رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ٲوقفت سيارتها الفارهة جوار مدرسة ابنها .. وظلت بالسيارة تراقب الشارع وبوابة المدرسة... علها تجد من تحمّله ٳفطار ابنها
.. لم تنتظر طويلا.. !! فهذا تلميذ يسرع الخطي نحو المدرسة.. هو تقريبا في عمر ابنها.. نادته ..
تردد هو .!! لكن تكرارها للنداء جعله يستجيب ويذهب ٳليها..!!
تٲملته ..!! وتٲملت فقره البائن من ملابسه وحذائه وحقيبة كتبه المهترئة.. !!
سٲلته عن اسمه وعن صفه.. !! وعما كان يعرف ابنها ..
ولحسن حظها ٲنه يعرف ابنها ..
ٲعطته ٳفطار ابنها.. وهددته بالعقاب ٳذا تذوقه ٲو حتى نظر ٳليه ..!!
حمل التلميذ الإفطار وهرول للمدرسة..
وفي فناء المدرسة كان هناك ٲستاذ ٲحمد يعاقب التلاميذ المتٲخرين عن الطابور.. !!
نادى عليه ٲستاذ ٲحمد.. وٲخذ منه الإفطار وٲخبره ٲنه سيوصله.. !!
ثم عاقبه وسمح له بدخول الفصل.. !!
وفي فسحة الفطور ذهب التلميذ صاحب الفطور لأحد المعلمين وطلب منه الاتصال بوالدته وٳخبارها ٲنه ينتظرها لتٲتيه بٳفطاره.. !!
ذهلت الوالدة وٲخبرت الأستاذ بالتلميذ الذي كلفته بٳيصال الإفطار لابنها..!!
ثم اتصلت بالمدير وٲخبرته.. !!
استدعي المدير التلميذ وبدٲ تعنيفه وتوبيخه.. وتوعده بٲشد العقاب ..
وسأله عن الإفطار.. ولماذا لم يوصله لصاحبه.. !!
سأل المدير هذه الأسئلة مراراً.. والتلميذ لا يجيب إلا بدمعات تسللت من عينيه الصغيرتين.. !!
كأنه رأى أن صمته خير له.. !!
صمت لكنه كسر صمته بعد الضغوطات وبعض الضربات ..!!
قال لهم إنه أكل الإفطار..!!
قال هذا ودمعه انسكب بغزارة ..!!!
لكن ترى لماذا لم يخبرهم أن أستاذ أحمد أخذ منه الإفطار ..!!
أتراه كان خائفاً.. !!
أم نسي من هول الموقف..!!!
كان أستاذ أحمد قد وضع الإفطار في مكتبه.. ثم خرج من المدرسة لشأن يخصه.. ونسي أمر الإفطار تماما ..!!
وعاد في فسحة الإفطار ..
أخبره أحد التلاميذ بالذي حدث.. !!
فأسرع إلى مكتب المدير الذي وجده مكتظاً
بالمعلمين.. ومعهم والدة التلميذ صاحب الإفطار..
وكان المدير يهم بضرب ومعاقبة التلميذ الذي أرقدوه على بطنه على مكتب المدير.. !!
ذهب أستاذ أحمد مباشرة للمدير وأستوقفه ثم أخبره أن الإفطار معه..
وظن الحاضرون أنه يريد معالجة الموقف.. لكنه أكد كلامه ونادى لأحد التلاميذ وأمره بإحضار الإفطار من مكتبه.. !!
ثم أنزل التلميذ من على المكتب.. وسأله لِمَ لمْ تخبرهم أن الإفطار معي.. ولماذا قلت إنك أكلته وأنت لم تفعل ذلك.. !!!
فكانت إجابته كالصاعقة على الحاضرين وأصابتهم بالدهشة ..!!!
وسال دمع بعضهم ..!!!
وجعلت المدير يبكي بصوت مسموع رغم اجتهاده في إخفاء ذلك.. !!!
قال التلميذ مجيباً على أسئلة أستاذ أحمد:
يا أستاذ.. (أحسن يقولوا أكلتو أنا ولا يقولوا أكلو الأستاذ)..!
