رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
شهدت أمريكا ومنطقتنا الخليجية تغيرات وتحولات عديدة بالمقارنة بين رئاسته الأولى (2017-2021)- وبدء رئاسته الثانية اليوم. يعود ترامب إلى البيت الأبيض في رئاسة ثانية وأخيرة، لواقع مختلف. عشنا حربا باردة منهكة في إدارة ترامب الأولى بين ضفتي الخليج، بعد قطع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران وتخفيض التمثيل الدبلوماسي بين دول مجلس التعاون الخليجي وايران تضامنا مع السعودية بعد الاعتداء على السفارة السعودية والقنصلية السعودية العامة في مشهد في يناير 2016. ولم يُمارس الرئيس ترامب وإدارته الدور القيادي والحيادي في حل الأزمة الخليجية (2017-2021) وغادر ترامب البيت الأبيض دون حل الأزمة الخليجية.
كما سمح انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي مع إيران الذي توصلت إليه إدارة الرئيس الأسبق أوباما مع القوى الكبرى (5+1) عام 2015 في مايو 2018 بتحريض من نتنياهو، لإيران بخرق بنود الاتفاق النووي ورفع نسبة تخصيب اليورانيوم من 3.67% إلى 60% والأخطر اتقان الدورة النووية. ما يضع إيران على اعتاب الدولة النووية.
لكن أكثر ما أثار القلق والتساؤلات الخليجية المشروعة كان عدم تصدي ترامب للتصعيد الإيراني والاعتداءات المتكررة على ناقلات النفط الخليجية وأمن الملاحة والطاقة. والأخطر عدم ردع إيران كما كان يؤمل بعد الاعتداءات بصواريخ بالستية ومسيرات إيرانية الصنع على منشآت أرامكو في ابقيق وخريص في السعودية في سبتمبر 2019. ترامب لم يقم بأي عمل يردع إيران برغم اعتداءاتها المتكررة وتهديد أمن الطاقة. ما شكّل نقطة تحول كبيرة أيقنت دول المجلس بأن خيار الاعتماد الكلي على الولايات المتحدة لن يقلص انكشافها الأمني. لذلك بدأ التفكير بتنويع الخيارات الأمنية، لكن تبقى الخيارات الخليجية العملية محدودة.
وشكل اغتيال ترامب لقاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني في مطار بغداد مطلع يناير 2020، نقطة تصعيد وتحول فارقة في مواجهة إيران مع الولايات المتحدة وإدارة ترامب خاصة.
وأشرف ترامب على اتفاق ابراهام وإقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل ودولة الإمارات ومملكة البحرين. وليتوسع التطبيع ليضم السودان والمغرب ضمن صفقة القرن وتعويم إسرائيل في المنطقة.
كما وضع الرئيس ترامب في آخر أيام رئاسته الأولى جماعة «أنصار الله» «الحوثيون» على قائمة المنظمات الأجنبية الإرهابية. ليلغي التصنيف الرئيس بايدن بحجة الحاجة لإرسال مساعدات إنسانية إلى اليمن. ليعود الرئيس ترامب في أيامه الأولى في البيت الأبيض، بإعادة وضع الحوثيين في قائمة «المنظمات الإرهابية الأجنبية» مجدداً.
واليوم مع عودة ترامب بثقة وقوة وتفويض وبخبرة أكبر وتصميم على الانتقام من الدولة العميقة التي حاصرته وأذلته وتآمرت ضده وسرقت الانتخابات منه (كما يؤمن ويروج)، ومع تغير كبير في المنطقة مع طوفان الأقصى وتوجيه إسرائيل ضربات مؤلمة لإيران مرتين. وأنهكت واستنزفت أذرعها «حماس في غزة وحزب الله في لبنان» واغتالت قياداتها العسكريين والسياسيين «السنوار في غزة ونصر الله في لبنان وهنية في إيران». وكانت ضربة انتكاسات إيران وأذرعها بسقوط نظام الأسد وانتقال سوريا ولبنان من معسكر إيران ومحور المقاومة والممانعة إلى الحضن العربي على ما نراه بزيارات متكررة من السعودية والكويت (ترأس حاليا القمة الخليجية) ومجلس التعاون الخليجي والأردن وانتخاب رئيس لبناني يحصر السلاح بالجيش، تزامن ذلك كله مع انتخاب ترامب مجدداً.
كما يشكّل التوافق بين دول مجلس التعاون الخليجي والمصالحة الخليجية الخليجية منذ عام 2021 تحولا مهما في العلاقات الخليجية-الخليجية يساهم بالتعاون والتنسيق. وكذلك شكلت المصالحة السعودية الإيرانية بوساطة صينية منذ مارس2023 نقطة تحول مهمة للتهدئة والتعايش بين ضفتي الخليج العربي.
تشكّل سياسات الرئيس ترامب بالضغط على الدول الخليجية لضخ المزيد من الاستثمارات الخليجية في السوق الأمريكي والضغط لخفض أسعار النفط وزيادة انتاج النفط الأحفوري والصخري تحديا حقيقيا لدولنا الخليجية.
لكن هناك خشية تداعيات ضغوط إدارة ترامب الثانية على الاقتصاد الخليجي، خاصة بعد الانسحاب للمرة الثانية من اتفاقية باريس للمناخ بعد انسحابه في إدارته الأولى وعودة إدارة بايدن، ثم انسحابه مجدداً. وكذلك إعلان ترامب حالة الطوارئ في قطاع الطاقة (نفط وغاز) والسماح بتكثيف التنقيب عن النفط والغاز في مناهضة للبيئة لزيادة انتاج النفط والغاز المسال. ويرى ترامب أن الضغط على دول أوبيك بلس لخفض أسعار النفط، سيسرع بوقف حرب روسيا على أوكرانيا، وخفض أسعار النفط سيخفض أسعار الفائدة حول العالم.
ويهدد ترامب بفرض رسوم وضرائب على المنتجات والواردات الصينية وحتى على منتجات الحلفاء: كندا ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا. ما يهدد بحرب تجارية خاصة مع الصين المستورد الأول للطاقة من الدول الخليجية. والواقع ستؤثر سياسات ترامب سلبا على انتاج المصانع الصينية، ويؤدي لتباطؤ الاقتصاد العالمي، وتراجع الطلب على الطاقة (نفط وغاز خليجي وإيراني) وبالتالي ستتضرر مداخيل الحلفاء الخليجيين.
هناك تفاؤل بأن سعي الرئيس ترامب برفض ضغوط نتنياهو بالتصعيد ضد إيران، وتوسيع دائرة التطبيع العربي مع إسرائيل، يمهد الأجواء لنجاح ترامب بصناعة السلام كما تعهد في خطاب تنصيبه. وهذا يؤهله ليحقق حلمه بالفوز بجائزة نوبل للسلام ليختم بها حياته السياسية.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تويتر @docshayji
@docshyji
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
 
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6621
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6483
| 24 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2646
| 28 أكتوبر 2025
