رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

رمضان 1436 alsharq
القرضاوي: المعايرجي كان مدرساً محبباً إلى تلاميذه لانفتاح شخصيته

الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة الـــ29 إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. في هذه الحلقة يتحدث الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي عن الدكتور حسن المعايرجي، وعبد العزيز الرنتيسي، والدكتور عبد الله شحاتة: الدكتور حسن المعايرجيعاشق القرآن(ت: 1429هـ = 2008م)انتقل إلى جوار ربه في الأربعاء 29 محرم 1429هـ، الموافق 6 فبراير 2008م، رجل العلم والتربية والدعوة والعمل في سبيل الله، والغيرة على القرآن، الدكتور حسن المعايرجي رحمه الله رحمة واسعة، وتقبله في الصالحين، وأسكنه الفردوس الأعلى، مع الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، وهو اليوم نفسه الذي مات فيه العالم الجليل الدكتور بكر أبو زيد، عضو هيئة كبار العلماء السعودية، وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.وقد جاء المعايرجي - هو مصري الجنسية - إلى قطر منذ أكثر من نصف قرن، وعمل بوزارة التربية، ثم بالجامعة، ثم أصيب بالشلل، وفقد الاتصال بما حوله، ومن حوله، منذ سنوات، حتى وافاه الأجل، أسأل الله أن يجعل ذلك في ميزانه.سمعت عن حسن المعايرجي في مدينة الزقازيق، عاصمة محافظة الشرقية بمصر، في أوائل الخمسينيات، وأنه من الشباب الناشطين في جماعة الإخوان المسلمين بالشرقية، ولكن لم أسعد بلقائه إلا في قطر، بعد وصولي إليها سنة 1961م.كان حسن المعايرجي من المجموعة المصرية التي وصلت إلى قطر مبكرًا، في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، حين كانت قطر تخطو خطواتها الأولى في طريق النهضة التعليمية والعمرانية، فقد جاء هو وعبد الحليم أبو شقة وعز الدين إبراهيم من الشام، ومعهم محمد الشافعي، وعبد اللطيف مكي، وقد تزوج عز الدين من سوريا، كما تزوج هو من لبنان، كما جاء كمال ناجي وعلي شحاتة من السودان.وعمل الجميع في وزارة المعارف، التي كان يحمل مسئوليتها في عهد الشيخ علي بن عبد الله آل ثان، الشيخ قاسم درويش، كما حمل منصب مدير المعارف الداعية المعروف الأستاذ عبد البديع صقر رحمه الله.وقد أصبح المعايرجي بعد ذلك مديرًا لمدرسة الدوحة الإعدادية والثانوية، وكان وكيله الأستاذ عبد الحليم أبو شقة. وقد وقع معه في تلك الفترة حادث معروف وهو: أنه حطم صورة جمال عبد الناصر، التي كانت معلَّقة في أحد الصفوف، وكان عبد الناصر موضع الإعجاب والحماس من أبناء قطر في ذلك الزمن، وكان لهذه الحادثة دويُّها بقطر في ذلك الوقت، كاد المعايرجي يفقد فيه عمله، ثم سويت الأمور، وسار المركب كما كان.وبعد ذلك تغير الوضع في وزارة المعارف، وتولى الوزارة الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، الذي سلمها لشقيقه الشيخ قاسم بن حمد، وفي ذلك الوقت عزلت الفئة السابقة من مناصبها، فتولى عبد البديع صقر مدير المعارف إدارة مكتبات حاكم قطر، التي طُوِّرت بعد ذلك وسميت (دار الكتب القطرية)، وعمل البعض في مناصب إدارية، والبعض الآخر مدرِّسين. وبعضهم- مثل عز الدين إبراهيم- سافر إلى لندن للحصول على الدكتوراه.ومن هذه الفئة المعزولة: من كان قويّ الارتباط بحاكم قطر في ذلك الوقت، وهو الشيخ أحمد بن علي آل ثاني، مثل حسن المعايرجي، الذي قرَّبه الحاكم منه؛ ليقوم بتدريس أولاده العلوم واللغة الإنجليزية وغيرها.وكان حسن المعايرجي شخصية محببة مثقفة، يتقن اللغة الإنجليزية، ويطَّلع على معظم المجلات العلمية العالمية التي تكتب بها، ويلمّ بالثقافة الإسلامية، بحكم انتمائه إلى الإخوان المسلمين، لهذا كان مدرسا محببًا إلى تلاميذه لانفتاح شخصيته واتساع أفقه، وتنوع معلوماته، وقوة تأثيره، فلم يكن يكتفي بتعليم المادة العلمية المقررة، بل يعلمهم فن الحياة أيضًا.وكنت ألتقي بالمعايرجي أنا والعسّال وعبد الحليم أبو شقة ومحمد مصطفى الأعظمي، الذي كان يعمل أمينًا عامًّا لمكتبات الحاكم، ورغم أنه هندي، فإن الدعوة إلى الإسلام كانت هي النسب الذي يضم الجميع، كما أن سجن عبد الناصر له في مصر قرَّب ما بيننا، ولما عاد عز الدين إبراهيم من لندن بعد أن حصل على الدكتوراه في اللغة العربية من جامعة كامبريدج: انضم إلى المجموعة التي كانت تلتقي كل أسبوع مرة، وفي الغالب كنا نطرح كل مرة موضوعًا علميًّا أو تربويًّا أو إسلاميًّا أو من واقع الحياة.ثم سافر المعايرجي إلى ألمانيا للحصول على الدكتوراه، وهو يحمل بكالوريوس من كلية الزراعة، وقد حصل على الدكتوراه في علم البكتيريا، ولكن الذي يحتك به يدرك أن ثقافته العلمية أوسع من تخصصه؛ لأنه لم يحبس نفسه في دائرة تخصصه، كما يفعل كثير من الأكاديميين العلميين، الذين إذا أخرجت أحدهم من تخصصه، حسبته في عداد الأميين، وهذا نتيجة التقوقع في التخصص.ولكن المعايرجي كان يقرأ دائمًا خارج تخصصه، وخصوصًا ما يتعلق بالإسلام والمسلمين، فهو مركز الدائرة بالنسبة لقراءاته واهتماماته. وعلى الأخص: ما يتعلق بالقرآن الكريم، وترجمة معانيه إلى اللغات الأجنبية، فقد أمسى هذا الموضوع أكبر همّه، في المراحل الأخيرة من حياته، فقد اهتم به، وتفرَّغ له، وأعطاه من وقته وجهده ما يستحق في نظره.ولما رجع من ألمانيا في عهد الشيخ خليفة بن حمد، وكان هو من المحسوبين على الشيخ أحمد بن علي، الذي عُزِل عن الحكم بعد الحركة التصحيحية التي قام بها الشيخ خليفة في 22 فبراير 1972، لم يجد المعايرجي الباب مغلقًا في وجهه، فقد كانت علاقته بالشيخ حمد بن خليفة طيبة؛ إذ كان ممن درَّسه مع أبناء الشيخ أحمد بن علي، فلا غرو أن سهَّل له الشيخ حمد الرجوع إلى البلاد، كما أوصى أن يفسح له المجال في جامعة قطر.وكان الأستاذ الدكتور إبراهيم كاظم مدير الجامعة يعرفه من قبل، وهذا ما مكَّنه من العمل أمينًا عامًّا لمركز البحوث العلمية التطبيقية، الذي أصبح له وضعه ومكانته في جامعة قطر.وكان المعايرجي مع عمله الرسمي، يرى أن عليه واجبًا آخر هو مسئول عنه أمام الله وأمام الأمة، وهو العمل للإسلام والقرآن الذي يرى أن الأمة الإسلامية قد فرطت كثيرًا في حقه، ولم تعطِه من العناية ما هو أهل له، وهو كتاب الله الذي أحكمت آياته ثم فُصِّلَتْ من لدن حكيم خبير.. {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]. جعله الله منهاجًا للفرد، ودستورًا للأمة، وقانونًا للدولة، وضمن له الخلود والبقاء، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].ويجب على الأمة الآن أن تنقله إلى العالم، حتى تتحقق عالمية الإسلام الذي خاطب فيه رسوله فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]. وقال عن هذا القرآن: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف:104]. فكيف يكون للعالمين، وقد نزل بلسان عربي مبين؟ لا يكون ذلك إلا بترجمة معانيه إلى لغات العالم.وقد فعل ذلك النصارى، فترجموا الإنجيل إلى لغات العالم الأصلية والتابعة، بل إلى لهجات العالم. مع أن دينهم في الأصل ليس دينًا عالميًّا، فإنما أرسل الله الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم إلى أقوامهم، ومنهم المسيح عيسى الذي أُرسل إلى بني إسرائيل، وهو قال في الإنجيل: إنما بعثت إلى خراف بني إسرائيل الضالة!!.فكيف بدين أعلن من أول يوم، ومنذ العهد المكي: أنه أرسل إلى الناس كافة. كما قال تعالى في سورة الأعراف: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28].عُنِي الدكتور المعايرجي بترجمات القرآن إلى لغات العالم المختلفة، فتتبع تاريخها، وعرف قيمة كل منها من الدقة والأمانة والموضوعية، وجمع من الترجمات المتنوعة من شتى اللغات ما كوَّن مكتبة علمية منقطعة النظير، ومن واجب الأمة أن تحافظ على هذه المكتبة وتنتفع بها، وأولى الناس بذلك هو دولة قطر التي عاش فيها المعايرجي، إلى أن لقي ربه رحمه الله.كان القرآن وخدمة القرآن، وتبليغ دعوة القرآن إلى العالم، هو الشغل الشاغل للدكتور المعايرجي في سنينه الأخيرة، وكان لا يلقى عالمًا كبيرًا، أو مفكرًا مرموقًا، أو مسئولًا ذا بال، إلا وحدَّثه عن القرآن، وواجبه نحو القرآن، ومسئولية الأمة عن القرآن.وكان هناك أمر يفكر فيه باستمرار، وبات يشغله بالنهار، ويحلم به بالليل، وهو ما سماه (الهيئة العالمية للقرآن الكريم).وكان يتعجب ويقول: إن هناك أمورًا ليس لها أهمية القرآن، ولا عشر معشاره، ومع هذا أنشئت لها مؤسسات وهيئات عالمية، أفلا يبلغ القرآن- وهو الآية الكبرى والمعجزة العظمى للإسلام ونبيه- مبلغ هذه الأمور؟!.وكيف لأمة يبلغ عددها مليارًا ستمائة مليون من المسلمين أو أكثر، لا تعطي الاهتمام الكافي اللائق لكتابها المقدس، الذي ختم الله به كتب السماء، وحفظه من كل تغيير وتحريف؟!.وقد كتب الدكتور المعايرجي كتابه عن القرآن وترجماته المتعددة، وواجب الأمة نحوه، وحلمه في إنشاء الهيئة العالمية لخدمته والدعوة إليه، والمحافظة عليه، وجعل عنوانه (الهيئة العالمية للقرآن الكريم)، وطلب إليّ أن أكتب له مقدمة، فكتبتها، استجابة لطلبه ووفاء بحقه، وتحقيقًا لأمله، وتنويهًا بمكانة هذه الهيئة التي يطلبها ويُلِحُّ في طلبها، وهي ليست بالأمر المستحيل، ولا الأمر الذي يشق تحقيقه مشقة بالغة، بل هو يسير على من يسّره الله عليه.ولقد ظل المعايرجي يسعى حثيثًا لدى المسئولين المعنيين في قطر، حول هذا الهدف المنشود، حتى تكونت لجنة برئاستي، تضم عددًا من المهتمين من الديوان الأميري، ومن الجامعة، ومن الأوقاف، وقد اجتمعنا مرات عدة، وناقشنا الأمر من وجوهه المختلفة، العلمية والتقنية والمالية، وما يتطلبه من قوى بشرية، ومن مقدرات مالية، وكتبنا بذلك تقريرًا موقعًا عليه من أعضاء اللجنة، قُدِّم إلى الديوان الأميري.ولكن للأسف لم تظهر نتيجة لهذا التقرير، وجُمد في الأدراج، برغم متابعة الدكتور له؛ إذ لم يجد أذنًا صاغية من المسئولين عن هذا الشأن في الديوان، ولم تتح فرصة لمقابلة الأمير لشرح هذا الموضوع له، وهو أهل لأن يهتم بمثله إذا اقتنع به.وكانت خيبة الدكتور المعايرجي كبيرة، وصدمته بإهماله قاسية، فقد وضع كل آماله وأحلامه في نجاح هذا المشروع، وقيام دولة قطر به، وهي أهل لذلك، ولكن قطر خيَّبت ظنه، وحطمت بقسوة حلم حياته، ومشروع مستقبله، فأصابه من الأسى والكدر ما أصابه، وأظلمت الدنيا في وجهه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وضاقت عليه نفسه، ودخل في حالة بائسة من الاكتئاب الشديد، وانقطع عن الناس، كما انقطع الناس عنه، لا يزور، ولا يُزار، ولم يكن يخرج من البيت، بل ظل فترة طويلة، لا ينزل من الدور الثاني، الذي هو مقيم فيه، إلى الدور الأول من المنزل، وكأنما هو محتجٌّ على الناس، في قطر، وفي غير قطر، على العرب، وعلى المسلمين في كل مكان، حيث خذلوه ولم ينصروه، وأعرضوا عن دعوته، ولم يجيبوه، وانعكست كآبة نفسه على صلابة جسده، فانهار هذا الجسد، تحت مطرقة الكآبة والهم والحزن.هذا مع أن شخصيته شخصية انبساطية، مرحة منفتحة، وليست شخصية انطوائية منغلقة، وهذا دليل على ضعف الإنسان، الذي وصفه الله بقوله: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]. وما زالت به الحال حتى دخل المستشفى، وأصيب بالشلل، الذي طال به، ولقي ما لقي منه من المعاناة، جعل الله ذلك كفارة لسيئاته، وزيادة في حسناته، ورفعًا لدرجاته، اللهم آمين.وأملنا في دولة قطر المعطاءة، التي أنشأت مؤسسات عديدة لتحقيق أهداف شتى: ألا تضن على مشروع المعايرجي في خدمة القرآن، وأن تنشئ هذه الهيئة العالمية، التي كان ينشدها أخونا وحبيبنا رحمه الله.فإذا لم تنهض قطر بمشروع المعايرجي- كما هو العهد والرجاء فيها- فإني أحيل الموضوع إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، وأمينها العام د. أكمل الدين إحسان أوغلو، وقد كان صديقًا للمعايرجي، وهو على علم بمشروعه وأهميته، نرجو أن تتولى المنظمة القيام على هذا المشروع، ولن تعجز الأمة الإسلامية على كبرها وسعتها، أن تقوم بمشروع يخدم كتابها العظيم: القرآن الكريم.رحم الله حسن المعايرجي، وغفر له، وجزاه خيرًا عن الإسلام وعن القرآن العظيم.عبد العزيز الرنتيسيشهيد المقاومة وفلسطين والدعوة(1366 – 1425هـ = 1947 – 2004م)وفي 17 إبريل 2004م ودعنا فقيد أمتنا، وفقيد قضيتنا، وفقيد جهادنا، أخانا البطل المجاهد الصابر المصابر المرابط الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وقد أصبح مقدر علينا أن نودع ما بين الحين والحين قائدا من القواد الذين حملوا الراية؛ ليذودوا عن حمى هذه الأمة، وعن حياضها، ويدافعوا عن مقدساتها، وعن هُويَّتها أمام هذه الهجمة الشرسة من أعدائها. ما بين الحين والحين نودع واحدا، وقد ودعنا قبله بأسابيع الشيخ أحمد ياسين رحمة الله عليه، وخلفه الدكتور عبد العزيز الرنتيسي في القيادة والشهادة.سجن عبد العزيز الرنتيسي في سجون الاحتلال أكثر من

2794

| 15 يوليو 2015

رمضان 1436 alsharq
القرضاوي: الشيخ الألباني كان أحد كبار علماء الحديث في عصرنا

الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة الـــ28 إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. في هذه الحلقة يتحدث الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي عن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني والأستاذ عادل حسين: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني المحدث الكبير (1333 - 1420هـ = 1914 - 1999 م): في 2 أكتوبر 1999م الموافق 22 جُمادى الآخِرة 1420هـ، توفي المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. ويبدو أن هذه السنة هي سنة رحيل العلماء، علماء الشرع والدين عن هذا العالم، فقد ودعنا فيها عددًا منهم، ابتداء من العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ مناع القطَّان، والشيخ عطية سالم، والشيخ محمد المجذوب، وأخيرًا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المحدِّث الشهير، صاحب الكتب الحديثية التي شرَّقت وغرَّبت.كان الشيخ الألباني أحد كبار علماء الحديث في عصرنا، الذين اشتغلوا بتحقيق عدد من كتب الأحاديث وأخرجوها للناس، وألَّف كتبًا شتى، مثل (سلسلة الأحاديث الصحيحة)، و(سلسلة الأحاديث الضعيفة)، و(صحيح الجامع الصغير وزيادته)، و(ضعيف الجامع الصغير وزيادته)، وكذلك صحيح كتب السنن الأربعة، (صحيح أبي داوود) و(ضعيفه)، و(صحيح الترمذي) و(ضعيفه)، و(صحيح النسائي) و(ضعيفه)، و(صحيح ابن ماجه) و(ضعيفه). و(صحيح الترغيب والترهيب)، وإن كان لم يكمله نشرًا، ولعله عنده مخطوط.وخدم المذهب الحنبلي بكتابه (إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل)، فقد رأى أن المذهب الحنبلي- وهو مذهب أقرب ما يكون إلى الحديث- ليس فيه كتاب تخريج للأحاديث المذكورة في كتب فقهه، فالحنفية عندهم (نصب الراية لأحاديث الهداية)، والشافعية عندهم (تلخيص الحبير لتخريج حديث شرح الرافعي الكبير)، والمالكية عندهم تخريجات الموطأ، والحنابلة ليس عندهم، فاعتمد أن يخرِّج كتاب (منار السبيل)، وأخرجه في ثمانية أجزاء.وكذا أخرج (مختصر صحيح مسلم)، و(مشكاة المصابيح)، و(السنة لابن أبي عاصم).. وغيرها من الكتب.التقيت الشيخ ناصر الدين الألباني عدة مرات في حياتي، التقيت به أول مرة في المدينة المنورة، في حجتي الثانية في صيف سنة 1964م، وتناقشنا في قضية التصوير الفوتوغرافي، حيث أخذ علي أني أبيحه، كما أباحه العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي وغيره من العلماء، والشيخ الألباني يحرمه تحريمًا قاطعًا، وقد ذكرت له الأحاديث الصحيحة التي استثنت من الصور "ما كان رقمًا في ثوب". وبيان العلة في التصوير: أنه "مضاهاة خلق الله". وهذا التصوير لا يضاهي خلق الله، بل هو خلق الله نفسه، انعكس على الورق، كما تنعكس الصورة في المرآة، ولا غرو أن يسميه أهل الخليج (عكسًا) ويسمون المصوِّر (العكَّاس) والصور (العكوس). ولكن الشيخ أصرَّ على رأيه، ولم يتزحزح قِيدَ شعرة.والتقيت به بعد ذلك في بيت الشيخ زهير الشاويش –في لبنان- صديقي وصديقه، وناشر كتبه، وإن اختلفا فيما بعد، وأظنه كان قد انتهى من تخريج أحاديث كتابي (الحلال والحرام في الإسلام) و(مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام). وقد حييتُه على جهوده في خدمة السُّنَّة، ولا سيما في مجال التخريج والتصحيح والتضعيف، وتحقيق المصادر، ثم شكرته على عنايته بتخريج أحاديث كتبي. وقلت له: إنني ممن يدعون إلى ضرورة إيجاد قنطرة بين أهل الفقه وأهل الحديث، ليكونا معًا في خدمة العلم ونصرة الشريعة بالحق، وقد كان بعض السلف يقولون: لو كان الأمر بأيدينا لضربنا بالجريد كل فقيه لا يشتغل بالحديث، وكل محدِّث لا يشتغل بالفقه.وكان من تفضُّله ولطفه: أن رحب بالتعاون بينه وبيني، باعتباره محدِّثًا مشهورًا، وباعتباري من المشتغلين بالفقه، ومن الدارسين للحديث. وشهدت في هذه اللقيا شيئًا من المعركة التي دارت بينه وبين العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.والتقيت به في الدوحة، وشهدت سجالًا علميًّا دار بينه وبين الشيخ عبد الله بن زيد المحمود، رئيس المحاكم الشرعية في قطر، حول رأيه الشيخ المحمود في المهدي، وكان هذا السجال في بيت الشيخ ابن محمود، وحضرها الشيخ محمد الغزالي، والشيخ عبد الله الأنصاري، بطلب من الألباني، ليُقنعه بصحة الأحاديث الواردة في شأن المهدي، أو بعضها، وكانت مساجلة بين الشيخين: الشيخ الفقيه والشيخ المحدِّث، وانتهت الجلسة بأن بقي كل منهما متمسِّكًا برأيه.والتقيت به في أكثر من مكان، وخصوصًا في المدينة المنورة، وكنا معًا عضوين في (المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة) فكنا نلتقي في الجامعة، وفي منازل بعض من يدعوننا من المشايخ الكبار، كما كان لقاؤنا الطبيعي في المسجد النبوي الكريم.تخريجه لأحاديث بعض كتبي:خرج الشيخ الألباني أحاديث بعض كتبي ككتاب (الحلال والحرام)، وكتاب (مشكلة الفقر)، ولا شك أن تخريج العلامة الألباني لأحاديث كتبي، هو نوع من التكريم للكتاب وصاحبه، فعلماء الحديث من قديم لا يخرجون أحاديث الكتب التافهة أو المغمورة، إنما يخرجون الكتب التي لها قيمة ووزن علمي، وشهرة عند أهل العلم وجماهير الناس.وقد رأيت كتاب الشيخ الألباني: (غاية المرام) ورأيت ما حكم عليه بالضعف من الأحاديث.وأعترف للرجل بسعة اطلاعه وتبحره في علوم الحديث، ووصوله إلى الدرجة الرفيعة فيه، حتى أصبح بكثرة إنتاجه المحدث الأول. وإن كنتُ أختلف معه في بعض الأحيان في بعض ما يصحِّحه، وأختلف معه في بعض ما يصل إليه من اجتهادات فقهية، كقوله بتحريم الذهب المحلق على النساء، وقوله بعدم وجوب الزكاة في عروض التجارة، ونحو ذلك. وهو ليس معصومًا.والشيخ له أنصار كثيرون، وله خصوم أكثر، وخطأ العالم في بعض المسائل لا يسقط منـزلته، فالعالم كما قيل في الحديث: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"( ). فالعالم المشهور إذا كان له بعض الأخطاء في فتاواه، فهذه الأخطاء لا تسقط منـزلته.لقد ودعت الأمة الشيخ الألباني، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعوضها عنه خيرًا، وأن يغفر له، ويتقبله في الصالحين، ويجزيه عن خدمة السنة، وعن خدمة العلم والدين خير ما يجزي به العلماء العاملين، والدعاة الصالحين. آمين.فارس الكلمة (الأستاذ عادل حسين)(ت: 1421هـ = 2001م){إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156].لا عزاء لنا غير هذه الكلمة الربانية إزاء فواجع الدهر، التي تلاحقنا يوما بعد يوم، فنفقد عزيزا، ونودِّع حبيبا، وننشد بعده قول الشاعر:أفي كل يوم لي حبيب أودع؟ فلا أنا أقفوه ولا هو يرجع!لقد اتصل بي الإخوة في إسلام أون لاين بعد ظهر الخميس 15 مارس 2001م، وأبلغوني بالنبأ الفاجع الذي وصلهم في الحال: أن الكاتب المفكِّر المجاهد المعروف عادل حسين، قد ودع الحياة، ولقي ربه، بعد أن أصابه نزيف حاد، دخل علي أثره مستشفى مصطفى كامل بالإسكندرية، ولكن أجل الله إذا جاء لم ينفع دواء، ولم يُغنِ طبُّ الأطباء.إن الطبيب له علم يدلُّ به ما دام في أجل الإنسان تأخيرحتي إذا ما انتهت أيام مهلته حار الطبيب وخانته العقاقيروهكذا قُدِّر للفارس المغوار أن يترجَّل، بعد أن عاش سنواته الأخيرة ممتطيا جواده، حاملا رمحه، شاهرا سيفه، متنكبا قوسه، مالئا جَعبته بما قدر عليه من النبال، يرمي بها عن يمين وشمال، في أكثر من عدو، وأكثر من جبهة معادية، وقف لها بالمرصاد: الجبهة الصهيونية وعملائها، والجبهة الصليبية وفروخها، والجبهة الإلحادية ودعاتها، والجبهة العلمانية ورعاتها، وجبهة اللصوصية وحماتها، وجبهة النفاق وحراسها. وقد فتح النار علي هؤلاء وأولئك، لم يخشَ في الله لومة لائم، ولم يخَف في الحقِّ نقمة ظالم.وقد اتَّخذ من جريدة (الشعب) منبره الذي يطلُّ منه علي القرَّاء، واتَّخذ من قلمه سلاحه الذي لم يفل ولم يغمد، وظلَّ يتابع معاركه المتواصلة في سبيل الله والمستضعفين، لا يكاد يخرج من معركة وينفض غباره منها، إلا رأيناه يدخل في معركة أخري، وكأنه يحمل سيف خالد بن الوليد، أو سيف صلاح الدين الأيوبي!ولم يفتَّ في عضده، أو يثنِ من عزمه، أن بعض خصومه الذين ينازلهم، كانوا من رجال السلطة الكبار، ممن يعلم أن ظهره مسنود، وأن أزره مشدود، وأن قلاعه محروسة، ولكنه لم يعبأ بالقلاع ولا بحراسها، ولا بالظهر وحماته، وخاض معركته متوكِّلا علي الله، يردِّد بقلبه ولسانه ما كان يردده الخليل إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار: (حسبي الله ونعم الوكيل).ولقد نصره الله في مواطن كثيرة، لعل أشهرها معركته مع وزير الداخلية الأسبق زكي بدر، الذي استطاع أن يفاجئه ويفاجئ الجميع بنشر خطابه الخطير، الذي تطاول فيه بلسانه البذيء علي عدد من أعلام الوطن من كلِّ الفئات، وأحرج الدولة، حتي أنها لم تجد بدًّا من إعفائه من منصبه، وكان ذلك نصرا لجريدة (الشعب)، ورئيس تحريرها يومئذ عادل حسين.وكانت آخر معاركه الفاصلة: معركة الرواية الشهيرة (وليمة لأعشاب البحر)، التي هيَّجت الرأي العام المصري من الإسكندرية إلي أسوان، وثار لها طلاب الأزهر وطالباته، ووقف معهم شيخ الأزهر ومدير جامعته ومجمع بحوثه، فقد تجاوزت هذه الرواية الحدود في الطعن في المقدَّسات، وفي قدس الأقداس، الله جلَّ جلاله، والقرآن ومحمد عليه السلام، كما خرجت علي كلِّ مألوف في رعاية الآداب والأخلاق.وكانت وقفة جريدة (الشعب) ورئيس تحريرها مجدي حسين، وأشهر محرِّريها عادل حسين، الأمين العام لحزب العمل الاشتراكي وقفة تاريخية، وهي التي ألهبت الشعور المصري العام ضدَّ الرواية وكاتبها، ولا سيما أن الذي تولَّي نشرها هو (وزارة الثقافة المصرية)، التي يفترض فيها ألا تنشر علي الشعب المصري إلا ما يتَّفق مع عقيدته ومسلَّماته الدينية والوطنية.وقد اعتقل عادل حسين، وابن أخيه مجدي حسين، إثر هذه المعركة، وجُمِّد الحزب، وأغلقت الصحيفة، وحُكم علي عادل حسين بغرامة عشرين ألف جنيه، وهو رجل يعيش علي الكفاف.ورغم إنصاف القضاء المصري للحزب وللجريدة، لم تلتزم السلطة بتنفيذ حكم القضاء. والعجيب أن (وزارة الثقافة المصرية) في مرحلتها الراهنة، أمست تتبنَّي ما كانت تنكره علي عادل حسين وإخوانه من قبل، وهو ما يُحمد لها ويحسب في ميزانها. وأصبحت تُهاجَم من قبل الكتاب اليساريين والعلمانيين، الذين طالما كالوا لها المديح والإطراء من قبل!لقد كان عادل حسين من رجال الفكر والقلم، وقد نذر حياته وقلمه لنصرة الحقِّ، والدفاع عن الشعب، وعن الحرية، وإعلاء كلمة الإسلام، والوقوف في وجه القوي المعادية له، المتربصة به. ووفَّي بما وعد، لم ينكص، ولم يهن، ولم يستكن لما أصابه في سبيل الله.وهو من أسرة اشتهرت بالكفاح والجهاد ضدَّ الاستعمار والطغيان من قديم، فشقيقه هو الزعيم الوطني الشهير أحمد حسين مؤسس (مصر الفتاة) وصاحب المواقف المشهورة في عهد الملكية وعهد الثورة. والشيء من معدنه لا يستغرب، {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف:58].لقد عرفتُ عادل حسين منذ بضعة عشر عاما، حين زارني لأول مرَّة في منزلي بمدينة نصر بالقاهرة، ومعه صديق عمره ورفيق دربه المستشار والمفكر المعروف الأستاذ طارق البشري، وقد صحبهما إليَّ ليعرفني بهما صديق ثلاثتنا الأستاذ عبدالحليم أبو شقة رحمه الله، الذي كان من أحرص الناس علي التعرُّف إلي كلِّ ذي عقل حرٍّ، وكلِّ ذي ضمير حيٍّ، وكلِّ مَن يلمح فيه أن لديه قدرة علي خدمة الفكر الإسلامي، والعمل الإسلامي، وتطويره إلي ما هو خير وأمثل.وعرفت من تاريخ عادل حسين أنه كان ماركسيا ملتزما، مناضلا جلدا عن مبادئها لسنين عدة، وقد دخل السجن وذاق مرارته مع زملاء له في عهد عبد الناصر من أجل الشيوعية، التي كان يراها مدافعة عن المستضعفين من العمال والفلاحين والطبقات المسحوقة في المجتمع، وأنها تقف ضد الاستعمار والإمبريالية المستكبرة في الأرض.فلما أنار الله بصيرته، وشرح صدره، ليقرأ الإسلام من جديد، فيما انتجته أقلام الم

