رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

لأنــه كلــب !

قال لها: إن الرجل أشد وفاءً وإخلاصاً من المرأة ! فالمرأة عندما تتزوج، قد تبتعد عن صديقاتها لتمنح تركيزها واهتمامها لزوجها وأسرتها، بينما الرجل بعد الزواج يظل مخلصاً و وفياً لصديقاته ولا يبتعد عنهن ! فأجابته: هذا صحيح، لأنه بكل بساطة كلب !! لقد استحق تلك الإجابة، فالكلب أعمى في وفائه، لا يميز بين صاحب فاضل وآخر فاجر، فالوفاء محمود في كل فعل يختص بالخير، ويعين على فعله، وأما أن يكون الإخلاص في المقابح والشرور والأذى فهو مذموم. إن الإخلاص والوفاء في الزواج لا يمكن اختزاله في نمط واحد فقط، بل هو الركيزة الأساسية التي يقوم عليها الزواج المثالي ذو العمر المديد، فالزواج عهد وميثاق غليظ، وربما اسهب هنا، لما لهذه المؤسسة العظيمة من تأثير عميق على الفرد، وانعكاسات هذا التأثير على المجتمع، فمن ضروب الإخلاص في الزواج العناية بشؤون الأسرة والوفاء بحقوقها، وبذل الوقت والجهد في سبيل ذلك، وعدم الاعتماد الكلي على شريك دون الآخر في قضاء حوائجها ورعايتها، والاهتمام والاحترام المتبادل بين الزوجين، وحفظ حقوق الشريك في غيابه قبل حضوره، والوفاء بالعهود بينهما، والحرص على قضاء الأوقات الممتعة سوية، واحترام آلية الحوار في النقاش، وتبادل وجهات النظر بحب ورغبة في البناء لا الهدم، أو إثبات الخطأ على الآخر، وإقامة الحجة عليه، فهو شريك في ذات المشروع لا خصم له، وبالتالي تنعكس آثار الإخلاص والوفاء بين الزوجين على علاقتهما بالأولاد، فأسلوب التربية القائم على التقليد والمحاكاة، يرسخ المبادئ والقيم في نفوس الأطفال من خلال المواقف التي يمرون بها، فيظهرون مكتسباتهم المعرفية والسلوكية في التصدي لها ومعالجتها، عن طريق استدعاء الخزين السلوكي الأخلاقي والمعرفي الذي سجل في الذاكرة من خلال الواعي واللاواعي. بينما البعض يحصر إخلاصه لأسرته وزوجته، في بطاقة ائتمانية، وسائق، ومستخدمين، ورحلات سفر، وهدايا، وبهذا يخدر ضميره، ويستمتع بوقته بمفرده، ويعتقد أنه قد أتم دوره تجاههم، و إذا سألته قال: أنا لم أقصر عليهم في شيء !! وأما على صعيد الصداقات، فيظهر من يبالغ في إخلاصه، فيغض طرفه عن أخطاء صاحبه، بل وقد يساهم في تشجيعه على الاستمرار فيها، بذريعة الوفاء في الصداقة، بينما الصديق الحق الوفي هو من يعين أخاه على فعل المعروف، ويقف بجانبه ليتخلص من شرور نفسه، وهواها الباطل، ناصحاً معيناً له في ذلك، وقد جاء في الحديث « انصر أخاك ظالماً، أو مظلوماً « ظالماً أي تمنعه من ظلم نفسه، وظلم الآخرين، أما وقد يتمسك الأخير بسلوكه، فالأولى الابتعاد عنه، ففي البعد أيضاً نوع من العون له، فيشعر بالنبذ والنفور من تصرفاته فربما يعدل عنها ويقومها. وفي العمل، ففي هذه الأيام التي نعيشها، والتي انقلبت فيها المعايير، وتداس فيها القيم، وشاعت فيها المادية والأنانية وبسطت هيمنتها على النفوس الضعيفة، نلاحظ ان الإخلاص أخذ منحنى آخر، فبات معززاً على فعل النقائص، والاحتفاء بها، لارتباطها بالمصالح الشخصية، والاستمتاع بالمنافع المادية، وأثرة النفس الضيقة، التي تحيا في نطاق التنافس ومناصرة الأقوى، وأصبح الولاء الأعمى مقدماً على العمل، وعلى المبادئ والقيم، وهو مرض يضرب أساسات وأواصر المجتمع، ويتحول ليكون وجهاً من وجوه الأزمة الأخلاقية والسلوكية التي يعيشها الأفراد في علاقاتهم وروابطهم الشخصية و الإنسانية ووشائجهم العملية، فتتناخر وتضعف وترتكس في مستنقعات الفساد. واتقان العمل هو بالصفة التي أدي بها العمل، والإخلاص فيه هو مقدار ما وضعت فيه من روحك وجهدك ووقتك، واهتمامك بأدق تفاصيله ومتابعته حتى بعد الانتهاء منه. أما على مستوى المعتقدات والمبادئ والقيم، فالإخلاص لها والوفاء بإملاءاتها، يسهم في تشكيل الشخصية السوية الثابتة، الراسية في ميناء الأمان والاستقرار النفسي دون أرجحة، فيحميها من التقلبات والتذبذب والشتات، فلا تميل مع أمواج التيارات والاتجاهات السيكولوجية، التي تعصف بالعقل من هنا وهناك، ولكنها تساعد على الركون إلى منهج ثابت في الحياة يحيلها إلى الهدوء والطمأنينة والأمان الروحي. أما الفكرة فإذا ما آمنا بها، ووفرنا الإخلاص في سبيل تحقيقها والعمل عليها بشكل يتسق مع تحقيق أهدافها، ستؤتي أكلها، وتطرح ثمارها. والإخلاص في الكلمة بالصدق فيها فلا تستسهل وتبادر بالقول فيما تجهل، فتحمل وزرها ووزر من صدقها، ولا ترفث في كلامك، ولا تحاول تقديم الوعود مع عدم القدرة على تنفيذها، فتمني الآخرين بها وأنت تعلم أنك لن تقوى على تلبيتها أو الالتزام بها، فاعترافك بعدم القدرة ليس عيباً أو انتقاصاً منك، وهو أهون و أرفق من ترك الآخرين يتشبثون بأمل واهم. وبهذا نستخلص أن الوفاء والإخلاص هما أكثر المواقع حساسية على خارطة المبادئ والقيم، ويشكلان وجهين لعملة واحدة لا ينفكان عن بعضهما البعض، فبهما تنسج الثقة اللازمة لبناء العلاقات الاجتماعية والعملية الناجحة، وبالتالي نسهم كأفراد في غلق الباب أمام منفذ من منافذ الفساد الأخلاقي في المجتمعات.

