رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

عادل الحامدي

مساحة إعلانية

مقالات

66

عادل الحامدي

الدوحة.. هوية تُبنى بهدوء وتُخاطب العالم بثقة

30 ديسمبر 2025 , 01:25ص

في زمنٍ تتسابق فيه المدن على ناطحات السحاب، وتتنافس الدول على مظاهر القوة الخشنة، اختارت الدوحة طريقًا مختلفًا: طريق المعنى، والهوية، والقيم. لم تقدّم نفسها للعالم باعتبارها مدينة حديثة فحسب، بل باعتبارها نموذجًا عربيًا إسلاميًا معاصرًا، قادرًا على الجمع بين الأصالة والحداثة، وبين الانفتاح والاعتزاز بالذات.

 من كأس العالم لكرة القدم 2022، بدأت الحكاية تتشكل بوضوح، لم يكن الحدث مجرد بطولة رياضية، بل لحظة ثقافية وحضارية بامتياز، العالم الذي جاء إلى الدوحة فوجئ بصورة أخرى للعرب والمسلمين: ضيافة دافئة، واحترام للخصوصية، وحضور طبيعي للهوية الإسلامية في الفضاء العام دون صخب أو ادعاء. المساجد القريبة من الملاعب، وصوت الأذان، ومظاهر الحياء في التنظيم، كلها رسائل غير مباشرة، لكنها بالغة التأثير. لقد قُدّم الإسلام هنا كما هو: دين حياة، ونظام قيم، لا عائقًا أمام الحداثة ولا نقيضًا لها.

 وإذا كانت المساجد في الدوحة قد لفتت الأنظار بجمالها المعماري وعمق رمزيتها، فإن الأهم هو ما تمثله من تعظيمٍ لشعائر الله في زمن التهميش والاختزال. مساجد تليق بالإسلام والمسلمين، لا بوصفها معالم سياحية فقط، بل بوصفها مراكز للسكينة، والدعاء، والتفكر. وفي هذا السياق، لم يكن غريبًا أن تستضيف الدوحة دعاة ومفكرين وسطيين قدّموا الإسلام على حقيقته، بعيدًا عن التشدد، وبعيدًا عن التمييع، إسلام العقل والروح، والعدل والرحمة.

 منتدى الدوحة، بدوره، شكّل منصة فكرية وسياسية تعكس هذا التوجه، لقاء قادة العالم، وصناع القرار، والمفكرين، لم يكن مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل محاولة جادة لبحث أسس الاستقرار في عالم مضطرب، وشروط السلام في زمن تتآكل فيه القيم المشتركة. هنا، لا تُفرض الرؤى بالقوة، بل تُناقش بالعقل، ويُستدعى البعد الأخلاقي إلى قلب السياسة الدولية.

وفي الاتجاه نفسه، يأتي مؤتمر مكافحة الفساد، الذي لا يكتفي بالشعارات، بل يكرّم العاملين في مواجهته، ويجعل من النزاهة قيمة عملية لا خطابًا نظريًا. فالدولة التي تحتفي بمن يحارب الفساد، إنما تؤسس لثقافة عامة تحترم القانون، وتربط بين التنمية والعدالة، وبين الحكم الرشيد وكرامة الإنسان.  أما كأس العرب لكرة القدم، فكانت بدورها احتفالًا بالهوية العربية الجامعة، بطولة أعادت الاعتبار لفكرة «العالم العربي” بوصفه فضاءً ثقافيًا وإنسانيًا مشتركًا، لا مجرد جغرافيا متنازعة. في المدرجات، وفي الشوارع، وفي الاحتفالات، حضرت اللغة العربية، واللهجات، والأغاني، والرموز، كأنها تقول إن ما يجمعنا ما يزال أكبر مما يفرقنا. ويأتي أخيرًا، وليس آخرًا، مشروع «معجم الدوحة التاريخي للغة العربية”، بوصفه ذروة هذا المسار. معجم لا يقدّم لغتنا للعالم فقط، بل يعيد تقديمها لأجيالنا الجديدة، التي كادت تبتلعها عوالم التقنيات الحديثة واللغات الهجينة. إنه استثمار في الذاكرة، وفي المستقبل معًا، وتأكيد على أن اللغة ليست ماضيًا جامدًا، بل كائن حي يتجدد بالبحث والمعرفة. لا أقول إن كل هذا مجرد «قوة ناعمة” تُستخدم لكتابة التاريخ وصناعة الرأي، وإن كان كذلك أيضًا. لكنني أستحضر ما قاله المتنبي:

 «وتعظم في عين الصغير صغارها     وتصغر في عين العظيم العظائم ”.

الدوحة لم تنشغل بتضخيم الصغائر، بل اشتغلت على العظائم بهدوء الواثق. ولذلك، بدت عظيمة. حتى حين لم تقل ذلك صراحة.

 

مساحة إعلانية