27924

| 14 يوليو 2015

رمضان 1436 alsharq
القرضاوي: الشيخ الندوي كان واحداً من الأفذاذ الذين بعثهم الله لهذه الأمة

الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة الـــ27 إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. في هذه الحلقة يتحدث الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي عن العلامة أبو الحسن الندوي رجل الأمة في الدعوة والتربية والثقافة والتاريخ (1333 — 1420هـ = 1914 — 1999م): في يوم الجمعة 23 رمضان 1420هـ الموافق 31 ديسمبر 1999م، توفِّي إلى رحمة الله تعالى، الشيخ الإمام أبي الحسن على الحسني الندوي رضي الله عنه، في يوم الجمعة، وفي رمضان، وفي العشر الأواخر منه،، وفي آخر يوم من أيام السنة الميلادية — التي يعتبر بعضهم هذه السنة آخر القرن، وإن كان آخر القرن في الحقيقة بعد سنة — في هذا اليوم ودعنا الشيخ أبو الحسن الندوي، ولقي ربه راضيًا مرضيًّا، إن شاء الله تبارك وتعالى.وقد كتبت عنه كتابا بعنوان (العلامة أبو الحسن الندوي كما عرفته)، قلتُ في مقدمته: (لم أكن أنوي في هذه الآونة خاصة أن أخرج كتابًا عنه، مكتفيًا بما كتبته عنه في مناسبات مختلفة.ذلك لأني في شغل شاغل، ووقت مزدحم بكثرة الأعمال والواجبات التي ضاقت بها الأوقات، وما كنت أحب أن أكتب عن شيخنا الحبيب، وأنا في هذه الزحمة، حتى أفرغ له، وأعطيه حقه، كما ينبغي له من مثلي.ولكنَّ أقدارًا دفعتني، لأصدر هذه الدراسة عن شيخنا الكبير رحمة الله عليه، وأن أعجِّل بها، ليسد ثغرة في هذا الجانب، وتفتح الباب لمن يزيد، فمجال القول ذو سعة.ولا سيما أني قد كتبت عن (ركائز فقه الدعوة) عند الشيخ، وحصرتها في عشرين عدًّا، ولم أتحدث بالتفصيل، إلا عن واحدة منها فقط، وتركت لمن بعدي من تلاميذ الشيخ وتلاميذي أن يكملوا ما بدأته.إن مهمة العلماء في الأرض كمهمة النجوم في السماء، هي هداية للسائرين، وشهب تنقض على الشياطين، وخصوصًا العلماء الربانيين المتميزين منهم الذين يعلمون ويعملون ويُعَلِّمُون، فهم ورثة الأنبياء حقًّا، يدعون إلى الله على بصيرة، ويقودون الناس إلى الحق عن بينة، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].ولقد كان الشيخ الندوي واحدًا من هؤلاء الأفذاذ، الذين بعثهم الله لهذه الأمة ليجددوا لها دينها، ويعيدوا إليها يقينها، وينهضوا بها لتؤدي رسالتها، ومن حق الشيخ أبي الحسن على من يعرفه من علماء الأمة ودعاتها وأدبائها، أن يكتبوا عن الشيخ، ويجلوا مآثره وفضائله، لتعرفه أجيال الأمة الصاعدة، وتتخذ منه أسوة وإماما. وبهذا يتواصل الأبناء والآباء، والأحفاد والأجداد، والخلف والسلف).الشيخ العلامة السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي، أحد العلماء الربانيين، الذين يعْلَمُون ويَعْمَلُون ويُعلِّمون، ويدعون إلى الله على بصيرة، من بقية السلف، كأنما أُخِذ من عصور السلف الصالحين الماضين، وجيء به إلى هذا العصر.كان الشيخ الندوي أحد العلماء والدعاة الأفذاذ في هذا العصر، تلقى العالم الإسلامي كتبه بالقبول، ابتداء من كتابة الفريد الشهير (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)، وهذا الكتاب أول ما عرفه به العالم العربي، فيه نظرة تاريخية حضارية شمولية إلى الإسلام وأمته وحضارته وثقافته وتاريخه.نظرة جديدة للتاريخ من خلال رؤية إسلامية، فهو يرى أن العالم خسر خسارة كبيرة بتخلف المسلمين عن قيادة ركب الحضارة. حينما قاد المسلمون ركب الحضارة الإسلامية قدموا للإنسانية رسالة حضارية متوازنة، تجمع بين العلم والإيمان، بين الرقي المادي والسمو الروحي والأخلاقي. رسالة وصلت الأرض بالسماء، وجمعت بين العقل والقلب، ومزجت الروح بالمادة، ووازنت بين حق الفرد ومصلحة المجموع. ووضَح فيه كيف كانت حال أوروبا، عندما كان المسلمون في القمة كانت أوروبا في الحضيض.وبيّن كيف كانت الحالة الدينية، حالة الرهبان، فذكر من قساوة الرهبان في تلك العصور، الذين كانوا ينفرون من المرأة، ولو كانت المرأة أمة أو أخته، بل من ظلها، حتى قالوا: ظلها من الشيطان. وكانوا يعتبرون أن القذارة مما يقرب إلى الله، والنظافة من عمل الشيطان، وذكر فيه معلومات هائلة.كما ذكر أن الذي أضاع المسلمين، هو تضييعهم الجهاد والاجتهاد، كانوا أقوياء في الجهاد، وقادرين على الاجتهاد، ثم ضعفوا في الاجتهاد، ثم قعدوا عن الجهاد، فأضاعوا القوة المادية والقوة العقلية، واحتلتهم القوى الأخرى.وأكد الشيخ من خلال كتابه أنه لا خلاص للمسلمين إلا بالرجعة إلى الإسلام، رجعة صحيحة، ولابد للعالم العربي أن يأخذ مكانه في قيادة الأمة الإسلامية.قال: إن محمدًا رسول الله هو رُوح العالم العربي، وإن العالم العربي إذا تخلى عن محمد رسول الله، فلن تكون له قيادة. وهذه هي خلاصة هذا الكتاب الجليل، الذي يُعْتَبَرُ أول ما قرأناه للشيخ الندوي.لقاءاتي بالشيخ أبو الحسن الندوي:في يناير سنة 1951م، قام العلامة أبو الحسن الندوي بزيارة إلى مصر، وكنت طالبا حينها في كلية أصول الدين، وكنت قد قرأت كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)، وقد أعجبت بالكتاب، ودللت عليه بعض الأصدقاء ليقرؤوه، وإن كنت لا أعرف عن صاحبه شيئًا إلا أنه عالم هندي مسلم، والكتاب فيه نظرة جديدة إلى التاريخ الإسلامي، وإلى التاريخ العالمي من منظور إسلامي، وهو منظور عالم مؤرخ مصلح داعية، يعرف التاريخ جيدًا، ويعرف كيف يستخدمه لهدفه ورسالته، وقد ساعده على ذلك معرفته باللغة الإنجليزية، كما ساعده الحس النقدي، والحس الحضاري، والحس الدعوي، والحس الإصلاحي — وكلها من مواهبه — على تقديم هذه النظرة الجيدة من خلال كتابه الفريد.اتصل بي بعض الإخوة من الطلاب الهنود الذين يدرسون في مصر، وقالوا لي: هل تعرف الأستاذ أبا الحسن الندوي؟ قلت لهم: أليس هو صاحب كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)؟ قالوا: بلى، قلت: وما شأنه؟ قالوا: سيصل إلى القاهرة يوم كذا. قلت: أرجوكم أن توصلوني إليه عند حضوره.كان الشيخ ومن معه يسكنون في شقة متواضعة في زقاق من أزقَّة شارع الموسكي بحي الأزهر؛ فالشيخ لا يقدر على سُكنى الفنادق، ولا يحبها إن قدر عليها، وفي اجتماعات مجلس رابطة العالم الإسلامي بالمملكة العربية السعودية يَدَع الفنادق التي ينزل فيها الضيوف، وهي من فنادق الدرجة الأولى، وينزل عند بعض إخوانه.كما أنه يرفض النزول ضيفًا على بعض الكبراء من الأغنياء والموسرين؛ لعل ذلك للشبهة في أموالهم، أو لئلا يكون أسيرًا لإحسانهم.كان الشيخ حين زار مصر في شَرْخ الشباب؛ لحيته سوداء، ووجهه نضر، وعزمه فتيٌّ، وروحه وثَّابة، وغيرته متوقدة.. كان يحمل حماس الشباب، وحكمة الشيوخ، يحمل فكر العالم الموفق، وقلب المؤمن الغيور في آنٍ واحد.وما هي إلا أيام حتى حضر الشيخ، ومعه اثنان من إخوانه ورفقائه الندويين.ذهبت لزيارة الشيخ في مسكنه المتواضع أنا وأخي وصديقي محمد الدمرداش مراد (رحمه الله) رفيقي في الدراسة، ورفيقي في الدعوة، ورفيقي في المحنة، ورفيقي في السكن، ودعوناه إلى بيتنا في شبرا؛ ليلتقي ببعض إخواننا من شباب الأزهر الملتزمين بالدعوة في صورة ما يسميه الإخوان (كتيبة)، وهو تعبير عن ليلة جماعية تقضى في العلم والعبادة والرياضة، وقليل من النوم، وكان الشيخ حريصًا على أن يستمع منا كما نستمع إليه؛ فكان يسأل عن حسن البنا وكلامه وطريقته، ومواقفه وتصرفاته في الأمور المختلفة، كبيرة كانت أو صغيرة؛ وهو ما كون معه فكرة عن الشيخ البنا، وأنه كان (إمامًا ربانيًّا) بحق، ولم يكن مجرد زعيم يطالب بحكم إسلامي، بل كان قبل كل شيء (مربيًا) يريد أن ينشئ للإسلام (جيلًا جديدًا) يحسن الفهم له، والإيمان به، والالتزام بتعاليمه، والدعوة إليه، والجهاد في سبيله.وتكرر لقاؤنا معه، ولقاؤه معنا، نحن شباب الدعوة الإسلامية (أنا، والأخ أحمد العسال، والأخ الدمرداش، والأخ مناع القطان، والأخ عبد الله العقيل... وآخرون).كانت أيام الشيخ أبي الحسن في مصر أيامًا خصبة مباركة، لا يكاد يخلو يوم منها عن محاضرة عامة يُدعى إليها، أو درس خاص يُرتَّب له، أو لقاء خاص يُعد له. ألقى محاضرة تحت عنوان (المسلمون على مفترق الطرق) في دار الشبان المسلمين — على ما أذكر —، وعقّب عليها الشيخ عبد المتعال الصعيدي، والشيخ الغزالي. كما ألقى محاضرة عن (محمد إقبال شاعر الإسلام في الهند) في كلية دار العلوم، كان لها تأثيرها ودويُّها، والشيخ من المعجبين بشعر إقبال، ويحفظ منه الكثير الكثير، وقد أخرج كتابًا عنه بعنوان (روائع إقبال).والتقى الشيخ في القاهرة بكثير من العلماء والدعاة والمفكرين، وسجَّل عنهم ملاحظاته الدقيقة في كتابه الذي أصدره بعد رجوعه (مذكرات سائح في الشرق العربي).التقى بالأديب الكبير الناقد الشهيد سيد قطب، وأعجب به الشهيد، وكتب مقدمة أخرى لكتابه (ماذا خسر العالم...؟) أنصف فيها الكتاب وصاحبه، وقدره حق قدره.والتقى كثيرًا بالشيخ محمد الغزالي، ورافقه في بعض رحلاته الدعوية، وأعجب كل منهما بصاحبه، وكتب عنه الشيخ في (مذكراته) تلك.وأذكر أن الشيخ الندوي كان قد اصطحب معه عدة رسائل من أوائل كتاباته الإسلامية الدعوية، وهي جملة رسائل تعبر عن حس رقيق، وفكر عميق، وبيان أنيق، وعن رهافة الحاسة الأدبية، وعمق الحاسة الروحية عند الشيخ.وأذكر أن الشيخ الغزالي قرأها ومنها رسالتان؛ إحداهما: (من العالَم إلى جزيرة العرب)، والأخرى: (من جزيرة العرب إلى العالَم). وفيهما يستنطق الشيخ ما يريده العالَم من الجزيرة من الهدى ودين الحق، وهو ما قدمته الجزيرة قديمًا للعالَم، وردُّ الجزيرة على هذا.قال الغزالي معقبًا: (هذا الإسلام لا يخدمه إلا نفس شاعرة محلقة، أما النفوس البليدة المطموسة فلا حظ لها فيه!.لقد وجدنا في رسائل الشيخ لغة جديدة، وروحًا جديدة، والتفاتًا إلى أشياء لم تكن نلتفت إليها. إن رسائل الشيخ هي التي لفتت النظر إلى موقف ربعي بن عامر (رضي الله عنه) أمام رستم قائد الفرس وكلماته البليغة له، التي لخصت فلسفة الإسلام في كلمات قلائل، وعبرت عن أهدافه بوضوح بليغ، وإيجاز رائع: إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.أبو الحسن الندوي — فيما أعلم — هو أول من نبهنا إلى قيمة هذا الموقف وهذه الكلمات، ثم تناقلها الكاتبون بعد ذلك وانتشرت).وقد لقي الشيخ أستاذنا البهي الخولي، وقد أعجب به الأستاذ البهي غاية الإعجاب، وسجّل ذلك في رسالة سطرها إليه، كما لقي الأستاذ صالح عشماوي وغيره من قادة الإخوان، وجلس إليهم وتحدث معهم حديثًا نشره في رسالة بعد ذلك، عنوانها: (أريد أن أتحدث إلى الإخوان المسلمين).ولقي كذلك أستاذنا العلامة الدكتور محمد يوسف موسى، وقد كتب له مقدمة لكتابه (ماذا خسر العالم...؟).كما لقي الأديب الداعية الشيخ أحمد الشرباصي، الذي سجل معه مقابلة عن سيرته نشرت في مقدمة (ماذا خسر العالم...؟).ومما ذكره في هذه المقابلة: أنه سُئل عن أغرب ما رآه في مصر؟ فكان جوابه: إني وجدت العلماء حليقي اللحى!ولا ريب أن هذه صدمة شديدة لعالم لم يرَ في حياته في وطنه عالمًا واحدًا حليقًا، وحلق اللحى عندهم من شأن المتفرنجين، والبعيدين عن الدين، أما أن يكون هذا هو الطابع العام للعلماء في بلد، فهو الشيء الغريب! ومن العجب أن بعض شيوخ الأزهر المتحمسين لإعادة الأزهر إلى مكانته القديمة يحاولون أن يفرضوا على الطلبة لبس العمامة، وهي مجرد تقليد! ولا يفكرون أن يفرضوا عليهم إطلاق اللحية، وهو سنة إسلامية بلا ريب!.رحلات الندوي في ريف مصر:ولم يكتف شيخنا بالنشاط والحركة في مدينة القاهرة على سعتها، بل امتد إلى مدن أخرى، سمعت بالشيخ، فدعته إلى زيارتها ولقاء الجمهور المسلم فيها.ومن ذلك: مدينة (المحلة الكبرى) التي كنت أخطب في أحد مساجدها، وقد دون ذلك الشيخ أبو الحسن في كتابه مذكرات سائح، فقال: (الأخ يوسف القرضاوي، والأخ محمد الدمرداش، من طلبة الأزهر ومن الإخوان المسلمين، يتوقدان حماسة وغيرة وذكاء، وهما من الشباب الذين تقر بهم العين، ويقوي الأمل في مستقبل الإسلام في هذه البلاد، وكم في الإخوان من أمثال هؤلاء الشباب، ولو لم تكن للإخوان حسنة غير بعث الحياة الدينية، وإشعال العاطفة الإسلامية في الشباب الإسلامي وتوجيههم إلى الدين لكفاها فخرا وغبطة).وقد دعاه إلى المحلة الدكتور محمد سعيد (رحمه الله) رئيس الجمعية الشرعية بمدينة المحلة، وقد عرف الشيخ أن بينه وبين الإخوان شيئًا؛ فهو يأخذ عليهم أنهم لا يلتزمون بالآداب التي يلتزمونها هم من إعفاء اللحية، وإحفاء الشارب، وإرخاء العذبة (إطالة طرف العمامة)، وإطالة الصلاة. وقال الشيخ للدكتور: إن دعوة الإخوان دعوة عامة، مهمتها أن تجمع الجماهير على الأصول الكلية للإسلام، ثم تربيهم بالتدريج على الآداب الخاصة. ولابد أن يكون في الأمة المنهجان: النهج العام للإخوان، والنهج الخاص للجمعية. واستراح الدكتور سعيد (رحمه الله) لكلام الشيخ، ودعاني معه على الغداء عنده.ولكن سرعان ما كاد هذا يذهب هباءً، عندما ذهبنا مع الشيخ إلى بلدة (نبروه) وتكلمت كلمة أغضبت الدكتور سعيد غفر الله لنا وله، ولا أدري: لماذا؟ ولكن الشيخ تدارك الموقف بهدوئه وحكمته، وبات الناس تلك الليلة في المسجد سُجَّدًا وقيامًا، بدعوة من الشيخ، واستجابة كثيرين من الحضور.كانت زيارة الشيخ لمصر هي بداية لقائي به، ومعرفتي به، ثم زادت الأيام تلك المعرفة قوة على قوة.

2842

| 13 يوليو 2015

رمضان 1436 alsharq
القرضاوي: الشعراوي عاش عمره في خدمة العلم واللغة والقرآن والإسلام

الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة الـــ26 إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. في هذه الحلقة يتحدث الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي عن الشيخ محمد متولي الشعراوي الإمام العالم الرباني المعلم المفسر ( 1329-1419هـ = 1911- 1998م): في 22 صفر 1419هـ الموافق 17 يونيو1998م توفي أستاذنا وشيخنا (رجل القرآن) وأحد المفسرين الكبار، الإمام الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي، العالم الرباني، والذواقة الإيماني، وأحد المربين الأفذاذ، الذين نوروا العقول والقلوب برحيق الإيمان، وعِلْم الإسلام، وأحد أعمدة الدعوة، وأحد الرجال الذين حملوا لواء الهداية لهذه الأمة في العصر الحديث.هو أحد الأئمة الذين أخرجهم الأزهر وخرجهم وأنبتهم، وكان له في الحياة المصرية والعربية والإسلامية أثر لا ينسى، ولا يكاد يوجد عربي أو مسلم يعرف العربية إلا والتقى الشيخ الشعراوي في درس من دروسه التفسيرية المتميزة، التي كان الرجل فيها نسيج وحده، في فهم القرآن، وفي اكتشاف جوانبه وجواهره، والاطلاع على حقائقه ودقائقه وإعجازه، بحاسة روحية لا يشاركه فيها أحد.لقد فقدت الأمة الإسلامية بموت الشيخ محمد متولي الشعراوي عَلمًا من أبرز أعلامها، وقطبا من أشهر أقطابها، ونجما من نجوم الهداية في سمائها، ورجلا من رجالات العلم والدعوة الأفذاذ، فقدت رجلًا عاش عمره في خدمة العلم، وخدمة اللغة والأدب، وخدمة القرآن، وخدمة الإسلام، وتوجيه الأمة إلى الخير، وأحد الرموز الذين كان لهم تأثيرهم، لا سيما في السنوات الثلاثين الأخيرة.وموت العلماء لا شك مصيبة على الأمة، خصوصًا إذا تكرر فقدهم واحدًا بعد الآخر، وقد فقدنا في هذه الفترة عددًا من هؤلاء النجوم، فقدنا الشيخ الغزالي، والشيخ خالد محمد خالد، والشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة.أخشى ما أخشاه: أن يذهب هؤلاء ولا نجد من يسد الثغرة بعدهم، وهو ما جاء في الصحيحين، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالم اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" . وهذه هي الكارثة، الرؤوس الجهال الذين يظهرون هنا وهناك، يتبوأون المناصب، وتكبِّرهم أجهزة الإعلام، وتُضخم من شخصيتهم، ويسألون فيفتون بغير علم، يقولون ما لا يعلمون، لا يلجأون إلى ركن شديد، ولا إلى حصن حصين، فهم يفتون بغير علم، فيَضلِّون ويُضلِّون. وقد قال الشاعر قديمًا بعد أن مات أحد الرجال الأتقياء:لعمرك ما الرزية فقد مال *** ولا فرس يموت ولا بعيرولكن الرزية فقد حر *** يموت بموته خلق كثيرفكيف إذا كان هذا المفقود أحد العلماء الربانيين الذين تركوا وراءهم الكثير من العلم الزاخر، وتراثًا من التفسير الباهر للقرآن الكريم، لقد رحل عنا رجل القرآن، وهو الشيخ الشعراوي، فلا شك أنه كان أحد مفسري القرآن الكبار، وليس كل مَن قرأ القرآن فهمه، ولا كل مَن فهم القرآن غاص في بحاره، وعثر على لآلئه وجواهره، ولا كل من وجد هذه الجواهر استطاع أن يعبر عنها بعبارة بليغة، تقنع العقول، وتحرك القلوب. ولكن الشيخ الشعراوي كان من الذين أوتوا فهم القرآن، ورزقهم الله تعالى من المعرفة بأسراره وأعماقه ما لم يرزق غيره، فله فيه لطائف ولمحات وإشارات، ووقفات ونظرات، استطاع أن يؤثر بها في المجتمع من حوله.وقد عُرِف الشيخ الشعراوي أول ما عرف من خلال برنامج (نور على نور) الذي كان يذاع على التليفزيون المصري، والذي كان يقدمه الإعلامي المتميز الأستاذ أحمد فراج، ويعتبر هو مكتشف الشيخ الشعراوي، الذي لفت الناس إليه، ونبَّه الناس عليه، وعرف بقيمة الشعراوي بطريقته المتميزة، وأسئلته المدروسة العميقة والمتنوعة. القبول في نفوس الناسوقد رُزق الله الشيخ الشعراوي القبول في نفوس الناس، فلا تكاد تفتح تلفازا إلا وجدت الشيخ الشعراوي يفسر القرآن الكريم، ووجدت الناس ينصتون إليه، واستطاع بأسلوبه المتميز، الذي يستخدم الصوت والإشارة والحركة، أن يؤثر في العقول والقلوب، وفي الخاصة والعامة، في المثقفين والمتخصصين وفي الأميين، والقدرة على إقناع الخاصة وإفهام العامة، قلما يؤتاها إلا الرجال الأفذاذ، وقلما يوفق إليها إلا القليلون الذين منحهم الله تعالى من المواهب ما لم يمنح غيرهم.ترك الشيخ الشعراوي القرآن مفسرًا في أشرطة في التليفزيونات العربية، وقد فسر أكثر القرآن. عندما لقيته في شهر رمضان في دبي، في جائزة دبي الدولية لشخصية العام، قال: إنه بقي عليه نحو ثلاثة أجزاء وأقل. وسألت الله تبارك وتعالى أن يمدَّ في عمره حتى ينتهي من هذا التفسير، ويبدو أن القدر لم يمهله حتى ينهيه، وقد كُتب هذا التفسير أيضًا، فمن تلاميذ الشيخ من يقومون بإعداد هذا التفسير، يحذفون المكررات، والكلمات العامية، وبعض ما قد يرى الشيخ حذفه، ثم ينشر جزءًا بعد آخر.كما ترك الشيخ الشعراوي كتبًا أخرى في موضوعات إسلامية، وفتاوى في موضوعات شتى.اتفق الناس مع الشيخ الشعراوي واختلفوا معه، وهذه طبيعة العلم والعلماء لا يمكن أن يوجد عالم يتفق عليه الناس، كل الناس. كما قال الشاعر:ومَن في الناس يرضي كلَّ نفس *** وبين هوى النفوس مدى بعيد؟وقديما قالوا: رضا الناس غاية لا تدرك. والله تعالى يقول: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118، 119]، قال كثير من المفسرين: {وَلِذَلِكَ}، أي للاختلاف خلقهم؛ لأنه حين خلقهم منح كلا منهم حرية العقل، وحرية الإرادة، وما دام لكل منهم عقله الحر، وإرادته الحرة، فلا بد أن يختلفوا، ولقد اختلف الناس من قبل على الرسل والأنبياء واختلفوا على المصلحين والعظماء.وقال عليّ رضي الله عنه: "هلك في اثنان: محب غال ومبغض قالٍ". من القلى وهو الكره، كما قال تعالى لرسوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]، وهذه طبيعة الحياة والناس. الصوفية الظاهرةكان للشيخ نزعته الروحية الصوفية الظاهرة، وهناك مَن يعادون التصوف. وكان للشيخ آراء معينة في الفقه وفي غيره لا يوافقه عليها الآخرون، مثل رأيه في التبرع بالأعضاء، فكان لا يوافق عليها ولا يجيزها، ويقول: إن الإنسان وجسمه ملك الله، فلا يجوز له أن يتبرع به! وقد شنع بعض الناس على الشيخ في حياته من أجل هذا، ورددت عليهم في كتابي (فتاوى معاصرة) وقلت: إنه لا يجوز الحجر على أي عالم في أن يبدي رأيه، سواء وافقناه أو خالفناه، وأنا أخالف الشيخ ولكن من حقه أن يقول رأيه.وكذلك كان له موقفه الرافض لتحليل فوائد البنوك، وقد كتب الشيخ الشعراوي تصديرا لكتابي (فوائد البنوك هي الربا الحرام)، قال فيه: (جزى الله خيراً بقية علماء المسلمين، الذين يغارون على فقه دينهم ويحاولون جاهدين أن يوظفوا الإسلام المعطل في البلاد التي تنسب إلى الإسلام.).وكان الشيخ مسالمًا لا يرضى بمواجهة الحكام، ويأخذ الأمور بالأناة والتدرج، وهناك أناس يريدون أن يأخذوا كل شيء بالقوة وبالمواجهة، فلابد أن يخالفوا الشيخ رحمه الله. ولكن مهما اختلف الناس مع الشيخ الشعراوي، فلا يمكن أن يختلفوا في قيمته، وفي قدره، وفي دوره في الدعوة إلى الله، وفي مخاطبة الناس بلغة عصرهم، باللغة التي يفهمونها. وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4].ومما اغضب الناس على الشيخ الشعراوي تلك الفترة التي ولي فيها وزارة الأوقاف، وكما قال الشاعر قديمًا:إن نصف الناس أعداء لَمن ولي الأحكام هذا إن عدلوالناس حساسون في هذه القضايا، خصوصًا في عصرنا الذي استبدَّ فيه المستبدون، فمَن عمل مع هؤلاء حمل معهم أوزارهم.ومما أختلف فيه مع الشيخ الشعراوي رحمه الله، رأيه بأن الشورى معلمة وليست ملزمة، وقد رددت على هذا الرأي في أكثر من كتاب لي .ومما اختلفت معه فيه أيضا وكذلك مع شيخنا الشيخ عبد المعز عبد الستار وغيرهما، تفسيره لبدايات سورة الإسراء، وأن المرة الأولى في إفساد بني إسرائيل كانت في عصر النبوة بعد البعثة المحمدية، وهي ما قام به بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، وأهل خيبر، وكان العباد المسلطون عليهم هم النبي والصحابة، وأن إفسادتهم الثانية فهي ما يقومون به اليوم من علو كبير وطغيان عظيم، وانتهاك للحرمات، وإهدار للحقوق، وسفك الدماء، وغيرها. ورأيي أن هذا التفسير ضعيف لأوجه ذكرتها، وأن الأفسادتين وقعتا، كما أجمع على ذلك المفسرون، وأن إفساد بني إسرائيل الحالي يصدق فيه قول الله تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8].ومن المواقف المذكورة للشيخ الشعراوي، موقفه من النكبة، فقد اعتبرها منحة من الله تستحق السجود شكرا، لأن الناس فتنوا بالطغاة، وكادوا يعبدونهم ويقدسونهم، فأراد الله أن يريهم إن هؤلاء ليسوا شيئا، وأن يعيد الأمة إلى ربها، وترجع إلى دينها، فهذا أفضل من أي انتصار مؤقت! الشعراوي أستاذي:ولقد عَرفتَ الشيخ الشعراوي وأنا طالب في المرحلة الثانوية، فقد درّسنا حينما جاءنا مدرسًا للبلاغة في المعهد الأحمدي بطنطا، وهو معهده الذي تخرج فيه، وتسامعنا نحن الطلاب أن قد جاء الشيخ الشعراوي، وهو مدرس عظيم، وشاعر عظيم، أما تدريسه، فقد كان فعلًا مدرسًا جذابًا، وكان يدرس البلاغة والأدب، كان يستطيع أن يوصل المعلومة إلى طلابه، بطريقته بالإشارة والحركة وضرب الأمثلة وغير ذلك.كان الشيخ الشعراوي يُبَسّط المفاهيم الكبيرة لعموم الناس، سمعته ذات مرة في محاضرة وقد سُئل سؤالا معقدا عن نظرية التربية في الإسلام؟ فقال: لا توجد نظرية، ما هو مطلوب منك: أن تكون قدوة لابنك، قد تعلمه عشرين درسًا ألا يكذب، ثم تكذب أمامه ذات مرة، فتنسف كل ما علَّمته، فالقدوة مسألة ضرورية في التربية.درسني الشيخ الشعراوي البلاغة وأنا في الرابعة الثانوية، وكان يدرسنا علم البيان في مادة البلاغة، فقد كان طلاب السنة الثالثة يدرسون علم المعاني، ونحن ندرس علم البيان، من تشبيه واستعارة ومجاز وكناية، وكنا مقبلين عليه بشغف، ولكن يبدو أن الشيخ معبأ ضدي أنا والعسال، وبعض طلاب الإخوان. كنا نعرف أن الشيخ متحمس لحزب الوفد، وكان معظم طلاب المعهد ضد الوفد، وكان الشيخ أُفهم أن طلاب الإخوان يعملون ضده، ولذلك حين سألته سؤالا في المجاز المرسل، وظن الشيخ أني أتحداه فقال لي: اسمع يا يوسف، إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا! قلت له: سامحك الله يا شيخنا، والله ما أردت إلا الاستفهام.ولكن الشيخ حين صحح ورقتي آخر العام أعطاني العلامة الكاملة.وفي السنة التالية اعتقلنا وغبنا عنه، ولم يرني إلا بعد عدة سنوات، كان هو نازلا من - الأتوبيس - الحافلة وكنت أتهيأ لركوبه، فرأيته، فسلمت عليه وحييته، وعانقته وعانقني، وأظهر لي شوقه، وقال: أنا أسأل عنك، وأتتبع أخبارك، وعلمت أنك سافرت إلى قطر، وأنك محبوب هناك، والله يفتح عليك. ودعا لي كثيرا، وكان هو في الجزائر في ذلك الوقت.وأما شعره فكان شعرًا مطبوعًا، وكان شاعرًا مبدعًا، وأذكر له قصيدة لا أذكر مطلعها، وإنما أذكر آخرها وكانت قصيدة رائعة، قالها في ذكرى الهجرة النبوية في معهد طنطا، قال:كل دنيا تبنى على غير دين فبناء على شفير هاريوقد ذكَّرته بهذا البيت عندما لقيته في شهر رمضان في دبي، وقد حضرت الاحتفال بتكريمه في دبي، حينما دعتني لجنة الجائزة الدولية لجائزة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي للقرآن الكريم ولتكريم الشخصيات الإسلامية، وكان الشيخ الشعراوي هو الشخصية الإسلامية الأولى. وذلك لعام 1418ه، ولما دعوني لحفل التكريم قلت لهم: إن من حقِّ الشيخ الشعراوي عليَّ أن احضر الاحتفال بتكريمه. وقد ألقيت كلمة في تكريمه، وسُر الشيخ حينما رآني أبلغ السرور، وفرح وارتاح لمجيئي، ودعا لي كثيرًا حين عرف أني جئتُ لأشارك في تكريمه، وهو أهل أن يكرَّم، والمفروض فينا نحن المسلمين أن نكرم علماءنا الأفذاذ، من أمثال الشعراوي والغزالي وغيرهما.جلست مع الشيخ الشعراوي جلسة طويلة، كانت حبيبة إلى قلبي، بثثته فيها حبى له، وإعزازي لعلمه، وتقديري لفضله، وأني حين سألته في معهد طنطا لم أكن والله اتحداه، بل أتعلم منه. وقد أخبرني أن مشايخ طنطا المعروفين من أمثال فلان وفلان، قد أخبروني أن طلاب الإخوان يتربصون بك، ومنهم القرضاوي والعسال ومن معهما.فأحذرهم، وصدقنا هذا الكلام، وكان غلطا والله يسامحنا، ولقد سألت عنك من بعدها وتثبت أخبارك، وسرني ما وصلت إليه في أنحاء العالم، والحمد لله.أُعطي الشيخ الشعراوي أوسمة وجوائز شتى، من مصر، ومن دبي، ومن غيرهما، ولكن أعظم وسام على صدره، وأعظم جائزة له: هي حب الناس وقبولهم.