2373

| 25 ديسمبر 2022

من يوقف الرعب في أم المقابر؟

رائحة العفن تتصاعد من أم المقابر، أفواه مكممة، صرخات مخنوقة، أبصار شاخصة، ملامح واجلة، عقول مكبلة بأوصاد الخوف، أياد طاهرة محبوسة في زنازين التيه، مستبعدة ومهملة، يدير شؤونها كل متسلق، أحمق، جاهل، يتوارى عليها حراس بلداء، فهي من سيئ إلى أسوأ، يعاقب فيها الذكي على ذكائه وسعة أفقه، ويكافأ فيها الغبي على غبائه وإخفاقه. مناظر الرعب في أم المقابر لا تنتهي، ففي هذا المستنقع العكر، تنقلب الموازين والمفاهيم، فالقوي المسنود، صاحب المركز والنفوذ، إن أتى بخطأ لا يعاقب، بينما يضحى بالضعيف ككبش فداء له، قيل لي ذات مرة إن مقابلة تمت بين الرئيس وأحد الموظفين، الذي كان متميزاً بأعمال ناجحة خارج هذه المقبرة، وكان فرحاً إنه أخيراً استطاع أن يصل إلى الرئيس، ليعرض عليه مقترحات من شأنها تحسين وتيرة العمل، وتغيير صورة أم المقابر المشوهة والعمل بشكل أفضل، وكان مدير مكتب الرئيس حاضراً في المقابلة، فكلف الرئيس الموظف بعد أن أعجب بطرحه، بإعداد الخطط لهذه المقترحات، على أن يوافيه بها في لقاء آخر، وقبل أن تنتهي المقابلة طلب الموظف من الرئيس أن يسمح له بالتقاط صورة تجمعهما معاً، ففرحة الموظف بلقاء رئيسه لا توصف، فمن ذا يستطيع أن يقابل الرئيس كما فعل هو !! فأعطى هاتفه لمدير مكتب الرئيس لالتقاط الصورة، فكانت الصورة القاصمة ! خرج الموظف مبتهجاً، وطيد الأمل، تارة يقرص نفسه، وتارة يفرك عينيه، يناجي أعماقه التي ابتلت بندى الرجاء والأمنيات، فأخيراً جاءت الفرصة التي طال انتظارها، واستطاع أن يصل للرئيس، وأخيراً سوف يحظى بعرض رؤيته في العمل على الرئيس، وسينتشل نفسه وأصدقاءه من رفوف التجاهل وخزائن النسيان، وهو الموظف الذي تم تهميشه وتجميد أوصاله في إدارته، وذلك لما يتمتع به من ذكاء واحترافية في عمله، وهذا أبدا لم يكن مطلوباً ولا محموداً في أم المقابر، ولا يعد تميزاً بمقاييسها البائسة، كان الموظف يتوق دائماً إلى تقديم ما في جعبته من ابداع للارتقاء بالعمل، عله يغير الصورة المأخوذة عن أم المقابر، فهو يريد أن يشعر بالفخر لانتمائه لها، حيث كان الناس يلومونه على تضييع وقته في العمل بها، فهي مقبرة لكل إنسان مجتهد ومخلص، ومتمكن، ولكن الفرحة لم تكتمل، وسرعان ما انقلبت الفرحة إلى نكبة، حين سال به السيل فور مشاركته الصورة على وسائل التواصل ابتهاجاً بلقاء رئيسه، وليثبت لرفقائه أن مقابلة الرئيس لم تعد مستحيلة، وإن الخير قادم، فأصواتهم ستسمع كما حدث معه، ولكن قامت الدنيا ولم تعرف سبيلها للقعود، وصب الغضب على الموظف كما يصب الزيت على النار، دون أن يعرف السبب، أو وجهة النظر في ذلك، فرفض الرئيس مقابلته مرة أخرى، ونصبت له المكائد، وأقصي من كل شيء، وأعيد إلى قبره، ودفن مع مخططاته، ليكون عبرة لغيره! يا لها من نهاية مخيبة، دفن هذا الرجل المفعم بالطاقة والحيوية والعطاء، وخسرت جهوده، وهدرت عقليته الفذة، بينما كان الأولى بالعقاب هو مدير مكتب الرئيس، الذي لم ينبهه إلى ذلك الخطأ الشنيع قبل ان يقترفه، ولم يلفت نظره إلى أن ذلك يعتبر انتهاكاً سافراً في عرفهم، وبحسب مقاييس أم المقابر المزرية !! بينما كان لازماً أن تلتقط الصورة بهاتفه، ثم إرسالها إلى الموظف إن أجيزت ! فراح مستقبل الموظف كبش فداء لذنبٍ يجهله. حقيقة لا أعلم إن كان ذلك هو بالفعل خطأ عظيما يستحق كل ذلك، فمن منا لا يفرح إذا التقط صورة مع شخصية يعتبر أنها مهمة بالنسبة له، فيشاركها مع أصدقائه على منصات التواصل !! إن كنت أيها الرئيس لا ترغب في انتشار صورك، فكان الأولى منذ البداية أن ترفض بكل لطف ! وأن تنزل العقاب بمن يستحقه، إن كنت فعلاً كما تقول دائماً في خطاباتك، تبحث عن المتميزين وتهتم لهم، وتحاول توظيف جهودهم، والاستفادة من خبراتهم، ما كانت تلك نهاية الموظف البريء !! ما أبرعنا في الخطب والتنظير، واعتلاء منبر الخطباء ! الغريب أن رائحة العفن كل يوم في ازدياد، والعاملون يختنقون كمداً وحسرة، فلا من سامع لشكواهم ولا من يشعر بمعاناتهم، ولا من مخلص يخلص أم المقابر من رائحة الموتى الذين يحترقون فداء لها. دمتم بود

1443

| 18 ديسمبر 2022

عقدة الأفضل

الرؤية والرسالة من اهم الأمور التي يجب أن يحددها الفرد في بداية طريقه، فهما المصب الذي تتجه إليه كافة جهوده، وتتماهى بينهما أفعاله، لذا يتحتم أن تكون رؤية إيجابية، واضحة، شاملة وعامة يأمل أن ينجزها قبل انطواء كتاب العمر، بالإضافة إلى رسالة سامية يفني فيها وقته وقوته في محاولة إيصالها خلال مسيرته القصيرة، فكم من المؤلم أن يمر الإنسان على هذه الدنيا، دون أن يفكر حتى مجرد التفكير في تبني رؤية أو تصور أفضل للمجتمع بل للعالم والإنسانية. وها نحن مطالبنا من الحياة لا تنتهي، فمعظمنا لديه من الأحلام والمشاريع المستقبلية التي يتطلع إليها، والبعض يسعى ويتنافس ليصبح ذؤابة قومه، فاللاهثون في عالم المال يحاولون جهداً أن يزرعوا أسماءهم في تربته، وهناك الساعون للمكانة والسلطة، يتسلقون أعتى جبالها علهم يتحسسون أطراف السماء، فيفترشون غيومها، ليصلوا إلى إحساس النشوة الذي يحلمون به، وآخرون رأوا في طريق العلم ما يعينهم على بلوغ سنام الرفعة والوجاهة، بل إن إحساس التنافس لبلوغ الأفضل طال العلاقات ومنها العلاقات بين الأسر والمجتمع الأصغر. اختلفت الطرق والوجهة واحدة ! وجميع من في هذا المسير، يتقاتل نحو الأفضل والأكمل، ولكن ما هو الأفضل ؟ وما هو الأحسن ؟ وما مقياس الأفضل هذا والأحسن ؟ وما غايته ؟ أهو المال ونفوذه ؟ أم الوجاهة وسلطتها ؟ أم العلم ومنزلته ؟! أم الشهرة وتأثيرها ؟ أم هو شعور التخدير المؤقت الذي يمنحه مفهوم التملك، ليرضي الإحساس بانخفاض تقدير الذات ؟! إن مقياس الأفضل يظل نسبيا، فما تعتبره أنت أفضل وأجمل يعتبره غيرك عكس ذلك، فعلى سبيل المثال إذا حصلت على منصب أعلى، مدير مثلاً، فهذا أفضل بالنسبة لك، ولكن إذا كنت مديراً سيئاً فهذا ليس الأفضل مطلقاً، وإذا كنت تملك المال والنفوذ فتراه الأفضل، بينما لا تحسن استخدامه فهو الأسوأ على الإطلاق، والأفضل أن تملك العلم، أما الأسوأ إذا كتمته ولم تكن تعمل به، وأما إذا كنت مشهوراً فمن المؤكد أنك ترى ذلك الأفضل، بينما إذا كنت تقدم محتوى فارغا وعقيما تافها، فهذا والله السوء بعينه. وماذا بعد ذلك ؟! لنفترض أيها الإنسان إنك حصلت على مجموع 10 في كل شيء، ونجحت في لفت أنظار المجتمع إليك، ولسان حالك يقول التفتوا لقد مررت من هنا ؟ وماذا بعد ذلك ؟ أهذا جل مطالبك وغاية أهدافك ؟ إن كان هذا ما تحلم به فالإجابة واضحة، ولكن دعني أتساءل هنا ما الذي ستقدمه للبشرية من هذا المكان ؟ هل كانت تلك غايتك التي يفترض أن تفوق أنانيتك ؟ طالما لم تكن تلك غايتك فما فائدة وصولك سوى إضافة عبء آخر على البشر، لتعلم أن ليس كل الإنسانية تنظر إليك بعين الاحترام والتقدير إن لم تقدر احتياجاتها وتمضي في استقامة حقوقها. إن لم تكن غايتك خدمة البشرية بمالك وجاهك وعلمك فلتتنح عن هذا التسابق الذي لا طائلة منه، فلعلك أكثر فائدة وعلوا ومكانة وأنت تهتم بشؤونك، وتطوير ذاتك، وخدمة الآخرين بما في استطاعتك، وإن كان عظيم ما تملكه ابتسامة ! لست هنا لأقلل من طموحاتك، وثنيك عن السعي فيما تتوق إليه نفسك، ولكن إن كانت غايتك هي الوصول فقط لترى معالم صورتك في مرآة وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، لتسكت صرخات تلك الرغبة في حب الظهور فقد نبا بصرك عن الصواب ! إن كنت تطمح للأفضل والأحسن وهذا حق مشروع للجميع فليكن، ولتكن بغيتك رؤية أعظم من ذاتك، ورسالة لمجتمع كامل، ولتتخذ سبلاً ووسائل مشروعة، ولتعترف بالآخر الأكفأ والأكثر استحقاقاً، فغايتك أعظم وأشمل، وطريقك أنقى وأطهر من سباق ترمي فيه الآخرون بالحجارة لتقف على كتوف أحلامهم وجهودهم. ونحن الآن نعيش أحداثا رياضية مهمة، تظافرت لها الجهود، وتبتهج بها القلوب، فكيف ستضيف لهذا الحدث من موقعك ؟ وماهي رؤيتك في الاستفادة من هذا الحدث وانعكاساته على أسرتك ومجتمعك ؟ وماهي الرسالة التي يمكن أن توصلها للعالم أجمع ؟

