رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في إجازة نهاية السنة زارت إحدى صديقاتي العربيات المهاجرة للدنمارك الدوحة لأول مرة وأُعجبت بل وقعت في غرام الدوحة ومرافقها وخدماتها وبنيتها التحتية ونظامها وأماكنها السياحية، وأشادت بالحكومة الرشيدة التي جعلت من قطر جنة الأرض، ناهيكَ عن السلام والأمان الذي شعرت به هي وعائلتها وهم يقومون بالجولات السياحية في الدوحة، ودعت الله ان يديم علينا الأمن والأمان والازدهار وأن يحفظ الله قطر من كل شر، ولكنها عبّرت عن مشاعر الاستياء عن عدم استخدام اللغة العربية في الأماكن العامة وأن اللغة الإنجليزية هي اللغة السائدة في التعاملات وقارنت ذلك مع الدنمارك حيث تعيش بأنهم يحرصون على التحدث بلغتهم وتعزيزها عند الأجيال الجديدة رغم تعلمهم اللغة الإنجليزية، كما لاحظت أن كثيرا من العائلات العربية والقطرية يتحدثون مع أبنائهم الصغار في الأماكن العامة باللغة الإنجليزية ويهملون العربية، وهذه الملاحظة ربما اغلبنا يلاحظها وسبق أن عبّرت عن استيائي عنها، فالأطفال يتحدثون لغة عربية ركيكة نتيجة التركيز على اللغة الإنجليزية أكثر، فهم يدرسون في مدارس أجنبية وفي البيت تعاملهم مع المربيات والأم كذلك بالإنجليزية مما ينشئ الطفل بعيدا عن اللغة العربية وما يتبعها من قيم ومبادئ أصيلة وإسلامية وعربية وهذا يتطلب جهدا أكثر من العائلة في غرس العادات والتقاليد الإسلامية.
ومما لا شك فيه أن اللغة العربية تواجه بعض التحديات التي قد تؤثر على انتشارها واستخدامها، فمثلاً استخدام اللغات الأجنبية في مجالات التعليم، التكنولوجيا، ووسائل التواصل الاجتماعي بالتأكيد يؤدي إلى تقليل الاعتماد على اللغة العربية، ويعد النزعة إلى اللهجات المحلية واستخدامها بشكل متزايد، خاصة في وسائل الإعلام الاجتماعية والترفيه، قد يؤثر على الفصحى، مما يُعرّض الفصحى إلى التهميش، وللتعليم في بعض البلدان، دور مهم وذلك لعدم تدريس اللغة العربية بشكل كافٍ، مما يؤدي إلى تراجع مهارات القراءة والكتابة لدى الأجيال الجديدة، كما ساهم انتشار العولمة في نشر ثقافات ولغات أخرى، مما قد يؤدي إلى تآكل الثقافات واللغات المحلية بما في ذلك العربية، وقلة المحتوى العربي المتميز على الإنترنت مقارنة باللغات الأخرى قد يؤثر على جذب الشباب لاستخدام العربية، بالرغم من انتشار اللغة العربية والتي يتحدث بها أكثر من 400 مليون شخص في جميع أنحاء العالم باعتبارها لغة القرآن الكريم، وتعتبر الفصحى اللغة الرسمية المستخدمة في الإعلام والتعليم والأدب، بينما تعبر اللهجات المحلية عن الفخر بالتراث الثقافي لكل منطقة، فهذا التنوع يعكس أساليب الحياة والعادات والتقاليد، وكل ذلك يجسد غنى الثقافة العربية.
وتلعب اللغة العربية أيضًا دورًا هامًا في الأدب والفنون، فقد أبدع الأدباء والشعراء العرب في شتى العصور، معبرين عن مشاعرهم وأفكارهم باستخدام جمالية اللغة العربية، من الجاحظ إلى نزار قباني، وأحدث الأدب العربي تأثيرًا كبيرًا على الثقافة العالمية، إذ يمتاز بأسلوبه الفريد وبلاغته، مما جعله محط اهتمام لدراسات الأدب في جميع أنحاء العالم.
وفي عصر التكنولوجيا الحديثة، لا يمكن إغفال أهمية اللغة العربية في العالم الرقمي أيضًا، فإن زيادة المحتوى العربي على الإنترنت وتوافر منصات التعليم الإلكتروني باللغة العربية يعمل على جعل المعرفة متاحة للجميع، كما أن وجود المبادرات التي تعزز تعلم اللغة العربية عبر الانترنت، يساهم في الحفاظ عليها وتعزيز استخدامها.
وتولي دولة قطر اهتماما كبيراً باللغة العربية، حيث تعتبر اللغة العربية جزءا أساسيا من هويتها الثقافية والوطنية، ويظهر اهتمامها في التعليم، حيث يتم تدريس اللغة العربية في جميع مستويات التعليم الحكومي، من المدارس الابتدائية إلى الجامعات، كما تتوفر برامج تعليمية خاصة لتعزيز اللغة العربية وآدابها، كما تأسست العديد من المؤسسات والهيئات الثقافية في قطر لتعزيز اللغة العربية، حيث تُعقد فعاليات وورش عمل ومحاضرات تروج للغة، وتشجع دولة قطر على تعلم اللغة العربية بالمسابقات والجوائز حيث تنظم مسابقات أدبية مثل مسابقات الشعر والكتابة باللغة العربية، وكذلك تُقدم جوائز لتشجيع الأدباء والكتاب العرب، وتحرص الدولة على تنظيم الفعاليات الثقافية ومعرض الكتاب التي تركز على الثقافة العربية، مثل مهرجان «كتارا للرواية العربية» ومهرجان «الدوحة للكتاب».
ويبقى دور الأسرة هو الأهم في المحافظة على اللغة العربية، فالجهود يجيب أن تكون مشتركة بين الافراد والمجتمعات والحكومات، وتعليم الأبناء اللغة العربية يجب أن يولي اهتماما أكبر من الأهل كما يمكن أن تلزم وزارة التربية والتعليم العالي المدارس الخاصة بزيادة حصص اللغة العربية والشرعية لينشأ الطلاب أكثر وعياً بدينهم وتمسكاً بتعاليم دينهم ولغتهم العربية، وأن يحرص الأهالي على مخاطبة أبنائهم باللغة العربية ويبتعدوا عن اللغات الاجنبية التي يمكن أن تكون مقتصرة على وقت الدراسة أو عندما يحتاجون التواصل فيها مع جنسيات غير عربية.
اللغة العربية ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي سيدة في عالم المعاني والألوان الثقافية، إن المحافظة على هذه اللغة وتعزيز استخدامها تعد واجبًا جماعيًا لضمان استمرار الهوية العربية وتطور الثقافة في عالم متغير. إذ تبقى اللغة العربية رمزًا للكرامة والقيم الإنسانية، مما يجعلها أحد أهم المكونات التي يجب أن تحافظ عليها المجتمعات العربية. تَعّلم اللغات الأجنبية مهم جداً ويفتح آفاقاً أكثر ولكن لا خير فيمن يجهل لغته الأصلية وهويته العربية ويتمسك بلغة وثقافة دخيلة عليه.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
[email protected]
@amalabdulmalik
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6294
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3768
| 21 أكتوبر 2025