3327

| 12 يوليو 2015

رمضان 1436 alsharq
القرضاوي: الشيخ أحمد بن حجر مؤسس القضاء الشرعي في قطر

الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة الـــ25 إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتَوا لا يفتُون بعلم، وإذا قضَوا لا يقضون بحق، وإذا دعَوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبدالله بن عمرو: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا، فأفتَوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه). ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار، بكلمات رثاء، أبيّن فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة. إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة، أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسَوا (نجوم المجتمع)!.وأسفٌ آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباهَهم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم، ولا أمواتهم!! وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. في هذه الحلقة يتحدث الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي العلامة أحمد بن حجر آل بوطامي والإمام محمد أبو زهرة: العلامة أحمد بن حجر آل بوطاميالقاضي الفقيه الداعية المعلم(حوالي 1335 ـ 1423هـ = 1915 ـ 2002م) الشيخ أحمد بن حجر أحد العلماء العاملين، والدعاة الصادقين في دعوتهم إلى الله، عاش عمره للعلم وللدعوة، وللقضاء وللتعليم وللإفتاء، وكان سلفي العقيدة، عالمًا بالشريعة، قاضيًا بالحق، هكذا عرفه كل من عاشره واتصل به. وهو أحد المؤسسين للقضاء الشرعي في قطر بعد العلامة الشيخ عبدالله بن زيد المحمود (رئيس المحاكم الشرعية وقاضي قطر الأول).. عرَفتُ العالم العامل، والقاضيَ الفاضل، الشيخَ أحمد بن حجر منذ قدِم إلى قطر، منذ نحو سبع وثلاثين سنة، وعرَفه كذلك الخاصَّة والعامَّة، من علماء المسلمين المشهود لهم بالعلم والعمل، والغَيرة على الإسلام، والدفاع عن عقيدته وشريعته، وعن قرآنه وسنَّةِ نبيَّه عليه الصلاة والسلام. كما عرَفتُ من مزاياه: أنه رجل طُلَعة، يحبُّ القراءة، ويحرص على الاطِّلاع، ولا يدَّعي أنه عرَف كلَّ شيء، بل يطبِّق ما قاله السلف: اطلب العلم من المهد إلى اللحد. ولا يزال المرء عالمًا ما طلب العلم، فإذا ظنَّ أنه علم فقد جهل. ولا يسمع بكتاب علميٍّ له قيمة ظهر في السوق، إلا سارع إلى اقتنائه، ولذا تجد مكتبته عامرةً بالكتب، حافلةً بالمراجع القيِّمة، في كلِّ جوانب المعرفة الإسلامية. وقد عاش العلَّامةُ الشيخُ ابنُ حجر طوال عمره في خدمة الإسلام، قاضيًا يحكم بالشرع، وخطيبا يَصْدَعُ بالحقِّ، ومصنِّفا يطارد الباطل، فقد جنّد قلمه كما جنَّد لسانه لبيانِ المعارف الشرعية الصحيحة، والردِّ على أباطيل خصوم العقيدةِ والشريعة، يفنِّد الشبهات، ويدحض المفتريات، ويتعقَّب المنحرفين، يكشف سِترهم ويفضح زِيفهم.هكذا رأيناه يردُّ على مَنْ تطاول على عقيدة السلف؛ يردُّ على القاديانية ونِحلتها الضالَّة. ويردُّ على مَن زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويكتب في أواخر حياته.ويردُّ على مَن دعا إلى التمذهب والتعصب والتقليد. ويردُّ على مَن لعن الصحابة والتابعين.. وبلغت مؤلفاته الثمانية والعشرين مؤلفًا، بعضها في تصحيح العقيدة، وبعضها في فقه الشريعة، وبعضها في الدعوة، منها: الدُّرر السنية في عقد أهل السنة المرضية (منظومة). جوهرة الفرائض (منظومة)، اللآلئ السَّنِيَّة في التوحيد والنهضة والأخلاق المَرْضِية (منظومة)، شرح العقائد السلفية بأدلتها العقلية والنقلية، تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران، الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب، الرد الشافي الوافي على من نفى أُمِيَّة سيد الأوائل والأواخر.. وغيرها. وقد قدمتُ له كتاب القول (المجتبى في تحريم الربا).. شاء الله للشيخ ابن حجر أن يقضي السنوات الأخيرة من عمره على فراش المرض، وافته المنية صباح الثلاثاء الخامس من جمادى الأولى سنة 1423 هـ الموافق 14 /6 /2002 م عن عمر ناهز ثمانية وثمانين عامًا، والألسنة تُثني عليه، وتدعو له، وتترحم عليه، والكل يقول: رحمه الله رحمة واسعة، وتقبله في الصادقين الصالحين، والعلماء العاملين، والدعاة الربانيين، وجزاه الله عن العلم، وعن الإسلام، وعن قطر، خير ما يجزي به المؤمنين الصادقين. الإمام محمد أبو زهرةالعلامة الفقيه المفسر المؤرخ الداعية(1315 ـ 1394 هـ = 1898 — 1974م)رغم حبِّي وإجلالي للشيخ، وأنه بَلَديِّي، فهو مثلي من أبناء مركز المحلة الكبرى، محافظة الغربية، إلا أنه لم يُتَح لي أن ألقاه إلا مرَّة واحدة، في مدينة البيضاء في ليبيا سنة 1972م، في ندوة التشريع الإسلامي، التي دُعي إليها عددٌ من العلماء والفقهاء من أنحاء الوطن العربي، وكان الشيخ بحقٍّ نجمَ الندوة الساطع، بتعليقاته الدقيقة، واستدراكاته العميقة، التي كان يتدفَّق بها كالبحر، ويتألَّق فيها كالبدر، وقد تعرَّف عليَّ في هذه الندوة، وانعقدت بيني وبينه مودَّةٌ، لم تطُل، فقد اختاره الله إلى جواره بعد وقت قريب، رحمه الله تعالى، وغفر له، وتقبَّله في الصَّالحين.عرَفت الشيخ (أبو زهرة) أستاذًا للشريعة في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، مع رفيقيه العلاَّمتين: الشيخ علي الخفيف، والشيخ عبدالوهاب خلاَّف.. وعرَفناه عضوًا عاليَ الصوت في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، منذ إنشائه.وعرَفناه مؤلِّفًا موسوعيًّا في جوانب مختلفة من الثقافة الإسلامية، فألَّف في العقائد ومقارنة الأديان (محاضرات في النصرانية)، وألَّف في الخطابة والجدل، وألَّف في السيرة النبوية (خاتم النبيين)، وألَّف في علوم القرآن، وفي تفسير القرآن، تفسيره في تسعة مجلدات، انتهى فيه إلى سورة النمل، وألَّف في تاريخ المذاهب الإسلامية، وفي أصول الفقه، والأحوال الشخصية، والجريمة والعقوبة، وفي الزكاة والمجتمع الإنساني في ظلِّ الإسلام، وغيرها من جوانب الفقه.واشتهر بكتبه عن الأئمة الفقهاء: الأئمة الأربعة، والإمام الصادق، والإمام زيد، وابن حزم، وابن تيمية: حياتهم، وعصرهم، وآرائهم وفقهِهم. وقد أبدع فيها وأجاد، وأصبحت مراجع معتمدة للباحثين في موضوعاتها من أنحاء العالم.لم يشتهر الشيخ أبو زهرة كثيرًا في الأوساط العلمية بالفتوى، كما اشتهر الشيخ شلتوت مثلًا، ولم يقُم هو بجمع ما نُشر له من فتاوى على صفحات مجلة (لواء الإسلام)؛ لأنها في الواقع كانت في معظمها إجابات شفهية مقتضبة، تحتاج إلى تنقيح وتحرير.. وكانت الندوات هي الميدان الذي يصولُ فيه الشيخ ويجول، ويُبدي رأيه بكلِّ صراحة، ويناقش آراء الآخرين، ويعارضها بكلِّ حرية، بشخصيته القوية، وقدرته على الإقناع، وبتأثيره، وصوته الجهوري، في مجلس يضمُّ نخبة من أهل العلم، يصدرون بعد البحث والمناقشة عن رأي واحد، هو أقربُ ما يكون إلى الاجتهاد الجماعي، الذي ندعو إليه، والذي رأيناه يتجسَّد أحيانًا في المجامع الفقهية والعلمية.رأيه في الرجم، وحِواري معه:وفي ندوة التشريع الإسلامي في مدينة البيضاء بليبيا، فجر الشيخ أبو زهرة قنبلة فقهية، هيجت عليه أعضاء المؤتمر، حينما فاجأهم برأيه الجديد.. وقصة ذلك: أن الشيخ ـ رحمه الله ـ وقف في المؤتمر، وقال: إني كتمت رأياً فقهياً في نفسي من عشرين سنة، وكنت قد بحت به للدكتور عبدالعزيز عامر، واستشهد به قائلاً: أليس كذلك يا دكتور عبدالعزيز؟ قال: بلى. قال الشيخ: وآن لي أن أبوح بما كتمته، قبل أن ألقى الله تعالى، ويسألني: لماذا كتمت ما لديك من علم، ولم تبينه للناس؟هذا الرأي يتعلق بقضية (الرجم) للمُحْصَن، في حد الزنى، فرأى أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول في أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور.. قال الشيخ: ولي على ذلك أدلة ثلاثة:الأول: أن الله تعالى قال في سورة النساء: "فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ" [النساء:25]. والرجم عقوبة لا تتنصف، فثبت أن العذاب في الآية هو المذكور في سورة النور: "وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].. والثاني: ما رواه البخاري في جامعه الصحيح عن عبدالله بن أوفى: أنه سئل عن الرجم؟ هل كان بعد سورة النور أو قبلها؟ فقال: لا أدري.. فمن المحتمل جدًّا أن تكون عقوبة الرجم قبل نزول آية النور التي نسختها.. الثالث: أن الحديث الذي اعتمدوا عليه، وقالوا: إنه كان قرآنًا، ثم نسخت تلاوته، وبقي حكمه: أمر لا يقرِّه العقل، لماذا تنسخ التلاوة والحكم باق؟ وما قيل: إنه كان في صحيفة فجاءت الداجن وأكلتها: لا يقبله منطق.وما أن انتهى الشيخ من كلامه حتى ثار عليه أغلب الحضور، وقام من قام منهم، ورد عليه بما هو مذكور في كتب الفقه، حول هذه الأدلة. ولكن الشيخ ثبت على رأيه.. وقد لقيته بعد انفضاض الجلسة، وقلت له: يا مولانا، عندي رأي قريب من رأيك، ولكنه أدنى إلى القبول منه. قال: وما هو؟.. قلت: جاء في الحديث الصحيح: "البكر بالبكر: جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب: جلد مائة، ورجم بالحجارة". قال: وماذا تأخذ من هذا الحديث؟ قلت: تعلم فضيلتك أن الحنفية قالوا في الشطر الأول من الحديث: الحد هو الجلد، أما التغريب أو النفي، فهو سياسة وتعزير، موكول إلى رأي الإمام، ولكنه ليس لازمًا في كل حال.. وعلى هذا نقول في الشق الثاني من الحديث: إن الحد هو الجلد، والرجم سياسة وتعزير، مثل التغريب والنفي، فنثبت ما جاءت به الروايات من الرجم في العهد النبوي، فقد رجم يهوديين، ورجم ماعزًا، ورجم الغامدية، وبعث أحد أصحابه في قضية امرأة العسيف، وقال له: "اغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها". وكذلك ما روي أن عمر رجم من بعده، وأن عليًا رجم كذلك. ولكنا نفسر هذه الوقائع على أنها لون من التعزير والسياسة الشرعية.. ولكن الشيخ لم يوافق على رأيي هذا، وقال لي: يا يوسف، هل معقول أن محمد بن عبدالله الرحمة المهداة، يرمي الناس بالحجارة حتى الموت؟ هذه شريعة يهودية، وهي أليق بقساوة اليهود.وكان رأي الشيخ مصطفى الزرقا مع الجمهور، ولكنه يخالف الجمهور في تعريف (المُحْصَن) فعندهم: أن المُحْصَن من حصل له الزواج، وإن فارقته زوجه بطلاق أو وفاة، وبات في واقع الحال لا زوجة له، وعند الزرقا: المُحْصَن: من له زوجة بالفعل. وهذا رأي الشيخ رشيد رضا ذكره في تفسير المنار.توقفت طويلاً عند قول الشيخ أبي زهرة عن رأيه: أنه كتمه في نفسه عشرين عاما: لماذا كتمه، ولم يعلنه في درس أو محاضرة أو كتاب أو مقالة؟ لقد فعل ذلك خشية هياج العامة عليه، وتوجيه سهام التشهير والتجريح إليه، كما حدث له في هذه الندوة. وقلتُ في نفسي: كم من آراء واجتهادات جديدة وجريئة تبقى حبيسة في صدور أصحابها، حتى تموت معهم، ولم يسمع بها أحد، ولم ينقلها أحد عنهم!!. ولذلك حين تحدثت عن معالم وضوابط الاجتهاد المعاصر، في كتابي (الاجتهاد في الشريعة الإسلامية) جعلت منها: أن نفسح صدورنا للمخطئ في اجتهاده، فبهذا يحيا الاجتهاد ويزدهر، والمجتهد بشر غيرُ معصوم، فمن حقه ـ بل من الواجب عليه ـ أن يجتهد ويتحرى ويستفرغ وسعه، ولا يلزمه أن يكون الصواب معه دائمًا، وما دامت صدورنا تضيق بالرأي المخالف للجمهور، فلن ينموَ الاجتهاد، ولن يؤتيَ ثمراته.. على أن ما يحسبه بعض الناس خطأ، قد يكن هو الصواب بعينه، وخصوصًا إذا تغير المكان والزمان والحال.. ويبدو أن هذه الحملة الهائجة المائجة التي واجهها الشيخ أبو زهرة، جعلته يصمت عن إبداء رأيه، فلم يسجله مكتوبًا بعد ذلك. وربما لأن الشيخ الكبير لم يعمر بعد ذلك طويلًا، فقد وافته المنية في شهر أبريل سنة 1974م، عليه رحمة الله ورضوانه.. وقد رأيت الشيخ نسب هذا الرأي في كتابه "العقوبة" إلى الخوارج، واستدل لهم بما ذكره في ندوة ليبيا، وأعتقد أن ذلك كان أسبق من الندوة.في زيارة القذافي:بعد أن انتهت الندوة، قالوا لنا: أنتم مطلوبون للقاء العقيد القذافي قائد الثورة في مدينة طرابلس، فاستعدوا للذهاب إلى بني غازي، ومن هناك، ستأخذنا طائرة خاصة إلى العاصمة طرابلس، وقد وصلنا في حوالي العاشرة مساء، ثم نُقلنا إلى مقر مجلس الثورة، لننتظر نحو نصف ساعة، حتى حضر العقيد، ومعه اثنان من القادة، أحدهما يجلس عن يمينه، وهو عبدالسلام جلود نائبه، والثاني: لا نعرفه.. وكان يصحبه بعض المدنيين، منهم الأستاذ إبراهيم الغويل المحامي، ومنهم صحفي يساري، اسمه: صادق نيهوم، كان كأنه المتحدث باسمه، وهو علماني، جريء، طويل اللسان!! وقد أثار القذافي موضوعات شتى، وتطرق الحديث إلى العلماء ودور العلماء، وعزلة العلماء عن المشاركة في توجيه المجتمع، وتحدث الإخوة المشايخ: أن العلماء لا يتأخرون عن القيام بواجبهم، إذا فتح الباب لهم، وأتيح لهم أن يبينوا للناس شرع الله. وقلت في ذلك: إن العلماء مستعدون أن يكونوا خدماً لمن يخدم الشريعة!! وهنا قال الشيخ أبو زهرة: إننا لسنا خدماً لأحد كائنا من كان.قلت: يا مولانا، إننا خدم لمن يخدم الشريعة، فخدمتنا في الحقيقة إنما هي للشريعة. قال: نحن سادة ولسنا خدماً! وهكذا كان الشيخ رحمه الله معتزًّا بنفسه، وبعلمه، ولا يفرِّط في كرامة العلم، ولا بأدنى كلمة.. وبعد حياة حافلة بجلائل الأعمال وبكل ما يحمد عليه، توفي الشيخ سنة 1394هـ الموافقة 1974م تاركًا تراثًا خالدًا، وذكرى عطرة ومواقف مشرفة.. رحمه الله رحمة واسعة، وجعله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