1449

| 11 ديسمبر 2022

حصان البطولة الأسود

يلعب المتطوعون دوراً كبيراً في بطولة كأس العالم، فهم يقدمون الدعم الجلي لإنجاح البطولة، سواء كان ذلك في الملاعب أو في الفعاليات المصاحبة أو في الجوانب التشغيلية، فهم يشكلون إحدى الركائز الأساسية التي تقوم عليها البطولة، وقد جاؤوا من مختلف أنحاء العالم ليقدموا جهودهم للمساهمة في الحدث الرياضي الأكبر على مستوى العالم، يقودهم الشغف والإثارة والحب، قدموا من جنسيات وثقافات مختلفة ومتعددة، ليوظفوا قدراتهم في تنظيم هذا الحدث، وليضيفوا خبرات جديدة إلى مستودع خبراتهم. وقد اهتمت اللجنة المنظمة مشكورة باختيار المتطوعين بعناية، وأولت اهتماماً كبيراً في تدريبهم وتأهيلهم وفق برنامج التطوع الذي أعدته بجودة عالية، لتمكينهم من أداء أدوارهم على أكمل وجه، وهذا يشجع المتطوعين على إعادة تجربة التطوع في الدولة في مختلف المناسبات. ومن المؤكد أن هؤلاء المتطوعين كانوا يخططون للمشاركة في هذا المونديال الاستثنائي بجميع المقاييس منذ وقت طويل، حيث نظموا أوقاتهم، وهيأوا ظروفهم لتفريغ أنفسهم للعمل التطوعي، فبعضهم تحمل مشاق السفر من بلده البعيد، ونسقوا أوقات إجازاتهم بما لا يتعارض مع وقت البطولة، والبعض الآخر، قسم وقته بين عمله الأصلي وبين عمله التطوعي، والطلاب منهم استثمروا أوقات العطلة في عمل مفيد وتجربة شغوفة . وقد لاحظت عن قرب تميز هذا الفريق التطوعي، فهم في عملهم مخلصون، يبادرون بالمساعدة، يتقلدون الابتسامة، ويتأزرون حب العطاء، مهما كان دورهم مضجراً، فبعضهم يقف فقط طوال ثماني ساعات في الملاعب ليوجه الجمهور، ويراقب النظام، والآخر يقف ليحمل فقط علامة توجيهية يرشد بها الجموع، وآخرون يقدمون المساعدة لذوي الاحتياجات الخاصة، بالإضافة إلى هؤلاء الذين يعملون في المناطق اللوجستية وخلف المكاتب، ومع ذلك لم يتخلوا عن روح الدعابة وملامح السرور. وكان لهذا أثره على الجمهور الذي تفاعل معهم بشكل ملاحظ، حيث حرص الجمهور على ملاطفتهم ومداعبتهم وتشجيعهم، والتصوير معهم، كنوع من الثناء والشكر والتقدير على جهودهم ورفع روحهم المعنوية، حقيقة يستحق هذا الفريق أن يكون الحصان الأسود في هذا المونديال، فهو الفائز الذي تعول عليه البطولة وهو الرابح الذي يرقى بمستوى الحدث وخير رسول للمحبة والعطاء والتسامح. بينما يقابلهم البعض بوجه بارد، متجهم، متغافلاً وجودهم، وكأنهم نكرة، يبخل عليهم بالابتسامة أو بعبارة تحفزهم وتدعم عطاءهم في عملهم، ومن المشين أن تصدر مثل هذه الأفعال من بعض مسؤوليهم، فيفترض أن يكونوا الأقرب لهم، والأكثر تفهماً واحتواءً لجهودهم والأكثر حرصاً على مشاعرهم، فبعض المسؤولين يتجاهل وجود المتطوع ويشعره بأنه أقل شأناً ومقاماً، بينما العكس هو الصحيح، فإن كنت تقبض أجراً نظير عملك، فالمتطوع يقدم جهوده بدون أجر وبحب وإخلاص ورغبة في المشاركة المثمرة. المتطوعون يمثلون القلب النابض للبطولة، وقد قدموا من مختلف أرجاء العالم، ومعاملتهم بطيبة واحترام وتقدير، ومد جسور التواصل معهم، والاستماع لهم، ومنحهم المجال للتعبير عن آرائهم، يعكس مدى اهتمامنا بهم ومدى تثميننا للدور الذي يقومون به، ويعبر لهم عن مدى ترحيبنا بتواجدهم، ويمنحنا الفرصة لنعبر عن المهنية والاحترافية في الإدارة الراقية، والتعامل الأخلاقي الذي حثنا عليه ديننا الحنيف، فالدين معاملة، وأنت في موقعك كمسؤول على هذه الفئات، تحمل المسؤولية في ترك انطباع جيد في نفوسهم، وتساهم في إبراز مبادئ وسمات الإسلام وتقاليد المجتمع وثقافته.

5190

| 04 ديسمبر 2022

ما هكذا تورد الإبل

يقول لاوتسزي، وهو أحد الفلاسفة الصينيين القدماء " لا يوجد في الكون مادة أنعم وأضعف من الماء، ولكنه قادر على تفتيت أكثر المواد صلابة ". فمن الحكمة أن يستخدم المرء الطريقة الأكثر ملائمة لتحقيق هدفه، أو الرسالة التي يريد أن يوصلها، ويبقى مثال الماء هو الطريقة الأكثر فاعلية، فالماء ينساب بطريقة لطيفة هادئة، ومع ذلك يغيّر في شكل التضاريس، فهو يتسرب من خلال الشقوق، ويذيب أعتى الصخور تدريجياً، دون أن يشعر أحد بذلك. إن استخدام منهج الماء في التأثير والإقناع قد أثبت فاعليته بجدارة، فهو يسير بنعومة وانسياب، فأسلوب الجاذبية الناعمة يصهر عناد المقاومة، فالقدرة على الجذب الرقيق دائماً ما تؤدي إلى الإذعان، إلى جانب ذلك يتصف هذا الأسلوب في مروره بالهدوء، بعيداً عن الجلبة ولفت الأنظار، ولا يمكن إدانته بشكل صريح، أو إيقافه بشكل نهائي بأي حال من الأحوال، فمن ذا يستطيع أن يتوصل إلى المسؤول عن تدفق الماء ؟ ومن ذا يستطيع محاكمته ؟ فهو يسير بطريقة قانونية لا تسمح بوجود فرصة لاتهامها ! وعندما لا يوجد متهم من الأساس تسقط التهمة وتُدحض من تلقاء نفسها ! بينما المواجهة والصدام والنشاطات الملموسة، نوع من التهديد الصريح تجفل منه النفوس، ويخلق ردود أفعال معاكسة، وجواً من التوتر وعدم القبول، وربما يساهم في خلق جبهات من التعنت والانتقاد لا يمكن مقارعتها أو التصدي لها، وفسح المجال للانقضاض والهجوم من أطراف مترقبة وحاقدة، بالإضافة إلى تأثيرها السلبي على المصادر المعنوية والحسية، وبالتالي نتائج كارثية غير مرغوب بها. إن اختيار الأدوات والأساليب الأكثر ملائمة، يقلل من ظهور أي مستمسك وثغرات يمكن الهجوم من خلالها، فإذا كان الهدف الرد على هجوم فكري أو عقائدي ناعم، فيمكن تمرير الأجندات واستغلال الفرص بنفس السلاح اللبق والماكر في نفس الوقت، وتقديم النماذج الجاذبة عن طريق القيم المشتركة، فالقدرة على تغيير وتشكيل التصورات والترجيحات والخيارات ليست بالشيء الهين إطلاقاً، إن الخطأ في استخدام النسق، يؤدي إلى انكشاف الرأس، وبالتالي التعرض لغارات ومداهمات أشد فتكاً، وأكثر صلابة، يصعب التصدي لها، خاصة إذا كان كل ذلك مراقباً ومرصوداً، وفي هذا قالت العرب قديماً "ما هكذا تُورد الإبل". إن العالم اليوم يعيش فضاءً مفتوحاً ومُلاحظاً يصعب الانفكاك منه، أو تجاهله، فالأبواق حاضرة لأي هفوة أو سقطة، والجلادون متهيؤون بسياط كلماتهم، التي تعمل على حشد الرأي العام المحلي والعالمي، بسرعة خاطفة لا يمكن كبحها، أو صدها كما يجب " فالعيار اللي ما يصيب يدوش " كما يقول المثل المصري. إن وجود الخطط المدروسة بعناية - بعيداً عن القرارات المتسرعة والمندفعة والتي تُتخذ في التو واللحظة، والمتأخرة ربما، يجعل من أدواتها أكثر فاعلية، وأشد إصابة للأهداف، وتضرب في هدوء وفق منهج منظم، ومسار ناعم متجنباً التشويش والإرباك ومتفادياً للمآزق، كما يقلل من الوقوع في شراك الخطأ، وما أجمل لو رافق ذلك كله الصبر والتريث، بعيداً عن الطنطنة والجلجلة وراء كل خطوة تحدث في الطريق لبلوغ الهدف، فهذا الضجيج الذي يعتقد البعض أنه قد يساهم في خطة المسير قد يتحول إلى واحدة من أكبر النقم الكؤود التي قد تُخل بطريق الخطة وتُربك خطواتها، فكتم التأثرات النفسية من غضب وسرور، ومودة وبغضاء مزية أخرى تقود إلى الحيرة، وصعوبة التكهن بالنوايا. إن القدرة على المناورة والمرونة، والتراجع خطوة واحدة أحياناً في سبيل التقدم عدة خطوات لاحقاً، والحكمة والدهاء مطالب ضرورية لمن أراد النيل من أعدائه وهو مبتسم.

