رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

فاطمة بنت يوسف الغزال

  [email protected]

مساحة إعلانية

مقالات

315

فاطمة بنت يوسف الغزال

الأب القائد: بين القرب الملهم والغياب المؤثر

06 أغسطس 2025 , 12:00ص

في عالم القيادة تبرز عبارة خبير القيادة العالمي جون سي ماكسويل: (عليك أن تكون قريبًا بما يكفي لتتواصل مع الناس، لكن بعيدًا بما يكفي لتلهمهم)، هذه العبارة، رغم أنها وُلدت في سياق القيادة الإدارية، إلا أنها تنسحب بعمق على أحد أكثر الأدوار حساسية وتأثيرًا في الحياة دور الأب في الأسرة.

الأب… حضور يتجاوز الجدران

في كثير من البيوت، يبدو الأب وكأنه بعيد عن التفاصيل اليومية، منشغلٌ بعمله أو مسؤولياته. لكن هذا البُعد لا يعني الغياب، فالأب وإن لم يكن حاضراً جسدياً طوال الوقت، إلا أن تأثيره يظهر في اللحظات المفصلية:حين يُستشار في قرار تربوي مهم، حين يتدخل لحسم خلاف بين الأبناء، حين يُعبّر عن رأيه في مسار تعليمي أو سلوكي.

هذا النوع من الحضور يُشبه إلى حد كبير ما يسميه ماكسويل بـ»القيادة الملهمة»: أن تكون بعيدًا بما يكفي لتُرى من زاوية عليا، لكن قريباً بما يكفي لتُحدث فرقاً.

هيبة في الغياب… ووزن في الكلمة

في دراسة تربوية نُشرت في مجلة (Parenting Science)، وُجد أن تدخل الأب في لحظات محددة يحمل تأثيراً مضاعفاً على الأبناء مقارنة بالتوجيهات اليومية المتكررة، فكلمة الأب، حين تأتي في توقيتها المناسب، تُحدث أثراً نفسياً وسلوكياً يفوق التوقعات. وهذا ما يُفسر لماذا يُنظر إلى الأب غالباً كـ»صمام أمان» في الأسرة، أما الأم، بحكم قربها اليومي، تمثل الحنان والرعاية، لكن الأب يمثل الهيبة والتوجيه الاستراتيجي، وهذا التوازن هو ما يمنح الأسرة استقرارها العاطفي والتربوي.

القيادة الأسرية… فن التوازن

جون ماكسويل يرفض فكرة القائد المتسلط أو المنعزل، بل يدعو إلى قيادة متوازنة، تُراعي القرب الإنساني دون أن تُفقد القائد مكانته، وهذا بالضبط ما يحتاجه الأب في بيته: أن يُصغي دون أن يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، أن يُشعر أبناءه بالأمان دون أن يُغرقهم بالحماية الزائدة، وأن يُلهمهم من خلال القدوة، لا من خلال الأوامر، في هذا السياق، يقول المفكر التربوي «د. عبد الكريم بكار: (الأب الناجح هو من يُشعر أبناءه بأنه موجود دائمًا، حتى لو لم يكن حاضراً جسدياً).

دروس من قلب الأسرة

الأسرة، كما يراها كثير من علماء النفس، هي أول مدرسة للقيادة وفيها يتعلم الأبناء مفاهيم عديدة مثل: احترام السلطة دون خوف، اتخاذ القرار بحكمة، التوازن بين العاطفة والعقل، والأب، حين يُجيد لعب دوره القيادي، يُرسخ هذه المفاهيم دون أن يُلقي محاضرات، يكفي أن يروا كيف يتصرف، كيف يُعالج المواقف، وكيف يُعبّر عن رأيه.

نموذج يعقوب عليه السلام

في قصة نبي الله يعقوب عليه السلام، نرى كيف كان قريبًا من أبنائه، يستمع إليهم، ويشاركهم مشاعرهم، لكنه في الوقت ذاته كان قائدًا حكيمًا: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾.

سورة يوسف الآية: (5)، يعقوب هنا يتدخل في الوقت المناسب، ويوجه ابنه يوسف بحكمة، دون أن يفرض أو يبالغ في الحماية، وفي لحظة أخرى، حين طلب منه أبناؤه أن يأخذوا يوسف معهم، نراه يتردد، لكنه لا يمنعهم تمامًا، بل يوازن بين الحذر والثقة:﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾.

سورة يوسف الآية (13)، هذا التوازن بين القرب العاطفي والقيادة الحكيمة هو جوهر القيادة الأسرية التي تحدث عنها ماكسويل.

ولنا في رسول الله ﷺ قدوة حسنة 

النبي محمد ﷺ كان نموذجا فريدا في القيادة الأسرية، فقد جمع بين اللين والحزم، وبين القرب من الأبناء والتوجيه الراشد، كان النبي ﷺ يحمل الحسن والحسين، ويُقبلهما، ويُشعرهما بالحب، حتى قال أحد الصحابة متعجبًا: (إن لي عشرة من الولد ما قبّلتُ أحدًا منهم)، فقال النبي ﷺ: (من لا يَرحم لا يُرحم)، هذا القرب العاطفي لا يُضعف القيادة، بل يعززها، ويُرسخ الثقة بين الأب وأبنائه.

كسرة أخيرة

في زمن تتداخل فيه الأدوار الأسرية، وتزداد فيه التحديات التربوية، يبقى على الأب أن يستحضر نموذج القيادة الذي رسمه ماكسويل: (كن قريبًا لتفهم… وبعيدًا لتؤثر)، فالأب ليس مجرد مُعيل، بل هو قائد تربوي، يُلهم أبناءه من خلال حضوره الرمزي، وتدخله الحكيم، وكلمته التي تأتي في الوقت المناسب.

 

مساحة إعلانية