رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. سلوى حامد الملا

[email protected]

@salwaalmulla

مساحة إعلانية

مقالات

408

د. سلوى حامد الملا

وجوه صامتة

30 أكتوبر 2025 , 05:15ص

• ما معنى أن يعم الهدوء كل الأرجاء والوجوه؟ وما معنى ان تصادف إنسانا يلتزم الصمت في معظم الاوقات ومع الجميع؟ ثمة وجوه صامتة بملامحها مهما نطقت، وأعين تقول ما تعجز الكلمات عنه. وثمة حديث عابر يفتقد الحرارة والعمق، يقابله صمت ناطق يعبر باللمحة والنظرة وانسجام الملامح مع ما يختلج في النفس.

• نوع من الوجوه يرفض الاقنعة الجامدة والمشاعر السلبية التي نرتديها احيانا. وجوه تبلغ ذروة الجمال الانساني وهي ساكنة متأملة بعيدا. فالانسان يحتاج في احيان كثيرة الى لحظات صمت بينه وبين ذاته، يراجع فيها نفسه، يرتب اوراقه، يقيم ويقوم. هنا يضيء الصمت طريقا خفيا للسلام الداخلي، ويصنع مسافة صغيرة نرى منها الاشياء اوضح ونختار كلماتنا بعناية اكبر.

• وهناك.. مشاعر صامتة متبلدة، باردة كشتاء قارس، لا يحركها موقف ولا كلمة ولا دمعة ولا احساس!. صمت ثقيل كتمثال نحركه ونحدق فيه من دون اكتراث. 

• وهناك..صمت صحي نابض بالحياة، صمت يمنح النفس فرصة للتنفس وجمع الشظايا، صمت يعيد ترتيب الفوضى بلطف، ويوقظ فينا القدرة على الاصغاء لانفسنا والى من نحب.

• تتجول في المدينة نهارا فلا تجد للصمت حيزا مع ضجيج الحركة الذي يغطي كل معنى للهدوء. للنهار ايقاعه الساعي نحو الاهداف. ومع الغروب وارتداء السماء رداءها الاسود يتجلى معنى الصمت بهدوء الليل وسكونه وتناغم حركة الاحياء فيه، كأنها لوحة فنية تعبر بالالوان والوجوه والظلال. في هذا السكون تبدأ الافكار بالنضج، وتخرج الحلول من مخابئها، ويصير القلب اقدر على التسامح.

• وفي زمن يضج بالضوضاء، وتتعالى فيه اصوات المنصات حتى ضاعت معاني الانصات والحوار، يغدو الصمت خيار الحكماء: استراحة واعية تحفظ راحة النفس وسلامة الروح من مجاراة اشكال من البشر لا جدوى من مجالستهم. صمت لا يهرب بل يختار، يضع حدودا ناعمة، ويعيد للكلمة قيمتها حين تقال، وللجلسة معناها حين تثمر.

• ومن اجمل اشكال الصمت المؤقت.. ذلك الصمت المطبق في قاعة الامتحان. الممتحنون منكبون على الاجابة، والصمت يغلف المكان. تسمع نغما خفيا من احتكاك القلم بالورق، وخطوات بطيئة للمراقبين ذهابا وايابا. هكذا يعمل الصمت كحاضنة للتركيز، يفتح مساحة ليتقدم الجهد في هدوء ويثمر.

• ونفتقد ساعات من الصمت في لحظات الحزن وفقد الاحبة. صار بعض العزاء اشبه بملتقى صاخب: احاديث متقاطعة ومجاملات طويلة وعيون تشتت عن الدعاء. والحال ان العزاء لحظة رحمة واصغاء؛ فسحة هدوء يخف فيها الكلام ويكثر فيها الدعاء والذكر، وكتف يواسي لا مجلس يستعرض. الصمت هنا ادب وحرمة، يمنح المكلوم حق دمعة لا تستعجل، ويمنح الراحل نصيبه من الدعاء.

• وللصمت وجه مخيف ايضا. صمت رهيب موحش قاتل، تشعر به في الجدران والاثاث والوجوه. صمت يقيم في دور رعاية المسنين مثلا، حيث يترقب المقيمون حركة باب لعلهم يلمحون طيفا لانسان يشعر بهم وبقيمتهم. هناك يطلب الصمت كلمة مواساة ودعاء صادقا ويدا حانية تكسر وحدته. وهنا تتجلى قيمة الصمت الاخلاقي: ان نصغي للمهمشين، ان نكون الصوت الذي يدفئ الفراغ، وان نحول السكون البارد الى طمأنينة مشتركة.

• ولا ندرك نعمة الصمت وعمقه الا حين نجالس ثرثارا لا يترك مجالا لغيره، يمل الحضور بما يظنه عالما بكل شيء. عندها نفهم ان الصمت ادب ومعرفة بموضع الكلمة. فالصمت ليس هروبا من الحوار، بل احترام لوزن الكلمة واثرها. بالصمت نتعلم الاصغاء، وبالاصغاء نرى الانسان كاملا، ونبني جسورا اصدق.

• حديث الصمت له شجون. قد يكون حديث قلم على ورق، او حديث عيون، او حديث ارواح تتلاقى قبل ان تنطق بحرف. الصمت زينة للنساء والرجال على السواء، تحفظ به الكرامة وتعز به المكانة. وهو ايضا طاقة ايجابية تزرع التركيز، وتوقظ الابداع، وتمنح القلب فرصة للشفاء، وتعلمنا ان نرد الجميل بعمل لا بضجيج.

• لنمنح الصمت مكانه العادل في يومنا. دقيقة هدوء قبل قرار، لحظة اصغاء قبل حكم، فسحة تأمل قبل كلمة. من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليقل خيرا او ليصمت. بالصمت ينبت الخير، وبالكلمة الطيبة يزهر الاثر.

• آخر جرة قلم: لا يعني الصمت اطالة زمنه ولا الانسحاب من دفء الناس وأحاديثهم اللطيفة والراقية. اللقاءات الحميمة والصداقات الحقيقية، والفضفضة اللطيفة، والاحاديث الايجابية ذات المعنى والقيمة، بل وحتى تلك الاحاديث العادية حين تصدر من قلوب مطمئنة، كلها تمنح الروح حياة وتضيف للقاء فنا في الاستمتاع بالاجتماع. فكما يرممنا الصمت، تعيدنا الكلمة الطيبة الى بعضنا، ويكتمل التوازن بين هدوء النفس وود الناس..

مساحة إعلانية