1776

| 27 نوفمبر 2022

قطر.. مجتمع عالمي

وكأنما نشعر في هذه الأيام بشعور الأم حين تزف ابنتها عروساً، فها هو العرس يقترب، ونبضات القلب تتسارع وتضطرب، والأهل يقفون في انتظار الأحباب والأصحاب مهللين مستبشرين، وها هي العروس تزينت بكامل حلتها، وتغنجت بجمالها وحسنها، وتلألأت ببشرتها السمراء، وتهادت بين الجموع، شامخة بدهائها وثقتها وحكمتها وثباتها، فأخرست أفواه الحاسدين، ولطمت بكف الحق وجه الناقمين، تلك عروسي موطني ووطني، أماني وأمنياتي، غايتي وملاذي، بدايتي ونهاياتي. وكما عهدتها، معطاءة، مضيافة، منفتحة بقلب كبير، يتسع لكل الآخرين، واحترام مختلف الثقافات، دون المساس بهويتها وكرامتها، وها هي في يوم عرسها المشهود، تقدم للعالم صورة رائعة من التسامح والاندماج مع الآخر مهما اختلف عرقه وجنسه ودينه، فهي تستحق أن تكون مجتمعاً عالمياً مصغراً، فأسلوب الحياة عصري حديث، نابض بالحياة، ويمتلئ بالفرص المتنوعة للعمل والاستثمار، كما أولت اهتماماً بالغاً بالإنسان وعملت على راحته، فوفرت له جميع المرافق التي شُيّدت على أعلى مستوى، وأحاطته بالأمن والأمان والرفاه، وعملت على حفظ حقوقه وكرامته، واحتضنته بين مواطنيها، فقدمت له الدعم وعززت وجوده، ولم يقف الأمر عند ذلك، فاعتنت بالشغف والإبداع، وأثرت المجتمع بالمؤسسات الثقافية والفنية المتنوعة، والنشاطات والفعاليات الثقافية والترفيهية المستمرة، فهي في حراك مستمر نحو التقدم والازدهار، فهي كالوردة التي تغري أي شخص يقدر الجمال بقطفها. إن الذي يزور قطر أو يعيش على أرضها يجدها الأرض المناسبة لاحتضان الفعاليات والأنشطة الكبرى، فموقعها ومساحتها وطيبة شعبها الكريم، وقدرتها على التوازن بين الحداثة والعادات والتقاليد العريقة، عوامل تمنحها أبعاداً مميزة للتقارب والتعايش والاندماج. قطر اليوم مجتمع عالمي، ومركز منفتح على جميع الحضارات والأيدولوجيات الثقافية، قادر على احتواء الإنسان دون أن نرى أثراً للعنصرية أو القومية أو الكراهية والدونية، وحقيقة أن كل تلك المصطلحات مرتبطة في جذورها بالغرب، فديننا الحنيف قد قال كلمته بهذا الخصوص، وأنهى بها كل قول يشكك في ذلك. فليسر موكب عرسنا في إبائه، ولتهنأ عروسنا بعرسها الشامخ، ولتفخر بمجدها وكرامتها، وليدمها الله في عزة ورفعة ورقي.

2466

| 19 نوفمبر 2022

من يوقف تســونامي ؟

هل لك أن تتخيل كمية الأصوات المنبعثة من هذا العالم !! كيف لنا ان نتخيلها ؟ كيف لنا أن نحصيها ؟ يا ترى كم من الأصوات تنطلق في الوقت الواحد؟! إنه والله لعجب عجاب ! بالأمس كنا نستطيع نوعاً ما أن نحدد مصادر الأصوات، فكانت جيوشا جرارة من صنوف الكائنات ما بين إنسان وحيوان ونبات وأصوات الطبيعة، أما اليوم فأضف إلى تلك الحناجر أبواق الآلات ووسائل النقل ووسائل الاتصال والإعلام والآت الصخب والموسيقى وغيرها الكثير، كمية هائلة من التسمم السمعي تتخلل مسامعنا كل يوم، تفقدنا الراحة والقدرة على التركيز، رحماك يا ربي بهذه الكرية، تخيل جميع هذه الأصوات تصدر من جميع ما على المعمورة إلى أقصى أرجائها !! وليست كل هذه الأصوات جميلة ومحببة، فمعظمها ملوث للسمع، مشتت للفكر، مؤذٍ للنفس، فصوت واحد منها كفيل بأن يؤذي مشاعرك، ويعكر صفوك، ويهز كيانك، ربما بما يحمل من ذبذبات سلبية، من كلمات سلبية، أو ذبذبات أصوات منفرة، تشمئز لها الأذن، فلله درك يا أذني، كم تسمعين في اليوم ما تكرهين، وما لا تشتهين !! ومن سنن الله في هذا الكون الليل والنهار، فإذا ما شمِس النهار، رفعت الضوضاء أبواقها، ونفخت في الأرض، بخليط متنافر من الذبذبات، أصوات الحياة تتعارك في الفضاء الصوتي، ضوضاء الحركة والاحتكاك بين الكائنات، اضطرابات صوتية تنبعث من منتجات التطور التكنولوجي، أما الإنسان، فبمجرد أن تطأ الروح الجسد، بعد رقدته الصغرى، فينهض كما ينهض المارد ليتصارع مع الكون، فصوت سعيه وعمله وتفاعله مع محيطه، من أوضح وأبلغ صور الحياة، وهي المكون الأساسي لما يسمى بالضوضاء الاجتماعية الداخلية، فبرغم الضوضاء التي تصدر من معظم الناس، هناك ضوضاء من نوع آخر تتأجج في النفس، بل يكاد صوتها أن يهتك غشاءها، وأن يفضح عرضها، فيعيش الإنسان بين ضوضاء نفسه التي تصرخ كالطفل الرضيع الجائع، وبين ضوضاء العالم الآخر، ففي الحقيقة هو يعيش ضمن عالمين، قل ما وجد السكون بينهما !! وأما الليل، الذي سنه الله للهجوع والسكينة، فقد طالته يد المدنية، وصور انتعاشها، فشوهت هدوءه، وأقلقت مرقده، وحولته نهاراً من نوع آخر، تتحكم في شمسه وضيائه، فأصبح الإنسان لا يعرف كيف يقرأ كتاب الليل بعد أن أرهقته القراءة في كتاب النهار، فكتاب الليل لم يعد يحوي مفاهيم السكون والراحة والتعبد فقط، بل هناك مفاهيم السهر والمتعة واللهو حتى الصباح، أصوات تعلو أصواتا، ضجيج يتلو ضجيجا، صخب بالليل وجلبة بالنهار، وإزعاج داخل النفس، كم أرق لأجلك أيها الإنسان، وكم أرثي لحالك أيها الكون الحزين، كم يتحمل هذا الكون ويصبر!! لا أجد أحداً يليق بهذه الصفة سواه، انظر فقط لما يحوي، وتمعن لما يحدث فيه، تجده شامخاً، صابراً، إلى يوم تطبق فيه السماء على الأرض !! فمتى يتوقف الإنسان عن إيذاء نفسه، بل وغيره من الكائنات الذين يتقاسمون معه المسكونة، ما يحدث لا نستطيع إيقافه، فهو كفيضان تسونامي لا نستطيع الصمود في وجهه، ولكننا نستطيع أن نحتمي منه، وأن نبتعد عن سبيله، وأن نحتاط لقدومه، وأن ننظف مخلفاته، على قدر امكاناتنا، لا شك أننا سنبذل جهداً غير يسير في ذلك، ولكننا على الأرجح سنحاول أن نضع كل شيء في مكانه ومساره الصحيح، فنجود على أنفسنا بالشعور بالطمأنينة والسلام والقدرة على الاستمتاع بنعم الحياة كما أرادها الخالق دون تحريف أو تشويه.