3542

| 11 يوليو 2015

دين ودنيا alsharq
القرضاوي: التلمساني لم يكن يفرّط في حق أو يداهن في باطل

الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة : الرابعة والعشرونإن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم... وفي حلقة اليوم يتحدث الشيخ القرضاوي عن الأستاذ عمر التلمساني والشيخ عبدالبديع صقرالأستاذ: عمر التلمسانيالمرشد الثالث للإخوان(1322 – 1406هـ = 1904 – 1986م)في 13 من شهر رمضان 1406 الموافق 22 مايو 1986، انتقل إلى جوار ربه الأستاذ عمر التلمساني، المرشد الثالث للإخوان المسلمين، وقد صُلي عليه في مسجد عمر مكرم، ودُفن في مقابر مدينة نصر، وشيَّعته جماهير غفيرة تقدر بالألوف، من إخوان مصر وأحبائهم، رغم حرارة جو القاهرة، ومع صيام شهر رمضان. ولم يقدر لي أن أشهد جنازته، فقد كنت في قطر، وإن شاركت بالدعاء له والترحُّم والصلاة عليه، والحديث عنه بما يستحق.وقد ودعته الجموع بأعين باكية، وقلوب آسية، وألسن داعية.. كلها تبتهل إلى الله عز وجل أن يسكنه الفردوس الأعلى، وأن يجزيه عن الإسلام ودعوته وأمته خير ما يجزي الدعاة الصادقين، والعلماء العاملين. خصال الخير في الأستاذ عمر:كان الأستاذ التلمساني رجلًا مُحببًا إلى خلق الله، لما وهبه الله من خصال الخير، وفضائل الإيمان، ومكارم الأخلاق، كان سهلا سمحا باسم الثغر، حييّا متواضعا، لين الجانب، رفيقا رقيقا مع القريب والبعيد، والكبير والصغير، والمسلم وغير المسلم، كأنما اقتبس ذلك من أخلاق النبوة التي أثنى الله على صاحبها بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. يقول المصريون في مثله: يوضع على الجرح فيبرد! كأنما هو مرهم أو ترياق. ومع هذا لم يكن يفرّط في حق، أو يداهن في باطل؛ بل كان متمسكا بالعروة الوثقى لا انفصام لها، علمًا وعملًا، وإيمانًا وسلوكًا، وغيرة وجهادًا. في معتقل الطور سنة 1949م:كان معنا في معتقل الطور سنة 1949، واتفق الإخوان المعتقلون على أن يولوه قيادتهم في المعتقل، بعد استدعاء الأستاذ البهي الخولي للتحقيق معه، امتثالا للحديث النبوي "إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم". ولكنه سرعان ما استُدعي هو الآخر، واختار المعتقلون بعدها الشيخ الغزالي، وهو في ريعان شبابه.في سجون عبد الناصر:عمل مع المرشد الأول حسن البنا، ثم عمل مع المرشد الثاني حسن الهضيبي، فلما اصطدمت الثورة بالإخوان، أو اصطدم الإخوان بالثورة، كان عضوًا بمكتب الإرشاد العام للجماعة، فقُدم للمحاكمة مع من قُدِّموا من قيادات الإخوان، وقد حكم عليه بخمسة عشرة سنة سجنًا مع الأشغال الشاقة، هو والعالم الأزهري الكبير الشيخ أحمد شِرِيت رحمهما الله تعالى.قيادة التلمساني للجماعة في عهد السادات:وبعد أن قضى مدة سجنه، خرج ليتولى قيادة الجماعة في عهد السادات، بحكمته ورفقه وأناته وحِلمه، وحُسن سياسته، وتأنيه للأمور، في غير عنف ولا إحراج.وأصدر (مجلة الدعوة) الأسبوعية من جديد، ليرأس تحريرها، ويكتب فيها مقالا أو أكثر كل شهر.وكان بحلمه وسماحته ورقته يحل كثيرا من المشاكل المعقدة، التي تصعب على الكثيرين أن يحلوها بطريق الشدة والقوة وعرض العضلات.بين التلمساني والسادات:وقد اجتمع مرة مع الرئيس السادات ممثلا لدعوة الإخوان، التي اعترف بها واقعا وفعلا، وإن لم يعترف بها رسميا وقانونا، وقد ذكر السادات عنه شيئا، فقال له: ليس لي إلا أن أشكوك إلى الله؛ فإن الإنسان إذا ظلمه شخص عادي، شكاه إلى الحاكم، فإذا ظلمه الحاكم نفسه، لم يكن له إلا أن يشكو إلى الله!وهنا قال له السادات: لا تشكني إليه، فإني أخافه سبحانه، وأعرف قدره، ولا قِبَل لي به جل جلاله! قال التلمساني: ولكني أشكوك إلى رب عادل، لا يظلم مثقال ذرة، ولا يخاف أحد عنده ظلما ولا هضما!قال السادات: ومع ذلك أنا أخافه ولا أدعي العصمة.زيارة التلمساني لي في قطر:وقد سعدت بزيارته في قطر، واستقباله في منزلي، أول ما تولى منصبه، وقد التقى بعدد من الإخوان الذين يعملون في قطر، وإن كان منهم من لم يعد له صلة بالتنظيم الإخواني، بل هو من الإخوان بحكم النشأة والولاء، وأذكر من الموجودين: عبد البديع صقر، وعز الدين إبراهيم، وكمال ناجي، وعلي جمّاز، وعبد اللطيف زايد، وآخرين. وكان الأستاذ عمر الأميري بالدوحة، فالتقى العُمران رحمهما الله.لقاءاتي المتكررة بالتلمساني:ولقيته أكثر من مرة في اجتماعات مجلس الشورى العالمي، أيام البحبحة، والسماح لقادة الإخوان بالسفر إلى الخارج، كما التقيته في القاهرة في دار الإخوان بالتوفيقية.وفي أحفال كبيرة يقيمها الإخوان بمناسبات شتى كالمولد النبوي، والهجرة النبوية، وغيرها، في الساحات الكبرى، في القاهرة والجيزة وبعض عواصم المديريات (المحافظات).وحين قرر إعادة إصدار (مجلة الدعوة) الشهرية، رأس تحريرها، ودعاني إلى الكتابة فيها، فكتبت فيها عدة مقالات عن شمول الإسلام، وعن الجهاد، وعن شرح بعض الأصول العشرين، كما نشرت فيها كتابي (ثقافة الداعية) على حلقات..وقد انتشرت الدعوة في عهده في مصر وفي خارج مصر، فقد أثبت الواقع الذي تعيشه الأمة أنه لا خلاص لها إلا بالعودة إلى الإسلام الحقيقي، بتوازنه وتكامله وتسامحه، وأن دعوة الإخوان هي أقرب الدعوات المعروضة في الساحة إلى الإسلام الحق، وإلى المنهج الوسط، الذي لا ينحاز إلى اليمين أو اليسار، ولا إلى الغلو، ولا إلى التفريط.وكان معتدًّا بقيادة الإمام حسن البنا مؤسس الجماعة ويسميه (الملهَم الموهوب).إيثاره السهولة والسماحة:كما كان يؤثر السهولة والسماحة في كل شيء، ولا يميل إلى التفلسف والتنظير وما إلى ذلك من تعقيدات أهل الفكر، ومُجادلي التيارات المخالفة.قيل له يوما: لا بدّ لنا من خطة إستراتيجية، تستلهم الماضي، وتعايش الحاضر، وتستشرف المستقبل.فقال: لا أرى أن الدعوة إلى الله تحتاج إلى هذا كله. هل يحتاج قولك للناس: اتقوا الله، واعملوا بإسلامكم، إلى إستراتيجية وخطة مستقبلية... الخ؟!قلت له: يا فضيلة الأستاذ نحن لسنا مجرَّد وعَّاظ نذكر الناس بالله، والدار الآخرة، نحن مع ذلك دعاة إصلاح للأمة، وتجديد الدين، ولنا أهداف كبيرة، نريد الوصول إليها، وهذه الأهداف تحتاج إلى وسائل متنوعة، وإلى مراحل محددة، تسلم كل مرحلة إلى الأخرى، كما علينا أن نحدد المفاهيم التي تلتبس على الناس، ونرد الشبهات التي يثيرها خصوم الإسلام، ونضع المفاهيم العلمية والدعوية والتربوية وغيرها اللازمة للنهوض بالأمة، والسير بالجماعة إلى الطريق الأقوم، والسبيل الأوضح.وهنا قال: أدعو الله يا شيخ يوسف أن يوفقكم فيما تصبون إليه. رحم الله الأستاذ التلمساني، وغفر له، وجزاه عن العلم والدعوة والإسلام خير ما يجزي العلماء الربانيين، والدعاة الصادقين، وأسكنه الفردوس الأعلى مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.الشيخ عبد البديع صقررجل الدعوة والتربية والثقافة(1334 - 1407هـ = 1915 - 1986م)في 13 ديسمبر 1986م جاءنا – ونحن في قطر- خبر وفاة أخينا الحبيب الداعية المعروف الأستاذ: عبد البديع صقر رحمه الله، غرقًا في إحدى الترع، وهو عائد في الليل من مدينة بلبيس، من بعد زيارة لها لإلقاء محاضرة، فانحرفت به السيارة وهو يقودها, فسقطت في الترعة, ووافاه الأجل.. ولم يعرف الناس بالحادث إلا بعد وقت، فتعذَّر إسعافه، وكتب الله له الشهادة بموته غريقًا، لا سيما وهو راجع من عمل دعوي في سبيل الله. فنسأل الله أن يكتبه في الشهداء والصالحين, وأن يحشره مع النبيين والصديقين.من الرعيل الأول:كان عبد البديع من الرعيل الأول من الإخوان، فقد عرف الدعوة منذ سنة 1936م، وكان قريبًا من الإمام حسن البنا، ويحكي عنه وقائع معلِّمة، ونودار لطيفة، وقد كتب له مقدمة لكتابه (كيف ندعو الناس؟). وقد عمل مدة معاونًا للمركز العام، أي مراقبًا للمبنى وأحواله.تعرفي على عبد البديع:عرفت عبد البديع أول ما عرفته وأنا طالب في الثانوي، حين قرأت رسالته اللطيفة (كيف ندعو الناس؟). فهذه الرسالة على وجازتها تتضمن نصائح داعية مجرِّب، قويِّ الملاحظة, خفيفِ الرُّوح، سهل العبارة, لا يميل إلى التعقيد أو التكلُّف، مخلص في دعوته, يدخل كلامه إلى القلوب بيسر, فأحببته قبل أن أعرفه.في معتقل الطورثم قُدِّر لي أن ألتقيه في معتقل الطور، فوجدته كما توقعته, شخصية هادئة متواضعة، تراه دائمًا باسم الثغر، بشوش الوجه، فكِهًا خفيف الدم كما يقول المصريون.وكان الإخوة الدعاة يعقدون اجتماعات، لتدارس شؤون الدعوة, وكيف يمكن تطويرها والارتقاء بها، منهم: الشيخ الغزالي، والشيخ سيد سابق، وعبد البديع صقر.. وعدد من الإخوان نسيتهم لطول الزمن، وكانوا يدعون بعض الشباب ليحضروا معهم، فحضرت معهم عِدَّة مرات.إلى قطر:ثم لم يقدَّر لنا أن نلتقي به بعد ذلك لقاء مباشرًا، إلا في قطر، حيث كانت قطر تريد مديرًا للمعارف التي كانت محدودة في ذلك الوقت, وكان المسؤول عنها الشيخ قاسم درويش فخرو رحمه الله, فطلب من الأستاذ محب الدين الخطيب، الكاتب والمحقِّق الإسلامي المعروف: أن يرشِّح له شابًّا نابهًا، يقوم بتوجيه المعارف في قطر، فرشَّح له الشاب النابه الكاتب الإسلامي المتألّق محمد فتحي عثمان، الذي كان قد تخرج في كلية الآداب قسم التاريخ, من جامعة القاهرة.ولكن لظروف معينة، اعتذر الأستاذ فتحي عثمان، فرشَّح الإخوان بدله الأستاذ عبد البديع صقر.وسافر إلى قطر, التي كانت تخطو الخطوات الأولى في سبيل نهضتها، وأظن أنها لم تكن فيها مدرسة إعدادية، فضلًا عن الثانوية، في ذلك الوقت, سنة 1954م.ولم يكن هناك أي مدرسة للبنات, وكانت الحياة كلها بسيطة، أقرب إلى حياة القرية، أو البادية.مع حاكم قطر الشيخ علي آل ثاني:وكان ذلك في عهد الشيخ على بن عبد الله آل ثاني رحمه الله حاكم قطر، وكان رجلًا يحبُّ العلم والأدب، ومجلسه دومًا يضمُّ عددًا من العلماء والأدباء والشعراء، يُقرأ فيه ما تيسَّر من الكتب في هذه المجالات.كما عُني الشيخ عليٌّ بطبع جملة وافرة من الكتب الشرعية والأدبية النافعة، وخصوصًا في الفقه الحنبلي، وفي التفسير والحديث والأدب والشعر.وقد انضمَّ عبد البديع إلى مجلس الشيخ علي، وأضحى قريبًا منه، وكان يذهب إلى بعض البلاد ليختار المدرسين منها، وخصوصًا سوريا والأردن وفلسطين، إذ لم يكن يستطيع دخول مصر في عهد عبد الناصر.ثم انضمَّ إليه عدد من المصريين، الذين نجوا من محنة الإخوان سنة 1954-1956م، التي اشتهرت بما فيها من قسوة وتعذيب، إلى حد سقوط بعض الأفراد شهداء تحت السياط. وكان من هؤلاء الناجين: كمال ناجي، وعز الدين إبراهيم, وعلى شحاتة، وعبد الحليم أبو شقة, وحسن المعايرجي، ومحمد الشافعي، وكلهم عملوا مع عبد البديع في المعارف في سنواته الأولى.الإشراف على مكتبة حاكم قطر:ثم تغيَّر الوضع في المعارف، بعد أن أصبح مسؤولًا عنها الشيخ خليفة بن حمد، ولي العهد ونائب الحاكم آنذاك، وأُعفي عبد البديع ومن كان يساعده من المصريين، وكلَّف الشيخ عليٌّ حاكم قطر عبدَ البديع بأن يشرف على مكتباته في القصر وفي خارجه.وظلَّ كذلك، حتى تنازل الشيخ علي عن منصبه إلى ابنه الشيخ أحمد بن علي، ليكون حاكم قطر. وقد قرَّب الشيخ أحمد عبد البديع منه، وكان مشرفًا على مكتبته الخاصَّة، بجوار المكتبات العامة، وكان يجالسه تقريبًا في كل مساء.وصولي إلى قطر وتجديد صلتي بعبد البديع:وقد وصلت إلى قطر، في السنة التالية لتولِّي الشيخ أحمد مقاليد الحكم, وجدَّدت الصلة بعبد البديع، بعد أن انقطعت منذ أيام الطُّور.وكانت لنا لقاءات، أحيانًا في قصر الحاكم، أو في مكتبته بدعوة منه، أو في بيت عبد البديع, أو في بيتنا، أو في بيت الشيخ عبد المعز عبد الستار, حيث وصلنا معًا إلى الدوحة في سنة واحدة. كما كانت هناك صلة مودة بين أسرتي وأسرته، التي تتكوَّن من زوجته الفاضلة أم إبراهيم, وابنته الداعية الناشطة سناء, وابنيه النجيبين إبراهيم وأحمد.وكان أخونا الأستاذ عبد البديع صقر قد اقترح عليَّ أنا والشيخ عبد المعز أن نزور الحاكم، فليس لائقًا برجال في منزلة الشيخ عبد المعز والشيخ القرضاوي أن يجيئوا إلى قطر للعمل فيها، ولا يزورون حاكمها. قلت له: أيضًا لا يليق بنا أن نقحم أنفسنا على الرجل، أو نفرض أنفسنا عليه، ولم تأتِ مناسبة معينة لذلك. قال: أنا آخذ لكم موعدًا منه. وأخذ لنا موعدًا لنزوره في مكتبته التي كان يشرف عليها الشيخ عبد البديع. وكان لقاء طيبًا، استقبلنا فيه الرجل استقبالًا حسنًا، ورحّب بنا في بلدنا الثاني، وتحدث معنا حديثًا كله مودة ومحبة. وكان غاية في الدماثة والتواضع وحسن الأدب. ثم دعا بالعشاء فتعشينا معه.مدير دار الكتب القطرية:وبعد ذلك ضُمَّت مكتبات حاكم قطر إلى وزارة المعارف (التربية والتعليم بعد ذلك), وأنشئت منها (دار الكتب القطرية)، وعُيِّن عبد البديع أول مدير لها. وقد ظلَّ في منصبه إلى أن غادر قطر سنة 1972م بعد الحركة التصحيحية التي قام بها الشيخ خليفة بن حمد, وَوَلي حكم البلاد بإقرار الأسرة الحاكمة, وتأييد الشعب القطري. وقد اعتقل بعض أتباع الشيخ أحمد فترة قليلة من الزمن، مثل الأستاذ عبد البديع صقر، ولكنه لم يؤذَ في معتقله، ولم توجه إليه أية إهانة، ثم ما لبث أن أفرج عنه. وقد اعتقل بعض الشباب التابعين للأستاذ عبد البديع، ولم يكن لهم في العير، ولا النفير، فكلمت قائد الشرطة في ذلك الوقت في شأنهم، فأفرج عنهم فورًا.وانتقل الأستاذ عبد البديع إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث بقي فيها إلى أن انتقل إلى رحمة الله. تعاوننا في محنة عام 1965ومن أهم الفترات التي التقينا فيها وعملنا معًا في قطر: سنة 1965م وما بعدها، حين أصاب الإخوان في مصر ما أصابهم من محنة عاتية, هانت إلى جانبها محنة 1954م على قسوتها.وكان علينا نحن الإخوان في الخارج- وقد عافانا الله من البلاء - أن نعين أسر الألوف من المسجونين والمعتقلين، الذين فُصلوا من أعمالهم تعسُّفيًّا, وضُيِّق على أهليهم وعيالهم بكل سبيل. وقديمًا قالوا: قطعُ الأعناق، ولا قطع الأرزاق.وكثيرًا ما كنا نجتمع في بيت عبد البديع: الشيخ عبد المعز, وكمال ناجي, وعز الدين إبراهيم, والفقير إليه تعالى، وبعض الإخوة، نجمع بعض التبرعات لتوصيلها إلى الأسرة المُمْتحنة، ولنتعاون مع الإخوة في بلاد الخليج, فيما يجب عمله، من تكثيف الدعاية المضادة لإعلام عبد الناصر الكاسح, ولا سيما في موسم الحج تلك السنة.على كلِّ حال, كان عبد البديع رجلًا نشيطًا, يحمل الدعوة فكرة في رأسه, وعقيدة في قلبه، وسلوكًا في حياته. وكان مُحِبًّا لإخوانه، بارًّا بهم.ندوة إخوانية في إستانبول:وكنا قد اتفقنا أنا وعدد من الإخوان المصريين خاصة أن نلتقي في مدينة إستانبول؛ لنتدارس بعض القضايا المهمة الخاصة بالدعوة، ونقدم فيها ورقات للبحث والمناقشة. وكان الغالب على هذه القضايا الجانب الفكري وتأصيل المفاهيم، وخصوصا بعد أن دار جدل حام بين الإخوان بعد محنة 1965م داخل السجون وخارجها، وطار رذاذ منه إلى الخارج، وحدث التباس في عدد من القضايا، مثل قضية (الجاهلية)، وقضية (الحاكمية)، وقضية (التكفير).. وغيرها. وقد مرت بالجماعة ثلاث محن كبيرة في تاريخها: محنة عهد الملكية، ومحنتان أكبر منها وأقسى في عهد الثورة، كل محنة أكبر من أختها. ومن حق الجماعة، بل من واجبها، أن تراجع نفسها، وتقوِّم مناهجها على غرار ما تفعل وزارات التربية والجامعات والمؤسسات المختلفة في ضرورة مراجعة فلسفتها ومناهجها وسياساتها كل مدة من الزمن؛ لعلها تجد خللا فتسده، أو نقصًا فتكمله، أو عيبًا فتصلحه، أو خطأ فتصححه، وإن جماعة مضى على تأسيسها أربعون عاما لهي أجدر أن تراجع نفسها، وتقوم مسيرتها، طلبًا للتصحيح والتصويب والتعديل والتكميل والتحسين، والمؤمن دائما ينشد الأمثل والأحسن، كما قال تعالى في وصف المهتدين من أولي الألباب: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 18).وقد شاركت في هذه الندوة بورقتين؛ إحداهما حول "التقليد والتمذهب في الفقه"، والأخرى حول "التصوف والصوفية"، ومحاولة تحرير موقفنا من هذين الأمرين. وكان المشاركون في هذه الندوة على ما أذكر: د.توفيق الشاوي، والأستاذ هارون المجددي، والأستاذ عبد البديع صقر، والشيخ أحمد العسال، ود.صلاح شاهين، وآخرين لم أعد أذكرهم لطول الزمن.لطف معشره وفكاهته ونوادره:وكان لطيفًا في معاشرته، في فكاهاته ونوادره، وكان يزور بعض إخوانه، وبعد فترة قليلة يقول: أعتقد أننا قد شرَّفنا! وينصرف.وكان بيته مفتوحًا لإخوانه، وكان يدعو بعض الناس إلى الغداء عنده، ثم ينسى أن يخبّر أمَّ إبراهيم (زوجته)، فيعود إلى المنزل ليجد الضيوف داخلين معه، ولم يهيئ أهل المنزل لهم الطعام.فيقدِّم لهم الموجود، ويعتذر لهم، قائلًا: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63].وكان أحيانًا يؤخِّرهم حتى يصنع لهم ثريدًا، ويقول: الثريد هو الطعام الذي يقبل القسمة على أي عدد!وكان يقول: على الداعية المسلم أن يفتح اعتمادًا دائمًا لتحمُّل البلاء في سبيل الله!إنشاؤه (مدارس الإيمان) في الإمارات:وبعد انتقاله إلى الإمارات، التقيته كثيرًا، ولا سيما في جمعية الإصلاح في دبي، حين أُدعى لإلقاء محاضرة هناك.وقد أنشأ هناك (مدارس الإيمان) في دبي وفي الشارقة, وقد زرتها، ولمستُ فيها من نشاط وروح إسلامية سارية في جنباتها.وظلَّ الرجل عاملًا لدينه ودعوته, حتى لقي ربه راضيًا مرضيًّا إن شاء الله. رحمه الله وغفر له، وتقبَّله في الشهداء الصالحين.

1464

| 10 يوليو 2015

رمضان 1436 alsharq
القرضاوي: كان الشيخ الباقوري خطيبا مفوها وشاعرا مجيدا

الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة الـــ22 إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. في هذه الحلقة يتحدث الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي الشيخ أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف وشئون الأزهر ورئيس جامعة الأزهر الأسبق (1325 - 1405هــ = 1907 - 1985م): أحمد حسن الباقوري، أحد علماء الأزهر الشريف، وأحد الخطباء المعدودين في العالم العربي، من الأعضاء السابقين في دعوة الإخوان المسلمين، ولد في قرية باقور بمحافظة أسيوط، وإليها ينسب.التحق- كعادة الناس وقتها - بكُتَّاب القرية، وبعد إتمامه حفظَ القرآن التحق بمعهد أسيوط الديني.حصل الباقوري على الشهادة الثانوية عام 1928، ثم التحق بالقسم العالي، وانتقل إلى القاهرة عام 1929م، وحصل منه على شهادة العالمية عام 1932، ثم حصل على شهادة التخصص في البلاغة والأدب عن رسالته (أثر القرآن في اللغة العربية).وبعد تخرجه عين مدرساً للغة العربية وعلوم البلاغة في معهد القاهرة الأزهري، ثم نقل مدرساً بكلية اللغة العربية، وبعدها نقل وكيلا لمعهد أسيوط العلمي الديني، ولم يلبث أن نقل وكيلا لمعهد القاهرة الديني الأزهري عام 1947، وفي سنة 1950عين شيخا للمعهد الديني بالمنيا.انضم إلى حركة الإخوان المسلمين سنة 1933، وهو طالب في الأزهر، وكان أحد قيادات الإخوان، ثم عضو مكتب الإرشاد، وكان أحد المرشحين بقوة لخلافة الإمام حسن البنا. قيادته لثورة الأزهر:كان الشيخ الباقوري طوال حياته من طلاب الأزهر النابهين، وكان خطيبا مفوها، وشاعرا مجيدا، وقد اختاره طلاب الأزهر قائدًا لثورتهم سنة 1940، حين ثاروا على مشيختهم المفروضة عليهم من قبل الملك، الذي أقال شيخهم الأكبر القريب منهم والمحبب إليهم: الشيخ محمد مصطفى المراغي.ثار الأزهر على الظلم الواقع عليه، فقد كان العالِم من خريجي الأزهر في أي من كلياته يُعيَّن براتب قدره ثلاثة جنيهات في معاهد الأزهر، وكان معلم المدرسة الإلزامية خريج مدرسة المعلمين الابتدائية يعيَّن بأربعة جنيهات، ولم يجد الأزهريون شيخًا يتبنَّى مطالبهم غير الشيخ المراغي، وهو من الشيوخ الذين جمعوا بين الأصالة والمعاصرة، فثاروا مطالبين بتحسين أوضاعهم، وإعادة شيخهم المراغي لقيادة سفينة الأزهر.ومما ينسب إلى الباقوري من الشعر في هذه الثورة قوله:ثورةَ الأزهر، أرخصنا الدماء فكلي الأرض وثنِّي بالسماء!وانتصرت ثورة الأزهر التي لمع فيها اسم الباقوري زعيم الثورة، حتى أطلقت الصحفية نعم الباز لقب (ثائر تحت العمامة) على الشيخ الباقوري، في دراسة لها عن الباقوري ومواقفه وحياته، فلم تجد عنوانًا يعبر عن مواقفه إلا هذا العنوان، وبعد عودة الشيخ المراغي إلى مشيخة الأزهر دعا الشيخ أحمد حسن الباقوري، وقدم له هدية منه " تقديراً منه لجهوده في إعادته للأزهر.وأصهر الباقوري إلى أحد كبار علماء الأزهر، وهو الشيخ محمد عبد اللطيف دراز، فقد تزوج ابنته، وأنجب منها ثلاثَ بنات. ثم أصبح الشيخ دراز وكيلا للأزهر بعد ذلك، وهو من عائلة شيخنا العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز. الباقوري الأديب:كان الشيخ الباقوري إلى الأدباء أقرب منه إلى العلماء؛ لذا عرف بالخطابة والشعر، أكثر مما عرف بالفقه والبحث العلمي.وكان له شعر جميل كنا نحفظه، أناشيد تثير فينا مشاعر الحب والحماس للإسلام، ومنها النشيد المعروف:يا رسول الله هل يرضيك أنَّا إخوة في الله للإسلام قمناننفض اليوم غبار النوم عنا لا نهاب الموت لا بل نتمنىأن يرانا الله في ساح الفداءوهو النشيد الذي اعترض عليه بعض الإخوة السلفيين بأنه يخالف العقيدة الصحيحة؛ لأنه يوحي بأن العمل يكون لإرضاء رسول الله، لا لإرضاء الله.ورأيي أن الشيخ لا يقصد ما ذهب إليه هؤلاء، وإنما يريد أن يقول: هل يسرُّك يا رسول الله ويفرحك ويقر عينك: أُخُوَّتنا في الله، وقيامنا لنصرة دينك، والدفاع عن دعوتك؟.. إلخ.ولا أعلم أن شعر الباقوري جُمع إلى اليوم، وقد سمعته مرة وقد سئل عن شعره، فقال في تواضع: إنه من شعر العلماء، وشعر العلماء كعلم الشعراء.وأحسب أن هذا من جميل أدبه وتواضعه، فكثيرًا ما يكون للشعراء علم راسخ، كما يكون للعلماء شعر رائع، ومن هذا شعر الإمام الشافعي الذي لا يشك دارس في قيمته الأدبية، وعلو مستواه الفني. ومن ذلك قوله:أنا إن عشت لست أعدم قوتا وإذا مت لست أعدم قبراهمتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفراوإذا ما قنعت بالقوت عمري فلماذا أخاف زيدا وعمرا؟ الباقوري والإخوان المسلمون:وكان الشيخ الباقوري قد انضم إلى دعوة الإخوان المسلمين من قديم، وبايع الإمام حسن البنا على العمل لنصرة الإسلام، واستعادة مجده، وتحرير أوطانه، والتمكين له عقيدة ونظاما في حياة المسلمين، وكان عضوًا في الهيئة التأسيسية، ثم بعد ذلك في مكتب الإرشاد العام.وكان أول لقاء بيني وبينه وأنا طالب في معهد طنطا الأزهري، فقد سافرت مع بعض الإخوة إلى القاهرة لنلتقي الإمام البنا في المركز العام للإخوان المسلمين، وكنا مجموعة من طلاب الأزهر، وطلبنا إلى الإمام البنا أن يجلس إلينا، ولكنه قال لنا بأدب: كان يسعدني أن أجلس معكم، وأتحدث إليكم، ولكني للأسف مرتبط بموعد آخر، ولكني سأنيب بعض الإخوان ليجلس إليكم، ونادي الشيخ أحمد الباقوري لينوب عنه في الجلوس والحديث، وجلسنا معه جلسة طيبة، وهذا يدل على مكانته من الإمام البنا، وعلى ثقة الإمام البنا به.وعندما حل النقراشي جماعة الإخوان في ديسمبر 1948م، بلغني أن الأستاذ البنا أوصى بأن يكون الباقوري مسؤولًا عن الإخوان خارج المعتقل.وبعد استشهاد الإمام البنا كان اسم الباقوري أحد الأسماء المرشحة لقيادة الجماعة.وفي الانتخابات التي جرت بعد سقوط وزارة إبراهيم عبد الهادي وحزب السعديين، الذين عادوا الإخوان وافتروا عليهم : رشَّح الشيخ الباقوري نفسه في دائرة الخليفة بالقلعة، كما رشَّح عدد من الإخوان أنفسهم، وقد شهدته وهو يدور على أماكن التجمعات في الدائرة ويخطبفيها، وإن لم يحالفه النجاح في النهاية، شأنه شأن كل مرشحي الإخوان: مصطفى مؤمن، وفهمي أبو غدير، وطاهر الخشاب، والشيخ عبد المعز عبد الستار، والشيخ على شحاته وغيرهم.وأذكر أني لقيته في تلك الفترة- بعد خروج الإخوان من المعتقلات- في محطة القطار بمدينة طنطا، فهرعت إليه، وسلمت عليه، وعرفته بنفسي، وسألته عن حال الإخوان، فتنفس الصُّعَداء، وشكا إلى الله من سوء الحال، وقال: خير للجماعة أن تكتفي بما أنجزت، وأن تقف عند هذا الحد، وتبقي على هذا التاريخ الناصع، بدل أن تكدر صفاءه بما لا يلائم تراث الجماعة ومواقفها الشامخة في قضايا الوطن والإسلام.وحين اختارت الجماعة الأستاذ الهضيبي مرشدًا عامًا، كان الباقوري أول من بايعه، وكان الهضيبي يصطحب الباقوري كثيرا في رحلاته إلى محافظات مصر، ويقدمه للحديث إلى الجماهير، وقد صحبته في رحلتين كان الباقوري رفيقهفي كلتيهما: إحداهما إلى مدينة السويس، والأخرى إلى كفر الشيخ.وكان الباقوري عضوًا في مكتب الإرشاد مع الأستاذ الهضيبي، حتى قامت ثورة 23 يوليو، وحين طلب جمال عبد الناصر ورجال الثورة من الإخوان أن يرشحوا أشخاصًا للوزارة ، رشَّح الأستاذ الهضيبي لهم ثلاثة لم يكن الباقوري بينهم، واختار رجال الثورة الباقوري ليتولى وزارة الأوقاف معهم، وأبدى الباقوري للهضيبي أنه راغب في الاستجابة لهم، وأن لديه أفكارًا وتطلعات في إصلاح المساجد والأوقاف، ولم يمانع الأستاذ الهضيبي في ذلك، ولكنه طلب إليه أن يدخل في الوزارة باسمه لا باسم الجماعة. وهذا يتطلب منه أن يقدم استقالته من الجماعة، وقد قبل.ومن مكارم الأستاذ الهضيبي أنه ذهب للباقوري في مكتبه يهنئه بمنصبه، وهذا يعني أنه لم يعتبر دخوله قطعًا لصلة المودة له، وقال له الباقوري: عفوًا يا مولانا. إنها شهوة نفس. فقال له الهضيبي: اشبع بها!ومما يذكر للباقوري ما نشرته جريدة (المصري) بتاريخ 11/ 9/ 1952م، فقد سأل مندوبها الشيخ عن أسباب استقالته من الإخوان، فكان جوابه: هي أسباب أحب أن أوثر نفسي بها. وليس من بينها سبب واحد يمس احترامي لإخواني، واعتزازي بهم، فكل واحد منهم- صغيرا كان أو كبيرا- في أعمق مكان في قلبي. الباقوري الوزير:انسجم الباقوري مع الثورة، وانسجمت معه الثورة، وكان خطيبها ولسانها المتحدث باسم الدين، وهو رجل حسن المظهر، حصيف الرأي، حلو اللسان، يحسن استقبال الناس، ويحسن الحديث إليهم، ويعرف متى يمسك لسانه، ومتى يطلقه، وفيم يطلقه.ومن حسناته: أنه ضم إليه مجموعة من الدعاة المعروفين، ووكل إليهم شؤون الدعوة والمساجد، والثقافة الدينية، وعلى رأس هؤلاء: أستاذنا البهي الخولي الذي ولاه منصب مراقبة الشؤون الدينية، وشيخنا الشيخ محمد الغزالي الذي تولى منصب مدير المساجد، وشيخنا الشيخ سيد سابق، الذي تولى منصب مدير الثقافة، وكل هؤلاء من كبار دعاة الإخوان، والمقدمين فيهم.كما شهد الكثيرون من الإخوان أن الباقوري ما ذهب إليه من أعضاء الجماعة أحد يطلب منه عونًا أو خدمة في قضية، إلا لبَّى طلبه وقضى حاجته، ما دام يقدر عليها.الباقوري يدعوني إلى الوقوف ضد الانجليز والصهاينة :وبعد العدوان الثلاثي على مصر، بعد أن أمم عبد الناصر قناة السويس، جاءتني برقية من وزارة الأوقاف تطلب إلي أن أحضر بسرعة إلى القاهرة لأتسلم منبر الأزهر، لرفع الروح المعنوية في الشعب في هذه المرحلة الخطيرة في تاريخ مصر، وكان هذا بتوجيه من شيوخنا: البهي الخولي ومحمد الغزالي وسيد سابق، الذين أشاروا على الشيخ الباقوري أن يستدعيني للأزهر. بيد أني لم أتجاوب مع هذه البرقية، وقلت في نفسي: إنهم يستنجدون بي الآن، حتى إذا انكشفت الغمة طرحونا وراءهم ظهريا! ولما لم أرد عليهم كلفوا شيخنا الشيخ محمد الغزالي الذي اعتلى منبر الأزهر، وظل يخطب فيه عدة سنوات، وقد كان الشيخ الغزالي يخطب في جامع الزمالك الكبير، فخلا مكانه، فأرسلوا إلي في القرية أحد الإخوة ليبلغني بضرورة الاستجابة إلى طلب الأوقاف، وإلحاحهم في أن أحل محل الشيخ الغزالي في مسجد الزمالك، واستجبت إلى رغبة شيوخنا، وسافرت إلى القاهرة، وتسلمت مسجد الزمالك لأخطب فيه، بمكافأة قدرها اثنا عشر جنيها، وعرف الكثيرون ذلك فبدأ الناس يتوافدون على المسجد من أنحاء القاهرة وضواحيها، بل من خارج القاهرة أيضا، وظللت أكثر من سنة أخطب الجمعة بمسجد الزمالك، حتى بعد أن انتهت الحرب، ولاحظ رجال المباحث العامة أن المسجد أصبح يمثل مدرسة دعوية متميزة بخطبه، وبالحلقات التي أعقدها بعد كل خطبة أجيب فيها عن أسئلة الناس، وأمسى الناس يفدون إليه من كل صوب وحدب. وأخيرا ضاق صدرهم، ونفد صبرهم، فأجبروا الأوقاف أن تمنعني من الخطابة، فقد انتهت مهمتي بعد أن أصرت أمريكا على دول العدوان الثلاثي أن تجلو عن مصر، وهذا ما كنت أتوقعه منهم.

