتقييد المطلق بيان لا نسخ ولا تخصيص. وأما من علَّق التحريم بالقليل والكثير، فإنه يخالف أحاديث نفي التحريم بالرضعة والرضعتين، وأما صاحب الثلاث، فإنه وإن لم يخالفها، فهو مخالف لأحاديث الخمس. وما قاله بعض العلماء من أن حديث الخمس إنما هو بيان للحكم في بعض ما دل عليه عموم المفهوم في حديث "الرضعة والرضعتين". قد أجيب عنه بأنه قد تعارض عموم المفهومين وهما: تحريم ما زاد على الاثنين، وتحليل ما نقص عن الخمس. ((إلا أن حديث الخمس نص على المقصود من حيث كونه لبيان أول مراتب التحريم. فلو لم تكن أول مراتب التحريم، وفُرِض أن التحريم حاصل بدونها، كان فيه تلبيسٌ على السامع، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة، بخلاف حديث المصة والمصتين. فإنه يدل على أن هذا القدر لا يحرم، وإن كان الثلاث والأربع كذلك، والاقتصار على هذا القدر لا يوقع في الخطأ)). ومما يؤيِّد هذا المذهب أن القرآن ناط التحريم في الرضاع بالأمومة والأخوة، حيث قال في بيان المحرمات: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ}[النساء:23]. وألحق الحديث بهما الأصناف الخمسة الأخرى كما تقدم في أول البحث. والسرُّ في إلحاق أمومة الرضاع بأمومة النسب في الحكم هنا، إنما يتَّضح إذا تذكرنا ما كان معروفًا مُتَعَالَمًا لدى العرب قبل الإسلام، وخصوصًا عند أشرافهم وذوي الشأن منهم، حيث كانوا يسترضعون أولادهم من نساء غير أمهاتهم، ولا سيما من نساء أهل البادية، لينشأ الطفل في جو الفصاحة والحرية والانطلاق، ويبقى عند المرأة المرضعة حولين أو أكثر، يتغذَّى من ثديها، وينام في حِضْنها، ويحظى برعايتها، ورعاية أهلها، ويلعب مع أولادها، ويعتبر نفسه واحدًا منهم، كما يعتبرونه كذلك. وبهذه العِشْرة التي يجتمع فيها الغذاء العقلي بتلقِّيه اللغة، والغذاء الاجتماعي بتكوين الألفة والصحبة، تتكون أمومة لها قيمتها بين الرضيع ومرضعته، وتتكون أخوة مؤثرة بينه وبين أولادها. وهذه الصورة هي الأصل في تحريم زواج الأم المرضعة، والأخت الرضيعة، والمتأمِّل في عبارة القرآن الكريم يجده لم يعلِّق التحريم بمجرد الإرضاع، بل علَّقه بأمرين مجتمعين: الأمومة والإرضاع معًا. وكذلك الأخوة والرضاع معًا. وهذا القيد- الأمومة- يقوِّي اتجاه الذين اشترطوا العدد في الرضعات، وخصوصًا من اشترطوا عددًا أكبر من الرضعات، وقد اختلف مشترطو العدد من ثلاث إلى خمس، إلى سبع، إلى عشر، إلى خمس عشرة رضعة. وأوسط المذاهب في ذلك وأقواها دليلًا من ناحية السُّنَّة هو مذهب الشافعي الذي لا يرى التحريم إلا بخمس رضعات مشبعات، وهو ظاهر مذهب أحمد.. وما تمسك به بعض الحنفية والمالكية من إطلاق آية: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}[النساء:23] وأنها لم تذكر عددًا؛ قد رد عليه الإمام النووي في شرح صحيح مسلم بقوله: ((واعترض أصحاب الشافعي على المالكية فقالوا: إنما كانت تحصل الدلالة لكم لو كانت الآية: اللَّاتي أرضعنكم)). يعني أن وصف (الأمومة) في الآية ينبغي أن يكون له تأثير واعتبار في الحكم. فالقطرة والمصة- كما ذهب المالكية والحنفية- لا تكوِّن أمومة من الناحية العاطفية، ولا تنبت لحمًا أو تنشز عظمًا من الناحية المادية. فلا بد من قدر تتحقق به هذه الأمومة، حدد الشارع أعلاه بحولين كاملين، لمن أراد أن يُتمَّ الرضاعة. وأما حدُّه الأدنى فهو خمس رضعات متفرقات مشبعات معلومات. الحد الأدنى جرت عادة الشارع أن يضع لكثير من الأشياء نصابًا يمثل الحد الأدنى: للغنى الموجب للزكاة مثل خمس من الإبل، وأربعين من الغنم.. إلخ. والنصاب الذي يوجب القطع في حد السرقة، ولا قطع فيما دونه، وذلك حتى لا تقطع الأيدي في التافه من المال، كما لا يجب الزكاة في التافه منه. والتقييد (بالخمس) له أصول كثيرة في الشرع كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، فإن الإسلام بُنِيَ على خمس، والصلوات المفروضة خمس، وليس فيما دون خمس صدقة.. إلخ. وحد الرضعة: أن يأخذ الصبي الثدي فيمتصّ منه، ثم يستمرّ على ذلك حتى يتركه باختياره لغير عارض، كما في (الروضة الندية)، وصاغها ابن حزم بعبارة أخرى فقال: ((أن يستنفد الرضيع ما في الثديين متَّصِلًا)). وهذا هو المفهوم في عرف الناس، يقولون: يرضع الطفل في اليوم أربع مرات أو خمسًا- مثلًا- ورضعة في الليل، ونحو ذلك.. يريدون بالرضعة: ما يشبع. وهذا هو الذي يُتصوَّر أن يُخصِب الجسم، وينبت اللحم، وينشز العظم، كما جاءت بذلك الآثار.

1562

| 20 يونيو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: القرابة والمصاهرة والرضاع ثلاثة أسباب تحرم الزواج