1513

| 07 سبتمبر 2022

قبل أن تكون حراً

ميز الله الإنسان وكرمه بالعقل، فكان سيداً لهذا الكوكب بما شرفه الله من خير النعم، لكنه في الحقيقة يتشارك هذه الأرض ويتقاسمها مع مخلوقات الله الأخرى التي تسبح بحمده، وتسبح في ملكوته، وقد ولد هذا العقل حراً وساعياً للحرية، وهو عبد لله سبحانه، باختياره، فلو اختار أن يكون عبداً لشيء آخر لكان، ولكنه في رأيي يكون قد سلك المسلك الخطأ، الذي يسلم فيه بطوع اختياره حريته لشيء قد يضره ولا ينفعه، فمن الحرية أن اختار، ومن الحكمة أن اختار ما ينفع ولا يضر ! واي اختيار ذلك الذي تسير إليه بعد سلسلة من المعارف والدلائل والخبرات كلها تقودك إلى الإله الذي لا شك فيه. ولا يبرح الإنسان مطالباً بحريته، معتقدا بأنها تشترى من متاجر السياسة، وباعة الأنظمة، وبأنه لو ابتاع ذلك الدستور أو تلك القوانين، أو تبادل المجالس النيابية والحكام سوف يجد ضالته ويهنأ بالحرية التي هي غاية مطلبه، وغنوته التي لا ينفك يدندن بكلماتها الرنانة، على كل منبر، وينشد ألحانها من كل نافذة ينفذ منها صوته. وليت الحرية هي وليدة ما يعتقدون، حين بذلوا في سبيل معتقدهم الغالي والنفيس، فكم من أرواح زهقت، ودماء أهدرت، وانقلابات وثورات في سبيل الحرية كما تتصور لهم، وتتغنى بها خيالاتهم، ولكن رغم كل ذلك السخاء في بحثهم عن الحرية، لم تزل الحرية طيفاً يراود أحلامهم ولا يلامس واقعهم، فقد راحوا يبحثون عنها في شتى الأماكن والبقاع، ولن يجدوا لها أثراً، وكيف تقتفي أثر من لا وجود له في هذا المكان أو ذاك، إذا لم تلتفت إلى أن مكان الحرية هو داخلك، في نفسك وفي قلبك وأفكارك، فلن تستطيع عبثاً أن تجدها في أي زمان أو مكان !! ولا تباع في أسواق الأنظمة أو لدى آلات الحكم ! وقبل أن تكون حراً، فلطالما كنت تتشارك هذه الأرض كما أسلفت مع شركائك، من الأنس والجن، والبهيمة والحشرة، والشجر والجبل، إذاً دامت حريتك ورغبتك مقيدة برغبات هؤلاء كلهم، فتتبادل الأدوار ما بين سيد ومسود، ورئيس ومرؤوس، فأنى لك أن تفهم رغبتها وتسيطر على إرادتها ؟! وما نفع سعيك في الانتفاض والتظاهر والنضال، لتبديل نظام بنظام أو قانون بقانون أو عروش بعروش؟! ولا يزال الإنسان جاهلا، فلو أوتي الفرصة أن يكون قيصراً على مشارق الأرض ومغاربها، لما شعر يوماً بالحرية ! فكيف يشعر بالحرية وهو يجهل الأرض التي هي جزء من عالم لا نعرف أبعاده وامتداداته؟! فكيف يحكم ما يجهله ؟! أن تكون حراً تعني أن تكون عارفاً ومستأثراً بالعلم وحدك، ومسيطراً على مناهل المعرفة والعلم بلا منازع، إن المعرفة التامة هي الطريق إلى الحرية وكلما زاد جهل الإنسان كلما تعثر في هذا الطريق، كيف لا ورغم كل ما توصل إليه الإنسان من علم يظل نقطة في بحر العلم الخفي الذي يجهله يقول العليم الخبير "وفوق كل ذي علم عليم" ويقول سبحانه "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" آيات صارخات معلنات جهل الإنسان مهما بلغ من العلم، فأنى نطلق على هذا عالم والعالم هو الخالق جل جلاله ! ورحم الله من عرف قدر نفسه واعترف بضعفه، وعدم قدرته على جهله الأعظم، ووضع الحرية هدفاً ساميا يرتقي إليه، ببحثه عن العلم والمعرفة، بدل أن يراها هدفاً في مرمى السياسة، فيجري أميالاً ويبعثر أوقاتاً ويصرف أموالاً ويزهق نفوساً ويريق دماءً ويعيث شغباً واضطراباً، ويرفع صوته بالضجيج والفوضى واللغط. فإلى أين يأخذك الطريق إلى الحرية ؟ وهي مبعثرة بين شعاب نفسك، ومفارق أفكارك، فقاوم كبرياءك الذي ينكر جهلك، ولا يفتنك ما وصلت إليه من علم، فتتشدق بلفظ الحرية الرفيع، كلما واتتك الفرصة لذلك.

