رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
العُصاباتُ؛ جَمْعُ عُصابٍ، هي اضطراباتٌ في الشخصيةِ والاتِّزانِ النفسيِّ، تُسبِّبُها الصراعاتُ النفسيةُ الناجمةُ عن التنشئةِ الأُسَريةِ غيرِ القويمةِ، والتجاربِ الـمُوجِعَةِ الـمُتتاليةِ. وتُضافُ إلى الأسبابِ، بنسبةٍ ضئيلةٍ، العواملُ الوراثيةُ، وعدمُ التوازنِ في الـمُرَكَّباتِ الكيميائيةِ والهرمونيةِ في الـمخِّ. وتظهرُ في مُسْتَوَيَينِ، الأولُ: نفسيُّ يبدو في صورٍ منها القلقُ، والخوفُ، والغضبُ، وانخفاضُ التقييمِ للذاتِ، والتَّشَوُّشُ. والثاني: سلوكيٌّ يتمثَّلُ في التَّهَوُّرِ، والخُمولِ، وتَجَنُّبِ الآخرينَ، والعُزْلةِ، والسَّلبيةِ، والسُّخريةِ، والعدوانيةِ.
معظمُ الناسِ عُصابيونَ بدرجاتٍ متفاوتةٍ، ومستوياتٍ مختلفةٍ. فالأبُ الذي يتصرَّفُ بعدائيةٍ مُفرطَةٍ مع أبنائه في سنِّ الـمراهقةِ وبداياتِ الشبابِ، هو شخصٌ عُصابيٌّ يُعاني خوفاً مَرَضياً لا شعورياً بأنَّ دورَهُ في الحياةِ بدأ يصغُرُ، وأنَّ شبابَ الآخرينَ وحيويَّتَهم إيذانٌ بانتهاءِ شبابِـهِ وتضاؤلِ حيويَّـتِهِ. والشابُّ الذي تَعَرَّضَ لصدمةٍ عاطفيةٍ شديدةٍ في سنٍّ مُبَـكِّرةٍ أدَّتْ إلى خَلَلٍ في تقييمِـهِ للآخرينَ، يُصبحُ عُصابياً في تَعامُلِـهِ معَ الـمرأةِ والفنونِ والآدابِ، فيميلُ لا شعورياً للقمعِ والاستبدادِ بحُجَّةِ الحِفاظِ على الأخلاقِ والقِـيَمِ. والفتاةُ التي نشأتْ في أسرةٍ مُضطربةٍ لا يوجدُ فيها استقرارٌ، وتسودُ علاقاتِ الأبوينِ بالأبناءِ فيها القسوةُ أو الإفراطُ في التدليلِ، تُصبحُ عُصابيةً فتميلُ للسخريةِ منَ الذاتِ عَلانيةً كنوعٍ منَ التَّصَرُّفِ الاستباقيِّ الذي يحميها من انتقاداتِ الآخرينَ لأسرتِها. أو تنغمسُ لا شعورياً في التفكيرِ السَّلبيِّ تجاههم حين يتحدثونَ بإيجابيةٍ عن حياتِهِم الأُسَرَيةِ الطيبةِ، وكأنهم يتعمدونَ الإيحاءَ لها بسلبياتِ حياتِها الأُسريةِ. وقِسْ على ذلك في مواضعَ كثيرةٍ من حياتِنا كلِّها.