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د.يوسف القرضاوي الحلقة : الخامسة عشر الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به، ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (سورة الروم:21).. فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معاً، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعِّبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم واحتفالات الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات.. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك".. "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". والزواج إذ يُيَسِّر أسباب الحلال يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35). المحارم 1- المحرمات تحريمًا مؤبَّدًا (المحارم) وأول هذه الأصناف يحرم تحريمًا مؤبدًا، وهو المحارم، والمحارم جمع مَحْرَم، وهو من لا يجوز له مناكحتها على التأبيد بقرابة أو رضاع أو صهرية. وقد ذكر الفقهاء أن أسباب تأبيد حرمة التزوج بالنساء ثلاثة، هي: القرابة، والمصاهرة، والرضاع. أ‌- المحرمات بالقرابة ( ): يحرم على المسلم بسبب القرابة خمسة أصناف من النساء، وهن: الأصل: أي الأمّ والجدَّة من قبل الأب أو الأم وإن علت؛ لأن لفظ الأم يشمل الجميع. والفرع: وهي البنت، ومثلها بنت ابنه أو ابنته، مهما امتدت الفروع، للإجماع، ولأن لفظ البنت يشملهن. وفروع الأبوين أو أحدهما: ويشمل الأخت شقيقة كانت أو لأب أو لأم، وبنات الأخ شقيقًا كان أو لأب أو لأم، وبنات الأخت شقيقة كانت أو لأب أو لأم، وفروع الجميع. والعمات: شقائق كن أو لأب أو لأم، وكذلك عمات الأصل، وإن علا. والخالات: شقائق كن أو لأب أو لأم، وكذلك خالات الأصل، وإن علا. ب‌- المحرمات بالمصاهرة: وحُرمة هؤلاء إنما جاءت لعلة طارئة، هي المصاهرة، وما ترتب عليها من صلات وثيقة بين المتصاهرين، اقتضت هذا التحريم، وهن: 1- زوجة الأب، وإن علا، سواء أدخل بها أو لم يدخل بها، وسواء أطلقها أم مات عنها. وكان هذا الزواج جائزًا في الجاهلية فأبطله الإسلام؛ لأن زوجة الأب لها منزلة الأم بعد زواجها بأبيه، فكان من الحكمة تحريمها عليه؛ رعاية لحرمة الأب. ثم إن تحريمها عليه على التأبيد، يقطع طمعه فيها وطمعها فيه، فتستقر العلائق بينهما على أساس من الاحترام والهيبة. 2- أم الزوجة، وإن علت، وهذه يحرمها الإسلام بمجرد العقد على ابنتها، ولو لم يدخل بها؛ لأنها تصبح للرجل بمنزلة أمه. 3- الربيبة، وهي بنت الزوجة التي دخل بها، وبنت ابنها، وبنت بنتها، وإن نزلت، فإن لم يكن دخل بالأم أو الجدة، وطلقها أو ماتت، فلا جناح عليه أن يتزوج البنت. 4- حليلة الابن الصُّلْبي، سواء دخل بها أو لم يدخل بها، ويشمل حلائل أبناء الأبناء وأبناء البنات وإن نزلوا، ولا يدخل هنا المتبنَّى، فقد أبطل الإسلام نظام التبني، وما يترتب عليه، لما فيه من مخالفة للحقيقة والواقع، وكونه يؤدي إلى تحريم الحلال، وتحليل الحرام. قـال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ}[الأحزاب:4]. أي هو مجرد قول باللسان، لا يغيِّر الواقع، ولا يجعل الغريب قريبًا. وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في شأن زينب بنت جحش، التي كانت زوجة زيد بن حارثة الذي تبناه النبي صلى الله عليه وسلم فترة من الزمن: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}[الأحزاب:37]. وهؤلاء الأصناف الأحد عشر من النساء يطلق عليهن في الإسلام اسم (المحارم)؛ لأنهن محرَّمات على المسلم حـرمـة أبـديـة، لا تـحـل فـي وقت مـن الأوقات، ولا بحال من الأحوال. كما يسمى الرجل (مَحْرَمًا) بالنسبة إليهن أيضًا. ج- المحرمات بالرضاعة: ويحرم على المسلم أن يتزوج أو يخطب المرأة التي أرضعته في صِغره، فقد صارت بإرضاعها إياه في حكم الأم، وقد أسهم لبنها في إنبات لحمه، وتكوين عظمه، وأحدث هذا الرضاع عاطفة بنوة وأمومة بينه وبينها، وقد تختفي هذه العاطفة، ولكنها تكمُن في العقل الباطن (اللاشعور) لتظهر فيما بعد عند المقتضي. وكذلك يحرم عليه أن يتزوَّج أخته من الرضاعة، فكما أن المرأة صارت بالرضاع أمًّا للرضيع، فكذلك بناتها صِرن له أخوات من الرضاعة، وكذلك أخواتها صرن له خالات من الرضاعة.. وهكذا سائر أقاربها. وفي الحديث النبوي: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"( ). فكما يحرُم من النسب العمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، فكذلك يحرم هؤلاء من الرضاع. فهذه هي الأصناف المحرمة التي لا يحل للإنسان الزواج بواحدة منهن، ومن ثَمَّ تحرم خطبة إحداهن. استطراد وتحقيق في الرضاع المحرَّم: تحريم الزواج بسبب الرضاع مما اختصَّت به الشريعة الإسلامية، فيما أعلم. ولا غرو أن عُنِي فقهاء المسلمين بأحكام الرضاع، وعقدوا له بابًا أو كتابًا خاصًّا، فصَّلوا فيه القول في مسائله وصوره. كما عرض له المفسِّرون في شرح آية المحرمات من سورة النساء، والمحدِّثون عقدوا له أبوابًا في مصنفاتهم. وجماهير المسلمين في كل مكان لا تفتأ تسأل عن أمور تتعلق بالرضاع وأحكامه، وأهل الفتوى يُجيبونهم وفقَ مذاهبهم إن كانوا مقلِّدين، أو وفق اجتهاداتهم الخاصة إن تحرَّرُوا من المذهبية، وهؤلاء وأولئك يختلفون كثيرًا إلى حدٍّ قد يُحدث البلبلة في أنفس السائلين، ويدعهم حيارى لا يدرون ما يصنعون. أدلة التحريم بالرضاع: والتحريم بالرضاع ثابت بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقد قال الله تعالى في بيان المحرمات في النكاح: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ..}[النساء:23]. فبعد أن ذكرت الآية الكريمة المحرمات بالنسب وهن سبعة أصناف عقَّبت عليهن بالمحرمات بسبب الرضاع، وذكرت منهن صنفين: الأمهات والأخوات. وأما السُّنَّة: فقد جاء في الحديث الصحيح المشهور: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"( ). ومعنى هذا أن الرضاع يحرم به الأصناف السبعة المحرَّمة والمذكورة من قبل في الآية، فيحرم على هذا بالرضاع: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمَّات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت من الرضاع. وأما الإجماع: فقد اتفق المسلمون من كل المذاهب على التحريم بالرضاع في الجملة، وإن اختلفوا في التفصيلات ( ). وأود أن أبيِّن هنا أن موضوع الرضاع- مثل موضوع الطلاق- من الموضوعات التي اختلف فيها الفقهاء اختلافًا كثيرًا. اختلفوا في المقدار المحرِّم من الرضاع، وفي مدة الرضاع، وفي طريقته، وفي مدى انتشار المحرمية بالنسبة لقرابات المرأة المرضِعة وزوجها.. إلخ. شروط تأثير الرضاع في المحرمية وقد اشتُرط لتأثير الرضاع في المحرمية ما يلي: 1- أن يكون في الصِّغر، أي: قبل تمام سنتين للرضيع، وهو الزمن الذي يكون اللبن فيه الغذاء الأول. 2- وألا يقل عدد الرضعات عن خمس مشبعات، والرضعة المشبعة هي التي يدع الطفل فيها الثدي من تِلقاء نفسه، لشعوره بالشبع. وتحديد الرضعات بخمس هو أرجح وأوسط ما جاءت به الروايات( ). اختلاف الفقهاء في التحريم بالرضاع ما بين مضيِّق وموسع: ولقد لا حظت أن الفقهاء في أمر الرضاع - كما هم في أمر الطلاق - يختلفون ما بين موسِّعين ومضيِّقين. ووجهة الموسِّعين في الرضاع والتحريم به أشبه بوجهة الموسِّعين في الطلاق أيضًا، وهي فكرة الاحتياط في التحريم، أي أن قطرة واحدة أو مصة كافية عندهم كل الكفاية لتحرم امرأة على رجل أبد الدهر، وإن ثبت ذلك بعد الزواج يجب أن يفسخ زواجهما ويفترقا، ووجدنا من يقول إن الرضاع في أي سن كان ولو بعد الأربعين من العمر، يترتب عليه التحريم. ووجدنا من لا يشترط الرضاع بالفم ومن الثدي كما هو مدلول الكلمة لغة، بل يقول: لو شرب اللبن من (فنجان) أو صُبَّ في حلقه صبًّا، أو أنفه، أو تجبَّن فأكله، أو خلط بشاي أو بقهوة - مثلًا- فشربه، أو غير ذلك من الكيفيات، فله حكم الرضاع المحرِّم. ومنهم من قال: لو رضع من ميِّتة تصبح له أما من الرضاعة وأبناؤها إخوة له وبناتها أخوات له من الرضاعة.. وهكذا. بل ذكروا أن بعضهم سُئل عن طفلين شربا من لبن شاة واحدة. فأجاب بأنهما أخوان من الرضاع. مما اضطر بعض الفقهاء أن يردوا عليه بأن الأُخُوَّة فرع الأمومة، ولا أمومة بين الإنسان المكرَّم، والحيوان الأعجم، الذي هو مأكول الإنسان ومركوبه( ). ترجيح الاتجاه إلى التضييق في التحريم بالرضاع: والذي أحبُّ أن أؤكده بادئ ذي بدء، أن مـذهبي في الرضاع - كمذهبي في الطلاق - يقوم على أساس التضييق في التحريم بالرضاع. ولست أقول هذا تقليدًا بغير حجة، ولا اتباعًا لشهوة، ولكن إذعانًا للدليل، وتحقيقًا لمقاصد الشرع، التي ما جاءت الشريعة إلا برعايتها.

58627

| 19 يونيو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: تأخير زواج البنت بلا مبرر شرعي نهى عنه القرآن