1414

| 28 أغسطس 2022

ميــزان الحــق

لو تساءلنا مثلاً عن أثمن شيء في الكون فماذا ستكون الإجابات؟ يا ترى ما الذي تفكر به؟! ما الذي يخطر ببالك؟! أكاد أجزم أن هناك الكثير من الاستفهامات تتراقص في مخيلتك؟ لقد طرحت السؤال على أكثر من شخص فماذا كانت الإجابات؟! قد أثرت بسؤالي حفيظة التفكير، وشحذت همم الفضول، للبحث عن إجابة عن هذا السؤال الذي ربما يدق لأول مرة أبواب الخواطر والأفكار، أو ربما كنا نرى أشياء كثيرة ثمينة، فلم نتمكن من المفاضلة بينها، ولكن أن يُطرح السؤال بشكل مباشر في رسالة نصية عبر تطبيق الواتساب، فهذا لم يكن متوقعاً، كنت أشعر بأصدقائي وقد وثبت مشاعر الدهشة على محياهم، خصوصاً أنهم لم يتعودوا أن يُسألوا مثل هذه الأسئلة على مثل هذه التطبيقات، التي تندح بالعبثية، فكانت المفاجأة التي أربكت مخيلتهم، وأرعشت أسلاك أذهانهم. احتار الكثير وربما البعض لم يفكر يوماً في هذا السؤال! فمعظم الإجابات انحصرت في إدراكهم الشخصي لهذا الكون، ومعظمها كانت تدور حول الماديات التي علقت الإنسان من رقبته وهو يدور في حلقات ضائعة لا ينفك يبحث عنها، أو أدوات سخرها الله لهذا المخلوق العظيم، نعم العظيم والأغلى والأثمن. إنه أنت أيها الإنسان، أنت الأكثر قيمة، أنت الغالي، أنت النفيس، أنت سيد هذه الأرض التي سخرها الله لك، في خدمتك وطوع أمرك، ولكن لكي تستطيع أن تحكمها يجب أن تعرف قيمتك قبل قيمتها، وتستشعر قوتك قبل قوتها، فأين تكمن قيمتك؟ أنشأت المدنية الحديثة، المدينة الساحرة، التي كنا نتخيلها في قصص الأطفال، ولكن هذه الأخيرة قد فاقت كل التخيلات والتصورات، فقد ذابت فيها الحدود، وتزاوجت المسافات، وتمازجت الأصوات، وتماهت الأمزجة، وأصبحت الأخبار التي تحدث في مشارق الأرض ومغاربها تستقر بين كفوفنا، نقلب كلماتها وصورها برؤوس أناملنا، لعمري تلك معجزة لم تتصورها العقول في ماضي الأزمان، وها هي ذي الآن، قد ضربت جذور الأمم، فتعلقت ببعضها وتشابكت، فلا سدود ولا متاريس، ولا موائل أو تضاريس، وعلى هذه الحال؛ فلا عقائد راسخة، ولا أعراف وتقاليد مستقرة، ولا من رأي إلا ويفنده ألف رأي، ولا من اتجاه إلا ويشككه ألف اتجاه، تنافس، تطاحن، اضطراب وفوضى، فوران وغليان، كل هذا جعل الإنسان مخلوقا أنهكه الدوران في عجلة تجري بلا هوادة، تتجه نحو كل شيء سواه، فيعطي لكل شيء قيمة ووزنا إلا نفسه، فكيف له أن يرى قيمة نفسه، وهو على هذا المقام!! كفريسة تتنازعها الوحوش الضارية من كل جانب، فغفل عن تسعير قيمة نفسه في سوق كثرت فيه السلع، فانصرف يقيم كل شيء إلا الإنسان. ذلك المخلوق الذي شرفت الأرض بنزوله من السماوات، فبارك بأقدامه الطيبة ثراها الواسع، ولا تزال الأرض مخلصة لهذا المخلوق العظيم مذ وطأها الوطأة الأولى، فكانت نعم المستضيف، شملته بكرمها وإحسانها، فاحتضنته في بطون جبالها، وسقته من أنهارها، وأطعمته من خيراتها، وكيف لا وهي المسخرة بأمره لخدمة هذا الضيف الشريف، فيمشي في أقصاها وأدناها لا يحمل هماً، وأي هم يحمله وفي السماء وعد برزقه وتدبير أمره أينما كان! فما أعظم قدره عند خالقه، الذي نفخ فيه من روحه، فكرمه وسواه فعدله، فكان أعظم الشواهد على وجوده سبحانه، فهو غاية الوجود وجوهره، فما غايته من نفسه؟! إن كانت تلك حاله، وذلك شأنه في السماوات والأرض، فبماذا يمكن أن نزنه؟ وكيف يمكن أن نقدر قيمته؟ تالله إنه فوق كل الموازين ولا يمكن أن يقدر بثمن! وإذا كان لابد من وجود ما يهم الإنسان ويُثقل به صدره – لأننا في الواقع وفي أحيان كثيرة نبحث عن الهموم أو عن أي شاغل يلهب نار خواطرنا، ونهاجس به صدورنا - فهو معرفة غايته من وجوده، ومعرفة نفسه، والتي تعني معرفة الله، ومعرفة الله تعني المعرفة والتفكر والقدرة على كل شيء، والتحرر من كل القيود التي قد تعيق طريقه إلى سبيل المعرفة، بيد أن الحال ليست كما أرى، ولم يعرف الإنسان حق قيمته بموازين السماء العادلة، وإنما احتكم إلى موازين شرعها لنفسه، فهوى بين ضرام الهموم، ومواقد الفتن، وكان فريسة سائغة للضغائن، والذل تؤام الكبرياء والغطرسة والغش والحذر المذموم، وأصبح الصدق والأمانة والعدل واللين والمحبة كعنقاء مغرب !! تلك الموازين التي فاضلت بين الناس فقدمت أصحاب المال والجاه والسلطان، سليلي النسب والحسب، أصحاب الثقافة الرفيعة والمقامات والدرجات والرتب والمناصب، أصحاب الجمال والأناقة واللياقة، فأولتهم الصدر، وأطعمتهم الشحم واللحم، أما العظام وفتات الطعام والغبيبة، فكانت غنيمة أولئك الذين يقفون في آخر الصف، لا تشفع لهم أوضاعهم ولا حتى إنسانيتهم، تلك المعايير الغاشمة، التي قدمت الموارد على أصحابها، فتناحروا على المعادن والنفائس، فسيقت أرواح الناس فداء لها، وبجلت الماديات فجعلتها أهم وأثمن من مستعمليها والمحتاجين إليها، وقيمت كل شيء بميزان لم ينزل الله به من سلطان، أما الإنسان فليس له قيمة في عالم أعظم قوة فيه هي المادة، وأضعف ما فيه هو الإنسان!!! هذا القلب السافر لميزان الحق المقدس الذي وزن الله به الإنسان، وشرف مكانته، وعظم قدره بين مخلوقاته جميعاً وإن جسمت، فجعله خليفة له على هذه المعمورة، يأتي الإنسان بجهله وعنجهيته وغروره وحماقته لينسفه نسفاً من عروقه، فلا يرضى به ولا يحتكم إليه. ويا وجعي على أجيال، توارثت هذه العقلية، بل وترعرعت في أحضان مدارس، ملأت رؤوسها بشتى العلوم، ولم تبذل جهداً في تعليمها قيمة ذواتها، وعقلها وفكرها. هذا هو عالم اليوم، الذي يعيش بذهنية التنافس والتنازع والظفر، وتتجاهل ذهنية الإنسانية والعدل والصفاء، فمن عرف قيمة نفسه عرف قيمة الآخرين، فكما يسري الدم في عروقك يسري في عروقي، وجميعنا نتشارك الأرض التي اختارها الله سكناً لنا، ونتقاسم الهواء الذي هو زاد أرواحنا، وجميعنا نحمل من روح الله المقدسة، جئنا منه، وغايتنا معرفته وعبادته، وننتهي إليه، كما خلقنا في أول صورة، فبم تمتاز عني وعنه؟؟!!

1042

| 21 أغسطس 2022

رفقاء البؤس

دائماً هناك الجرح الغائر في دياجير الروح، جرح عميق لا يلتئم، فمن منا بلا ألم، بلا وجع ينقض هانئ باله، ينغص عليه هجوعه، مهما بدا مرتاحاً، ذلك الدمل المستعر بنار الأسى، المنتفخ بقيح المعاناة، المتحجر في درك النفوس، نظل نحاول أن نتجاوز وجوده، أن نتجاهل ألمه، ولكن هيهات، تظل حباله الطويلة تشدنا إليه مهما حاولنا صد جلادته، ذلك اللاعب الخفي الذي يتحكم في أهوائنا وأمزجتنا وقراراتنا، من هوة سحيقة، دون أن نشعر، هل جربت يوماً ذلك الشعور بالضيق بلا سبب ظاهر لك؟، هل جربت أن تسافر وتنفق وتحتفل ورغم ذلك تشعر بغصة؟، وأن تجلس مع صديق تفضفض وتحكي ربما عن كل شيء ما عدا ذلك الشيء، لأنه موجع مؤلم، كم مرة نظرت في المرآة وأنت في أبهى حلة، إلا أنك تشعر أن المرآة مجروحة وملوثة. تلك الندوب غالباً ما تعيش في أغوار النفس، كأطلال استوطنتها مشاعر البؤس والندم مرتعاً لها، تتكاثر فيها وتتوالد، وتجتر أذيال الحزن بين الفينة والأخرى، فتمتد وتنكمش بحسب حرارة الظروف والمواقف التي تمر بها، فتارة تخرج كالمارد المزمجر، يلهب من حوله بأجيج غضبه، وتارة تكفن صاحبها بالصمت والكآبة، وهي في فوران قلق مستمر، كغلاية بركانية، تقذف حممها بين الحين والآخر، ويروح ضحاياها أبرياء، يجهلون بوجودها خامدة هناك، بينما ضحيتها الأكبر، أنت، حيث تسمح لها أن تستمر في عبثها دون أن تضع لها حداً يقوض أركانها، والحقيقة أن معظمنا يجهل كيفية الوصول إليها، فهي تستقر تحت طبقات الضباب المتبخرة من بحور النفس ومستنقعاتها، ذلك الضباب الذي يغشى البصيرة، فلا تكاد تقشع النور والخير الكامن في الحياة. وهنا لابد من أن تندس بين جيوش الضباب العزل إلا من سلاح المشاعر المتثاقلة على تخوم النفس، وتسافر في رحلة بعيدة في أعماقها، حتى تبصر طلائع الطفولة، فتخترق صفوفها، وتمحصها صفاً صفاً، علك تجد بعض الجنود يصرخون ألماً جراء جراحهم المتقيحة، يستنجدونك ويستعطفونك منذ سنين حائرة، فتضمد جراحهم، حتى لا يتقيأون عليك باقي الدهر بآهات أوجاعهم الملتهبة، أو ربما توقفت عند معابر المراهقة، فوجدت المهاجرين ممن تقطعت بهم الأسباب، وقد فغروا أفواههم من شدة الجوع والعطش، وتجمدت أصواتهم من شدة البرد، فتطعمهم وتسقيهم وتدفئهم، وتوصلهم إلى بر الأمان. أو بينما أنت في رحلتك وقفت على أبواب الشباب، فرأيت المتسولين الضعاف، والمشردين بلا مأوى، والفقراء والمرضى يحتضرون بأوجاع الحياة، فتغنهم مما أغناك الله، وتوسع عليهم، وترد سؤالهم، وتقضي حاجتهم، فلا تكون لديهم حجة عليك تكدر حياتك. رحلة لابد منها، حتى يطيب لك العيش ما تبقى لك من سني عمرك، فهؤلاء رفقاء البؤس، سيظلون يصاحبونك في رحلتك، يصرخون بلا أناة، فقد أجزعهم الصبر، وأرهبهم الخوف، وأقنطهم طول البقاء بلا سامع لضجيج نوابضهم، وزئير معاناتهم.

