رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يوشك العام 2014 على الرحيل. لم يتبق له سوى الغد فقط. سيغادرنا بعد أن سكن فينا مدة 366 يوما. ظلت المعمورة خلالها في حالة حراك متراوح بين الإيجابية والسلبية. وتحققت تحولات نوعية على مدار ه. ولكنه كان زاخرا بالتطورات الموجعة للبشرية. وربما كان عالمنا العربي أكثرها تفاعلا مع هذه التطورات. فاشتدت فيه حالات التشظي والنزعات الطائفية والمذهبية. وشهدت بعض أوطانه – وما زالت- حروبا داخلية. تكاد تقضى على الأخضر واليابس. ومع ذلك فإن ثمة نقاط ضوء وفرت الذريعة للشعور بالأمل في الزمن الآتي وامتلاك القدرة على الخروج من شرنقة الوجع. وبالنسبة لي شخصيا كان الإعلان عن المصالحة المصرية القطرية قبل أيام من رحيل هذا العام. في مقدمة هذه النقاط التي أزاحت بعضا من العتمة التي سادت النظام الإقليمي العربي خلال الأعوام الأخيرة في أعقاب ثورات الربيع العربي التي سنحتفل في مطلع العام الجديد بمرور أربع سنوات عليها.
لقد عشت في قطر ما يقرب من عشرين عاما إلا بضعة أشهر. تفاعلت مع بشرها وأحداثها وتطوراتها . خضت خلالها مع تجربة مهنية أعتبرها شديدة الإيجابية في مسيرتي المهنية. وبنيت شبكة من العلاقات الإنسانية والمهنية أيضا . أعتز بها أيما اعتزاز. على أساس من النزاهة والاحترام والتقدير وبعيدا عن أي أجندات أو معطيات ذات نفع شخصي. كما أن أفراد أسرتي يعتزون بهذه السنوات التي أمضوها بالدوحة. وعندما تعرضت العلاقات مع القاهرة بعد ثورة الثلاثين من يونيو لقدر من سوء الفهم والتأزم . أصابنا جميعا في البيت قدر من الألم خاصة مع الدور السلبي التي لعبته بعض المنابر الإعلامية لدى البلدين. على نحو أسهم في تأجيج المشاعر وتوسيع الهوة. ومع الإعلان عن المصالحة بعد اللقاءات التي جرت بين مسؤولين رفيعي المستوى من الجانبين تلبية لوساطة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز . وتجاوب كل من القيادتين المصرية والقطرية معها بأريحية وحميمية. واتكاء على أرضية صلبة من تاريخية العلاقات بين بلديهما وشعبيهما. والإدراك لطبيعة المهددات والمخاطر التي تحدق بالأمة والمنطقة. اجتاحنا الفرح العارم وسكنتنا البهجة العميقة.
ومن الأهمية - حتى تتكرس المصالحة - بمكان ألا يسمح البلدان الشقيقان مرة أخرى بعودة الأسباب التي أدت إلى القطيعة واحتقان العلاقات الثنائية على نحو يعلي من سقف ما هو مشترك وهو أكثر بكثير مما يفرق ويعيد ترميم ما علاه الصدأ من جوانب التعاون والتي شهدت في السنوات الأخيرة نموا واضحا واتساعا أفقيا ورأسيا . والأهم من كل ذلك ألا يسمح للمنابر الإعلامية بتجاوز الحدود ومنظومة القيم الأخلاقية والمهنية وفق المحددات الوطنية والقومية التي تحكم مواقف الدولتين. ولست في موضع عرض رؤية تفصيلية في هذا المنحى. فهي - من خلال متابعتي للملف -تخضع للدراسة وثمة توافق على كل ما من شأنه أن يحقق أمن واستقرار ومصالح كل طرف اتساقا مع جوهر النظام الإقليمي العربي. والذي عبر عنه الدكتور نبيل العربي الأمين العام للجامعة العربية في التصريحات التي أدلى بها قبل أيام . والتي أكد فيها أهمية المصالحة القطرية - المصرية، وتنقية الأجواء بين البلدين الشقيقين. ورأى أن هذه المصالحة تصب في صالح العمل العربي المشترك . والذي أنشئت لأجله الجامعة العربية وتشكل ميثاقها حيث تنص المادة الثانية من الميثاق على أن الجامعة تعمل من أجل تعزيز الروابط والصلات بين الدول العربية.