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د. يوسف القرضاوي الحلقة: الرابعة عشر الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به، ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21).. فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معاً، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعِّبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم واحتفالات الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات.. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك".. "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". والزواج إذ يُيَسِّر أسباب الحلال يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35). وكالة المرأة في عقد النكاح: يرى جمهور الفقهاء أن المرأة بكرًا كانت أو ثيبًا لا يجوز لها أن تباشر عقد النكاح لنفسها، أو نيابة عمن هو في ولايتها، أو وكالة عن غيرها، وأجاز الأحناف أن تباشر المرأة عقد نكاح نفسها أو وكالة عن غيرها، قال القدوري: ((قال أصحابنا: يجوز للمرأة أن تعقد النكاح لنفسها، وتكون وكيلة للرجل فتعقد له وللولي. فتزوج وليته، وتزوج أمتها)). ومستندهم في ذلك أن الله أسند النكاح للمرأة في غير آية منها قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا}[البقرة:230، 231]. فأضاف النكاح إليها، والمراد بالتراجع: العقد ابتداء. ولأنه عقد، فجاز أن تكون المرأة وكيلة فيه كالبيع، ولأن من جاز أن يكون وكيلا في البيع جاز أن يكون وكيلا في النكاح كالرجل، ولأنه عقد بعوض فجاز أن تعقده المرأة كالبيع. والذي أراه: أن المرأة إنسان مكتمل الإنسانية كالرجل، وهي تباشر العقود كما يباشرها الرجال، بيعًا وشراءً وإجارةً وقرضًا ووكالة وشركة ونكاحًا، ويجري عليها في هذه العقود ما يجري على الرجال، فهي مسؤولة مكلَّفة، تؤدي الفرائض، وتجتنب المحرمات، فلهذا لا أرى مانعًا أن تلتزم المرأة بما يلتزم به أخوها الرجل، ما دامت بالغة عاقلة حاملة للمسؤولية مثله، وقد قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة:228]. لكن إن باشرت عقد نكاح نفسها فيكون ذلك بإذن الولي وعلمه. نصائح عامة بشأن موضوع الزواج 1 — ثلاثية الرضا لإتمام الزواج الزواج كما شرعه الإسلام عقد يجب أن يتم بتراضي الأطراف المعنيَّة كلها، لا بد أن ترضى به الفتاة، ولا بد أن يرضى به وليها، وينبغي أن تستشار أمها، كما وجه إلى ذلك رسول الله حين قال: "آمروا النساء في بناتهن". وقد أمر الإسلام أن يؤخذ رأي الفتاة، وألَّا تجبر على الزواج بمن تكره، ولو كانت بكرًا، فالبكر تستأذن، وإذنها صمتها وسكوتها، ما دام ذلك دلالة على رضاها — كما بينا — فلا بد أن تستشار الفتاة، وأن ترضى، وأن يعرف رأيها صراحة أو دلالة. ولا بد أن يرضى الولي وأن يأذن في الزواج، وليست المرأة المسلمة الشريفة هي التي تزوج نفسها بدون إذن أهلها. فإن كثيرًا من الشبان يختطفون الفتيات، ويضحكون على عقولهن، فلو تُركت الفتاة الغِرَّة لنفسها، ولطيبة قلبها، ولعقلها الصغير، لأمكن أن تقع في شراك هؤلاء، وأن يخدعها الخادعون، من ذئاب الأعراض ولصوص الفتيات، لهذا حماها الشرع، وجعل لأبيها أو لوليها — أيًّا كان — حقًّا في تزويجها، ورأيًا في ذلك، واعتبر إذنه، واعتبر رضاه، كما هو مذهب جمهور الأئمة. ثم إن النبي زاد على ذلك، فخاطب الآباء والأولياء فقال: "آمروا النساء في بناتهن". ومعنى: "آمروا النساء في بناتهن". أي خذوا رأي الأمهات؛ لأن المرأة أنثى تعرف من شؤون النساء والبنات ما لا يعرفه الرجال، وتهتم منها بما لا يهتم به الرجال عادة. ثم إنها أم تعرف من أمور ابنتها، ومن خصالها، ومن رغباتها، ما لا يعرفه الأب، فلا بد أن يُعرف رأي الأم أيضًا. فإذا اتفقت هذه الأطراف كلها: من الأب، ومن الأم، ومن الفتاة — ومن الزوج بالطبع — فلا بد وفق السنن أن يكون الزواج موفَّقًا سعيدًا، محقِّقًا لأركان الزوجية التي أرادها القرآن من السكن ومن المودة، ومن الرحمة، وهي آية من آيات الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم:21]. 2 — حرمة تأخير زواج البنت بلا مبرر شرعى والفقه الإسلامي وإن اشترط جمهوره رضا الولي خاصة في زواج البكر، فإنه مع ذلك قد أمر بالمسارعة بتزويج البنات، وجاء في ذلك عن النبي : "ثلاث لا تؤخِّرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيِّم إذا وجدت لها كفئًا". وقال: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". فلا يحل للأب أن يؤخِّر زواج ابنته، إذا خطبها كُفء ذو دِين وخلق. وتأخير زواج البنت بلا مبرر شرعي يُعَدُّ نوعًا من العضل الذى نهى القرآن عنه. فإذا حضر الكفء فلا ينبغي للأب أن يعوق الزواج، من أجل أنه يريد أن يقبض شيئًا أكثر، كأنها سلعة يساوم عليها، هذا هو المفروض من الآباء المسلمين، ألا يعوقوا الزواج بهذه المهور، وبهذه المغالاة فيها، فإن هذا هو أكبر عقبة في سبيل الزواج، وكلما عقدنا في سبيل الزواج، وأكثرنا من المعوقات والعقبات، يسرنا بذلك سبل الحرام، وسهلنا انتشار الفساد، وأغوينا الشباب بأن يسيروا مع الشيطان، وأن يتركوا طريق العِفَّة، وطريق الإحصان، وطريق الحلال. ما حيلة الشاب الذي يذهب ليتزوج؛ فيجد هذه الطلبات المعوِّقة أمامه؟ ماذا يصنع؟! إنه سيُعرض عن الزواج، ويبحث عن أمور أخرى، ويترتب على ذلك كساد البنات، وفساد الرجال، وفساد المجتمعات. هذه هي النتيجة الحتمية للمغالاة في المهور، وكم جاءتنى من رسائل، وكم سألني من سائل وسائلة، وكم من شاب شكا لي، ومن فتاة شكت لي ولغيري، من هذا المعوِّق الذي وضعه الناس بأيديهم، وحفروه أمام بناتهم، وأمام أبنائهم، وأمام أنفسهم، لييسروا طريق الحرام ويعوقوا طريق الحلال. المحرمات من النساء هناك عدة أصناف من النساء يحرم على المسلم الزواج بواحدة منهن، بعضها حرمته مؤقتة، وبعضها حرمته دائمة وهن المحارم. وقد فصل القرآن هذه الأصناف في سورة النساء فقال: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}[النساء:22 — 24]. وذكرت سورة البقرة صنفا آخر وهو المشركات، حيث قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[البقرة:221]، فبين حرمة زواج المسلم من المشركة حتى تؤمن بالله تعالى ربا. ثم ذكر القرآن قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}[المائدة:5]، فبيَّن حكم الكتابيات في الآية، وأباح للمسلم أن يتزوج الكتابية المحصنة — أي العفيفة — زواجا شرعيًّا، وسكت عن حكم تحريم المسلمة على الكتابي، فبقي تحريم زواج المسلمة بغير المسلم عامًّا، سواء أكان كتابيا أم غير كتابي، وأكد ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[الممتحنة:10]. وحرم القرآن أيضًا أن يتزوج مطلقته إذا طلقها ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره، فقال بعد أن بيَّن أن الطلاق مرتان: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا}[البقرة:230]. وحرم القرآن أيضًا على الرجل أن يتزوَّج فوق أربع نسوة، فقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}[النساء:3]. وزادت السنة الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، والتفريق بين الملاعِن وملاعنَته.