الأمرُ الـمُلاحَظُ في الحالاتِ العُصابيةِ الـمُتقدِّمَةِ التي تتخذُ أشكالاً مَرَضيةً ملحوظةً، أنَّ بعضَها يجعلُ العُصابيَّ يلوذُ بالأشخاصِ الذينَ هم مَوضِـعُ خوفِـهِ وشكوكِـهِ. فإنْ كانوا ذوي وعيٍ وثقافةٍ، ويمتلكونَ حِساً رفيعاً بمسؤولياتِهِم الإنسانيةِ والاجتماعيةِ، فسيكونونَ أسباباً في تخفيفِ اضطرابِ شخصيتِهِ واتِّـزانِـهِ النفسيِّ. أما إذا كانوا ذوي وعيٍ مُتَدَنٍّ وثقافةٍ ضحلةٍ، فإنهم سيُمارسونَ عليه عُصاباتِهم التي تتحكَّمُ بهم لا شعورياً، فيستفحلُ اضطرابُهُ، وقد يصلُ الأمرُ إلى بلوغِـهِ الذُّهانَ، أي الخَلَلُ في كلِّ أو إحد مُكَوِّناتِ التفكيرِ الـمَنطقيِّ والإدراكِ الحِسيِّ. فقد عرفتُ أشخاصاً عانوا تجاربَ مؤلِـمَةً في حياتِهم الأُسريةِ والاجتماعيةِ، نَجَمَ عنها أنَّ دائرةَ مخاوفِهم وشكوكِهم اتَّسَعَتْ لتشملَ الأقاربَ من الدرجتين الأولى والثانيةِ، والأصدقاءَ، وأصدقاءَ الأصدقاءِ. ولحُسنِ حظِّهِم فإنَّ شخصاً أو أشخاصاً داخلَ الدائرةِ أدركوا معاناتِهِم، فتعاملوا معهم بصبرٍ شديدٍ وعقلانيةٍ، وأصرُّوا على التواصُلِ معهم، فحالوا بينهم وبين بلوغِ الذُّهانِ، لكنهم لم يتمكنوا من علاجِ الحالاتِ العُصابيةِ لأنَّ ذلك لا يكونُ إلا بإشرافِ الأطباءِ النفسيينَ الـمُختَّصينَ.
لابد لنا من التوعيةِ دائماً بأنَّ الأمراضَ النفسيَّةَ ليستْ ما نراهُ في السينما العربيةِ التي تُسَطِّحُ القضايا، وتنشرُ احتقاراً للعلمِ والـمعرفةِ في مجتمعاتِنا، وإنما هي كالأمراضِ الجسديةِ، بعضها هَيِّنٌ كالزُّكامِ الذي يشبِهُ في درجتِهِ العُصابَ القائم على اضطرابٍ لا يبدو واضحاً إلا في حالاتٍ محدودةٍ، وبعضُها عُضالٌ قد يستعصي أحياناً على العلاجِ الناجعِ كالسرطانِ الذي تُشبِهُ بعضُ أنواعِـهِ في درجتِهِا بعضَ حالاتِ الذُّهانِ.
كلمةٌ أخيرةٌ:
إحدى مظاهرِ التقدُّمِ تتمثَّلُ في وجودِ وعيٍ عامٍّ بوجوبِ احترامِ الآخرينَ، والتعامُلِ مع معاناتِهِم النفسيةِ والعقليةِ والحِسيةِ كجزءٍ من معاناتِنا الخاصةِ بحيثُ نسعى جاهدينَ للتخفيفِ من وطأتِها، أو الإسهامِ في ذلك.
حروب الثقافة كظاهرة عالمية
العنصر الجوهري الذي يميز أي مجتمع هو ثقافته، بما تتضمنه من مكونات مادية وعناصر معنوية مثل القيم والمعايير... اقرأ المزيد
360
| 27 أكتوبر 2025
قراءة في التحولات القادمة للقضية الفلسطينية
لم تعد الحرب الصهيونية على غزة مجرد جولة عسكرية بين مقاومةٍ محاصَرة وجيشٍ متغطرس، بل تحوّلت إلى مرآةٍ... اقرأ المزيد
237
| 27 أكتوبر 2025
Bien hecho España
مع احترامنا لجميع الدول التي ساندت أهل غزة والحكومات التي كانت تدين وتندد دائماً بسياسات إسرائيل الوحشية والإبادة... اقرأ المزيد
273
| 27 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كاتِـبٌ وَإِعْـلاميٌّ قَـطَـرِيٌّ
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6429
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6390
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3840
| 21 أكتوبر 2025