2100

| 14 أغسطس 2022

قسوة العبور

ها هو ذا اليوم عوداً فتياً، يتفجر عنفواناً وطاقة، واندفاعاً وشغفاً بالاكتشاف والمغامرة، ها هو وقد اشتد ساعده واتقد صلابة وجسارة، وتحول من ريشة تتلاقفها رياح الفكر والعادات والتقاليد والأوامر الملقاة على مسمعه من هنا وهناك، إلى أسد يزأر فيهتز في سماء صوته كل ما قد كان الآخرون يحاولون تغذيته به من مختلف الآراء والمعتقدات، فيفرغ كل ما امتلأت به أحشاء عقله في وجه المجتمع، وهكذا يسير المجتمع في دوامة تعاقب الأجيال، التي تحاول باستماته إثبات أن كل ما خيَّم في أذهانها صحيحاً، أو ربما عانت من جائحة الازدواجية التي تفتك بروح وعقل أصحابها، في محاولة للتكيف فيما تؤمن به وتصدقه منفردة، وما تركن إليه الجماعة، أو ربما قاسى شتات الفكر وشقاءه، في تعديل وترميم ما اهترأ وسمل من مفاهيم وتصورات معقوفة. وعندما أتى إلى هذه الحياة كان يتوقع أن تطوقه أذرع الأيام بالحنان، وتطبطب عليه في حضن دافئ كالذي تكوَن فيه، لم يكن يتخيل أبداً، تلك القسوة التي كانت تتربص به في كل زاوية من زوايا العمر، وتلك العقد العضال التي كان عليه أن يتحمل عبء حلحلتها والتخلص منها أو القبول بها والتعايش معها، ومن أكثر تلك العقد فتكاً، وأوسعها انتشاراً، وشراسة هي عقدة الناس، التي كانت ولا تزال تقبض على تدابير حياته بقبضة فولاذية، وممتلكة لمشيئتها امتلاك السلطان لروح عبيده، سراقة للذة التي فقدها عندما فقد حقه البديهي المتفرد في البت في كل شائبة تحاول أن تأخذ حيزاً في وجوده، كما زاحمته في تشكيل البيانات التي يرسم من خلالها خريطة طريقه في هذه الحياة، وأصبحت بعداً أساسياً متناقضاً في بلورتها، متحصنة بسلطة العرف، ونفوذ التأثر والتأثير، الذي يوجد نوع من التقليد القهري لإرضاء حاجات نفسية عميقة الجراح، كأنها ردم محموم للهوات السحيقة التي تتسع داخل النفس، فيتوهم بذلك الشعور المزيف بالثقة العالية بالنفس، والرضا الذاتي. ومقابل ذلك تمنعه من الاستمتاع بشكل الحياة التي يتطلع إلى عيشها، فتولد حالة من توهان الذات وتمزقها أشلاء متناثرة بين فكي الرغبة الفردية والإرادة الجمعية. فتبدأ الأسئلة التي تلح دون هوادة، وتطارد الفكر كالأرواح الشريرة التي تفرض سطوتها على العقل فيبقى في حالة هلوسة مزمنة، فتنازع الأفكار بأسئلتها التي لا تهدأ قبل أي أمر يقبل على فعله: ماذا سيقول الناس لو... ؟ ماذا ستكون ردة فعلهم لو... ؟ كيف ستكون نظرتهم لك لو... ؟ كثير من "الولولات" تولول وتطبل على رأسه تقدر أحداث حياته، ويعجز السهد جفونه، فمذ مبتدأ تكوينه كبرعم زهري نضر، يتحصل على التطعيمات الضرورية بأهم قواعد الأمن والسلامة للتوافق مع مجتمعه، وكيف يحافظ على المعادلة المقدسة الأبرز، فهو يعيش حياته في محاولة لشراء ود الناس، كأصل استثماري ضروري للمضي قدماً في إجراءات دخوله لهذا المجتمع التنافسي، فيتعلم في أولى صولاته معنى الانحناء لرغبات لا توافق رغباته، ومبادئ تخالف مبادئه، واعتقادات وموروثات تعقد يديه بقدميه، فكل خطوة يتخذها في هذا السبيل تعمق حدة التنافر مع الرغبات المطموسة في داخله، ومع ذلك يستمر خانعاً، لعل استسلامه يسد فراغات حياته، ويرمم ثغراتها، ويعوض من خلاله نقص شخصيته، فقد يسرف من الوقت والمال لكي يلبس ما يعجبهم، ويقرر أن يستدين حتى يقتني سيارة جديدة فارهة، وآخر طراز، ذات رقم مميز، حتى ينال شرف ذلك الإحساس الكاذب بالامتلاء والزهو بينهم، ويبحث عن التخصص الذي يقبله الناس ويعتز به في محيطهم، ويتجاهل التخصص الذي يناسب ميوله، ليتمتع بفرصة لإثراء هذا الميول، وبالتالي يتفجر الإبداع بين يديه، وما أحوج الوطن للمبدعين، وأصحاب المهارات المتخصصة، فقد فاض قطاع العمل بالتخصصات الرتيبة التي لا تضيف أي قيمة تذكر، ولا تنهض بالتطلعات الكفيلة بخدمة الوطن، وإخوته من بني البشر، ولا ينفك ينفق الأموال ويبذر الثروات للتفاخر والتباهي أمام القطيع الذي اختار أن يختبئ تحت عباءته، سلسلة من التنازلات يقدمها طوعاً ليحيا حياة لم يختَرها، بينما هي أشبه بثوب مزخرف فصل بطريقة عشوائية اختلط فيه الحابل بالنابل، فيكابد في البحث عن طريقة للبسه ليكون مناسباً له. فماذا لو تحولت الغاية من معناها الضيق التافه إلى المعنى الأشمل الأعمق؟ من رضا الناس إلى رضا الله أولاً ورضا نفسه ثانياً وخدمة البشرية ثالثاً، في إجابة عن الأسئلة: ما الجديد الذي سأضيفه لمجتمعي؟ وما هي قيمتي السوقية في هذه الساقية؟ وكيف أكون مفيداً لهذا العالم؟ وما يزيد الأمر مرارة، أنه يتماهى برشاقة مع هذه العقدة بل ويبرع في حلحلتها بطريقته، والتفنن في مسايرتها، بل ويكون سلسلة عقد وليدة ومبتكرة لا متناهية، فلا يجد بأساً أن يمشي حاملاً مفهومها معه في كل مكان، فهي واحدة من أساليب الحياة واللايف ستايل الذي جُبل عليه مهما كان تأثيرها وغداً، وأساليبها سافلة معتوهة، فيسير في حلقات من العقد تصل معه إلى دائرة العمل، فالناس يعجبهم صاحب الوظيفة المرموقة، الأمر الذي يدفع صاحبنا بأن يفعل أي شيء حتى يصل إلى منصب يشرفه بين الناس، فيغيب عنه أن المنصب يشرف بالإنسان لا العكس، وهذا من غباء العقول ومضيها في فجورها، فيشرع في تقديم مساهمته في إفساد الأرض بطريقته الخاصة، وقد نُهي عن ذلك من صاحب الأمر جل جلاله، وقد يكون في هذه الحال مغيباً لا يدرك ما يفعل، فمتى أدرك المخدر ما يفعل؟! فيظلم هذا، ويمنع عن ذاك، ويستبيح ما ليس له، ويطال ذلك أساسيات المهنة فهو يجامل ويداهن على حساب الواجب، فالعمل يأتي في نهاية سلم اهتماماته، فإرضاء رؤسائه الكبار هو الهدف الجوهري الذي يسعى خلفه، وبالتالي فأمام إغراء المناصب وسحر السلطة وإدمان التسلط، يسهل عليه خيانة الأمانة، ثم أن للأمانة أشكالا وصورا، فصيانة الحق العام أمانة، وحفظ حقوق العاملين أمانة، واتخاذ القرار الأفضل للمصلحة العامة أمانة، والمحافظة على مبادئ العمل أمانة، والمساواة بين الفرص أمانة، ومن يجعل الدنيا والناس مبلغ همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، فمن لحق الناس حتى يرضوا عنه فلن يطاله سوى السب وغضب الرب، فإرضاؤهم من المعجزات، فقد ميز الله كل إنسان بشكل وفكر مختلف عن الآخر، فإذا كان الاختلاف هو الفطرة فكيف سيجتمع الكل على الجزم بأمر ما دون وجود من يعارض ويمنع ويجادل؟! وقد يعلم تمام العلم أن ما يفعله هو الخطأ بعينه ولكنه ينهزم أمام إرادة الناس وقناعاتهم، وتنتحر أي فكرة أمام شراسة أعرافهم البائسة، فهم قضاة الدنيا ومفتوها، ولذا وصل حكم طاعتهم حد الوجوب. فلكل مطالب بالحرية، مناد لمبادئها، مستبسلاً في تطبيقها، أنت كمن يكتب شريعته على الرمال، فآثارها تتلاشى قبل أن تجيب عن السؤال: هل حررت رقبتك من عبودية البشر؟ هل قهرت أغلال السعي عند سلطان الناس؟