11882

| 18 يونيو 2016

محليات alsharq
القرضاوي : البِكر البالغة إذا تزوَّجت بغير إذنها لم يصح العقد

الولي مأمور من جهة الثيب ومستأذن للبكر يجوز للبالغ العاقل أن يوكل غيره في تزويجه الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د. يوسف القرضاوي الحلقة: الثالثة عشرة الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به، ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21).. فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معاً، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعِّبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم واحتفالات الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات.. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك".. "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". والزواج ـ إذ يُيَسِّر أسباب الحلال ـ يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35). مقدمات الزواج وقال الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار": ((ظاهر الأحاديث أن البكر البالغة إذا تزوَّجت بغير إذنها لم يصح العقد. وإليه ذهب الأوزاعي والثوري والعِتْرة والحنفية، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم)).. وقبل الشوكاني قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه: ((إن استئذان البكر البالغة واجب على الأب وغيره، وإنه لا يجوز إجبارها على النكاح، وإن هذا هو الصواب، وهو رواية عن أحمد واختيار بعض أصحابه، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره.. وقال: إن جعل البَكارة موجبة للحَجْر، مخالف لأصول الإسلام، وتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع.. قال: والصحيح أن مناط الإجبار هو الصِّغَر، وأنِّ البِكْر البالغ لا يُجبرها أحد على النكاح؛ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تُستأمر". فقيل له: "إن البكر تستحي؟". فقال: "إذنها صمتها". وفي لفظ في الصحيح: "البكر يستأذنها أبوها". فهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم: لا تُنكح حتى تستأذن. وهذا يتناول الأب وغيره، وقد صرَّح بذلك في الرواية الأخرى الصحيحة؛ وأن الأب نفسه يستأذنها. وأيضًا فإن الأب ليس له أن يتصرَّف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها، وبُضْعها أعظم من مالها، فكيف يجوز أن يتصرف في بُضعها مع كراهتها ورُشدها؟.. وأيضًا: فإن الصِّغَر سببُ الحجر بالنصِّ والإجماع، وأما جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام؛ فإن الشارع لم يجعل البكارة سببًا للحَجْر في موضع من المواضع المجمع عليها، فتعليلُ الحجر بذلك تعليلٌ بوصف لا تأثير له في الشرع. وأيضًا: فإن الذين قالوا بالإجبار اضطربوا فيما إذا عيَّنتْ كفئًا، وعيَّن الأب كفؤاً آخر: هل يؤخذ بتعيينها؟ أو بتعيين الأب؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد. فمَن جعل العِبرة بتعيينها نقض أصله، ومن جعل العِبْرة بتعيين الأب كان في قوله من الفساد والضرر والشر ما لا يخفى؛ فإنه قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "الأيم أحق بنفسها من وليِّها، والبكر تستأذن، وإذنها صماتها". وفي رواية: "الثيب أحق بنفسها من وليها". فلما جعل الثيب أحق بنفسها؛ دل على أن البكر ليست أحق بنفسها؛ بل الولي أحق، وليس ذلك إلا للأب والجد. هذه عمدة المُجبرين، وهم تركوا العمل بنص الحديث وظاهره، وتمسَّكوا بدليل خطابه، ولم يعلموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم . وذلك أن قوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها". يعمُّ كل ولي، وهم يخصُّونه بالأب والجد. والثاني قوله: "والبكر تُستأذن". وهم لا يوجبون استئذانها؛ بل قالوا: هو مستحبٌّ، حتى طرد بعضهم قياسه؛ وقالوا: لما كان مستحبًّا اكتُفي فيه بالسكوت. وادعى أنه حيث يجب استئذان البكر فلا بد من النطق. وهذا قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد.. وهذا مخالف لإجماع المسلمين قبلهم، ولنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة المستفيضة واتفاق الأئمة قبل هؤلاء: أنه إذا زوَّج البكرَ أخوها أو عمُّها؛ فإنه يستأذنها، وإذنها صماتها. البكر والثيب وأما المفهوم: فالنبي صلى الله عليه وسلم فرَّق بين البكر والثيب، كما قال في الحديث الآخر: "لا تُنكح البكر حتى تُستأذن، ولا الثيب حتى تُستأمر". فذكر في هذه لفظ (الإذن)، وفي هذه لفظ (الأمر). وجعل إذن هذه الصمات، كما أن إذن تلك النطق. فهذان هما الفَرقان اللذان فرق بهما النبي صلى الله عليه وسلم بين البكر والثَّيِّب، لم يفرِّق بينهما في الإجبار وعدم الإجبار؛ وذلك لأن (البكر) لما كانت تستحِي أن تتكلم في أمر نكاحها لم تُخطب إلى نفسِها، بل تُخطب إلى وليِّها، ووليُّها يستأذنها، فتأذن له؛ لا تأمره ابتداء: بل تأذن له إذا استأذنها، وإذنها صِمَاتها. وأما الثيِّب فقد زال عنها حياء البِكْر، فتتكلم بالنكاح، فتُخطب إلى نفسها، وتأمر الوليَّ أن يزوِّجها. فهي آمِرة له، وعليه أن يُطيعها فيزوِّجها من الكفء إذا أمرته بذلك، فالولي مأمور من جهة الثيب، ومستأذن للبكر. فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم . وأما تزويجها مع كراهتها للنكاح: فهذا مخالف للأصول والعقول، والله لم يسوِّغ لوليِّها أن يُكرهها على بيع أو إجارة، إلا بإذنها، ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده، فكيف يكرهها على مُباضعة (أي: جماع) من تكره مُباضعتَه، ومعاشرة من تكره معاشرتَه؟! والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بُغضها له، ونفورها عنه؛ فأي مودة ورحمة في ذلك؟!)) اهـ. وقال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" بعد ذِكْر ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب استئذان البكر: ((وموجِب هذا الحكم ألَّا تُجبرَ البكرُ البالغ على النكاح، ولا تزوَّج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السلف، ومذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهو القول الذي ندين لله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره ونهيه، وقواعد شريعته ومصالح أمته..)) وأفاض في بيان ذلك رضي الله عنه. وهذا أيضًا ما أدين الله به، ولا أعتقد سواه، وإن قال من قال بخلاف ذلك. رأي الشافعية رأى الشافعية أن للأب والجد دون غيرهما من الأولياء أو الأوصياء إجبارَ البِكر البالغة الرشيدة على الزواج بغير رضاها، وسجلت كتبهم لذلك شروطًا منها: ألا يكون بينه وبينها عداوة ظاهرة، كطلاق أمِّها.. أو نحو ذلك. أن يزوِّجها من كُفْء. أن يزوِّجها بمهر مثلها. ألا يكون الزَّوْج معسِرًا بالمهر. ألا يزوِّجها بمن تتضرَّر بمعاشرته كأعمى وشيخ هَرِم.. إلخ. وفي هذه الشروط تخفيف لبعض آثار الإجبار، ولكنها لا تحُلُّ المشكلة من جذورها. ومن الإنصاف للمجتهدين أن نضع آراءهم في إطارها التاريخي، فإن المجتهد ابن بيئته وزمنه، ولا يمكن إغفال العنصر الذاتي للمجتهد. وقد عاش الإمام الشافعي في عصر، قلَّما كانت تعرف الفتاة عمَّن يتقدم لخطبتها شيئًا، إلا ما يعرفه أهلها عنه، لهذا أعطى والدَها، خاصَّة حق تزويجها، ولو بغير استئذانها؛ لكمال شفقته عليها، وافتراض نضجه وحسن رأيه في اختياره الكفء المناسب لها، وانتفاء التُّهمة في حقِّه بالنسبة لها. ومَنْ يدري؟ لعل الشافعي رضي الله عنه، ومن وافقه لو عاشوا إلى زماننا، ورأوا ما وصلت إليه الفتاة من ثقافة وعلم، وأنها أصبحت قادرة على التمييز بين الرجال الذين يتقدَّمون إليها، وأنها إذا زُوِّجت بغير رضاها تتحوَّل حياتُها الزوجية إلى جحيم؛ عليها وعلى زوجها، لعلهم لو رأوا ذلك لغيَّروا رأيهم، فقد غيَّر الشافعي رأيه في أمور كثيرة. فمن المعلوم أنه كان له مذهبان أحدهما: قديم قبل أن يرحل إلى مصر، والثاني: جديد بعد أن انتقل إلى مصر واستقر فيها، ورأى فيها ما لم يكن قد رأى، وسمع فيها ما لم يكن يسمع، وأصبح من المعروف في كتب الشافعية: قال الشافعي في القديم، وقال الشافعي في الجديد. الوكالة في النكاح اتفق الفقهاء على أنه يجوز للبالغ العاقل أن يوكل غيره في تزويجه، كما يجوز له تزويج نفسه، فكما ينعقد الزواج منه أصالة ينعقد من وكيله. واستدلوا على ذلك بحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أترضى أن أزوِّجَك فلانة؟". قال: نعم. وقال للمرأة: "أترضين أن أزوجك فلانًا؟". قالت: نعم. فزوَّج أحدهما صاحبه. وبحديث أم حبيبة: أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش، فمات بأرض الحبشة، فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم، وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حَسنة. قال الشوكاني: ((فيه دليل على جواز التوكيل من الزوج، لمن يقبل عنه النكاح، وكانت أم حبيبة المذكورة مهاجرة بأرض الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش، فمات بتلك الأرض فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم)).

7047

| 17 يونيو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: القرآن واضح في إمكان زواج الصغيرة