كاد المعلم أن يكون رسولاً
هذه الحكاية حدثت في إحدى بقاع وطننا العربي ومن هذا الطفل الذي لم يدخل إلى معترك الحياة بعد، وتدل هذه الحكاية على أن مكانة المعلم محفوظة منذ الفطرة وتنتظر من يجعلها واقعاً لكل فئات المجتمع والمسؤولين عن العملية التعليمية وأصحاب القرار لوضع هذا المعلم في مكانته الطبيعية وتوقيره وحفظ حقوقه التي اعتراها الزمن وقذفت به إلى شواطئ خضم الحياة الصعبة والركض وراء المعيشة، ويحكي هذا الموقف من الطفل البائس الفقير بأن مكانة المعلم لازالت والحمد لله محفوظة في نفوس الكثيرين من تلاميذ وأولياء أمور ولكن هل التقدير وتعزيز دوره لا زال موجوداً في نفوسنا، لابد أن نسمو ونضع أساتذتنا ومعلمينا في المكانة التي يجب أن يكونوا فيها كما علمنا ديننا الحنيف ولن تصلح مجتمعاتنا وترتقي إلا بوضع المعلم في مكانه الصحيح واللائق بالرسالة التي يقوم بتوصيلها لإصلاحنا وإصلاح مجتمعاتنا، ولم أجد بيتا للشعر أو تعبيراً أجمل من قول شاعرنا الفذ أحمد شوقي عندما قال: (قم للمعلم وفه التبجيلا … كاد المعلم أن يكون رسولا)، فعلاً المعلم يصل إلى مكانة الرسول ولكن بتكليف من المجتمع وقدراً من المولى عز وجل، وقد وضع ديننا الإسلامي المعلم في مكانه الصحيح الذي من المفترض أن يضعه مجتمعاتنا فيه، قال تعالى : “أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ” [الزمر: 9]
وقال صلى الله عليه وسلم متحدثا عن نفسه: ( إِن الله لم يبعثني مُعْنِتا ولا مُتَعَنِّتا ولكن بعثني مُعَلِّما مُيَسِّرا).
مكانة المعلم في مجتمعاتنا
العلم والتربية أساس كل حضارة وعمران: عباد الله كلنا نردد مقولة “العلم نور” وهي المقولة لم تأتِ من عبث، فالعلم هو النور الذي ينير الدرب أمام البشرية لتسير في طريق التقدم والازدهار، وهو النور الذي ينير عقل البشر ليخرجوا من ظلمات الجهل، فلولا العلم لبقيت حياة الإنسان بدائية قريبة من عيش الحيوانات العجماوات، وإنه لا يمكن لأمة أن ترتقي إذا لم يكن عندها تعليم راق، وإذا لم تستثمر في ذلك استثمارا حقيقيا.
المعلم هو أساس الحياة
المعلم والمربي الحكيم هو أساس التعليم والتربية
إذا كان للتعليم تلك المكانة والمزية، فإنه لا يكون هناك تعليم جيد دون وجود معلمين مخلصين ومؤهلين، فالمعلم هو أحد عديد العوامل التي تؤدي لنجاح منظومة التربية والتكوين، فهو يساعد التلاميذ على التفكير النقدي، والتعامل مع المعلومة، ويعلمهم القيم والأخلاق، ويهذّب طباعهم ويجعلهم أكثر إيجابية في هذه الحياة، وبالتالي فإنه يخلق مجتمعاً واعياً ومواكباً لكلّ ما هو جديد..
إن المعلم من أسمى وأنبل الأشخاص في هذا العالم، لدوره العظيم الذي يقوم به في المجتمع، بحيث إنّ دوره لا يقلّ أبداً عن دور المهنيين الآخرين كالأطباء، والمهندسين، والصيادلة وغيرهم، بل على العكس فإنّه لولا المعلم لما كانت المعرفة لتصل إليهم حتى يصبحوا على ما هم عليه الآن.
كسرة أخيرة
رسالتي التي أود أن أحملها لمجتمعنا بأن هذا التلميذ البائس عرف قيمة الأستاذ ومكانته لدى الناس ولا يريد أن يشوه هذه الصورة الجميلة...