3499

| 09 يوليو 2015

رمضان 1436 alsharq
القرضاوي: المودودي أحد المصلحين والمؤلفين الكبار في القضايا الإسلامية

الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة الـــ22 إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة. إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!. وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. في هذه الحلقة يتحدث الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي الإمام أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان (1321 - 1399هـ = 1903 - 1979م): بو الأعلى بن أحمد حسن مودودي، أمير (الجماعة الإسلامية) في باكستان والهند، ومؤسسها، وصاحب الكتب والرسائل التي قرأها المسلمون بلغات شتى، ولد في الثالث من رجب سنة 1321هـ = 1903م في أورنج آباد في حيدر آباد، وتلقى تعليمه على يد والده، الذي كان قد تفرغ أواخر حياته للعبادة والتنسك، فتعلم القرآن والعربية والحديث والفقه والفارسية، وترأس جريدة (مسلم) الأسبوعية التي كانت تصدر في العاصمة، وفي عام 1932 بدأ إصدار مجلة (ترجمان القرآن) الشهرية، التي أصبحت الوسيلة الرئيسية، لتوجيه مسلمي شبه القارة الهندية، في عام 1399هـ، منح جائزة الملك فيصل تقديرًا لجهوده وتضحياته في خدمة الإسلام. لقائي الأول بالعلامة المودوديفي سنة (1960م) زار مصر الأستاذ الكبير العلامة أبو الأعلى المودودي، وكان يكتب تفسيره الشهير (تفهيم القرآن)، وكان يجتهد أن يتعرف على الأماكن التي ذكرت في القرآن في مواقعها، ومنها (مصر)، التي ذكرت في القرآن خمس مرات، ومنها: الطور أو طور سيناء، أو طور سينين، وهل يمكن معرفة أين فلق البحر بعصا موسى؟ وأين مجمع البحرين؟ وأين أرض التيه؟ إلى غير ذلك من الأماكن التي ذكرت في القرآن، ولها علاقة بمصر، وقد سافر الشيخ إلى سيناء وغيرها من بلاد مصر.وكان من برنامج الإمام المودودي: زيارة الشيخ شلتوت شيخ الأزهر، والعالم المجدد في فتاواه وبحوثه، والدكتور محمد البهي، المعروف بوقوفه في وجه الملاحدة والماديين والعلمانيين والمستشرقين.وأذكر أني صحبت المودودي، بأمر أستاذنا محمد البهي؛ لأمرّ به على إدارات الأزهر المختلفة، وكان ممن مررنا بهم: مدير مجلة الأزهر الأستاذ أحمد حسن الزيات، الأديب المعروف، ومؤسس مجلة (الرسالة) التي كانت المجلة الأدبية الأولى في العالم العربي. وكان مما فاجأني به: أني لما قدمت الأستاذ المودودي إلى الأستاذ الزيات، وجدته لا يعرف عنه أي شيء! فوقفت أشرح له مكانة الأستاذ المودودي مؤسس (الجماعة الإسلامية) في باكستان والهند، وصاحب الكتب والرسائل التي شرَّقت وغرَّبت، وتُرْجِمَت إلى لغات شتى في أنحاء العالم، ومنها إلى اللغة العربية، وأن له مواقفَ كذا وكذا.. وأنا في خجل أن يكون مثقف كبير في مصر مثل الزيات لا يعرف عن المودودي وجماعته شيئًا. وكان مع المودودي الأستاذ عاصم حداد، مترجم كتبه إلى العربية.وقد قابل المودودي في زيارته تلك الشيخ شلتوت في مكتبه بالأزهر، ورحَّب به الشيخ شلتوت كثيرًا، وأشاد بفضله ومنزلته في تجديد الفكر الإسلامي، وكان الشيخ شلتوت قد علق في إحدى مقالاته على رسالة (نظرية الإسلام السياسية) للأستاذ المودودي، وقد أودعناها كتابه (من توجيهات الإسلام)- الذي قمت بجمعه من مقالاته المتفرقة هنا وهناك، أنا وأخي أحمد العسال- ودعاه الشيخ شلتوت إلى زيارته في بيته، ومن الجميل أن الشيخ شلتوت عند زيارته له طلب منه أن يفسر له سورة الفاتحة، وحاول المودودي أن يعتذر فأصر الشيخ، وفسرها الضيف تفسيرًا مختصرًا جميلًا. وهذا من أدب العلماء الكبار بعضهم مع بعض.وقد بقي الأستاذ المودودي مدة في مصر، ثم عاد إلى باكستان. كتاب الحلال والحرامكان أخونا الشيخ مصطفى جبر- وهو أحد المصريين الذين وصلوا إلى قطر قديما- قد قرأ كتابي الأول (الحلال والحرام)، بعد أن طبعه على نفقته الشيخ فهد بن علي آل ثاني، ليوزعه في قطر، وأعجب به إعجابًا شديدًا، فاستأذنني أن يرسل مجموعة من النسخ مع أحد الإخوة المسافرين إلى باكستان، فأرسل نسخة إلى العلامة أبي الأعلى المودودي، وعليها إهداء مني، ونسخة إلى جامعة البنجاب بلاهور، وأخرى إلى جامعة كراتشي.وقد أرسل إلي الأستاذ المودودي يشكرني على إهداء الكتاب له، ويقول في رسالته: إني أعتز بهذا الكتاب، وأعتبره إضافة جليلة إلى مكتبتي. رسالتي إلى المودوديكان سبب هذه الرسالة أن بعض الإخوة اقترح عليَّ أن أراسل جامعة (البنجاب) في لاهور بجمهورية باكستان الإسلامية، لأستكمل الدراسات العليا هناك، بعد أن انسد الأمر في مصر، بسبب التضييق الأمني، وجامعة (البنجاب) جامعة عريقة، وفيها قسم للدراسات الإسلامية، ورئيس الجامعة العلامة علاء الدين الصديقي، الذي كان رئيسا لقسم الدراسات الإسلامية من قبل، حين حصلت إحدى طالبات القسم (جميلة شوكت) على درجة الماجستير عن بحثها حول كتابي (الحلال والحرام في الإسلام) فقال المحبذون: فالجامعة تعرفك ولا تجهلك، ورئيسها يعرفك ولا ينكرك، وهو على صلة طيبة بالأستاذ العلامة أبي الأعلى المودودي، أمير الجماعة الإسلامية، ويكن له كل مودة وتقدير. ورأى هؤلاء الإخوة أن من الخير أن أكتب للأستاذ أبي الأعلى المودودي، وأعرض عليه الأمر، طالبًا مشورته بعد أن يكلم العلامة الصديقي. وبادرت بكتابة رسالة إلى الإمام المودودي، شرحت له فيها الموقف، وانسداد الطرق في وجهي بالنسبة للدراسات العليا في مصر، ما دام الوضع الحالي باقيًا، وانفتاح فرجة أمامي في جامعة البنجاب، إلى آخر ما جاء في الرسالة. وسرعان ما أجابني الأستاذ المودودي: أنه كلم صديقه البروفسور الصديقي، وأنه يرحب كل الترحيب بكم، وهو يعرفكم جيدًا، وكذلك أساتذة القسم الإسلامي في الجامعة، كلهم مرحِّبون ومتعاونون، ونصحني أن أسارع بالمجيء إلى لاهور، للتفاهم مع المختصين حول الخطوات التي يجب اتخاذها للوصول إلى الهدف. وحمدت الله تعالى أن فُتِح لي هذا الباب، وعقدت النية على الذهاب إلى لاهور بمجرد انتهاء العام الدراسي. لقاء المودودي في لاهورفي مطار لاهور استقبلني بعض الإخوة أعضاء الجماعة الإسلامية، ومنهم الأستاذ رحمة إلهي، الأمين العام للجماعة، مندوبًا عن الأستاذ المودودي، ومعه الأخ الداعية الفاضل الشيخ خليل أحمد الحامدي، مدير القسم العربي في الجماعة، الذي يتحدث العربية بطلاقة.أبى إخواننا في الجماعة الإسلامية إلا أن ينزلوني ضيفا عليهم، فاشترطت عليهم أن تكون الضيافة لمدة ثلاثة أيام، ثم يدَعوني وشأني.وفي المساء لقيت الإمام المودودي في دار الجماعة، ورحب بي هو وإخوانه جميعًا، ولا سيما نائبه الأستاذ طفيل محمد، ورتَّبوا لي عددًا من اللقاءات بأعضاء الجماعة، وخصوصًا جمعية الطلبة المسلمين، التي توجهها الجماعة، وزيارة بعض البلاد حول مدينة لاهور، وعقد بعض المؤتمرات الصحفية. ورحبتُ بهذا كله، ولكني طلبت أن يرتبوا لي زيارة لجامعة البنجاب، ومقابلة رئيسها وأساتذتها، حتى لا نُضيع الأمرَ الذي جئت من أجله، وقالوا: هذا طبيعي ومنطقي بلا ريب.والحقيقة أن الإخوة في الجماعة الإسلامية أكرموني غاية الإكرام، وفي كل يوم كان يدعونا أحدهم إلى وليمة، يدعى إليها مولانا المودودي وكبار الجماعة، وكان بعض الإخوة يريد أن يأخذ لنا صورة تذكارية بهذه المناسبة، ولكن المودودي- كعلماء باكستان والهند عمومًا- يشدِّدُون في أمر الصور؛ فكان الأستاذ المودودي يقول لهم: خذوا بمذهب القرضاوي الذي رجَّحه في "الحلال والحرام". والعجيب أني لم آخذ معي شيئًا من هذه الصور، فليت أحدًا من الإخوة الذين يقتنونها يتحفني بشيء منها، وله مني الشكر، ومن الله الأجر.وكنت قد استأذنت الجماعة الإسلامية بعد ضيافة الأيام الثلاثة أن أنتقل إلى فندق مناسب، أقضي فيه ما بقي لي من أيام في لاهور، وقمت ببعض الأنشطة.وقال مولانا المودودي لي: ليتك تذهب إلى دكَّا (عاصمة بنجلاديش)؛ فهي تحتاج إلى مثلك، في هذا الوقت الذي يعمل دعاة الانفصال، مؤيدين من أعداء باكستان وأعداء الإسلام.قال المودودي: إنك ستجد باكستان الشرقية جنة الله في أرضه، وأنهارها أشبه بالبحار. كتاب فقه الزكاةوبعد أن فرغتُ من كتاب (فقه الزكاة)، وظهر إلى عالم النشر والتوزيع في مجلدين، وبدأت أبعث بنسخ منه إلى كبار الشخصيات العلمية، في العالمين العربي والإسلامي، أرسلت نسخة منه إلى العلامة المودودي رحمه الله، وقال عنه: إنه كتاب القرن (أي الرابع عشر الهجري) في الفقه الإسلامي. نقل ذلك عنه الأستاذ خليل أحمد الحامدي مدير القسم العربي بالجماعة الإسلامية بباكستان. وفاة الأستاذ المودودي والصلاة عليهفي 22/9/1979م، نشرت وكالات الأنباء العالمية والإقليمية، وعنها نقلت الصحف والإذاعات والتلفزيونات، نبأ وفاة الداعية الإسلامي المجدد الكبير: الشيخ أبي الأعلى المودودي، مؤسس الجماعة الإسلامية في الهند الكبرى، ثم في باكستان الغربية والشرقية، التي انفصلت فيما بعد، وسميت جمهورية (بنجلاديش)، وأحد المصلحين الإسلاميين، والمؤلفين الكبار في القضايا الفكرية الإسلامية، والذي تشكل كتبه ورسائله مدرسة متميزة في الفكر الإسلامي، والدعوة الإسلامية المعاصرة. فلا عجب أن تلقى العلماء والدعاة والمفكرون، وأبناء الحركة الإسلامية في العالم الإسلامي وخارجه: نبأ وفاته بالحزن والألم والاسترجاع، لفقد هذا العالم الفذ، الذي انتفع بعلمه المسلمون عربهم وعجمهم، فقد ترجمت مؤلفاته إلى لغات شتى إسلامية، وعالمية، وفي مقدمتها: اللغة العربية. وقع وفاة المودوديومن هنا كان وقع وفاة المودودي على كل مَن يعرفه من أبناء الأمة شديدًا، وقد تنادى كثير من الإخوة من العلماء والدعاة، من مصر وبلاد الشام، وبلاد الخليج، وغيرها للسفر إلى مدينة لاهور- محل إقامة المودودي- للمشاركة في صلاة الجنازة عليه. لم يبق في ذاكرتي منهم إلا الدكتور أحمد الملط من مصر، والشيخ سعيد حوى من سورية، والأستاذ عبد الله العقيل من السعودية. وكان المودودي قد وافاه أجله في أمريكا، حيث كان يعالج هناك من مدة، وقد قُدِّر لي أن أزوره هناك في مدينة (يفلو) حيث يقيم ابنه هناك، وذلك قبل وفاته بزمن غير بعيد.وقد صُلِّي على جثمان المودودي في أكثر من بلد: صُلِّيَ عليه حيث توفي في (يفلو)، وصُلِّيَ عليه في مطار نيويورك، وفي مطار لندن، وفي مطار كراتشي، وهي المحطات التي مرَّ عليها جثمان الأستاذ. سفري إلى لاهوروكانت الصلاة الأخيرة والأساسية عليه في مدينة لاهور، التي سافرت إليها مع مَن سافر من بلاد العرب، وقد تجمع جمٌّ غفير، قُدِّروا بأكثر من مليون في أكبر نادٍ رياضي (إستاد) في لاهور. وقد سُرَّ الإخوة من قادة (الجماعة الإسلامية) بحضوري، وقدَّموني لأقول كلمة في جموع الحاضرين، قبل الصلاة، ثم شرفوني بإمامة المصلين على الأستاذ، ولم أرَ في حياتي تجمُّعًا لصلاة أو لغيرها، مثل هذا التجمع، الذي كان على رأسه رئيس جمهورية باكستان الرئيس ضياء الحق رحمه الله.وكان هذا التجمع الإسلامي الكبير دليلًا على مكانة هذا الرجل في قومه، وإن كان هناك مَن يخالفونه في بعض المسائل، ولكن جمهور علماء باكستان ودعاتها ومثقفيها، يعرفون منزلة الرجل، ويقدرون فكره وفقهه وجهاده، ووقوفه في وجه الحضارة الغربية الغازية. وقد قال بعض علمائنا السابقين لأهل البدع والمنحرفين: بيننا وبينكم الجنائز.فالجنازة هي التي تعبر عن مكانة الفقيد عند الأمة، إذ لا يمكن أن يكون حرص الناس على الصلاة على الميت، ببواعث دنيوية من الخوف أو الطمع، وقد انتقل العالِم إلى رحمة الله، وغادر الدنيا إلى الآخرة؛ ولذا كان حرص أبناء المجتمع على تشييع جنازة العالم، والصلاة عليه: نوعا من الوفاء له، والتعبير عن مدى حبهم له، وحرصهم على المشاركة في الدعاء له مع الداعين.ومن الجنائز التي يتحدث عنها المؤرخون: جنازة الإمام أحمد في بغداد سنة (241هـ). ومنها: جنازة ابن الجوزي سنة (597هـ) في بغداد. ومنها: جنازة شيخ الإسلام ابن تيمية في دمشق سنة (728هـ). وقد دفن الأستاذ المودودي في بيته حسب وصيته، وكنتُ أُوثِر أن يدفن في المقابر العامة كسائر المسلمين.كان المودودي في كلِّ ما كتب الفارس المغوار، والصارم البتار، يقول ما يعتقد، ويعلن عما يقتنع به، ويؤمن بأنه الحقُّ، لا يخاف في الله لومة لائم، ولا صولة ظالم، من العلمانيين أو المقلدين أو المتغربين أو الطاغين.ولا يرتاب مسلم دارس في إمامة المودودي وعبقريته، في فكره الإسلامي الرحب، الذي تناول فيه قضايا الإسلام، من تفسير ختم فيه القرآن الكريم، ومن دراسة للسنة، وردٍّ على الذين زعموا أنفسهم قرآنيين، بدعوى أنهم يهملون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي روته الأمة وخدمته، وأقامت لخدمته تسعين عِلْمًا من علوم الحديث، وقامت مكتبة ضخمة لهذه العلوم، عكف عليها العلماء، ولكن سبحان من له الكمال، وكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد انتُقِد على الإمام المودودي عدة أمور منها:

3860

| 08 يوليو 2015

رمضان 1436 alsharq
القرضاوي: الشيخ عبد الحليم كان رجلًا متصوفًا فكرًا وعاطفة وعملًا

الكتاب: "في وداع الأعلام"المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاويالحلقة : العشرون إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. وفي هذه الحلقة يتحدث الشيخ القرضاوي عن الدكتور عبد الحليم محمود وعبد الله المشد ود. علي جمّاز: شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمودرجل العلم والفلسفة والتصوف(1328 - 1397هـ = 1910 - 1978م)الشيخ عبد الحليم محمود من قرية أبو أحمد التابعة لمدينة بلبيس بمحافظة الشرقية، ولد في 2 من جمادى الأولى سنة 1328هـ الموافق 12 من مايو 1910م، والتحق بالأزهر، وحصل على الشهادة العالمية سنة (1932م)، ثم سافر على نفقته الخاصة لاستكمال تعليمه العالي في باريس، ونجح في الحصول على درجة الدكتوراه في سنة (1940م). تدريسه لي مادة الفلسفة الإسلامية:كان الشيخ من أبرز من درسني في كلية أصول الدين، فقد درسني في السنة الثالثة مادة (الفلسفة الإسلامية) وقد اختار لنا كتاب الدكتور إبراهيم بيومي مدكور (الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيق)؛ ليكون موضوع دراستنا، كما درَّس لنا فصلًا من كتاب (الإشارات والتنبيهات) لابن سينا، يتعلق بالتصوف.ودرسنا في السنة الرابعة: (فصولًا في التصوف في ضوء المنقذ من الضلال) لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، كما أعطانا فكرة عن فلسفة الأندلس، في ضوء (قصة حي بن يقظان) لابن طفيل، بالإضافة إلى نظرات في الفلسفة الحديثة، التي درسنا فصولًا منها في (النظريات الأخلاقية).كان الدكتور عبد الحليم في تلك الآونة، يلبس الحلة (البذلة) الإفرنجية، كما كان حليق اللحية، ولكنه كان رجلًا متصوفًا: فكرًا، وعاطفة، وعملًا، وكان لا يهتم بالمظاهر لا في نفسه، ولا في بيته.وقد زرته في بيته بضاحية الزيتون عدة مرات، وحدي أحيانًا، ومع الأخ عبد الودود شلبي أحيانًا، فكان بيته متواضعًا في أثاثه وفراشه، لا يليق برجل تخرج في فرنسا.وكان كثيرَ الصمت، لا يتكلم إلا قليلًا، وكان معجبًا بشيخه في فرنسا، وهو (رينيه جينو) أو (عبد الواحد يحيى)، وهذا اسمه بعد أن أسلم، وكان متصوفًا كبيرًا، وكثيرًا ما حدثنا عنه، وكتب عنه رسالة نُشرت.وقد عُيِّن بعد ذلك عميدًا لكلية أصول الدين، ثم تولى أمانة مجمع البحوث الإسلامية، ثم تولى وزارة الأوقاف، وصدر قرارٌ بتعيينه شيخًا للأزهر في (22 من صفر 1393هـ الموافق 27 من مارس 1973م. وكان من أبرز شيوخ الأزهر، الذين لهم مواقف تذكر، وإن أخذ بعض الناس عليه- وأنا منهم- في تصوفه ما أخذوا، مما قد يُعَدُّ من الغلو، يغفر الله له ولنا معه، ومن ذا الذي أجمع عليه الناس؟ لقائي به في الهند:أراد العلامة الشيخ أبو الحسن الندوي أن يجمع كبار علماء الأمة ودعاتها بهذه المناسبة، ليروا (ندوة العلماء)، هذه المؤسسة الفريدة بأعينهم، ويلمسوا آثارها بأيديهم، ويتحسسوا حاجاتهم بأنفسهم، ويساهموا في إقامة مشروعاتها المستقبلية. ولهذا لم يسعنا حين وصلتنا دعوة الشيخ إلَّا أن نلبي النداء، ونهرع إلى هناك، وكنا وفدًا من قطر مكونا من فضيلة الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، وفضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار، والفقير إليه تعالى، وقد دُعِيَ عدد من الإمارات على رأسهم فضيلة الشيخ أحمد عبد العزيز المبارك، رئيس القضاء الشرعي، وعدد من علماء المملكة العربية السعودية ورجالها، ومن الكويت والبحرين ومصر وغيرها، وكان على رأس الوفد المصري الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر، وفضيلة الشيخ الدكتور محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف.كان المتبع في مثل هذه الأحوال: أن يكون الشيخ أبو الحسن الندوي هو رئيس هذا المهرجان أو المؤتمر، ولكنه أبى إلا أن يكون الرئيس هو شيخ الأزهر الشيخ عبد الحليم محمود.وكانت دولة الهند إكراما للشيخ أبي الحسن، واعترافًا بمنزلته في العالم الإسلامي، قد استضافت عددا من الضيوف، وهيأت لهم زيارة بعض المناطق السياحية، في دلهي، وفي تاج محل وغيرهما. وكان الشيخ عبد الحليم محمود، والشيخ الذهبي، والشيخ الأنصاري، والشيخ عبد المعز، وأنا، ممن نزلوا ضيوفًا على الدولة، وذهبنا للسلام على رئيس الجمهورية، وكان مسلمًا، وهو الدكتور ذاكر حسين، والمعروف أن رئيس الجمهورية في الهند ليس له سلطات تذكر، وإنما السلطة في قبضة رئيس الوزراء، على غرار النظام الإنجليزي. زيارته لقطر:وفي عام 1973 زار الشيخ عبد الحليم محمود قطر، وزار المعهد الديني، وكنت ما زلت مديرا له، وألقى كلمة للطلاب والمدرسين، وزار عدة أماكن في قطر، منها كلية التربية التي كنت أدرس فيها بعض المواد، وكان عميدها الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم كاظم الذي كان عميدًا لكلية التربية بجامعة الأزهر.شجاعة الشيخ ومواقفه:من مواقفه أنه بعد عودته من فرنسا كان يرتدي البدلة، غير أنه بعد سماع خطبة للرئيس عبد الناصر يتهكَّم فيها على الأزهر وعلمائه بقوله: إنهم يُفتون الفتوى من أجل ديكٍ يأكلونه. فغضب الشيخ، وشعر بالمهانة التي لحقت بالأزهر، فما كان منه إلا أنه خلع البدلة، ولبس الزيَّ الأزهريَّ، وطالب زملاءَه بذلك، فاستجابوا له تحديًا لعبد الناصر، ورفعًا للمهانة عن الأزهر وعلمائه.كما كان له موقفه الشجاع نحو قانون الأحوال الشخصية، الذي روَّج له بعضُ المسؤولين بتعديله؛ بحيث يقيَّد الطلاق، ويُمنَع تعدد الزوجات، فانتفض الشيخ وقال: لا قيودَ على الطلاق، إلا من ضمير المسلم، ولا قيودَ على التعدد، إلا من ضمير المسلم. ولم يهدأ حتى أُلغي القرار.وفي يوليو 1974م صدر قرارٌ جمهوري بتنظيم شؤون الأزهر، وتحديد مسؤولياته، على أن يكون الأزهر تابعًا لمسؤولية وزير شؤون الأزهر؛ ما أفقد الأزهر استقلالَه، فأسرع الشيخ بتقديم استقالته في أول أغسطس؛ احتجاجًا على القرارِ، ولم يعُد لمنصبه إلا بعد إلغاء القرار وصدور اللائحة التنفيذية التي تخوِّل للأزهر شؤونه.عبد الله المشد(1321 - 1411هـ = 1903 - 1990م)العالم الأزهري، والفقيه الأصولي المستنير، الشيخ عبد الله المشد، شغل عدة مناصب علمية ودعوية، منها: مدير الوعظ بالأزهر، وعضو بمجمع البحوث الإسلامية، ورئيس لجنة الفتوى بالأزهر، والمستشار الديني لبعض البنوك الوطنية.وكان المشد رجل صدق، ومن العلماء النابهين الناشطين من أبناء مديرية البحيرة، مثل الشيخ شلتوت، والدكتور البهي، والدكتور ماضي.وقد كان معنيًّا بالقضايا الإسلامية، وكان رئيسًا للبعثة التي أرسلها الأزهر إلى بلاد (الصومال) و(أريتريا) و(عدن) و(الحبشة)، لدراسة أحوال المسلمين بهذه البلاد.واستغرقت رحلة البعثة ثلاثة أشهر، ما بين يوم 26 من شعبان سنة 1370هـ الموافق أول يونيو سنة 1951م ويوم 29 من ذي القعدة الموافق أول سبتمبر سنة 1951م. وكتبت تقريرا مفصلًا، يتسم بالدقة والاعتدال والواقعية، يقع في مائة وستين صفحة كبيرة. ومع هذا فقد حوى ذلك التقرير عجبًا عجابًا عن الاضطهاد الديني في القرن العشرين، ولا غرو أن ظل رجال إريتريا الكبار، وشبابها الصغار، يترددون على الشيخ المشد، ولا سيما عندما بدأوا يفكرون في إنشاء حركات التحرير من الاحتلال الإثيوبي لبلدهم، والاستقلال عن الحبشة، وأذكر من هؤلاء الأستاذ آدم إدريس، أحد الزعماء المرموقين، الذين قاوموا جبروت وطغيان هيلاسلاسي الذي حكم إثيوبيا بين 1928 و1974.ومن المواقف التي أذكرها للشيخ المشد، عندما اعتقلت في مصر بعد عودتي من قطر في الإجازة السنوية لعام (1962م)، ولم يعرف أهلي إلى أين أُخِذْتُ، فذهبت زوجتي (أم محمد رحمها الله) إليه في مكتبه بالأزهر، ليساعدها في الوصول إليَّ، فحاول واجتهد، ولكنه عجز عن أن يصل إلى شيء.ومما أخذته على الشيخ، أمر يغتفر في بحر حسناته، ولكن أذكره للتاريخ، فقد ساءني أن أرى اسمه ضمن من كتب في الملحق الذي أصدرته مجلة (منبر الإسلام)، التي كانت تصدر عن (المجلس الأعلى للشئون الإسلامية) الذي يديره الضابط المعروف توفيق عويضة أمينه العام، والذي كانت تعلو كلمته على كلمة وزير الأوقاف إذا تعارضتا، وكان ملحقًا خاصًّا مثيرًا، عنوانه: "رأي الدين في إخوان الشياطين"! وكان ذلك في أثناء محاكمات تنظيم (1965)، وقد كتب فيه عدد من العلماء والمشايخ، كنت أربأ ببعضهم أن ينساقوا في هذا التيار، ويُستخدَموا أدوات في أيدي الظلمة الجبارين، وكان من هؤلاء الأسماء التي ساءني أن أراها في هذه القائمة: الشيخ عبد الله المشد، والأستاذ أنور الجندي، والمعروف أنه من الإخوان. ولكن يبدو أن الضغط كان شديدًا!. غفر الله لهما. فتاوى تدل على تمكن الشيخ المشد:وكان للشيخ المشد رحمه الله عديد من الفتاوى المهمة، والاجتهادات التي تدل على تمكنه الفقهي، منها جواز ذبح الهدي خارج الأراضي الحجازية، إذا لم يجد الحاج من يأكل ذبيحته هناك، ليستفيد بها فقراء المسلمين، وترتب على فتواه هذه أن أقامت المملكة العربية السعودية مصانع لتعليب الذبائح، وإرسالها إلى المسلمين الفقراء في العالم.وله أيضا فتاوى حول تحديد أوائل الشهور العربية، وحول فرق القيمة الذي اعتبره ليس من الربا المحرم، وله فتوى أجاز فيها نقل الأعضاء، وأجاز التأمين على الحياة. من مؤلفاته:- تقرير عن أحوال المسلمين في بلاد الصومال وأريتريا، 1957م.- علي مبارك: حياته ودعوته وآثاره، بالاشتراك مع محمود الشرقاوي، 1962م.- واشترك مع أمين الخولي في تأليف كتاب "الآداب الدينية الاجتماعية"، 1966م.د. علي جمّازالعالم الداعية المعلِّم(ت: 1993م - 1414هـ)تعرفي على الأخ الشيخ جماز:عرفت أخانا الشيخ علي جمّاز في قطر، وكان من المجموعة التي سبقتنا متعاقدة مع وزارة التربية– أو وزارة المعارف- لتدريس العلوم الشرعية. وكان الشيخ عبد الله بن تركي مفتش العلوم الشرعية والمسؤول الأول عنها، حريصًا على استحضار علماء الأزهر لتدريس هذه العلوم، وكان يفخر بذلك.وكان لهذه العلوم أهميتها ويترتَّب عليها نجاح ورسوب. وكان من حُسن حظ الإخوان المسلمين الذين رفضت الحكومة المصرية تعيينهم في مدارسها: أن يجدوا باب قطر ودول الخليج مفتوحًا لهم، فولجوه بقوة، مع من ولجه من أبناء الأزهر.كان الشيخ علي عالمًا وداعية، يتميَّز بحضوره وحُسن فهمه، وحسن تلاوته للقرآن الكريم، ولذا كنت أقدِّمه أحيانًا ليصلي بالناس بعض صلاة التراويح نيابةً عني، وقد كان رحمه الله يحسن عرض حقائق الإسلام في خطبه في المساجد وغيرها.وقد ظل واضح الصوت، مسموع الكلمة، طوال الفترة التي قضاها معي في المعهد، مع إخوانه الآخرين من علماء الأزهر النابهين.