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د. يوسف القرضاوي الحلقة: الثانية عشرة الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21). فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معا، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم وأحفال الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك". "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". وهو — إذ يُيَسِّر أسباب الحلال — يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35). من له ولاية الإجبار اتفق من قال بتزويج الصغير والصغيرة، على أن للأب أن يزوج ابنه وابنته الصغيرين، واختلفوا في الولي غير الأب، قال النووي: ((أجمع المسلمون على جواز تزويجه بنته البكر الصغيرة لهذا الحديث() [يعني حديث عائشة الذي ذكرناه]، وإذا بلغت فلا خيار لها في فسخه عند مالك والشافعي وسائر فقهاء الحجاز، وقال أهل العراق: لها الخيار إذا بلغت. أما غير الأب والجد من الأولياء، فلا يجوز أن يزوِّجها عند الشافعي والثوري ومالك وابن أبي ليلى وأحمد وأبي ثور وأبي عبيد والجمهور، قالوا: فإن زوجها لم يصح. وقال الأوزاعي وأبو حنيفة وآخرون من السلف: يجوز لجميع الأولياء ويصح، ولها الخيار إذا بلغت، إلا أبا يوسف فقال: لا خيار لها. واتفق الجماهير على أن الوصي الأجنبي لا يزوِّجها، وجوَّز شريح وعروة وحماد له تزويجها قبل البلوغ، وحكاه الخطابي عن مالك أيضًا، والله أعلم. واعلم أن الشافعي وأصحابه قالوا: يستحب ألَّا يزوج الأب والجد البكر حتى تبلغ ويستأذنها، لئلا يوقِّعها في أسر الزوج وهي كارهة، وهذا الذي قالوه لا يخالف حديث عائشة؛ لأن مرادهم أنه لا يزوجها قبل البلوغ إذا لم تكن مصلحة ظاهرة يُخاف فوتها بالتأخير كحديث عائشة، فيستحب تحصيل ذلك الزوج؛ لأن الأب مأمور بمصلحة ولده فلا يفوتها، والله أعلم. وأما وقت زفاف الصغيرة المزوَّجة والدخول بها، فإن اتفق الزوج والولي على شيء لا ضرر فيه على الصغيرة عُمِل به، وإن اختلفا فقال أحمد وأبو عبيد: تجبر على ذلك بنت تسع سنين دون غيرها. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: حد ذلك أن تطيق الجماع ويختلف ذلك باختلافهن ولا يضبط بسن، وهذا هو الصحيح. وليس في حديث عائشة تحديد، ولا المنع من ذلك فيمن أطاقته قبل تسع، ولا الإذن فيمن لم تُطِقْه، وقد بلغت تسعًا، قال الداودي: وكانت عائشة قد شبَّتْ شبابًا حسنًا رضى الله عنها)). ونلاحظ من هذا النص عدة أمور ينبغي الإشارة إليها: 1 — أن جمهور الفقهاء قيدوا تزويج الصغيرة، ولم يجعلوه إلا للأب، وجعل الشافعي الجد كالأب، ومن وسَّعه وهو أبو حنيفة والأوزاعي فجعلوا لها الخيار وقت البلوغ. 2 — أنهم نظروا إلى مصلحة الصغيرة واعتبروها، وإلى كمال الشفقة في الولي. 3 — انهم وإن أباحوا زواج الصغيرة فقيَّدوا تسليمها لزوجها بالإطاقة البدنية. والذي أراه أن الإسلام إنما شرع للناس ما يصلحهم في دينهم ودنياهم، وفي حاضرهم ومستقبلهم، وهو يضع لكلٍّ ظروفه وشروطه التي لا بد منها. وهو يعرف أن النكاح — بمعنى الزواج — لا يصلح قبل البلوغ، كما قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ..}[النساء:6]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم.. ". ومن عادات الناس المتعارف عليها عندهم: ألا يزوِّجوا أبناءهم وبناتهم حتى يبلغوا. ومع هذا قد تحدث حالات خاصة في بعض المجتمعات يحسن فيها تزويج بعض الصغيرات لبعض الناس، ولا يرى أحد في ذلك حرجا ولا غضاضة، كما في تزويج عائشة من رسول الله وهي صغيرة بنت ست أو سبع، والدخول عليها وهي بنت تسع، وأبواها راضيان كل الرضا، والبنت راضية وفرحة، والمجتمع كله راض وسعيد وفرح، فما كان مثل هذا النوع أو قريبًا منه يجوز لظاهر ما ذكره القرآن من زواج الصغيرة في قوله تعالى في عدة المطلقات: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}[البقرة:4]. وما عدا ذلكٍ فالأصل هو المنع، وخصوصًا في عصرنا الذي اضطربت فيه المعايير.هل للحاكم أو للمجتمع تحديد سن الزواج؟ زواج الصغيرة القرآن واضح في إمكان زواج الصغيرة، قال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ..}[الطلاق:4]. ومعنى ذلك أن المرأة قد تتزوج قبل المحيض، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد تزوج من عائشة وهي بنت ست سنين أو سبع سنين، وبنى بها وهي بنت تسع، ولا دليل يدل على أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم. والشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، وقد راعى فقهاؤنا المجيزون لزواج الصغيرة تحقق مصلحتها، فجعل جمهورهم تزويج الصغيرة للأب، وعللوا ذلك بكمال الشفقة، لكن لما شاع في كثير من المجتمعات أن البنت الصغيرة يمكن أن يظلمها أبوها، فيغلب مصلحته على مصلحتها، ولا تستطيع هي الدفاع عن نفسها، رأى كثير من الفقهاء أن نُقَيِّد هذا المباح، كما قال سيدنا عمر بن عبد العزيز: "تحدث للناس أقضية بمقدار ما أحدثوا من فجور". ومن المعلوم فقهًا: أن من الأمور الجائزة والمباحة ما يجوز منعها بصفة كلية أو جزئية إذا ثبت أن من ورائها مفسدة أو ضررًا، فإنما أباح الله ما أباح لعباده لييسِّر عليهم ويخفِّف عنهم، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]. {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}[النساء:28]. فإذا ثبت بالتطبيق أن في استعمال المباح ضررا على الناس أو أكثرهم: وجب منعه بناء على قاعدة: "لا ضرر ولا ضرار". هناك أمر آخر ينبغي أن يراعى، وهو أن الظروف تغيرت ومن حق الحاكم في ضوء قراءته الصحيحة للواقع ومحاربة مواطن الفساد أو تعسف آباء الصغيرات أن يقيد ما هو مباح.. وطاعة ولي الأمر هنا واجبة؛ لأنه لم يحلل حرامًا، ولم يحرم حلالا، وإنما قيد مباحا لما ترتب عليه من الضرر. وكلمة الحاكم هنا تعني: السلطان الشرعي، ولم يعد الحكام هم الذين يشرعون للناس، ولكن يسمحون لهم بالتشريع وفق ما تضبطه الدساتير، ولذلك تقوم المجتمعات الحديثة بإصدار القوانين المكملة للشرائع أو الضابطة لأحوال المجتمع، مع مراعاة المطلوب في ذلك. — إجبار الأب ابنتَه البالغة على الزواج بمن لا ترضاه: ومما اختلف الفقهاء فيه: هل للأب ولاية إجبار على البكر البالغة العاقلة، قال ابن رشد: ((أما البكر البالغ فقال مالك والشافعي( )، وابن أبي ليلى: للأب فقط أن يجبرها على النكاح. وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وأبو ثور وجماعة: لا بد من اعتبار رضاها، ووافقهم مالك في البكر المعنسة على أحد القولين عنه)). والحق أن الأدلة مع وجوب استئذان البكر، فقد صح عن النبي جملة أحاديث توجب استئمار الفتاة أو استئذانها عند زواجها، فلا تُزوَّج بغير رضاها، ولو كان الذي يزوِّجها أبوها. منها ما في الصحيحين: "لا تُنكح البكر حتى تُستأذن". قالوا: وكيف إذنها؟ قال: "ان تسكت". "البكر تُستأذن في نفسها، وإذنها صماتها" . "الثيب أحق بنفسها، والبكر يستأذنها أبوها". وفي السُّنَن من حديث ابن عباس: أن جارية بِكْرًا أتت النبي ، فذكرت أن أباها زوَّجها وهي كارهة، فخيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم .

99920

| 16 يونيو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: للأب ولاية إجبار على ابنه وابنته الصغيرين على الزواج