وأحسب أن إنجاز المصالحة المصرية القطرية -أو وفق التعبير الرسمي المستخدم في البيانات الأخيرة التي صدرت من الدوحة والقاهرة فضلا عن الرياض توطيد العلاقات بين الجانبين - سيشكل رافعة قوية باتجاه إعادة صياغة محددات النظام الإقليمي العربي. بعد ما تعرض له خلال الأعوام الأخيرة من خلخلة في بنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية إضافة إلى العسكرية والأمنية. وثمة شواهد عدة في هذا الصدد. أهمها احتواء مظاهر الاحتقان في العلاقات الخليجية العراقية والتي يقوم حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي بتصحيح مساراتها عبر سلسلة من الزيارات لعواصم مجلس التعاون الخليجي . بعد أن أفسدتها ممارسات سلفه نور المالكي. الذي كان يراهن على عاصمتين فقط. هما واشنطن وطهران. فانتهى حكمه بسقوط ما يقترب من ثلث مساحة العراقي في قبضة تنظيم داعش.
والمؤكد أن الأزمات الإقليمية الملتهبة في كل من سوريا وليبيا واليمن ستشهد في ضوء هذا التطور الإيجابي. حراكا باتجاه التعامل معها بقدر من الجدية. على نحو يحافظ على مؤسسات الدولة الوطنية وشرعيتها. والتي كادت تتلاشى في ضوء ما تتعرض له هذه الأقطار العربية الثلاث من حروب وصراعات وانقسامات حادة. ووفق قراءاتي فإن ثمة ما يتم بلورته حاليا في صمت بين أكثر من عاصمة عربية. في مقدمتها القاهرة والدوحة والرياض لحسم الأمور سياسيا من خلال التحرك النشط لجمع الفرقاء المتناحرين في هذه الأقطار إلى مائدة حوار وطني شامل. بمنأى عن منهجية الإقصاء والتهميش لأي طرف. ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم لإنقاذ ما تبقى من هذه الأوطان. التي أهدرت إمكاناتها ومواردها البشرية والطبيعية في صراعات لا يمكن أن تحسم عبر الخيار العسكري والأمني. وهو ما يستوجب أن تدركه القوى والأطراف التي ما زالت تؤمن بهذا الخيار. لأنه لا يفضي إلا لمزيد القتل والجروح التي لا تلتئم بسهولة في وطننا العربي. ومن ثم يعقبها الرغبة في الثأر والانتقام.
ولا يغيب عن ذلك ملف الوحدة الوطنية الفلسطينية. والذي يبدو لي أنه سيدخل منطقة الجدية في ضوء التطورات الأخيرة بين القاهرة والدوحة. وكلاهما لعب دورا إيجابيا في سبيل وضع لبناته الأساسية من خلال الاتفاقات التي تم التوقيع عليها بين طرفي المعادلة الفلسطينية الرئيسيين وهما حركة فتح وحركة حماس. وستنتهي حالة المراوغة التي كان يكابدها هذا الملف. الذي كان كلما يشهد تقدما سرعان ما يتعرض لانتكاسة. تعيد الأمور إلى المربع الأول. رغم كل النوايا الطيبة التي يعلن عنها قادة الحركتين.
إن الأمل في القيادتين المصرية والقطرية كبير للغاية. لتوفير كل متطلبات نجاح ما تحقق من خطوات إيجابية على صعيد توطيد العلاقات بين البلدين الشقيقين . من خلال التحييد الكامل لبعض الأصوات التي أظهرت مناهضتها لهذه التطورات . لأنها أدركت خطرها على مصالحها التي تتحقق من خلافات الجانبين خاصة على الصعيد الإقليمي فهي – أي هذه الأصوات – تفتقر إلى الحس الوطني والقومي الذي يجعلها حريصة على التعاضد والتماسك بين مفردات النظام الإقليمي العربي.
ويمكن الإشارة إلى أن المصالحة بين الدوحة والقاهرة . كانت واحدة من أهم أسباب انتصار خيار التماسك لمنظومة مجلس التعاون الخليجي والتي نجحت وساطة أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح وجهود العاهل السعودي الملك عبد الله. وتجاوب الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. في المحافظة عليه . ودفعه إلى المزيد من الخطوات الرامية إلى تعزيز النجاحات والتحولات المهمة. التي حققتها هذه المنظومة على مدى أكثر من ثلاثة وثلاثين عاما. وفي تقديري إن مصر ليس من مصلحتها أن تقيم شراكة خليجية دون مجلس تعاون قوى ومتماسك وصلب بين وحداته الست . وفي الوقت ذاته لم يكن من مصلحة قطر أن تنأى عن الدولة العربية المحورية. وهو ما أكده البيان الذي أصدره الديوان الأميري عقب الزيارة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني مساعد وزير الخارجية والمبعوث الخاص لسمو الشيخ تميم إلى القاهرة. ولقائه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي برفقة رئيس الديوان الملكي السعودي خالد بن عبد العزيز بن عبدالمحسن التويجري. عندما شدد على وقوف قطر التام إلى جانب مصر، كما كانت دائماً إدراكا منها أن أمن مصر من أمن قطر، التي تربطها بها أعمق الأواصر وأمتن الروابط الأخوية، وأن قوة مصر قوة للعرب كافة كما أكد أن دولة قطر التي تحرص على دور قيادي لمصر في العالمين العربي والإسلامي، تؤكد حرصها أيضاً على علاقات وثيقة معها والعمل على تنميتها وتطويرها لما فيه خير البلدين وشعبيهما الشقيقين. وهو ما كان له مردود إيجابي على الصعيدين الرسمي والشعبي وأغلبية النخب والقوى السياسية. والتي عبرت في بيانات رسمية عن تأييدها للخطوات الإيجابية بين البلدين داعية إلى المزيد منها حتى يكتمل قوس البهجة وتعود أزمنة المودة بين القاهرة والدوحة.