6196

| 06 يوليو 2015

رمضان 1436 alsharq
القرضاوي: حسن الهضيبي عُرف بالغيرة على الإسلام والدعوة إليه

الكتاب: "في وداع الأعلام" المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاوي الحلقة : الثامنة عشرة إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. وفي هذه الحلقة يتحدث الشيخ القرضاوي الأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين: الأستاذ حسن الهضيبيالمرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين(1309 - 1393هـ = 1891 - 1973م) ( 1 - 2 )مصري ولد في (عرب الصوالحة) سنة 1309هـ، قبيلته عربية عريقة في عروبتها ودينها، ودرس في كلية الحقوق، وتخرج فيها سنة 1335هـ، واشتغل بالمحاماة، ثم عُين في القضاء، ومستشار في محكمة النقض، سعادته خير قدوة لرجال القانون؛ فقد عُرف في جميع مراحل حياته باللباقة وسمو الخلق، والغيرة على الإسلام والدعوة إليه، وهو يحفظ القرآن، وذو رأي مسدَّد في كل ما يتصل باللغة والإسلام، كما أن لسعادته دراسات واسعة في القانون المقارن والتشريع الإسلامي، واطلاع واسع على كتبه وموسوعاته) هكذا عرف الإمام البنا في (مجلة الشهاب) المستشار حسن الهضيبي، وقد نُشرت صورته في (سجل التعارف الإسلامي) في العدد الأول، وكأن هذا التعريف الشامل المركز من الأستاذ البنا، كان يحمل ترشيحًا لصاحبه، ليقود سفينة الجماعة من بعد مرشدها الأول، رحمهما الله جميعًا.كان الأستاذ الهضيبي على صلة قديمة بالإخوان، وبالأستاذ حسن البنا، ولكن منصبه القضائي جعله يبتعد عن الظهور العلني في الإخوان.اختير الأستاذ الهضيبي مرشدًا عاما لجماعة الإخوان المسلمين بعد استشهاد مرشدها الأول الإمام حسن البنا، وقد حل هذا الاختيار عقدة اختيار المرشد من رجال الصف الأول البارزين: صالح عشماوي وكيل الإخوان، وعبد الرحمن البنا عضو مكتب الإرشاد وشقيق المرشد الأول، وعبد الحكيم عابدين السكرتير العام للجماعة وزوج أخت الأستاذ، والشيخ أحمد الباقوري أحد قدامى الإخوان، وغيرهم من المتطلعين إلى منصب المرشد العام، وكل يزعُم- أو يُزْعَم له- أنه أحق به من غيره، وقد تنازعوا فيما بينهم: أيهم يقود الجماعة، ولم يتفقوا على واحد منهم؛ فكان اختيار الأستاذ الهضيبي من خارج المجموعة كلها حلًّا للإشكال، فحسم اختياره النزاع، ووحد الوجهة، ووجدت السفينة ربانًا يقودها باسم الله مجراها ومرساها، وإن بقي في بعض النفوس ما بقي، مما لا يسلم منه البشر.وكان الإخوان قد اختاروا مقرا مؤقتا في حي "الظاهر" بالقاهرة، يلتقون فيه حتى يكسبوا قضيتهم، وتعود إليهم ممتلكاتهم، ومنها المركز العام بالحلمية الجديدة.وكان أول لقاء عام بالإخوان للأستاذ الهضيبي في هذا المقر المؤقت، وقد أوصى الإخوان بتقوى الله عز وجل، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وطلب منهم أن يُقِلُّوا الحديث عما أصابهم من بلاء في سبيل الدعوة؛ فهذا أول الطريق، وكأنه يستشف ما يُكنُّه ضمير التاريخ من محن كبيرة مخبَّأة للإخوان.وبعد جهود واتصالات ومظاهرة أمام مجلس النواب، وضغط على حكومة الوفد أُلغي قرار حل الإخوان، وعادوا رسميًّا ليمارسوا نشاطهم تحت سمع القانون وبصره، وتسلَّموا مركزهم العام، ليقيموا فيه (أحاديث الثلاثاء)، التي أمسى يتعاقب عليها عدد من دعاة الإخوان، ولكن أين من يملأ مكان حسن البنا؟ الهضيبي والملك فاروقوفي هذا الوقت طُلب من الأستاذ الهضيبي أن يزور الملك فاروق، وحدد موعد الزيارة، وكأن الملك أراد بذلك أن يقيم صلة، أو يعقد هدنة مع الإخوان، بعد أن اغتيل مرشدهم الأول لحسابه، وذهب الأستاذ الهضيبي للقاء الملك، وجرى بينهما حديث عن الله ثم الملك، ثم الشعب، فعقب الهضيبي قائلا: بل الله، ثم الشعب، ثم الملك.وبعد خروج الأستاذ الهضيبي من الزيارة الملكية، سأله الصحفيون عن مضمون هذه الزيارة، فقال: لقد كانت زيارة كريمة لملك كريم.واستغلها خصوم الدعوة؛ ليشوشوا على الإخوان، وعلى مرشدهم الجديد، وليجعلوا منها مقدمة لدوران الإخوان في فلك القصر، وأن الهضيبي إنما جاء ليؤدي هذا الدور، وكل هذه أوهام وأباطيل، وإنما قالها الرجل على سجيته جملة يريد بها المجاملة، لا أكثر من ذلك، وما غيَّر الإخوان من أهدافهم، ولا من مناهجهم، قِيدَ شعرة، كما يعرف ذلك كل مراقب للإخوان، مُطَّلِع على مسيرة الإخوان.وقد ذكر الأستاذ محمود عبد الحليم في الجزء الأول من كتابه (الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ) بعض التفاصيل عن هذه الزيارة، منها: أنهم بعثوا إلى الأستاذ الهضيبي من القصر حلة خاصة لا يقابَل الملك إلا بمثلها، يسمونها (الردنجوت)، فرفض الهضيبي أن يلبسها، وأصر على أن يلقى الملك بحلته المعتادة، وقبلوا بذلك لأول مرة.ومنها: أن الملك ظل يتحدث نحو الساعة، معتذرًا عمَّا أصاب الإخوان، وأنه من عمل حزب السعديين وحكومتهم، وأنه هو الذي أقال حكومة إبراهيم عبد الهادي، وأمر بالإفراج عن الإخوان… إلخ، والأستاذ ساكت.ومنها: أن الملك أرسل إلى الهضيبي صورة فاخرة له موقعة بخطه، وكان ينتظر أن يعلقها في مكتبه، فلم يفعل، ولكنه أخذها إلى بيته، ووضعها على الأرض في مكان لا يراه أحد. الهضيبي والنظام الخاصحينما اختير الأستاذ الهضيبي مرشدا للجماعة، وعرف بقصة النظام الخاص وتاريخه ونفوذ قادته باستقلالهم عن الجماعة، أحس بأن هذا خطر يجب أن يقاوم، فأعلن أول الأمر أن لا سرية في الإسلام.ثم يبدو أن بعض الإخوان أقنعوه أن الدعوة لا سرية فيها، ولكن بعض التنظيمات تقضي الضرورات التي تعيشها بلادنا أن تكون سرًّا، ولا سيما مع وجود الاحتلال الإنجليزي، والحكومات الموالية له، وفساد القصر، وتهديد الدولة الصهيونية على حدود مصر… إلخ، فوافق المرشد على بقائه، على أن يحدث فيه بعض التغيير، وخصوصا في القيادة.ويظهر أن النظام شعر بذلك، فبدأ يقاوم ذلك؛ وهو ما أدى إلى فصل أربعة من كبار أعضائه وقادته، وهم: رئيس النظام عبد الرحمن السندي، ومحمود الصباغ، وأحمد زكي حسن، وأحمد عادل كمال.وكان ذلك على إثر حادثة غير مسبوقة ولا ملحوقة في تاريخ الإخوان، تمثل جريمة من الجرائم الكبرى التي لا تبرر بحال من الأحوال، وهي قتل أحد الإخوة المخلصين والمهمين الناقمين على قادة النظام، وهو المهندس (السيد فايز)، الذي كان موضع الرضا والقبول من المرشد العام، ومن كل من عرفه؛ لما تميَّز به من حسن الفهم، وحسن الخلق، والبذل والإخلاص للدعوة.وكان قتله بطريقة بشعة؛ إذ أرسلت له علبة حلوى بمناسبة المولد النبوي، وكان غائبًا عن المنزل؛ فلمَّا عاد وفتح العلبة انفجرت فيه، فأودت بحياته، وحياة شقيقه الصغير، وكانت أصابع الاتهام كلها تشير إلى النظام، وإن كان التحقيق الرسمي لم يسفر عن شيء.وكانت هذه الجريمة النكراء سبب استياء عارم، وسخط عام في صفوف الإخوان؛ فكيف يستحل الأخ دم أخيه، وإن اختلف معه في الرأي؟ وبأي ذنب قُتلت هذه النفس التي حرّم الله، والتي جعل القرآن وكُتبُ السماء من قتلها فكأنما قتل الناس جميعا؟ ومن أفتى هؤلاء بإباحة هذا الدم الحرام؟ أم أنهم جعلوا من أنفسهم المفتي والقاضي والمنفِّذ؟ومع هذا لم يكتفِ رجال النظام بما اقترفوا، بل أرادوا أن يقاوموا قرار فصل الأربعة الذي صدر من مكتب الإرشاد العام صاحب السلطة التنفيذية العليا في الجماعة، والذي من حقه أن يفصل الأعضاء بناء على اعتبارات يراها، وليس من الضروري أن يعلن الأسباب، ولا سيما إذا كان ذلك يضر بالجماعة.أراد رئيس النظام ومن عاونه من شباب النظام أن يحدثوا انقلابًا غير دستوري في الإخوان بأن يحتلوا المركز العام بالقوة، وأن يذهب فريق منهم إلى منزل المرشد العام، ويرغموه على الاستقالة، وأن يتولى فريق من كبار الإخوان المركز العام ويديروه حتى يختار الإخوان لهم مرشدًا جديدًا.وبالفعل احتلوا المركز العام، وذهب خمسون منهم إلى بيت المرشد، مقتحمين بغير استئناس ولا استئذان، كما هو أدب الإسلام، وطلبوا منه الاستقالة فرفض، وبهذا أخفقوا في هذا البند.وقد تجاوب معهم من الكبار الأستاذ: صالح عشماوي، والشيخ محمد الغزالي، والدكتور محمد أحمد سليمان، والأستاذ أحمد عبد العزيز جلال، والشيخ سيد سابق، الذي قيل: إنهم اختاروه مرشدًا بدل الهضيبي!وقام الأخ الأستاذ عبد العزيز كامل بدور مهم في محاولة فضّ هذا الأمر، وإقناع الشباب بالانصراف، وقد استجابوا له بالفعل، فلم يأتِ الفجرُ حتى كانوا قد رحلوا.وسرعان ما شعر الكثير منهم بجسامة ما اقترفوا، وسارع بعضهم إلى التوبة والاعتذار، ومنهم الأخوان الكريمان: علي صديق، وفتحي البوز.وفي المساء امتلأ المركز العام بالإخوان، وتحدث عدد من دعاة الإخوان: عبد الحكيم عابدين، وسيد قطب، وسعيد رمضان، وعز الدين إبراهيم، وخُتم اللقاء بكلمة المرشد العام.واعتذر د. سليمان، وأعلن ثقته بالمرشد العام، واكتفى منه بذلك، وأحيل الثلاثة الآخرون (عشماوي والغزالي وجلال) إلى (لجنة العضوية) بالهيئة التأسيسية بصفتهم أعضاء بها، لتنظر في أمرهم، وانتهى الأمر بفصلهم، وهي نهاية مؤسفة، ولكن لم يكن بد وكما قال الشاعر:إذا لم يكن إلا الأسنَّةُ مركبٌ فما حيلة المضطر إلا ركوبها! الهضيبي والضباط الأحراركان كل شيء في مصر يبشر بأن تغييرًا لا بد أن يقع، فكان التغيير هو قيام (ثورة 23 يوليو 1952م) التي سميت أول الأمر (حركة الجيش المباركة)، ثم أطلق عليها (الانقلاب)، ثم استقرت على اسم (الثورة).لقد استبشر الشعب بانقلاب هؤلاء الضباط الذين قالوا عنهم (حَمَلَة المصاحف) كما قالوا عنهم: إنهم من تلاميذ الشيخ محمد الأودن. كما قيل: إن منهم عددًا من الإخوان.وقد طُلب منا نحن الإخوان أن نحرس المنشآت الأجنبية من احتمال تحرك أي أيد مخربة، تحاول أن تصطاد في الماء العكر، والوضع حساس لا يحتمل وقوع أي حادث يكدر صفو الأمن، ويظهر وجود معارضة للانقلاب.كان رجال الجيش يعتبرون الإخوان هم سندهم الشعبي، فلا غرو أن اعتمدوا عليهم في حراسة المنشآت ومراقبة أي تحرك مريب.ولكن من الأيام الأولى بدأ لون من الحساسية يظهر عند رجال الانقلاب، حتى صدر بيان يعلن أن حركة الجيش حرة مستقلة عن الجماعات والأحزاب، وليس لأي منها سلطان عليها، وكان البيان يعني الإخوان خاصة.ويبدو أن الأستاذ الهضيبي منذ أول لقاء معهم لم يسترح لهم، كما لم يستريحوا له، وهذا الشعور بعدم الارتياح المتبادل من الطرفين كان له أثره فيما بعد.وحين كان عبد الناصر يزور بعض المناطق كان الإخوان يستقبلونه على طريقتهم بالتهليل والتكبير، وخصوصا أن الكثيرين من عوام الإخوان كانوا يحسبون أن حركة الجيش حركة إخوانية، أو على الأقل موالية ومساندة للإخوان، وقد سمعت بأذني في مدينة الحوامدية، حين كبر الإخوان وعبد الناصر يتكلم ما قاله وهو غاضب ثائر: إلى متى تظلون كالببغاوات، تهتفون وتصرخون ولا تدرون ما تقولون؟ساءت العلاقة بين الإخوان والثورة، واقتيد الإخوان إلى السجون، ومما عرفناه ونحن في السجن الحربي: أن الأستاذ الهضيبي بعث برسالة إلى الرئيس محمد نجيب، تتضمن بعض النصائح، ويطالبه فيها بإعادة الحريات والحياة النيابية إلى الشعب، ومما أذكره مما جاء في هذه الرسالة قوله: إنكم عبتم على الأحزاب والزعماء قبل الثورة: أنهم لم يقولوا للملك وبطانته: لا، حيث يجب أن تقال. وأنتم بموقفكم من الإخوان تمنعونهم أن يقولوا لكم: لا، حيث يجب أن تقال.ثم وقعت أحداث فبراير عام 1954 التي بدأت داخل الجيش وسلاح الفرسان بقيادة خالد محيي الدين، بعد إعلان قبول استقالة محمد نجيب.. خرجت المظاهرات تطالب نجيبا بالبقاء. وكان من المعروف أنها من تدبير الإخوان المسلمين.. وشهدت القاهرة أعنف المظاهرات، واضطر عبد الناصر إلى إعادة نجيب.وفي يوم 28 فبراير خرجت المظاهرات من جامعة القاهرة والأزهر، ومن أبناء الشعب، فأصيب عدد من المواطنين، منهم الطالب ثروت يونس العطافي الطالب بكلية الهندسة، واستشهد أحد طلاب الإخوان، وهو الطالب توفيق عجينة، وحمل المتظاهرون قمصان المصابين ملوثة بدمائهم وتوجهوا إلى قصر عابدين.. وخرج إليهم محمد نجيب محاولا دفعهم للانصراف.. ولكنهم لم يتحركوا.. ولمح بينهم الأستاذ عبد القادر عودة، فدعاه إلى الشرفة لإلقاء خطاب لفض المتظاهرين- وصعد بالفعل، ووقف بجوار محمد نجيب الذي أعلن أنه سينشئ الجمعية التأسيسية وسيعيد الحياة النيابية.. وانصرفت المظاهرات. وجاء في خطاب نجيب ما يلي:إننا قررنا أن تكون الجمهورية جمهورية برلمانية على أساس، هو أن نبدأ فورًا بتأليف جمعية تأسيسية تمثل كافة هيئات الشعب المختلفة، لتؤدي وظيفة البرلمان مؤقتًا، وتراجع نصوص الدستور بعد أن يتم وضعها. وبعد ذلك تعود الحياة النيابية إلى البلاد في مدة أقصاها نهاية فترة الانتقال. وهذا أمر متفق عليه.. ونحن عند وعدنا الذي قطعناه على أنفسنا من أننا لم نقم إلا لإعادة الدستور على أساس سليم في نهاية فترة الانتقال). واختتم نجيب كلمته قائلا: (نحمد الله سبحانه تعالى مرة أخرى على أننا اجتزنا هذا الامتحان القاسي بنجاح.. وأؤكد لكم مرة أخرى أني لا أطمع في حكم أو سلطة أو جاه، وإنما أطمع فقط في أن أؤدي واجبي، وأن تزهق روحي في سبيل بلادي وتحريرها، وفي سبيل اتحاد أبنائها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)وكانت تلك الكلمة سببًا في انصراف المتظاهرين.وفي نفس الوقت ثارت ثائرة عبد الناصر ضد الإخوان المسلمين، فقد همس معاونوه أن الذي أوحى لنجيب بهذا الكلام هو عبد القادر عودة، أحد أقطاب الإخوان، الذي كان يقف إلى جوار نجيب في شرفة قصر عابدين.ومرت ثلاثة أيام، وفي يوم 2 مارس قامت سلطات البوليس الحربي باعتقال 118 شخصًا بينهم 45 من الإخوان، و20 من الاشتراكيين، و5 من الوفديين، و4 شيوعيين، بادعاء أنهم كانوا يدبرون لإحداث فتنة في البلاد، مستغلين فرحة الشعب بعودة نجيب.. وكان في مقدمة المقبوض عليهم: حسن الهضيبي وعبد القادر عودة وصالح أبو رقيق وأحمد حسين زعيم الاشتراكيين. ثم بعدها بقليل أفرج عن المعتقلين، وخرج الأستاذ الهضيبي، وكان له مؤتمر حاشد ليلة خروجه في المركز العام للجماعة، أوصى الأستاذ في كلمته في المؤتمر الإخوان: ألا يكثروا الحديث عما أصابهم من المحن في سبيل الله، فإنهم لا يدرون ما ينتظرهم مما يخبئه الغد. وكأنما كان ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق. مجلس الثورةفي يوم 25 مارس هذا الذي تقرر فيه الإفراج عن آخر دفعة من المعتقلين هو نفس اليوم الذي اجتمع فيه مجلس الثورة اجتماعا استمر خمس ساعات بحث خلالها الموقف الداخلي. وبعد انتهاء الاجتماع خرج الصاغ كمال الدين حسين إلى الصحفيين وأذاع عليهم القرار التاريخي وهذا نصه:قرر مجلس الثورة بجلسته اليوم25/3/1954:أولا: يسمح بقيام أحزاب.ثانيا: المجلس لا يؤلف حزبا.ثالثا: لا حرمان من الحقوق السياسية حتى لا يكون هناك تأثير على الانتخابات.رابعا: تنتخب الجمعية التأسيسية انتخابا حرا مباشرا بدون أن يعين أي فرد وتكون لها السيادة الكاملة والسلطة الكاملة، وتكون لها سلطة البرلمان كاملة، وتكون الانتخابات حرة.خامسا: حل مجلس الثورة في 24 يوليو المقبل باعتبار الثورة قد انتهت وتسلم البلاد لممثلي الأمة.سادسا: تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها.وبعد أن نشرت الصحف هذه القرارات، نشرت ما يأتي:(تم الإفراج أمس عن الأستاذ حسن الهضيبي من السجن الحربي، كما أفرج عن باقي أعضاء جماعة الإخوان المعتقلين. وقد تم اتصال أمس بين المسؤولين وبين السيد حسن الهضيبي المرشد العام قبل الإفراج عنه بشأن عودة جماعة الإخوان المسلمين إلى نشاطها السابق).وقد تم الاتفاق معهم على ثلاث نقط:أولا: أن تعود الجماعة إلى سابق نشاطها وكيانها بدون أي حد من حرياتها، وإعادة أموالها المصادرة وشعبها ومركزها العام.ثانيا: الإفراج فورًا عن جميع الإخوان مدنيين أو عسكريين مع إعادة من فصل منهم إلى الخدمة العسكرية.ثالثا: أن يصدر مجلس الثورة بيانا يوضح فيه حقيقة الأسباب التي اعتبرها داعية إلى حل الإخوان. ويكون هذا البيان بمثابة الختام في هذه المسألة المؤسفة.وقد صرح السيد حسن الهضيبي للمسؤولين بأن الإخوان سيكونون بعد عودتهم عونا للحكومة على طرد الإنجليز من منطقة قناة السويس، ورد اعتداءاتهم الوحشية. وفي منتصف ليلة أمس توجه البكباشي جمال عبد الناصر إلى منزل الأستاذ الهضيبي حيث اجتمع به في منزله.وبدأت جماعة الإخوان المسلمين تستأنف نشاطها من يوم 26 مارس.. واعتقد الجميع أن الحياة النيابية ستعود.. وفي نفس اليوم بدأ عبد الناصر تنفيذ خطته.. وفوجئت القاهرة بتوقف جميع وسائل النقل بها في الساعة الواحدة ظهرا ما عدا الترام، بعد أن استطاع عبد الناصر أن يستميل إليه الصاوي أحمد الصاوي رئيس اتحاد نقابات عمال النقل، بعد أن دفع له أربعة آلاف جنيه، ليعلن إضرابا شاملا لمطالب خاصة، ثم بدأت الإذاعة تذيع إضراب العمال بسبب قرارات عودة الحياة النيابية للبلاد، ورغبتهم في الإبقاء على مجلس الثورة.وبدأت المظاهرات تشتد.. وهي المظاهرات التي كان يدبرها البوليس الحربي، وكانت تطالب بعدم عودة الحياة النيابية.. وتهتف بسقوط المثقفين! وذهبت إلى مجلس الدولة، فاعتدت على رئيسه القانوني الكبير د.عبد الرزاق السنهوري! أنا والهضيبيأنا لم أختلط بالأستاذ الهضيبي كثيرًا، فقد كنت طالبًا في كلية أصول الدين وفي تخصص التدريس، أيام ولايته، ولكني لقيته عدة مرات من قريب، ووجدته رجلًا سهلًا سمحًا، قريبًا، على غير ما يُظَنُّ به.أول ما لقيته كان في مدينة المحلة الكبرى، وقد أقام الإخوان له حفلًا كبيرًا، كنت من المتحدثين فيه، وكنت شابًّا متحمِّسًا، فكانت كلمتي معبرة عني، وعن شخصيتي في ذلك الوقت.وعندما تحدث هو بعد خطباء الحفل قال: أنا لا أحسن الخطب الحماسية مثل الشيخ القرضاوي، ولكني أنصحكم بكذا وكذا أو بكذا. فكانت كلماته أشبه بتعليمات محددة.ودعاه رجل المحلة الأول — رجل البر والخير — عبد الحي باشا خليل في بيته، فذهبنا معه، وكان موضع التجلة والاحترام من هؤلاء الأعيان.وكذلك ذهبنا معه في اليوم التالي لزيارة مصنع المحلة، فكان الجميع يحترمونه ويقدرونه.وزارنا في المحلة مرة أخرى، ومعه سيد قطب، وعبد الحكيم عابدين، فتعرفت به أكثر.وذهبت معه مرتين قبل الثورة إلى مدينين من مدن مصر: مرة في مدينة كفر الشيخ، ومرة في مدينة السويس. وكان معه في كلتا الزيارتين: الشيخ أحمد حسن الباقوري، فقد كان قريبا منه. وكان الإخوة في قسم نشر الدعوة يريدون أن أحضر مع المرشد والباقوري لأكملهما، فكلاهما يحدث الخاصة، ولا يخاطب الجماهير. وكأن الأستاذ المرشد استراح إلى ذلك، فكان يرحب بوجودي.وفي عودتنا من رحلة السويس، كنتُ رفيقَهما في السيارة التي حملتهما، وهنا اقتربت أكثر من الأستاذ الهضيبي، واستمعت إلى بعض نكاته، ومنها نكات يعدها بعض الناس خارجة! ويبدو أن الأستاذ الهضيبي — من خلال هاتين المرتين — كوَّن عنِّي فكرة حسنة.ففي أوائل الثورة في شهر أغسطس: أُبْلِغْتُ بأن الأستاذ المرشد يريدني أن أذهب لزيارة الإخوة في سورية والأردن، أنا والأخ محمد علي سليم من إخوان الشرقية. وبعد عودتي كتبت له تقريرا عن الرحلة، ولما لقيته في مناسبة بعدها، قال لي: لقد قرأت تقريرك عن رحلتك إلى بلاد الشام، واهتممت به، وخصوصا ما كتبته عن (حزب التحرير).وعندما أنشأ عبد الناصر (هيئة التحرير) لتكون سنده الشعبي، بدلًا من الإخوان، وبدأت تحدث تحديات وصدامات في بعض البلدان، أرسلني الأستاذ المرشد لأجوب مدن الصعيد كلها من الفيوم إلى أسوان، لألقى الإخوان، وأحثهم على أن يتمسكوا بدعوتهم، ولا يذوبوا في أي جماعة أخرى، ولا يصطدموا بأحد يريد أن يجرهم إلى الصدام بوسيلة وأخرى.وفعلا قمت بهذه الرحلة، وكانت من أخصب الرحلات، وأكثرها بركة.وعندما اعتقلنا في المرة الأولى في عهد الثورة في يناير 1954م، وأخذنا إلى العامرية، ثم نقلونا — أنا وخمسة من الإخوان — إلى السجن الحربي: أنزلونا في سجن رقم 4، وكان فيه الأستاذ الهضيبي وكبار الإخوان، وكانوا يغلقون الزنازين في أول الأمر علينا، ثم فتحوها لنا. فكنا نصلي جماعة. وهنا أمرني الأستاذ أن أؤم الإخوان، وقد أطلت في بعض الصلوات الجهرية، فنصحني أن لا أطيل، مراعاة للكبير والمريض وذي الحاجة.ثم نُقِل الأستاذ وكبار الإخوان إلى عنبر الإدارة، وكان هذا آخر عهدي به، حتى إني لم أحضر اللقاء الكبير الذي أقيم في المركز العام يوم خروج الإخوان من السجن الحربي، بعد أن اصطلحوا مع عبد الناصر، فقد كنتُ المعتقلَ الوحيد الذي تأخر الإفراج عنه يومًا واحدًا، كما حكيت في الجزء الثاني من هذه المذكرات.حتى إني حين اعتقلت في المرة الثانية بعد حادث المنشية: بقيت فترة في حجز مباحث المحلة الكبرى، التي تولَّت التحقيق معي، فلم أصل إلى السجن الحربي، إلا يوم خروج الأستاذ الهضيبي منه بعد أن صدر الحكم عليه وعلى ستة معه بالإعدام!ولما حدث الخلاف الذي حدث بين الأستاذ الهضيبي وجماعة من الإخوان القدامى، على رأسهم الأستاذ البهي الخولي، والمشايخ: الغزالي وعبد المعز عبد الستار وسيد سابق ومحمد جودة وآخرون. وأني كنت أنا وأخي العسال والدمرداش وآخرون أقرب إلى صف المشايخ. فلما وقعت الواقعة، انضممنا إلى ركب الجماعة، وحوكمنا مع من حوكموا، وعُذِّبْنا مع من عذبوا، ونرجو أن يكون ذلك في ذات الله تعالى، وأن لا نحرم أجره عند الله.لا يختلف اثنان من الإخوان — حتى من المعارضين — في أن الأستاذ الهضيبي مسلم عظيم، وأنه من الذين أخلصوا دينهم لله، فليس من المتاجرين بالدين ولا بالدعوة، ولا يريد من وراء عمله للإسلام جزاء ولا شكورًا، وأنه رجل نظيف لا يماري أحدا في نظافته، وأنه لم يسعَ إلى قيادة الإخوان، ولكن الإخوان هم الذين سعوا إليه، وأنه لم يستفد لنفسه ولا لأسرته من وراء الدعوة شيئًا ماديًّا قط، إلا ما أصابه من لأواء في سبيل الله، وأنه رجل صلب لا يداهن في دينه، ولا يجامل أحدًا في أمر الدين، وهو يقول الحق ولا يخشى فيه لومة لائم، وأنه أوذي في الله — مع كبر سنه — فما وهن ولا ضعف ولا استكان، ولا طأطأ رأسه لمخلوق، وأنه كان يعامل عبد الناصر ورجال الثورة بعزة واستعلاء، معاملة الند للند، والسيد للسيد، اعتزازًا منه بأنه يمثل دعوة الإسلام.ولعل هذه النقطة الأخيرة هي التي جعلت بعض الإخوان يقولون: إن موقف الأستاذ الهضيبي من رجال الثورة عامة، ومن عبد الناصر خاصة، ومعاملتهم باستعلاء وربما بازدراء! هي التي ولَّدت هذه الجفوة بين الطرفين، التي انتهت إلى خصومة، ثم انتهت إلى صراع بين الطرفين. ويقولون: لو كان حسن البنا في موقف حسن الهضيبي لكان له موقف آخر، ولاستطاع برفقه وتلطفه ولين طبعه: أن يجذبهم إلى ساحته، وأن يأخذهم بالتي هي أحسن، وأن يهتدي بقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].ولكنه نفر منهم، ونفروا منه، وأغلظ عليهم، وأغلظوا له، وساء ظنه بهم، فساءت ظنونهم بالجماعة.هكذا رأيت بعض الإخوان يفكرون، وسمعتهم يتكلمون، فهل هذا المنطق مسلَّم؟ وأن موقف الأستاذ الهضيبي هو السبب الأول فيما جرى؟! ومن يدري ماذا كان سيفعل حسن البنا لو كان حيًّا، فهذا علمه عند الله، ولا يملك أحد أن يقوّل غيره في ذلك ما لم يقل.على أن الذي يبدو لي من تسلسل الأحداث، ومما أظهره عبد الناصر من أفكار وتوجهات: أن الرجل لم يكن يريد لأحد — لا الإخوان ولا غيرهم — أن يشاركه في الحكم، ولو بالمشورة والتسديد. وقد أعلن في الأيام الأولى للثورة: أنها مستقلة ولا وصاية لأحد عليها.. وقال بصراحة للإخوان: إنه يريد أن يضغط على زر فتتحرك مصر من الإسكندرية إلى أسوان، ويضغط على زر آخر، فتتوقف مصر من الإسكندرية إلى أسوان!كان في إهاب عبد الناصر (دكتاتور) يريد أن يستبد بالأمر، ولا يكون لأحد معه رأي ولا قول، إلا ما كان يسير في ركبه، ويدور في فلكه. ومثل هذا الطاغية المتجبر في الأرض: لا يمكن أن ينسجم مع أي رجل ينصح له، أو يقول له كلمة حق، أو يأمره بمعروف، أو ينهاه عن منكر، سواء أكان حسن البنا أم حسن الهضيبي. الأستاذ الهضيبي والحفاظ على الخط الفكري للجماعةذاق الإخوان في سجون عبد الناصر الويلات، وألهبت ظهورهم السياط، وظهرت ظاهرة جديدة ليست من أدبيات الإخوان ولا فكرهم ألا وهي (الغلو في التكفير)، والتفاف طائفة — جلهم من الشباب الحديث السن الحديث العهد بالدعوة — حول هذا الفكر المتطرف، إلى حد جعلهم يرفضون الصلاة مع إخوانهم في العقيدة والفكرة، وشركائهم في الاضطهاد والمحنة، وأساتذتهم في الدعوة والحركة.ولا يصعب على الدارس أن يلمس سبب هذا التطرف، فهو يكمن في المعاملة الوحشية التي عومل بها السجناء، والمعتقلون، والتي لا تتفق مع دين ولا خلق ولا قانون ولا إنسانية.لقد اقتيد هؤلاء الشباب البرآء من بيوتهم إلى ساحات التعذيب، وصب عليهم من ألوان القهر والإذلال والتنكيل ما لا يكاد يتحمله بشر، لقد تفننوا في إيذاء الأبدان، وإهانة الأنفس، والاستخفاف بالعقول، وتحطيم الشخصية، والاستهانة بالآدمية، إلى حد يعجز القلم عن تصويره، ويتوقف العقل في تصوره.ولم هذا كله؟ إنهم — في نظر أنفسهم على الأقل — لم يقترفوا ذنبا؛ إلا أن يقولوا: ربنا الله! لم يقترفوا في حق أحد جرمًا، ولم يفكروا في شر، ولم يجتمعوا على معصية وفجور. كل ما فعلوه أنهم آمنوا بالإسلام نظام حياة، التزموا به فكرًا وسلوكًا، واعتبروا الدعوة إليه وإلى تطبيق شرعه واجبًا يأثمون بتركه، والتقصير فيه، فلماذا يشردون ويعذبون، وينكل بهم أشد التنكيل؟وزاد الطين هنا بلة جملة أمور:أن الفسقة والفجار والملاحدة واللادينيين طلقاء أحرار، لا يحاسبهم أحد، ولا يعاقبهم أحد، بل وثبوا على أجهزة الإعلام والتوجيه وغيرها يوجهونها كما يشاءون إلى الكفر والفسوق والعصيان.وأن الذين يعذبونهم وينكلون بهم لا دين لهم ولا تقوى، بل كان منهم من يسخرون من تدينهم، ومنهم من ظهر على لسانه من الكلمات ما يصل به إلى الكفر البواح، حتى قال واحد منهم: هاتوا ربكم وأنا أحطه في زنزانة! تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.وأن بعض الكتب الإسلامية الحديثة التي كتبت في هذه الظروف نفسها: كانت تحمل بذور هذا التفكير، وتدفع إليه دفعا، بما تتسم به من قوة التعبير، وحرارة التأثير.وهكذا احتضنت هذه الفئة هذا الفكر المطبوع بطابع الغلو والعنف، والذي ينظر إلى الناس — أفرادا ومجتمعات — من وراء منظار أسود قاتم.وكان السؤال الأول الذي طرح نفسه: ما حكم هؤلاء الناس الذين يعذبوننا بقسوة وجرأة؟ أو على الأصح: ما حكم من وراءهم من الحكام الذين يأمرونهم بتعذيبنا إلى حد الموت، لا لشيء إلا لأننا ندعوهم إلى الحكم بما أنزل الله؟وكان الجواب عندهم جاهزا: أخذوه من ظاهر بعض النصوص: من آيات القرآن مثل آية المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، كالأحاديث التي أطلقت الكفر على بعض المعاصي. ولم يقف الأمر عند هذا الحد: فإن الذين لم يوافقوهم على هذا الفهم للنصوص التي استدلوا بها، وقالوا: إنها مؤوَّلة عند أهل السنة والجماعة لاصطدامها بأدلة وقواعد أخرى أقوى منها، وأظهر في الدلالة — هؤلاء الذين لم يوافقوهم اتهموهم أيضا بالكفر وقالوا: من لم يكفر هؤلاء الحكام ومن والاهم فهو كافر؛ لأن الشك في كفر الكفار يُعدّ كفرا، كمن شك في كفر المشركين واليهود والنصارى والمجوس وأمثالهم.ومن هنا بدأ نطاق التكفير يتسع، لا ليشمل من وَالى الحكام أو رضى بحكمهم فقط، بل من سكت عن تكفيرهم، وهذا يعم جمهور الناس.وقد اصطدم فكر هذه الفئة القليلة بفكر الجمهرة العظمى للمعتقلين أو المسجونين من الإخوان المسلمين، وبخاصة القدامى منهم، الذين تتلمذوا على حسن البنا مؤسس الحركة، وواضع دعائمها الفكرية والتنظيمية الأولى، وقد كان منهجه يتميز بالاعتدال والرفق، وعلى هذا ربى أنصاره وأعوانه.وكان مما أخذه على بعض الجماعات الدينية في مصر سوء رأي بعضها في بعض، إلى حد قد يصل إلى التكفير في بعض الأحيان. لهذا نص في الأصول العشرين من رسالة التعاليم — وهي الأصول التي يجب أن يفهم الإسلام في حدودها — على هذا الأصل بهذه العبارات الواضحة: (لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما برأي أو معصية، إلا إذا أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر).وقد بلغت القضية مرشد الاخوان المسلمين الثاني، الرجل الصابر الفقيه الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله، وهو في سجنه، فأنكر هذا الاتجاه، وأعلن مجافاته لخط الجماعة وفكرتها، وبين في وضوح أن مذهب الإخوان في هذه القضية وغيرها هو مذهب أهل السنة والجماعة، كما قال كلمته الحكيمة المعبرة: نحن دعاة لا قضاة.وهذه الكلمة الوجيزة التي أصبحت بعد ذلك عنوانا لكتاب كامل في هذا الموضوع، إنما هي تعبير عن منهج إيجابي عملي، يجب أن يتضح للعاملين للإسلام الغيورين عليه: أنهم دعاة لا قضاة.وفرق كبير بين القاضي والداعي: القاضي يجب أن يبحث عن حقيقة الناس حتى يحكم لهم أو عليهم، ولا بد له من أن يصفهم ويعرف مواقفهم ليقضي لهم بالبراءة أو العقوبة، ثم أن موقف القضاء يجعلنا ننظر للناس على أنهم متهمون، والأصل أنهم برآء.أما الداعي فهو يدعو الجميع، ويبلغ الجميع، ويعلّم الجميع، إنه يصدع بكلمة الإسلام يدعو إليها كل الناس، من كان ضالا فليهتد، ومن كان عاصيا فليتب، ومن كان جاهلا فليتعلم، وحتى من كان كافرا فليسلم.والداعي لا يعمل على عقوبة المخطيء، بل يعمل على هدايته، ولا يتعقب المرتد ليقتله، بل يتتبعه ليعلّمه وليرده إلى حظيرة الإسلام.وكان لموقف الإخوان ومرشدهم أثره في تقليص دائرة المنتمين إلى التطرف أو التكفير، وانفضاض الكثيرين من حولهم، وإن بقي عدد منهم ممن لم ترسخ أقدامهم في الدعوة، ولم تتأصل جذورهم فيها، بل يعدون جددًا عليها، فمعظمهم من الجيل الذي يسمونه (جيل الثورة).