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د. يوسف القرضاوي الحلقة: الحادية عشرة الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21). فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معا، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم وأحفال الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك". "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". وهو — إذ يُيَسِّر أسباب الحلال — يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35). * شروط صحة عقد الزواج شرط الولي: اشترط جمهور الفقهاء الولي لصحة عقد الزواج، فكما أعطى الإسلام المرأة الحق في قبول من يتقدَّم إليها أو رفضه، فقد جعل لوليها حقًّا أيضًا في إبرام العقد أو الاعتراض عليه ومنعه إن شاء؛ لأن المرأة قد تنخدع لغلبة العاطفة عليها، وتتزوج من ليس لها كُفْئًا، فأشرك وليَّها معها، ليكون الزواج مرضيًّا عند أسرة المرأة، كما هو مرضيٌّ عندها، وبذلك يكون الزواج أكثر أمانًا واستقرارًا وبعدًا عن الاضطرابات والزعازع، كما جاء في الحديث: "لا نكاح إلا بولي"( ). وأما تزويج المرأة نفسَها بغير إذن وليها، فهو جائز عند أبي حنيفة وأصحابه إذا تزوجت كُفْئًا( )، حيث لم يصح عندهم حديثٌ في اشتراط الولي( ). ولأن ظاهر القرآن نسب النكاح إلى النساء في غير آية، قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}[البقرة:230]. وقال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة:232]. ورأيُ الجمهور أن الولي شرط للزواج( )، أخذًا بحديث: "لا نكاح إلا بولي"( ). وغيره من الأحاديث. والحكمة في هذا أن يتم الزواج بتراضي الأطراف المعنيَّة كلها، وحتى لا تكون المرأة - إذا تزوجت بغير إذن أهلها - تحت رحمة الزوج وتسلُّطه، حين لم يكن لأهلها رأي في زواجها. وعلى كلِّ حالٍ إذا قضى قاضٍ بصحة هذا الزواج فهو صحيح، ولا يملك أحد نقضه، كما قال ابن قدامة في "المغني"( ). وسنفصل الحديث في معنى الولاية وأنواعها وترتيب من لهم حق الولاية فيما بعد. الولاية هي نوعان ولاية على المال- وهي ليست موضوعنا هنا- وولاية على النفس، وتعني القدرة على إنشاء عقد الزواج، وهي المرتبطة بموضوعنا الذي نتحدث عنه. أقسام الولاية على النفس: يقسم الفقهاء الولاية على النفس إلى: ولاية على النفس قاصرة أو أصلية: وتعني أن الشريعة أعطت الشخص القدرة على تزويج نفسه دون توقف على رضا أحد أو قبوله. وولاية على النفس متعدية أو نيابية: وتعني أن الشريعة أعطت صاحب هذه الولاية القدرة على تزويج غيره وأن ينوب عنه في حق الزواج، وهي إما ولاية إجبار بمعنى: أن للولي أن يستبد بأمر تزويج من تحت ولايته من غير إذنه، وولاية اختيار أو شركة بمعنى أن الولي إنما يشارك في الرأي، ولا يجوز له أن يجبر من تحت ولايته على الزواج بمن يرضاه، فالأمر متوقف على رضا الطرفين جميعًا. ما اتفق عليه الفقهاء فيما يخص الولاية في الزواج: وقد اتفق الفقهاء على عدة أمور تخص موضوع الولاية في الزواج: 1- اتفقوا على ثبوت الولاية القاصرة على النفس للرجل البالغ العاقل، فإذا زوَّج الرجل البالغ العاقل نفسه ممن تحل له بعقد مستوفٍ أركانَه وشروطه فزواجه صحيح لا يملك أحد فسخه أو إبطاله. 2- واتفقوا أن الثيب البالغة العاقلة لا يجبرها أبوها على الزواج بمن لا ترضاه. 3- واتفقوا على أن الأب الكافر لا يكون وليًّا على ابنته المسلمة. 4- واتفقوا أن للسلطان ولاية تزويج المرأة عند عدم أوليائها أو عضلهم، لحديث: "أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل- ثلاث مرات- فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له"( ). ولتزويج النجاشي رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة بنت أبي سفيان. 1- الشهود: واشترط الفقهاء الشهود - على تفصيل بين الفقهاء في ذلك - حتى يخرج الزواج من دائرة السريَّة إلى دائرة الشهرة والإعلان، وأقل عدد يجزئ في ذلك شاهدان ذكران عدلان عند الجمهور، لحديث: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"( ). وذهب الحنفية وأحمد في رواية إلى أنه لا يشترط ذكورة شاهدي النكاح، فينعقد عندهم بحضور رجل وامرأتين( ). وذهب الحنفية وأحمد في رواية إلى أن عدالة الشاهِدَين ليست بشرط، فينعقد النكاح بحضور الفاسقين؛ لأن عمومات النكاح مطلقة عن شرط، واشتراط أصل الشهادة بصفاتها المجمع عليها ثبت بالدليل، فمن ادَّعى شرط العدالة فعليه البيان، ولأن الفسق لا يقدح في ولاية الإنكاح بنفسه( ). وقد اتفقوا على أنه يشترط في الشهود البلوغ والعقل، فلا تصح شهادة طفل أو مجنون، واتفقوا على أنه إذا كان النكاح بين مسلم ومسلمة فيلزم إسلام الشهود، أما إن كان بين مسلم وكتابية فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه إذا تزوج المسلم ذميَّةً بشهادة ذميَّيْن فإنه يجوز، سواء كانا موافقَيْنِ لها في الملة أو مخالفَيْن( ). 2- خُلُوُّ الزوجين من الموانع التي تحرم على كل واحد منهما الزواج من الآخر: وهذه الموانع هي: المحرمية، بأن يكون أحد الزوجين محرمًا للآخر، سواء كانت المحرمية بسبب القرابة أو الرضاع أو المصاهرة، وسواء في ذلك الحرمة الدائمة أو المؤقتة (أخت الزوجة وعمتها وخالتها)، فإذا طلق الزوج الأخت أو بنت الأخ أو بنت الأخت، حلت الأخت والعمة والخالة. ومن هذه الموانع: كون الزوج مسلما والزوجة مشركة غير كتابية، أو كون الزوجة مسلمة والزوج غير مسلم.. إلى غير ذلك مما ذكرناه قبل في الخطبة المحرمة، وسنفصله في حديثنا عن المحرمات من النساء. تزويج الصغير والصغيرة جماهير الفقهاء على أن للأب ولاية إجبار على ابنه وابنته الصغيرين، فله تزويج الصغير والصغيرة، ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك فقال: ((وأجمعوا أن نكاح الأبِ ابنتَه الصغيرةَ البكرَ جائزٌ إذا زوجها من كفء))( ). واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في بيان عِدَد النساء: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}[الطلاق:5]. فقد بيَّن الله عدة الصغيرة التي لم تحض، وفي هذا إباحة تزويج الصغيرة، إذ لا تكون العدة إلا من فرقة زواج صحيح، فدل ذلك على أنها تزوج وتطلق، ولا إذن لها فيعتبر. وفي الحديث المتفق عليه عن عائشة أن النبي تزوجها وهي بنت ست سنين، وأدخلت عليه وهي بنت تسع سنين ومكثت عنده تسعا( ). وفي رواية: تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزُفَّت إليه وهي بنت تسع سنين. وعند مسلم: قالت: " فقدمنا المدينة، فوعكت شهرا، فوفى شعري جميمة، فأتتني أم رومان، وأنا على أرجوحة، ومعي صواحبي، فصرخت بي فأتيتها، وما أدري ما تريد بي فأخذت بيدي، فأوقفتني على الباب، فقلت: هه هه، حتى ذهب نفسي، فأدخلتني بيتا، فإذا نسوة من الأنصار، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن، فغسلن رأسي وأصلحنني، فلم يرعني إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فأسلمنني إليه( ). ومعلوم أنها لم تكن في تلك الحال ممن يعتبر إذنها. وزوَّج عليٌّ ابنته أم كلثوم وهي صغيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما( )، ولم يعترض أحد من الصحابة. فهذا عمل اثنين من المبشرين بالجنة، وإجماع سكوتي من غيرهم من الصحابة. وخالف في هذا فريق من العلماء فرأوا أنه لا يزوِّج الصغير والصغيرة حتى يبلغا، واستدلوا بقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ..}[النساء:6]، فقد نقل الطحاوي في (مختصر خلاف العلماء) عن ابن شبرمة أَن تَزْوِيج الْآبَاء على الصغار لَا يجوز( ). وقال ابن حزم: قال ابن شبرمة: لا يجوز إنكاح الأب ابنته الصغيرة إلا حتى تبلغ وتأذن، ورأى أمر عائشة رضي الله عنها خصوصًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، كالموهوبة، ونكاح أكثر من أربع( ). وعزاه السرخسي في (مبسوطه) إلى ابن شبرمة وأبي بكر الأصم فقال: ((وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تزوَّج عائشة رضي الله عنها، وهي صغيرة بنت ست سنين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين، وكانت عنده تسعًا. لو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة، ولأن ثبوت الولاية على الصغيرة لحاجة المولى عليه حتى إن فيما لا تتحقق فيه الحاجة لا تثبت الولاية كالتبرعات، ولا حاجة بهما إلى النكاح؛ لأن مقصود النكاح طبعا هو قضاء الشهوة، وشرعًا النسل، والصغر ينافيهما، ثم هذا العقد يعقد للعمر، وتلزمهما أحكامه بعد البلوغ، فلا يكون لأحد أن يلزمهما ذلك إذ لا ولاية لأحد عليهما بعد البلوغ))( ). وقد عزاه الكاساني في (البدائع)( ) والعيني في (البناية)( ) إلى عثمان البتي. وفرَّق ابن حزم بين الصغير الذكر والصغيرة الأنثى، فلم ير للأب ولا لغيره ولاية إجبار على الصغير الذكر، فقال: ((ولا يجوز للأب ولا لغيره إنكاح الصغير الذكر حتى يبلغ، فإن فعل فهو مفسوخ أبدًا، وأجازه قوم، لا حجة لهم إلا قياسه على الصغيرة. قال علي: والقياس كله باطل، ولو كان القياس حقًّا لكان قد عارض هذا القياس قياس آخر مثله، وهو أنهم قد أجمعوا على أن الذكر إذا بلغ لا مدخل لأبيه ولا لغيره في إنكاحه أصلًا، وأنه في ذلك بخلاف الأنثى التي له فيها مدخل: إما بإذن، وإما بإنكاح، وإما بمراعاة الكفء، فكذلك يجب أن يكون حكمهما مختلفين قبل البلوغ)).

8446

| 15 يونيو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: المرأة لا تستحق المهر إلا بعقد الزواج