إن تأملت حوادث التاريخ، ستجدها تتكرر بنفس السيناريوهات تقريباً، أو أحياناً بشكل تكاد تكون طبق الأصل من بعضها... اقرأ المزيد
237
| 02 أكتوبر 2025
اعذروني ولكني أبدو متخوفة جدا من خطة ترامب بشأن غزة حتى وإن مالت الدول العربية ودول العالم ككل... اقرأ المزيد
141
| 02 أكتوبر 2025
في قطر، كما في غيرها من مجتمعات الخليج، لم تكن الهوية يوماً مجرد رواية موروثة، بل كانت دومًا... اقرأ المزيد
138
| 02 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
5904
| 26 سبتمبر 2025
في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله مشهدا سياسيا قلب المعادلات، الكلمة التي ألقاها سموه لم تكن خطابًا بروتوكوليًا يضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة المكدّس، بل كانت كمن يفتح نافذة في قاعة خانقة. قطر لم تطرح نفسها كقوة تبحث عن مكان على الخريطة؛ بل كصوت يذكّر العالم أن الصِغَر في المساحة لا يعني الصِغَر في التأثير. في لحظة، تحوّل المنبر الأممي من مجرد منصة للوعود المكررة والخطابات المعلبة إلى ساحة مواجهة ناعمة: كلمات صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وضعتهم في قفص الاتهام دون أن تمنحهم شرف ذكر أسمائهم. يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودًا ويخططون لاغتيال أعضائها.. اللغة العربية تعرف قوة الضمير، خصوصًا الضمير المستتر الذي لا يُذكر لفظًا لكنه يُفهم معنى. في خطاب الأمير الضمير هنا مستتر كالذي يختبئ خلف الأحداث، يحرّكها في الخفاء، لكنه لا يجرؤ على الظهور علنًا. استخدام هذا الأسلوب لم يكن محض صدفة لغوية، بل ذكاء سياسي وبلاغي رفيع ؛ إذ جعل كل مستمع يربط الجملة مباشرة بالفاعل الحقيقي في ذهنه من دون أن يحتاج إلى تسميته. ذكاء سياسي ولغوي في آن واحد».... هذا الاستخدام ليس صدفة لغوية، بل استراتيجية بلاغية. في الخطاب السياسي، التسمية المباشرة قد تفتح باب الردّ والجدل، بينما ضمير الغائب يُربك الخصم أكثر لأنه يجعله يتساءل: هل يقصدني وحدي؟ أم يقصد غيري معي؟ إنّه كالسهم الذي ينطلق في القاعة فيصيب أكثر من صدر. محكمة علنية بلا أسماء: لقد حول الأمير خطابًا قصيرًا إلى محكمة علنية بلا أسماء، لكنها محكمة يعرف الجميع من هم المتهمون فيها. وهنا تتجلى العبارة الأبلغ، أن الضمير المستتر في النص كان أبلغ حضورًا من أي تصريح مباشر. العالم في مرآة قطر: في النهاية، لم يكن ضمير المستتر في خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله - مجرد أداة لغوية؛ بل كان سلاحًا سياسيًا صامتًا، أشد وقعًا من الضجيج. لقد أجبر العالم على أن يرى نفسه في مرآة قطر. وما بين الغياب والحضور، تجلت الحقيقة أن القيمة تُقاس بجرأة الموقف لا باتساع الأرض، وأن الكلمة حين تُصاغ بذكاء قادرة على أن تهز أركان السياسات الدولية كما تعجز عنها جيوش كاملة. فالمخاطَب يكتشف أن المرآة وُضعت أمامه من دون أن يُذكر اسمه. تلك هي براعة السياسة: أن تُدين خصمك من دون أن تمنحه شرف الذكر.
5595
| 25 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4470
| 29 سبتمبر 2025