أما آن الأوان لمؤسساتنا التعليمية أن ترتقي إلى مستوى هذا التقدير العفوي الطفولي وترفع من قدر المعلم وسط المجتمع بدلاً من معاملته كموظف عادي وتستقطع منه العلاوات والبدلات وتصعّب عليه مجابهة غلاء المعيشة، بل أطالب من خلال رسالتي هذه بتكريم المتقاعدين والمتقاعدات من المعلمين تكريماً لما قدموه لهذا المجتمع وتخريجهم أجيالا من أبنائنا الفاعلين في هذا المجتمع والذين ساهموا في بناء هذا الوطن الغالي..
التحية والتقدير لأساتذتنا الأجلاء
الكاتبة الصحفية والخبيرة التربوية
إن تأملت حوادث التاريخ، ستجدها تتكرر بنفس السيناريوهات تقريباً، أو أحياناً بشكل تكاد تكون طبق الأصل من بعضها... اقرأ المزيد
312
| 02 أكتوبر 2025
اعذروني ولكني أبدو متخوفة جدا من خطة ترامب بشأن غزة حتى وإن مالت الدول العربية ودول العالم ككل... اقرأ المزيد
180
| 02 أكتوبر 2025
في قطر، كما في غيرها من مجتمعات الخليج، لم تكن الهوية يوماً مجرد رواية موروثة، بل كانت دومًا... اقرأ المزيد
162
| 02 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
5916
| 26 سبتمبر 2025
في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله مشهدا سياسيا قلب المعادلات، الكلمة التي ألقاها سموه لم تكن خطابًا بروتوكوليًا يضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة المكدّس، بل كانت كمن يفتح نافذة في قاعة خانقة. قطر لم تطرح نفسها كقوة تبحث عن مكان على الخريطة؛ بل كصوت يذكّر العالم أن الصِغَر في المساحة لا يعني الصِغَر في التأثير. في لحظة، تحوّل المنبر الأممي من مجرد منصة للوعود المكررة والخطابات المعلبة إلى ساحة مواجهة ناعمة: كلمات صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وضعتهم في قفص الاتهام دون أن تمنحهم شرف ذكر أسمائهم. يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودًا ويخططون لاغتيال أعضائها.. اللغة العربية تعرف قوة الضمير، خصوصًا الضمير المستتر الذي لا يُذكر لفظًا لكنه يُفهم معنى. في خطاب الأمير الضمير هنا مستتر كالذي يختبئ خلف الأحداث، يحرّكها في الخفاء، لكنه لا يجرؤ على الظهور علنًا. استخدام هذا الأسلوب لم يكن محض صدفة لغوية، بل ذكاء سياسي وبلاغي رفيع ؛ إذ جعل كل مستمع يربط الجملة مباشرة بالفاعل الحقيقي في ذهنه من دون أن يحتاج إلى تسميته. ذكاء سياسي ولغوي في آن واحد».... هذا الاستخدام ليس صدفة لغوية، بل استراتيجية بلاغية. في الخطاب السياسي، التسمية المباشرة قد تفتح باب الردّ والجدل، بينما ضمير الغائب يُربك الخصم أكثر لأنه يجعله يتساءل: هل يقصدني وحدي؟ أم يقصد غيري معي؟ إنّه كالسهم الذي ينطلق في القاعة فيصيب أكثر من صدر. محكمة علنية بلا أسماء: لقد حول الأمير خطابًا قصيرًا إلى محكمة علنية بلا أسماء، لكنها محكمة يعرف الجميع من هم المتهمون فيها. وهنا تتجلى العبارة الأبلغ، أن الضمير المستتر في النص كان أبلغ حضورًا من أي تصريح مباشر. العالم في مرآة قطر: في النهاية، لم يكن ضمير المستتر في خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله - مجرد أداة لغوية؛ بل كان سلاحًا سياسيًا صامتًا، أشد وقعًا من الضجيج. لقد أجبر العالم على أن يرى نفسه في مرآة قطر. وما بين الغياب والحضور، تجلت الحقيقة أن القيمة تُقاس بجرأة الموقف لا باتساع الأرض، وأن الكلمة حين تُصاغ بذكاء قادرة على أن تهز أركان السياسات الدولية كما تعجز عنها جيوش كاملة. فالمخاطَب يكتشف أن المرآة وُضعت أمامه من دون أن يُذكر اسمه. تلك هي براعة السياسة: أن تُدين خصمك من دون أن تمنحه شرف الذكر.
5595
| 25 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4470
| 29 سبتمبر 2025