3721

| 04 يوليو 2015

رمضان 1436 alsharq
د. القرضاوى: عرفتُ الشيخ عبد المعز عن طريق المشاهدة والسماع

الكتاب: "في وداع الأعلام" المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاوي الحلقة : السادسة عشر ..الشيخ عبد المعز عبد الستار ودَّعت الأمة الإسلامية على اتِّساع أوطانها في يوم الأربعاء التاسع من جمادى الأولى 1432هـ الموافق الثالث عشر من إبريل 2011م، عَلَمًا من أعلام الدعوة الإسلامية، وقُطبًا من أقطاب الحركة الإسلامية، وفارسًا من فرسان علماء الأزهر الشريف، ورائدًا من رواد التوجيه التربوي في دولة قطر، حيث رأس التوجيه التربوي للعلوم الشرعية لعدة سنين في وزارة التربية والتعليم في قطر. العالم الداعية الرباني إنه الداعية الإسلامي الكبير الشيخ عبد المعز عبد الستار، الذي بارك الله في عمره، فمات عن نحو 95 عامًا، قضاها في العلم والعمل والتعليم، وقد قال سلفنا رضي الله عنهم: العالم الرباني هو الذي يَعْلم ويَعمَل ويُعلِّم، فمن جمع بين هذه الثلاثة فهو الرباني، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]. أما من عَمِل بغير علم، أو عَلِم بغير عمل، أو عَلِم وعمل ولم يُعلِّم الناس ما عنده- أو بعبارة أخرى: لم يدعُ الناس إلى ما عنده- فليس من الربانيين المعدودين! الانضمام المبكر إلى الإخوان وهو من علماء الأزهر الذين التحقوا بدعوة الإخوان، فقبل أن يتخرج في كلية أصول الدين، التقى الإمام الشهيد حسن البنا لأول مرة عام 1937، وهو طالب في الكلية، عندما ذهب الإمام ليودع بعثتي حج الأزهر وجامعته في محطة القطار، وكان الشيخ عبد المعز أحد المشتركين في بعثة الجامعة. خطيب موهوب يملك كل المؤهلات ولكن الشيخ عبد المعز نذر حياته للدعوة إلى الإسلام منذ شبابه، فقد عرف أن الله قد آتاه موهبة الخطابة، والتأثير في الناس، وكان الشيخ عبد المعز كأنما أعده الله إعدادًا خاصًّا ليكون خطيب الأمة الإسلامية في محافلها الكبرى، فقد هيَّأ الله له كل الأسباب الشخصية المطلوبة، من حفظ القرآن وتجويده في الصغر، ومن حسن إخراج الحروف العربية من مخارجها، لا يغلط في الحروف التي يحق إخراج اللسان فيها من الثاء والذال والظاء، أو حروف القلقلة في القرآن، أو حروف الإدغام والإخفاء. وكانت كل الملكات والمواهب التي للخطيب الموهوب المؤثر متوافرة فيه، من حيث الصوتُ الجهوري، والقامة الطويلة، والوجه البشوش، والقدرة على الإشارة والتلويح ذات اليمين وذات الشمال، كما أن لديه من الثروة اللغوية والأدبية، والمعاني القرآنية والنبوية، والتاريخية والواقعية، ما يجعل تراثه وحصيلته ومعارفه قادرة على أن تمدَّه بما يريد، وكانت ثروته هذه عميقة ممتدة في آفاق الآداب العربية، قديمها ووسيطها وحديثها، فقد كانت له قراءات أدبية في كتب الأدب القديمة؛ مثل: العقد الفريد، وكتب الجاحظ وابن قُتَيبة، وأبي عليٍّ القالي، والكامل للمبرد.. وفي غيرها، كما أنه كان يقرأ باستمرار لأديب العربية الرافعي، وللمنفلوطي، وللشيخ محمد عبده في (العروة الوثقى)، وغيرهم، ويحفظ لشعراء العرب القدماء والمحدثين، من الشعر الجزل، ما يجعل لعبارته رونقًا ومذاقًا، ويشهد أن له نفحة أدبية تنبئ له في عالم الأدب بمستقبل مرموق، وكان شجاعًا لا يخاف ولا يتصدع، ولا يفجع أمام الطغاة، أو الفراعين. ابن الشرقية وُلِدَ هذا الفتى في مدينة مديرية (محافظة) فاقوس في الشرقية، وحفظ القرآن الكريم في كُتَّابها، والتحق بعد حفظه بمعهد الزقازيق الديني، ثم كلية أصول الدين، حيث التقى فيها بصديقه وزميله الشيخ محمد الغزالي، كما التقى بإخوانه الشيخ زكريا الزوكة والشيخ إسماعيل حمدي. أول ما سمعت الشيخ عبد المعز عرفتُ الشيخ عبد المعز أول ما عرفته عن طريق المشاهدة والسماع، فقد كُنَّا طلاب الإخوان في المعاهد الثانوية الأزهرية، ننتهز الفرص لنزور القاهرة، وكل مهمتنا من زيارة القاهرة أن نزور المركز العام للإخوان، لننعم بلقاء الأستاذ حسن البنا، ونسعد بحضور حديثه الأسبوعي، الذي يجتمع الألوف للاستماع إليه، وكثيرون منهم جاءوا من خارج القاهرة، ولكني– لسوء حظي- لم أحظَ مرةً واحدة بلقاء حسن البنا، في حديث من أحاديث الثلاثاء، بل كثيرًا ما أجده خارج القاهرة، أو يكون حديثه في غير يوم الثلاثاء، أو يكون في إجازة من الحديث. ولكن كان الإخوة في المركز العام كثيرًا ما يدلُّوننا على أماكن خارج المركز العام فيها نشاط لدُعاة مرموقين، وقد دلُّونا في إحدى المرَّات على حفل في دار المعاملات الإسلامية في شارع محمد علي، يتحدث فيها الشاب الأزهري، والخطيب البارع: عبد المعز عبد الستار، وذلك في منتصف النهار، ودلونا مرة أخرى على احتفال بالمولد النبوي في شعبة الإخوان بقسم (القلعة)، وسيخطب فيه الأستاذ عز الدين إبراهيم، الداعية المعروف من شباب جامعة القاهرة، ومعه داعية معروف من شباب الأزهر اسمه صادق حميدة. وذهبتُ لكلا الحفلين، وكان أولهما الحفل الذي فيه الشيخ عبد المعز، وقد دخلت وهو يتحدث بصوته القوي الجهير، الذي ملأ أذني وعقلي وقلبي، وهو يشير بيده اليمنى إلى أعلى، إشارة أصبحت من مميزات حركته في خطابته، وهو يشير إلى معان بسيطة من سورة النور في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور:43]. سمعت حديث الشيخ وأعجبت به، ولكنه بعد أن أنهى حديثه خرج بسرعة، فلم أستطع التعرُّف عليه، ولم يُتَحْ لنا اللقاء بالشَّيْخ، إلى أن التقينا من وراء ستار في معتقل هايكتسب، سمعنا صوته ولم نره. موقف الشيخ أيام ضربنا في معتقل الهايكستب فقد اعتقلنا في أيام الملكية في سجن قسم أول طنطا، بعد حلِّ الإخوان في 8/12/1948م، وبقينا مدة طويلة في سجن القسم، أنا والإخوة محمد الدمرداش مراد، وأحمد العسال، ومصباح محمد عبده، وعدد من إخوان طنطا أو الغربية الكبار، مثل الأستاذ حسني الزمزمي، ومحمد فكيه، وشفيق باشا، وإبراهيم الباجوري، والحاج محمود عبية . وقد بقينا في سجن قسم أول طنطا أكثر من شهر، ثم رحلنا منه يوم 12/2/1949م، وقرأنا الصحف بعد أن حرمنا منها تلك المدة كلها، وفوجئنا بالنبأ الفاجع: اغتيال الشيخ حسن البنا، مقتل الشيخ البنا أمام جمعية الشبان المسلمين، ونقلنا إلى مكان في أطراف القاهرة، عرفنا أن اسمه (الهايكستب)، وهو مكان كان معسكرًا لجنود الإنجليز في أيام الحرب، وقد وُضِعَ فيه عدد من الإخوان، وبعض الشيوعيين واليساريين ومنهم يهود، مثل هنري كوريل، المليونير الإيطالي، مؤسس جماعة (حَدِتُّو) الشيوعية، وحدتو اختصار لـ(الحركة الديمقراطية التحررية الوطنية). وكان معنا في هذا المعتقل الشيخ محمد جبر التميمي، والدكتور حسان حتحوت، والشيخ عبد الودود شلبي، وعدد من طلاب القسم الابتدائي الأزهري بمعهد دمياط الديني، أذكر منهم أصغر طالب فيهم محمد أحمد العزب. وكان بجوارنا العنبر الآخر الذي فيه عدد من كبار الإخوان، عزلوهم عنَّا، وقد ضيقوا عليهم في المأكل والمشرب، منهم الأستاذ الشيخ عبد المعز عبد الستار، والأستاذ عبد الحكيم عابدين، وعدد من الإخوة، وقد سمعت من الشيخ عبد المعز أنه قال: حاولنا يوما أن نشرب من الماء المخزن في (سيفون) المرحاض، فوجدناه كأنه طين لا يمكن شربه. وكنا سمعنا أنهم ركبوا لهم (أجهزة تسجيل) خفية، تسجل أحاديثهم بعضهم مع بعض، فأردنا أن نبلغهم بذلك، فأبلغناهم بذلك بطريقة ملحنة كأنما نقرأ القرآن، حتى لا يحس الحراس، وقد فهموا عنا ما أردنا. وقد بقينا في (الهايكستب) إلى يوم (العلقة) الشهيرة، حيث أرسلوا إلينا جماعة من عساكر (بلوك النظام) لتأديبنا، وكان الجنود يوجِّهون ضرباتهم إلى الشيخ عبد المعز، وهو يصرخ فيهم: (اضربوا يا أنذال، اضربوا يا كلاب). وبعض الإخوة استجار بالملك، قائلًا: أنا في عرض جلالة الملك! وانفضت المعركة المفتعلة بقليل من الإصابات والجراحات الخفيفة، وكثير من العجب والاستغراب لما حدث، ولكن في عهود الظلم والاستبداد لا يُستغرب أي شيء يقع؛ لأنه لا يوجد من يحاسب الظالم، ولا من ينصف المظلوم. قصيدتي عن المعتقلين في معركة الضرب وقد تحدثت عن هذه (العلقة) في مذكراتي، وفي قصيدتي (هجمة الجند)، التي قلت فيما قلت فيها: ما للجنود ذوي العصي وما لي؟ ما كنت بالباغي ولا المحتال! ما بالهم هجموا علينا بغتة متوثِّبين كهجمةِ الأغوالِ؟! قد كشّروا عن نابِهم، وتقدَّموا ببسالة للثأر من أمثالي! وكان مما قلته فيها أصف به ما تعرض له الشيخ عبد المعز، وشموخه واعتزازه على جلاديه: وبقربنا شيخ يجلجل صوته في الجند يصرخ صرخةَ الرِّئبالِ عبد المعزِّ يقولُ: دونكمو اضربوا ضرب الخسيس لشامخٍ متعالِ نقلُنا إلى معتقل الطور وجُمِعنا بعد ذلك أهل (الهايكستب) جميعًا، ونُقِلْنا إلى (معتقل الطور)، ولكن الشيخ عبد المعز وُضِعَ في حذاء رقم (1)، حيث اتخذه المعتقلون إمامًا لهم، وأما أنا فوضعوني في حذاء رقم (2)، وكان إمامه الشيخ الغزالي، وهو في الحقيقة أحب إليَّ، وأهوى عندي، فقد كنت قرأت له بعض المقالات في صحيفة الإخوان، وقرأت له كتاب (الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية)، وإن لم ألقه أول مرة إلَّا في الباخرة (عايدة) التي ركبناها باسم الله مجراها ومرساها إلى الطور. الشيخ إمام في جانب من معتقل الطور وجاء شهر رمضان، {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]. وهو شهر الصيام والقيام، والذكر والدعاء والاستغفار، وهي في الطور أصفى وأحلى ما يشعر به المؤمنون. لم أسعد بالشيخ عبد المعز في الطور، ولكن سعد به رفيقي وصديقي أحمد العسَّال، الذي حدثني عنه حديث المعجَب المعتزِّ به، وأسعدني حديثه، وقد بقي العسَّال بعدي عدة أسابيع، ثم أُفرِج عنه. الشيخ في مذكراتي وقد ذكرتُ الشيخَ عبد المعز أكثر من مرة في ذكرياتي، منها: (وفي سنة 1946م أرسل الإمامُ حسن البنا: العالمَ الداعية الشيخ عبد المعز عبد الستار، وهو في ريعان شبابه، ليطوف بمدن فلسطين مشرِّقًا ومغربًا، لتنبيه العقول، وإحياء القلوب، وإشعال المشاعر، وتجميع الصفوف، وقد بقي الشيخ عبد المعز- كما سمعتُ منه- شهرين كاملين في فلسطين، ولكنه عاد من هناك يحمل همًّا كبيرًا، ويُشفق على مصير فلسطين؛ فحينما زار المسجد الأقصى، لم يجد فيه غير صفين من المصلين أو ثلاثة، فآلمه ذلك أشدَّ الإيلام، ولما قال لبعض المقدسيِّين ذلك، قال له: صحيحٌ أنَّ الصلاة ثقيلة عليهم، ولكن إذا ناديتهم إلى المعركة لبُّوا النداء في سرعة البرق. وقال لهم الشيخ: إن أول الجهاد أن نجاهد أنفسنا، وأن ننتصر عليها، والله تعالى يقول: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة:153]. وممَّا لاحظه الشيخ أن القادة كلهم غائبون، الحاج أمين الحسيني منفيٌّ في الخارج، والآخرون متفرقون، كما لاحظ أن اليهود يعملون ليل نهار، وفي غاية من اليقظة والاستعداد، والعرب ليسوا على هذا المستوى، ولهذا حين عاد إلى مصر قال للأستاذ البنا: الحقيقة أن دولة اليهود قائمة بالفعل، ولا ينقصها إلا الإعلان عنها!. فترة ما بعد المعتقل وخرج الإخوان من معتقلاتهم أشد عزمًا، وأقوى إصرارًا على دعوتهم، واستمساكًا بعروتها الوثقى، ونشاطًا في سبيلها. وكانت هذه الفترة من أخصب الفترات في تاريخ الدعوة، فلم يكن للدعوة دور ولا لافتات، ولا أي مظاهر رسمية، وإنما كان هناك عمل هادئ صامت، يقوم به أبناء الدعوة في كل مكان، وخصوصا بين الطلاب، وكان العمل أشبه ببذر البذور الطيبة في أرض خصبة، بأيدٍ أمينة، وكان لا بد أن يؤتي أكله. وكنا نكسب باستمرار شبابًا وجنودًا جددًا ينضمون إلى الدعوة مخلصين، لا يرجون إلا الله والدار الآخرة، وقد كان هذا أمرًا جليًّا بالنسبة لطلاب الجامعة والأزهر، وقد جمعت بيننا لقاءات دعوية للتفاهم وتنسيق العمل المشترك. وكان من أهم جولات النشاط العلني الذي قمت به في هذه الفترة: تأييد مرشحي الإخوان في الانتخابات؛ فقد رُشِّحَ عددٌ منهم في بعض الدوائر، وكان ذلك لغاية مهمة، وهي أن الانتخابات تتيح لهم- رسميًّا- الحديث عن الدعوة وأهدافها ومنجزاتها ومستقبلها، وإن لم يكن لديهم أمل في النجاح. رُشِّح الشيخ الباقوري في دائرة القلعة، والأستاذ طاهر الخشاب في العباسية، والأستاذ مصطفى مؤمن في الجيزة، والأستاذ علي شحاته في شبرا، والشيخ عبد المعز عبد الستار في فاقوس، والأستاذ فهمي أبو غدير في الوسطى وأسيوط. وكنا ننتقل من دائرة إلى أخرى لنشارك في المسيرات المؤيدة، أو في حملات الدعاية، بدافع من أنفسنا، ورغبة صادقة في مساندة إخواننا، الذين لا يملكون من وسائل الدعاية والتجنيد ما يملك خصومهم المرشحون. وقد كُلِّفْتُ من الإخوان بالسفر إلى أسيوط لأسهم في تأييد مرشح الدعوة المحامي فهمي أبو غدير. سفري إلى فاقوس لتأييد الشيخ عبد المعز وبعد رجوعي من أسيوط كُلِّفت أن أسافر إلى (فاقوس) بالشرقية، لتأييد مرشحها فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار، وبقيت هناك نحو أسبوع، أنتقل في أحياء فاقوس، وفي قرى الدائرة، لمساندة ابنها البار، وعالمها الجليل، وخطيبها المُفَوَّه، الذي دوَّى صوته في جنبات الأزهر، وفي أنحاء مصر، ووصل إلى فلسطين، فهزَّ المنابر، وأيقظ المشاعر، وزلزل عروش الظالمين. وعدت بعد ذلك إلى القاهرة لأواصل نشاطي الدراسي والدعوي. وقد جرت الانتخاب بعد أيام قليلة، ولم ينجح أيُّ مرشح من الإخوان، وهو ما كان متوقَّعًا؛ فالانتخابات فن لم يُتقِنه الإخوان بعدُ، ويحتاج إلى تهيئة وإعداد طويل. استمعت إلى الشيخ عبد المعز وهو يخطب الجمعة في فاقوس، وسمعته وهو يخطب في بعض أعيان فاقوس بمناسبة ترشحه، وفي بعض قرى فاقوس، فكان دائمًا هو فارس الميدان، وصاحب الصوت الأعلى. وظل الشيخ عبد المعز في مكانه في قسم الدعوة والإرشاد، وهو يتبع الأزهر في إدارته، ولكنه كان مكينًا في قلوب الإخوان، لما يعرفون من منزلته عند الإمام الشهيد حسن البنا. الشيخ عضو في مكتب الإرشاد وكان الشيخ عبد المعز عضوًا في مكتب الإرشاد الثاني، الذي تشكل مع تولي الأستاذ حسن الهضيبي منصب المرشد العام، وكان معه في عضوية المكتب كل من محمد حامد أبو النصر، وعمر التلمساني، وعبد القادر عودة، وعبد الرحمن البنا، وعبد الحكيم عابدين، ومحمد فرغلي، وحسين كمال الدين، ومحمد خميس حميدة، وكمال خليفة، وأحمد شِريت، وعبد العزيز عطية، بجانب مُنِير أمين دلَّة، وصالح أبو رقيق، والبهي الخولي، وعرف رموز العمل الوطني والإسلامي الصادقين خلال القرن العشرين، كالحاج أمين الحسيني، والشيخ عزّ الدين القسّام وأمثالهما.