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د.يوسف القرضاوي الحلقة: العاشرة الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21). فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معا، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم وأحفال الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك". "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". وهو — إذ يُيَسِّر أسباب الحلال — يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35). المهر المقدَّم حق للخاطب: مما يترتَّب على الرجوع في الخطبة: إعادة ما دفعه الخاطب من المهر المقدَّم كاملًا؛ لأن المهر يجب بالزواج، ولا حق للمرأة فيه إلا بعقد الزواج، وما دام الزواج لم يوجد، فالمهر حقٌّ خالص للخاطب يجب رده إليه، فإن كان المهر قد استُهلك ردَّ مثله أو قيمته، وهذا باتفاق الفقهاء. ونرى أنه إذا اشترت المخطوبة بمقدار مهرها أو بعضه جهازًا، مما اتفق عليه مع خاطبها، ثم عدل الخاطب٬ فلها الخيار بين إعادة المهر٬ أو تسليم ما يساويه من الجهاز كلًّا أو بعضًا وقت الشراء مع الباقي من المهر. والذي نرجِّحه أن (الشبكة) — وهي هدية من الذهب أو الجواهر أو الماس، وفي بعض البيئات يستعاض عن ذلك بـ (خاتم سولييتير) — جزء من المهر، يجب رده إذا عدل أحد الطرفين عن الخطبة. حكم الهدايا التي قدَّمها الخاطب في حال الرجوع عن الخطبة: جرى عرف الناس أن يقدِّم الخاطب لمخطوبته ولذويها بعض الهدايا، خاصة في المناسبات الاجتماعية والدينية، كأول رمضان، والعيدين وما شابه. فماذا لو فُسِخت الخطبة؟ يرى الأحناف أنه يسترد ما أهداه، قال الحصكفي في (الدر): (((خطب بنت رجل وبعث إليها أشياء ولم يزوِّجها أبوها، فما بعثَ للمهرِ يُستردُّ عينُه قائمًا) فقط، وإن تغير بالاستعمال، (أو قيمته هالكًا)؛ لأنه معاوضة، ولم تتم، فجاز الاسترداد، (وكذا) يسترد (ما بعث هديةً وهو قائم دون الهالك والمستهلك)؛ لأنه في معنى الهبة)). وحشَّى ابن عابدين على ذلك فقال: ((مثله ما إذا أبت وهي كبيرة)). أي: بالغة عاقلة. وأود هنا أن أبيِّن أن هذه المسألة عند الأحناف مبنية على مسألة أخرى عندهم، وهي أنهم يجيزون مطلقًا الرجوع في الهدية مع الكراهة، بشروط ذكروها في مذهبهم( ). فما ذكره الحصكفي وابن عابدين عامٌّ سواء كان الرجوع من قبل الخاطب أو من قبل المخطوبة، والهدايا إذا كانت متبادلة بين الخاطب والمخطوبة أو بين أهليهما بحيث تتقارب قيمة هذه الهدايا، فلا يجوز الرجوع في الهدية؛ لأنهم يشترطون للرجوع في الهدية أن لا يعوَّض المُهدي عن هديته بمثلها. وعند المالكية رأيان: الأول أنه لا يسترد شيئًا من هداياه أو ما أنفقه عليها. والثاني: التفريق بين أن يكون الرجوع منه أو منها. قال الصاوي في شرحه على الدردير: (((و) جاز (الإهداء فيها): أي في العدة [يقصد عدة المتوفى عنها زوجها إذا خطبها تعريضًا] كالخُضَر والفواكه وغيرهما، لا النفقة. فلو تزوجت بغيره، فلا رجوع له عليها بشيء. وكذا لو أهدى أو أنفق لمخطوبة غير معتدة، ثم رجعت عنه، ولو كان الرجوع من جهتها، إلا لعرف أو شرط. وقيل: إن كان الرجوع من جهتها فله الرجوع عليها؛ لأنه في نظير شيء لم يتم، واستُظْهِر))( ). والرأي الأخير هو الذي عليه الفتوى عند المالكية. وقد جاء عن الشافعية رأيان: الأول جواز استرداد الهدية مطلقًا، والثاني اعتبار التفريق بين إن كان الرجوع من طرفه أو من طرف المخطوبة، قال الجمل: ((دفع الخاطب بنفسه أو وكيله أو وليه شيئًا من مأكول أو مشروب أو نقد أو ملبوس لمخطوبته أو وليها، ثم حصل إعراضٌ من الجانبين، أو من أحدهما، أو موت لهما، أو لأحدهما؛ رجع الدافع أو وارثه بجميع ما دفعه، إن كان قبل العقد مطلقًا، وكذا بعده إن طلَّق قبل الدخول أو مات، إلا إن ماتت هي، ولا رجوع بعد الدخول مطلقًا)). وفي الفتاوى الفقهية الكبرى للهيتمي: ((وسئل: عمن خَطَب وأُجيب، فأنفق، ثم لم يزوِّجوه، فهل يرجع عليهم بما أنفق؟ فأجاب بقوله: اختلف المتأخرون في ذلك، والذي دل عليه كلام الرافعي في الصداق أنه إن كان الرد منهم رجع عليهم؛ لأنه لم يُهدِ لهم إلا بناء على أن يزوِّجوه، ولم يحصل غرضه، فإن كان الرد منه، فلا رجوع له لانتفاء العلة المذكورة)). ونقل المرداوي رأي الحنابلة فقال: هدية الزوجة ليست من المهر، نُصَّ عليه. فإن كانت قبل العقد وقد وعدوه بأن يزوجوه، فزوَّجوا غيره: رجع بها. ونَقَل هذا الرأي عن تقي الدين ابن تيمية. والذي نراه أنه إذا فسخت الخطبة فللخاطب أن يطالب بما أهداه مما لا يُستهْلَك، سواء أكان الرجوع منه أو من طرف خطيبته، ولكن ليس له المطالبة بالأشياء التي تُستهلك، كالفواكه والحلوى والأطعمة.. وما شابه، وهو ما استقرَّ عليه المشرع المصري، يقول عبد الرزاق السنهوري باشا: ((والمفروض أن الهبات والهدايا التي يقدِّمها أحد الخطيبين للآخر، أو يقدِّمها ذوو الخطيبين لأحدهما أو لهما معًا، إنما الباعث الدافع لها إتمام الزواج. فإذا لم يتمَّ، وفُسخت الخطبة، فقد انعدم السبب، فبطلت الهبة. ومِن ثَمَّ يستطيع الواهب أن يطلب استرداد هبته من الموهوب له بعد فسخ الخطبة. ولكن يشترط في ذلك أن يكون الشيء الموهوب قائمًا، كالمجوهرات والمصوغات حتى يمكن رده بالذات. أما إذا استُهلك، كالحلوى والروائح، فالمفروض أن الواهب قد وهب الشيء على أن يُستهلك، وعلى ألا يستردَّه مهما كان مآل الخطبة، فلا يكون إتمام الزواج سببًا في مثل هذه الهبات)).