1341

| 07 أغسطس 2022

وتبدأ الرحلة

في بداية مسيره، تتطور خطواته الأولى نحو الحياة، جاهلاً بما تحمله بطون الأيام من أثقال لا يقوى صبراً على تحملها، فيخطو خطوتين سريعتين كخطى البطريق ثم يقع، ويبدو مسروراً ضاحكاً على ما قام به من إنجاز، فتلمح السعادة تفيض من عينيه، ويطوق الفرح قلبه البريء، والسرور يغري لعابه كقطعة حلوى لامست فمه الصغير، والفخر يغمره نشوة وانتصاراً، بهذه الخطوات الصغيرة التافهة، التي قد لا تساوي شيئاً في عدّاد الإنجازات، فها هو قد حقق أول أحلامه، فعدسة أفكاره قد سلطت الضوء على ذلك الفعل البخس، فرأى في انعكاسه أفعال الأبطال، فترجمه إحساسه سعادة غالية، وصغر في عدسته وقوعه المتكرر، فتعلم أن المجد لا يأتي طيعاً ليناً، فنهض ليعاود الكرة. وترتفع الأيدي تصفق وتهلل لهذا الإنجاز، تحفز وتشجع، فلا يسع ذلك الصغير إلا أن يقوم ليحاول جاهداً أن يزيد من خطواته عله يحصل على مثل هذا الشعور بالثناء مرة أخرى، فطرة في نفس هذا الصغير، تشرق وتأفل وفق استجابة من حوله، مشهد يحاول الأساتذة ومدربو التنمية البشرية أن يغرسوه في تربة التعليم والتدريب. ما تزال الأسئلة تتقافز إلى عقل ذلك الإنسان الصغير، فالحياة بكل عواطفها وعنفوانها وحيويتها وزينتها كأنثى مغرية لعوب تغازل الفكر وتأسر الألباب، تتفجر تلك الأسئلة ثائرة حائرة كحيرة مقلتيه وهما يتقلبان في براح هذا العالم المغري بألوانه البارقة، ماعدا لونيه الأسود والرمادي، اللذين كان يمر عليهما مرور الكرام، غير مدرك بأنهما سيسودان فضاء كونه الرحب في يوم من الأيام، وينهمران كالمطر السحيق الذي يجرف في طريقه جميع الأطياف المزهرة، وما تبرح ذاكرته ترصد وتدون في اهتمام كل ما يقال ويحدث أمامه، تخزن في صمت مشاهد وحكايات، ستصنع لاحقاً أطراً ونصوصاً مقدسة أو مواثيق إلهية لشخصيته، فلا يسعفه في هذا الوقت سوى تقليد ما يحاكيه، حتى يشعر بتكيفه مع هذا العالم الغريب فيظهر أثر التقليد في أفعاله وسلوكه وحتى مشاعره، فحاله كحال الأرض الخصبة الندية تتلهف لاحتضان أنواع البذور بمذاقاتها ونكهاتها وأشكالها المختلفة، الحلوة والمرة، وروائحها الزكية والنتنة، وفوائدها الناجعة والخبيثة، فهي تتشرب الآن ما يريد صاحبها أن يجنيه منها لاحقاً، فتراه يحاكي من حوله علّه ينال رضاهم واستحسانهم، فيحصل على سعادة تتمطى داخل نفسه وتتجلى مهللة على محياه، فيشعر بأنه مرحب به، وأنه بذلك تخطى أسوار الغربة التي يشعر بها بينهم. وهو في ذلك ضعيف الحال، قانع بما يقدم له، فلم يكن يستوعب معنى الاحتجاج والرفض والجدال، فلم تعلمه الحياة بعد كيف يكون متطلباً نهماً لكل نعمها ومتاعها ومتعتها، فكان تابعاً مطيعاً، قد لانت قناته، حتى في أفكاره التي كانت تقتفي آثار غيره، وتركع خاشعة مستسلمة، تقدم فروض الولاء والطاعة والتسليم، أمام كل معتقد وقناعة، ولا يبخل الرسامون والنحاتون البارعون في نقش ونحت وتشكيل ذلك اللب الطيع الهين، فيتبارى الأهل والأصدقاء والجيران والمدرسة والمجتمع، كل يجاهد بجسارة في غزل نسيج أفكاره، بشتى أنواع المذاهب المزركشة، والمصدقات المطرزة، والاعتقادات المزخرفة، ويتسابق السقاة في سقي لبه بأنواع المدام، فيعاقر كؤوسها ومجالسها، فيطول به الأمد وهو على هذه الحال ثمل بما قال الندماء الأولون. ويتوالى الزمن، وهو لا يزال سكران يعربد بأفكاره البالية، حتى إذا ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، تكشفت له خيوط المؤامرة التي حيكت ضده دون أن يشعر، وأنه كان ابناً لخطيئة لم يقترفها، رافقته على مدى ليس بقليل من عمره، فتبدأ رحلة الكفاح في محاولة لإصلاح خرق الأفكار الرثة، والآراء المهلهلة، وعلاج صديد الفكر الذي انتجته دمامل العقل المتقيحة، ولا نعلم إن كانت جهوده ستكلل بالنجاح، أم أن صراع المجادلة بين الأفكار المتأصلة والحديثة سوف يطول حتى يقول كلمته. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه من يحمي العقول الرطبة من أسلاك المؤامرة الشائكة؟ ومن يوقف استمرار تلك الخطيئة الآثمة؟

973

| 31 يوليو 2022

alsharq
بائع متجول

يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن...

2415

| 26 سبتمبر 2025

alsharq
كبار في قفص الاتهام.. كلمة قطر أربكت المعادلات

في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو...

2379

| 25 سبتمبر 2025

alsharq
غياب المعرفة المالية عن الطلاب جريمة اقتصادية بحق الأجيال

في عالم اليوم المتسارع، أصبحت المعرفة المالية ليست...

2331

| 22 سبتمبر 2025

alsharq
قطر في الأمم المتحدة.. السيادة والإنسانية

يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودا ويخططون لاغتيال...

1041

| 24 سبتمبر 2025

alsharq
غزة.. حين ينهض العلم من بين الأنقاض

في قلب الدمار، حيث تختلط أصوات الأطفال بصفير...

906

| 23 سبتمبر 2025

alsharq
الأمير يكشف للعالم حقيقة الكيان الإسرائيلي

صاحب السمو أمام الأمم المتحدةخطـــــاب الثبـــــات علــى الحــــــق.....

846

| 24 سبتمبر 2025

alsharq
حضور فاعل للدبلوماسية القطرية

تعكس الأجندة الحافلة بالنشاط المكثف لوفد دولة قطر...

822

| 25 سبتمبر 2025

alsharq
1960.. أمّ الانقلابات في تركيا وإرث الوصاية العسكرية

بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى،...

756

| 22 سبتمبر 2025

alsharq
أهمية وعي المُستثمر بالتشريعات الناظمة للتداول

يُعدّ وعي المُستثمر بالقواعد والأحكام المنصوص عليها في...

729

| 21 سبتمبر 2025

alsharq
خطاب صريح أقوى من السلاح

• كلنا، مواطنين ومقيمين، والعالم يدرك مكانة قطر...

699

| 25 سبتمبر 2025

alsharq
ماذا يعني سقوط الفاشر السودانية بيد قوات الدعم السريع؟

بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون...

672

| 28 سبتمبر 2025

alsharq
الفن ضد الدمار

تواجه المجتمعات الخارجة من النزاعات المسلحة تحديات متعددة،...

606

| 26 سبتمبر 2025

أخبار محلية