2248

| 02 يوليو 2015

رمضان 1436 alsharq
القرضاوي: محمد المبارك كان عَلَمًا من أعلام الفكر الإسلامي

الكتاب: "في وداع الأعلام" المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاوي الحلقة : الرابعة عشرة إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه). ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة. إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!. وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. وفي هذه الحلقة يتحدث الشيخ القرضاوي عن الأستاذ محمد المبارك والأستاذ محمود محمد شاكر وعلامة القرآن والعربية الشيخ عنتر حشَّاد: الأستاذ محمد المبارك(1331 – 1402هـ = 1912 – 1981م)في شهر ديسمبر من عام 1981م، الموافق صفر 1402 هـ، توفي العالم والوزير والكاتب والمفكر والداعية والمربي والسياسي الإسلامي المعروف الأستاذ محمد بن عبد القادر بن محمد المبارك الشريف الحسني، في المدينة المنورة، والده عبد القادر المبارك وجده محمد المبارك، وكلاهما من علماء اللغة والأدب.ولد الأستاذ محمد المبارك في دمشق سنة 1331ه الموافق 1912م.جمع الأستاذ محمد المبارك في دراسته بين الدراسة النظامية وطلب العلم على المشايخ، فدرس الابتدائية ثم الثانوية في مدارس دمشق، ثم أكمل دراسته الجامعية في جامعة دمشق فدرس في آن واحد في كليتي الحقوق والآداب، وأنهى الدراستين معًا في سنة 1935م، وكان في المساء يدرس على الشيخ محمد بدر الدين الحسيني، وقد استفاد المبارك من علمه، وقرأ عليه النحو والصرف والتفسير والمصطلح والفرائض وأصول الفقه والكلام والبلاغة والحساب والجبر والهندسة، ودرس كذلك على الشيخ سليم الجندي وعلى والده العلامة اللغوي الشيخ عبد القادر علوم اللغة العربية.وبعد تخرجه في الجامعة السورية، أوفدته الدولة إلى جامعة السوربون في باريس ليدرس في كلية الآداب وفي معهد الدراسات الإسلامية التابع لها ثلاث سنوات، والتقى هناك الأمير شكيب أرسلان، ودرس بالإضافة إلى الأدب العربي والثقافة الإسلامية، الأدب الفرنسي وعصوره وفنونه وأعلامه، ودرس- أيضًا- علم الاجتماع.تعرف في باريس إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان يتردد على نواديهم ويتعاون معهم في مجال الدعوة الإسلامية التي كانت أشمل من محاربة الاستعمار والتحرر والاستقلال.بعد عودته من فرنسا عمل بتدريس الأدب للمرحلة الثانوية بمدينة حلب، ثم دمشق، ودرَّس كذلك في دار المعلمين العليا.بعد جلاء القوات الأجنبية عن سورية، عين الأستاذ محمد المبارك عضوًا في اللجنة الفنية للتربية ومفتشًا اختصاصيًا لسورية لمادتي اللغة العربية والدين،وكثيرًا ما كان يكلف بتفتيش مواد اللغة الفرنسية والفلسفة لعدم وجود مفتشين لهذه المواد يومئذ.وفي تلك الفترة كُلف بوضع مناهج اللغة العربية والدين للمدارس الثانوية منفردًا، وعمل في ذلك عملًا جادًا استغرق نحو شهرين، أنجز خلالهما وضع مناهج المادتين لجميع سنوات التعليم الثانوي الست.في عام 1947 رشح نفسه للانتخابات النيابية عن مدينة دمشق تلبية لرغبة رابطة العلماء والجمعيات الإسلامية، وقد انتخب ثلاث مرات عن مدينة دمشق خلال الفترة من 1947 إلى 1958.كما عين المبارك خلال الفترة من 1949 إلى 1952 وزيرًا للأشغال العامة، ثم وزيرًا للمواصلات ثم وزيرًا للزراعة.بعد الوحدة بين مصر وسورية، انصرف عن العمل السياسي إلى العمل الجامعي العلمي، وفضَّل التدريس والكتابة وإلقاء المحاضرات، ليرفع مستوى الوعي الإسلامي العام عند الجماهير الإسلامية.تولى عمادة كلية الشريعة في جامعة دمشق وذلك بعد عميدها الأول الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي.عمل الأستاذ المبارك بعدة جامعات عربية منها جامعة أم درمان الإسلامية في السودان أستاذًا ومشاركًا في التخطيط ورئيسًا لقسم الدراسات الإسلامية، ودرس كذلك في كلية الحقوق بجامعة الخرطوم مادة السياسة الشرعية.وعُين أستاذًا ورئيسًا لقسم الشريعة والدراسات الإسلامية في كلية الشريعة بمكة المكرمة، وكان قد اشترك في وضع خطتها وبعض مناهجها، ثم عُين أستاذًا باحثًا ومستشارًا في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وفي أثناء تلك الفترة عمل أستاذًا زائرًا في الجامعة الأردنية.وبقي يمارس التدريس في الجامعات حتى وفاته.كان الأستاذ المبارك عضوًا في مجمع اللغة العربية (المجمع العلمي) بدمشق، وعضوًا في المجلس الأعلى الاستشاري في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.كان للأستاذ المبارك نشاطه الدعوى ومحاضراته في مدن سوريا وقراها، شارك في عدد من الجمعيات الإسلامية، فكان أول رئيس لجمعية الشبان المسلمين في دمشق، ولما أسس الدكتور مصطفى السباعي مدرسة الدعوة في دمشق كان المبارك يحاضر فيها هو والسباعي وثلة من الأساتذة المرموقين.والأستاذ المبارك من مؤسسي جماعة الإخوان المسلمين في سورية، وكان يمثلهم في البرلمان السوري، وكان الساعد الأيمن للسباعي ومستشاره السياسي والتنظيمي والاجتماعي.وبعد أن غادر سورية بقي المبارك على صلات طيبة مع الإخوان فكان مع الإخوان السوريين حيث يوجد إخوان سوريون، وكان مع الإخوان في سائر الأقطار التي يزورها أو يقيم فيها، يقدم لهم إرشاداته ونصائحه، ويعطيهم تجاربه العلمية التي اكتسبها طوال عمره السياسي والتنظيمي. وكان له دور في ترشيد الحركة الإسلامية، وتقديم النصح والمساعدة المادية والمعنوية من خلال عمله.الأستاذ المبارك أحد كبار العلماء السوريين، المجدّدين المعتدلين، الذين تتجلَّى في إنتاجهم الأصالة التي تُعبِّر عن ذاتيَّة الأمة، ورسالتها الإسلامية، والمعاصرة التي تعرف الغرب وثقافته ومدارسه المختلفة، نظرًا لمعرفته بالفرنسية. تعرُّفي على الأستاذ المبارك:عرفت الأستاذ محمد المبارك صورة واسْمًا (صورة شمسية طبعًا) في سنة 1948م، في سجل التعارف الإسلامي، في صفحة من صفحات مجلةٍ عزيزة علينا، كانت تصدر في مصر اسمها (الشهاب)، صدر منها خمسة أعداد فقط، ثم ذهب صاحبها ومؤسِّسها بيد الغدر، مؤسسها هو الإمام الشهيد (حسن البنا)، مؤسس كبرى الحركات الإسلامية الحديثة في هذا الشرق العربي.في مجلة الشهاب كان (سجل التعارف الإسلامي)، وكانت صورة، وكان اسم، بل كانت صور وأسماء لعدد من الرجال العاملين في الحقل الإسلامي، وفي الفكر الإسلامي، في العالم الإسلامي، كان منهم اسم محمد المبارك ورسمه.ثم ظهرت بعض مؤلفات وبحوث للأستاذ محمد المبارك، فازددنا تعرفًا عليه وإعجابًا به وحبًّا له، ثم جمعتنا به الظروف فيما بعد في مصر، فازددنا إعجابًا به وتقديرًا له، وعرفنا أنه من خيرة الرجال.. نقول ذلك ولا نزكّي على الله أحدًا.فهناك من الأشخاص من تسمع عنهم، فإذا لقيتهم زهدتَ فيهم، لكن الأستاذ المبارك كان معنا كما قال الشاعر قديمًا:كانت مُحَـادَثـةُ الرُّكْبان تُنْبِئُنا عن جابر بن ربَـاح أطيبَ الخَبرحتى التقينا فلا والله ما سمعتْ أُذني بأحسَنَ ممَّا قد رأى بَصَري تقريره عن كتابي (الحلال والحرام)ثم عرفته أكثر حين أحال إليه أستاذنا الدكتور محمد البهي المدير العام للثقافة الإسلامية بالأزهر الشريف مسودة كتابي (الحلال والحرام في الإسلام) ليكتب تقريرًا عنه يتضمن رأيه فيه: هل يصلح أن يتبنَّاه الأزهر ليترجم إلى اللغة الإنجليزية أم لا؟ وإنما اختاره الدكتور البهي لمعرفته بالثقافة الغربية والعقلية الغربية، بجوار ثقافته الإسلامية، وبهذا يملك القدرة على معرفة مدى صلاحيَّة الكتاب لمخاطبة الغرب.وقد كتب تقريرًا متميِّزًا عن الكتاب، قال فيه: إنَّ المؤلف توخَّى فيه الاعتدال في أحكامه.وقال: إنَّ الكتاب جيد في بابه، ضروري في موضوعه، وإذا استدركت فيه بعض الملاحظات، كان خير كتاب في هذا الموضوع فيما أعلم.وقد كان له بعض أسئلة واستفسارات سألني عنها، وأجبته عنها، وبعض أشياء ناقشني فيها، سلَّمت له ببعضها وعدَّلته، وبعضها سلَّم لي بها. اجتماعي به مع الدكتور السباعيثم شاء الله أن يزور مصر، وأن يجمعني به الدكتور البهي، ويعرِّفني عليه، ويعرِّفه عليَّ، وكان هو مع علَّامةِ سوريةَ الأستاذ الشيخ الدكتور مصطفى السباعي، وقد صنع لهما الدكتور البهي حفل شاي تكريمًا لهما، وأبى فضله إلا أن أحضر معهما، برغم حداثة سنِّي، ودنوِّ مرتبتي الوظيفيَّة، وقد أهداني السباعي كتابه (السنة ومكانتها في التشريع).ومن اللطائف: أني حين لقيت الأستاذ المبارك بعد ذلك في إحدى زياراته للقاهرة في أيام الوحدة مع سوريا، أخبرني بقصته مع كتابي، قال لي: كنت أقرأ مسودة الكتاب، فيعجبني تناوله للموضوع، وبيان الحكم والحكمة، وربطه بتعاليم الإسلام العامة، فأقول في نفسي: هذا الشخص واعٍ فاهم لما يكتب، ولكن الغريب أنه غير معروف، وكان شقيقي مازن المبارك يحضّر الدكتوراه في جامعة القاهرة، فعاد يوما إلى دمشق، فسألته: هل تعرف شخصا اسمه يوسف القرضاوي؟قال: كيف لا أعرفه، وكم صليت وراءه الجمعة في جامع الزمالك بالقاهرة؟ وهو كذا وكذا وكذا؟ وظل يعدد لي من مناقب القرضاوي ما لم أكن أعلمه.قلت له: الآن زدتني اطمئنانا إلى هذا الشخص الذي قرأت له ما عرفت به أني قد تعرفت على عالم جديد له مستقبله إن شاء الله.كلمته في كتابي (فقه الزكاة):ومما لا أنساه للأستاذ المبارك ما كتبه عن كتابي (فقه الزكاة) في تقديمه كتابه عن (نظام الاقتصاد) الذي قال في تقدير منه:(ومن الكتب الحديثة ما هو خاص بموضوع مُعيَّن، ومن هذا النوع كتاب (فقه الزكاة) للأستاذ يوسُف القَرَضاوي، وهو موسوعة فقهيَّة في الزكاة، استوعبت مسائلها القديمة والحديثة، وأحكامها النصيَّة والاجتهاديَّة، على جميع المذاهب المعروفة المدوَّنة، لم يقتصر فيها على المذاهب الأربعة، مع ذكر الأدلة ومناقشتها. وعرض لما حَدَث من قضايا ومسائل، ومع نظرات تحليليَّة عميقة.. وهو بالجملة عمل تنوء بمثله المجامع الفقهية، ويُعتبر حَدَثًا هامًّا في التأليف الفقهي.. جزى الله مؤلفه خيرًا). استدعاؤه لجامعة قطر:وبعد انتقاله إلى المملكة العربية السعوديَّة، ثم بعد أن أُسِّست جامعة قطر، استدعاه الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم كاظم مدير جامعة قطر، ليلقي محاضرات في علم الاجتماع، من وجهة نظر إسلامية، فألقى محاضرات ضمَّها كتابه: (نحو مجتمع إسلامي معاصر).تقديمي لمحاضرته عن (الإسلام والتنمية الصناعية):وفي هذه الفترة ألقى محاضرته عن (الإسلام والتنمية الصناعية)، وقد وكَّل إليَّ الدكتور كاظم أن أتولّى تقديمه. وكان تقديمي المرتجل هو الذي قامت أسرة الأستاذ المبارك– رحمه الله تعالى- بتفريغه، وقدَّمت به كتابه : (الإسلام والتيَّارات الفكرة العالمية).وفي هذا قلت:(فيسعدني في هذه الليلة الطيبة أن أقدِّم إليكم، بالنيابة عن هذه الكلية الفتية، وعن اللجنة الثقافية بها، عَلَمًا من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، ورجلًا من رجالات العلم والدعوة إلى الإسلام، ذلك هو الأستاذ الكبير: محمد المبارك.والأستاذ محمد المبارك غنيٌّ عن التعريف، ولكن جَرَت العادة أن يقدِّم المقدِّم كل محاضر بنبذة عن حياته.دراسته ووظائفه:ودرس على كبار الشيوخ في دمشق علوم الدين واللغة، ثم درس الدراسة النظامية في المدارس الابتدائية والثانوية، ثم درس في الجامعة، حيث تخرج في كلية العلوم ومدرسة الآداب العليا في سنة 1935م، ثم ذهب إلى باريس حيث بقي هناك ثلاث سنوات، فعاد منها بعد أن تخرَّج في جامعة السوربون في الأدب والاجتماع، وعاد من يومها يعمل في حقل التربية والتعليم في المدارس الثانوية، مفتِّشًا وعضوًا في اللجان الفنيّة المختصّة بالمناهج الخاصة بتدريس الدين واللغة العربية.ثم انتقل بعد ذلك سنة 1948م إلى الجامعة، حيث عمل مدرسًا بها، وعمل في كلية الشريعة من يوم تأسيسها برتبة أستاذ، ورئيسًا لقسم الأديان ومقارنة المذاهب ثم عميدًا لكلية الشريعة.ثم انتقل إلى بلاد عديدة، حيث عمل في جامعة أم درمان الإسلامية في الدراسات الإسلامية، كما عمل في جامعة الملك عبد العزيز أستاذًا ومستشارًا، وعمل في كلية الشريعة بمكة أيضًا لقسم الشريعة.عمله في حقل الدعوة الإسلامية:الأستاذ المبارك منذ ريعان الشباب كان يعمل في حقل الدعوة الإسلامية، وحينما ذهب سنة 1935م إلى باريس كان مهتمًّا بالدعوة إلى الإسلام، وبالتيارات المعادية للإسلام، وبخاصة الشيوعية. كان يحضر مؤتمرات الشيوعيين، ويندسُّ فيهم على أنه واحد منهم، وقد يظهر الموافقة على مقرَّراتهم، حتى يعرف ما لديهم، فالإنسان لا يستطيع أن يحارب عدوًّا حتى يعرف ماذا عنده.اشترك بنشاطه في رابطة علماء دمشق، واشترك في تأسيس عدد من الجمعيات الإسلامية، وكان له دور ملحوظ في العمل الإسلامي، وفي الدعوة الإسلامية في سورية.هذا هو الأستاذ محمد المبارك كعالم وكداعية وسياسي.وأحب أن أتحدّث عن الأستاذ المبارك كمفكّر. الحقيقة أنا قد نجد كثيرًا من الناس وعّاظًا أو دعاة، لكننا قلّما نجد الداعية العالم المتمكِّن، وقد تجد الداعية العالم، ولكنك قلّما تجد العالم المفكر الذي يفكر للإسلام ويفكر بالإسلام، أي يفكر بمنطق الإسلام، وبمنطق من أصوله ونصوصه وروحه العامة، لكنّنا نحمد الله تعالى أن كان الأستاذ المبارك أحدَ الذين يفكرون بالإسلام ويفكرون للإسلام، وهكذا عاش لهذا الدين وعاش بهذا الدين.هو أحد العقول القلائل في هذا العالم الإسلامي التي تفكِّر بالإسلام وتفكر للإسلام، ولو أحببنا أن نعُدَّ عشرة عقول في العالم الإسلامي تفكر للإسلام وبالإسلام، لكان الأستاذ المبارك من ألمعها، ونحمد الله على ذلك.الأستاذ محمود محمد شاكرالعالم اللغوي الأديب المحقق الكبير(1327 – 1418ه = 1909 – 1997م)في مساء يوم الخميس 3 ربيع الآخر1418هـ الموافق7 أغسطس 1997م، توفي العالم الجليل الشيخ محمود محمد شاكر، أحد علماء الأمة الأفذاذ، وأحد علماء اللغة الأثبات، وأحد المحققين الثقات، الذي يشكّل مع أخيه الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله، مدرسة متميزة في تحقيق نصوص التراث. وأحد الأدباء الكبار المعتبرين، وأحد الأقلام التي نصَّبت نفسها للدفاع عن الإسلام، وأمّة الإسلام، وحضارة الإسلام، وثقافة الإسلام والعربية، وقف ضدَّ دعاة التغريب والتبعيَّة.وترك وراءه تراثا أدبيَّا علميَّا، له أثره وأهميته، في صياغة العقل المسلم المستقل، مثل: (المتنبي)، و(الطريق إلى ثقافتنا)، الذي أشار فيه إلى جوانب النهضة الكبيرة في مصر، قبل اللجوء والإقبال على أوروبا، على مستويات شتى، وفي أكثر من مجال، في العلم، واللغة، والأدب، والصناعة، وأن أعداء الأمة هم الذين أجهضوها، وكتابه (أباطيل وأسمار)، الذي كشف عن الاتجاهات المشبوهة التي تغذي الدعوة إلى العامية، على مستوى الممارسة والكتابة، ونشر بالأسماء المبشرين والمستشرقين والمنصّرين الذين يقفون وراء هذه الدعوات. وتحقيق عدة أجزاء من (تفسير الطبري)، وغير ذلك من الكتب.هذا الرجل الذي تتلمذ على يديه كثير من الأدباء وكبار الرجال، منهم من إخواننا عبد العظيم الديب، وعبد الحليم أبو شقة، لم يمنعهم من ذلك انتقاداته العنيفة للإخوان، لثقتهم بإخلاص الرجل، وغزارة علمه، وكان ينقدهم ومرشدهم الأول حسن البنا بلسان حاد.وقد دعوني لأحضر معهم بعض هذه الدروس في بيته بمصر الجديدة، واستجبت لهم، واستفدت منها.وكان رجلًا حرًا جريئًا، يقول ما يعتقد أنه حق، معروف بأنه لا يبالي من أصاب بلسانه، لا يخاف لومة لائم، ولا نقمة ظالم، وقد تسببت جرأته بخروج الباقوري من الوزارة، إذ أطلق الشيخ محمود شاكر لسانه في نقد عبد الناصر ولم يبال، ولم يدافع الشيخ الباقوري عن رئيسه، ونقل ذلك لعبد الناصر، فأخرج من الوزارة. مات الرجل ولم يكد أحد يتحدث عنه، صحافتنا وإذاعاتنا وتلفازاتنا التي أخذت الساعات الطوال بل الأيام، تتحدث عن (ديانا) و(دودي)، لم تتحدث بشيء عن علامة الشعب الشيخ محمود شاكر؟ مَن مِن الناس يعرف الشيخ محمود شاكر؟ الناس لا يعرفونه، لأن الإعلام لا مشغول بتوافه الأمور، وتوافه الشخصيات، من رجالات الفن وفساقه، ومن خدم السلاطين، وأتباع الشياطين، لا يتحدث عن مثله، فليس رجلًا من رجالات الإعلام، وليس ممن تُسلط عليه أضواء الصحافة.رحم الله الشيخ محمود محمد شاكر، وتقبّله في الصالحين، وجزاه عن دينه وعن أمته خير ما يجزي به العلماء العاملين، والدعاة الصادقين.علامة القرآن والعربية الشيخ عنتر حشَّاد(حوالي 1338 – 1418هـ = 1920 - م1997)ومات أيضًا بعد الشيخ شاكر، الشيخ عنتر حشّاد سنة 1997م، رجل القرآن، رجل التوحيد، رجل العربية، رجل العلم المتمكِّن، ورجل الصدق، ورجل الدعوة، الذي عرفه أهل قطر في مسجد عمر بن الخطاب، وفي غيره، الذي طالما تتلمذ عليه المتتلمذون، وأوى إلى التعلم منه الكثيرون: يتعلمون القرآن والحديث والفقه واللغة والأدب. مات الشيخ عنتر حشَّاد في مصر، وكنت فيها فما علمت بموته، إلا بعد أن رجعت إلى قطر، وقالوا: هل سمعت بموت الشيخ عنتر؟ قلتُ: لا، والله ما سمعت. كنتُ في مصر، وفي مدينة نصر التي يسكن فيها الشيخ عنتر، وما سمعت به!

1722

| 30 يونيو 2015