2526

| 14 يونيو 2016

محليات alsharq
القرضاوي: رؤية الخاطب مخطوبته طريق الشريعة الإسلامية

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف : د.يوسف القرضاوي الحلقة: التاسعة الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21). فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معا، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم وأحفال الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك". "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". وهو — إذ يُيَسِّر أسباب الحلال — يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35) هل يُشترط علم المرأة بالرؤية؟ ليس علم الفتاة ولا علم أهلها بالرؤية شرطًا فيها، فإن للخاطب أن يراها دون أن يُعلمها، حتى لا يجرح شعورها، وحتى لا يؤذي إحساسها، فبعض الناس يستخِفَّون بذلك ولا يبالون به، حتى سمعت من بعضهم أنه رأى أكثر من عشرين فتاة، ولم تعجبه واحدة منهن، معنى ذلك: أنه جرح إحساس أكثر من عشرين فتاة من فتيات المسلمين، فالأَوْلى أن يراها وهي خارجة، أو في بيت قريب لها دون أن تعلم مَن هذا ولا ما هذا. وقد جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: " فكنتُ أتخبَّأ لها، حتى رأيت منها بعض ما دعاني إلى زواجها". كان يتخبَّأ لها دون أن تعلم ودون أن ترى. ويستطيع الأب أن يساعد في ذلك حفاظًا على شعور ابنته، وكذلك يستطيع شقيق الفتاة أن يُسهم في ذلك. أعراف الناس في رؤية الخاطب مخطوبتَه بين الإفراط والتفريط: والناس في أمر رؤية الخاطب لمخطوبته جد متناقضِين، ففريق من الناس لا يبيح للفتى مجرد رؤية الفتاة المخطوبة فقط، بل يبيح له أن يتأبَّط ذراعها، وأن يذهب بها إلى هنا أو هناك، وأن يصطحبها إلى الأحفال وإلى السينما، ليعرفها ويختبر أخلاقها!.. إلى آخر ما يقال في هذا المجال. وبعد ذلك تكون مآسي، وتكون فضائح، فقد يترك الفتى الفتاة بعد أن دخل عليها وخرج بها أمام الناس، دخل بيتها، وخرج معها، وسافر معها، وتنزه معها، هنالك يصبح عرض الفتاة مضغة للأفواه. وهذا الصنف من الناس، هم عبيد الحضارة الغربية. وفي مقابل هؤلاء صنف آخر، أولئك الذين يحرمون الخاطب أن يرى الفتاة مجرد رؤية عابرة، يمنعون الفتاة من خاطبها حتى يبني بها، فلا يراها إلا ليلة عرسه. وهؤلاء هم عبيد التقاليد العتيقة، وكلا الطرفين مذموم. وأمر الأسرة المسلمة بصفة عامة، وأمر المرأة المسلمة ضائع بين أهل الإفراط وأهل التفريط، بين المتشدِّدين المتزمِّتين الذين يحرصون على تقاليد عتيقة يظنونها من الإسلام وليست من الإسلام، وبين العصريين المتحرِّرين الذي تعبَّدوا للغرب ولحضارة الغرب، وظنُّوا أنفسهم تقدميين، وما هم بالتقدميين، وإنما هم عبيد وأسارى لغيرهم. أما الطريق الوسط والطريق السديد، فهو طريق الإسلام، وطريق الشريعة الإسلامية، وهي بين هؤلاء وهؤلاء. والطريق الصحيح بين هؤلاء وهؤلاء، هو ما جاء به الشرع، وما أمر به النبي أن يرى الخاطب مخطوبته، كما جاء في الأحاديث التي ذكرناها قبل. حق الفتاة في أن ترى من يتقدَّم لخطبتها: ورؤية الخاطب لمن يريد خطبتها، ليست حق للخاطب وحده، بل هو أيضًا حق للمخطوبة، يراها هو، وتراه هي أيضًا، ومن حقها أن ترفض، ومن حقها أن توافق. لا بد أن يرى كل واحد منهما الآخر قبل الزواج، حتى تُبنى الحياة الزوجية على أسس وطيدة، وعلى أركان سليمة متينة. هذا هو الطريق السليم بين المُفَرِّطين والمُفْرِطين، وشرع الإسلام دائمًا هو الوسط، وأمة الإسلام أمة وسط: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}[البقرة:143]. الفرق بين الخطبة والزواج الخطبة لغة وعرفًا وشرعًا شيء غير الزواج، فهي مقدمة له، وتمهيد لحصوله، فكتب اللغة جميعًا تفرق بين كلمتي الخطبة والزواج. والعرف يُميِّز جيدًا بين رجل خاطب ورجل متزوج. والشريعة فرَّقت بين الأمرين تفريقًا واضحًا، فالخطبة ليست أكثر من إعلان الرغبة في الزواج من امرأة معينة، أما الزواج فعقد وثيق، وميثاق غليظ، له حدوده وشروطه وحقوقه وآثاره. وقد عبر القرآن عن الأمرين، فقال في شأن النساء المتوفَّى عنهن أزواجهن: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}[البقرة:235]. ومهما يصاحب الخطبة من مظاهر الإعلان فإنها لا تزيد عن كونها تأكيدًا وتثبيتًا لشأنها، ولا يترتب عليها على أية حال أي حق للخاطب، إلا حظر المخطوبة عن أن يتقدم لخطبتها غير خاطبها، كما في الحديث الذي ذكرناه: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه". والمهم في هذا المقام أن المخطوبة أجنبية عن الخاطب حتى يتم زواجه بها، ولا تنتقل المرأة إلى دائرة الزوجية إلا بعقد شرعي صحيح، والركن الأساسي في العقد هو الإيجاب والقبول، وللإيجاب والقبول ألفاظ معهودة معلومة في العرف والشرع. وما دام هذا العقد — بإيجابه وقبوله — لم يتحقَّق، فالزواج لم يحدث، لا عرفًا، ولا شرعًا، ولا قانونًا، وتظل المخطوبة أجنبية عن خاطبها، لا يحل له الخلوة بها ولا السفر معها دون وجود أحد محارمها كأبيها أو أخيها، فضلًا عما هو فوق الخلوة والسفر! ومن المقرر المعروف شرعًا أن العاقد إذا ترك المعقود عليها دون أن يدخل بها يجب عليه نصف مهرها، قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}[البقرة:237]. أما الخاطب إذا ترك المخطوبة بعد فترة طالت أو قصُرت فلا يجب عليه شيء، إلا ما توجبه الأخلاق والتقاليد من لوم وتأنيب، فكيف يمكن — والحالة هذه — أن يباح للخاطب ما يباح للعاقد سواء بسواء؟ وننصح الآباء والأولياء أن يكونوا على بصيرة من أمر بناتهم، فلا يفرِّطوا فيهن بسهولة باسم الخطبة، والدهر قُلَّب، والقلوب تتغير، والتفريط في هذا الأمر قد يكون وخيم العاقبة، والوقوف عند حدود الله أحق وأولى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة: 229]. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[النور:52]. الرجوع عن الخطبة وما يترتب عليه الخطبة — كما بينا — ليست إلا وعدًا بالزواج، الهدف منه أن يتعرَّف كل من الخاطب والمخطوبة إلى الآخر، وطباعه وصفاته، ليكون على بيِّنة من أمره، هل يُتمُّ أمر الزواج أو لا يتمه؟ لأن الزواج عقد حياة، من المصلحة التأني فيه، وإعطاء النفس فرصة التفكير والاستشارة قبل إبرامه. والخِطبة بإجماع الفقهاء ليست ملزمة، ومعنى ذلك أن لكل طرف من طرفيها — أو لهما معا — مطلق الحرية في الرجوع فيها. لكن قد ينشأ عن عدول أحد طرفي الخطبة ضرر يلحق الطرف الآخر، ((فقد ينال المرأة ضرر بسبب عدول الرجل؛ لأنها أعدت الجهاز — مثلا — فهل يغرم العادل [أي: الراجع في الخطبة] من ماله عوضًا للأضرار المالية وغير المالية؟ لقد أجاب عن ذلك بعض رجال الفقه بأنه لا يسوغ، وليس لقاضٍ أن يحكم به؛ لأن العدول حق للخاطب والمخطوبة، بلا قيد ولا شرط، ولأن العادل بحكم الفقه والقانون يسترد هداياه، فكيف يغرم مالًا؟! ولأن الذي وقع في الضرر من الطرفين يعلم أن الطرف الآخر له العدول في أي وقت شاء)). لكن الشيخ محمد أبو زهرة يفرِّق بين الضرر الناتج عن مجرد العدول عن الخطبة، والضرر الذي للخاطب أو للخاطبة دخْلٌ فيه غير العدول عن الخطبة، كأن يطلب نوعًا من الجهاز، أو تطلب هي إعداد المسكن، ثم يكون العدول والضرر، فالضرر نزل بسبب عمل من جانب العادل، قال: ((وعلى هذا يكون الضرر قسمين: ضرر ينشأ وللخاطب دخل فيه غير مجرد الخطبة والعدول. كالمثالين السابقين. وضرر ينشأ عن مجرد الخطبة والعدول من غير عمل من جانب العادل. فالأول يعوض، والثاني لا يعوض، إذ الأول كان تغريرًا، والتغرير يوجب الضمان، كما هو مقرَّر في قواعد الفقه الحنفي وغيره، وفي قضايا العقل والمنطق، وقد أخذت بهذا محكمة النقض — نقض مدني 14 ديسمبر سنة (1939). وهو ما نميل إليه، خصوصًا إذا كان العدول عن الخطبة عن غير تقصير من الطرف الآخر، إذ قد يشترط الخاطب على المخطوبة — أو على وليِّها — كُلفة حفل الخطبة — أو ما يسمى في بعض البلدان (قراءة الفاتحة) — وقد يشترط أن يكون في فندق معين، أو مكان معين، أو قد يشترط عليهم بعض الأثاث والأدوات المنزلية، وتتكلف المرأة ووليها هذه التكاليف على اعتبار أن الزواج سيتم، ثم يعدل الخاطب عن الخطبة لأي سبب من الأسباب، فنقول هنا: إن عليه أن يعوض المرأة أو وليها عن هذه الأضرار المترتبة عن العدول، والخسائر الناجمة عن تراجعه. وقد يكون العدول من جانب المرأة بعد أن اشترطت — أو اشترط لها وليُّها — شروطًا تتعلق بالمسكن أو الأثاث أو أحفال الخطبة وما يتبعها، من غير تقصير من جانب الخاطب، فنقول هنا: ينبغي على المرأة أو وليها أن يعوض الخاطب عما غرم. وهذا ما استقرت عليه المحاكم المصرية، وتبعتها في ذلك المحاكم العربية، يقول السنهوري باشا: ((والذي يمكن تقريره في هذا الشأن باعتبار أن القضاء قد استقر عليه هو ما يأتي: (1) الخطبة ليست بعقد ملزم. (2) مجرد العدول عن الخطبة لا يكون سببًا موجبًا للتعويض. (3) إذا اقترن بالعدول عن الخطبة أفعال أخرى ألحقت ضررًا بأحد الخطيبين، جاز الحكم بالتعويض على أساس المسؤولية التقصيرية. وقد قرَّرت محكمة النقض أخيرًا هذه المبادئ في حكم لها جاء فيه ما يأتي: إن الخطبة ليست إلا تمهيدًا لعقد الزواج، وهذا الوعد بالزواج لا يقيِّد أحدًا من المتواعدَيْن، فلكلٍّ منهما أن يعدل في أي وقت شاء، خصوصًا أنه يجب في هذا العقد أن يتوافر للمتعاقدين كامل الحرية في مباشرته، لما للزواج من الخطر في شؤون المجتمع، وهذا لا يكون إذا كان أحد الطرفين مهدَّدًا بالتعويض. ولكن إذا كان الوعد بالزواج والعدول عنه — باعتبار أنه مجرد وعد فعدول — قد لازمتهما أفعال أخرى مستقلة عنهما استقلالًا تامًّا. وكانت هذه الأفعال قد ألحقت ضررًا ماديًّا أو أدبيًّا بأحد المتواعِدَيْن، فإنها تكون مستوجِبة التضمين على مَن وقعت منه، وذلك على أساس أنها في حدِّ ذاتها — بغض النظر عن العدول المجرَّد — أفعال ضارَّة موجِبة للتعويض))( ).

13970

| 13 يونيو 2016