رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
انهيار المنظومة الأخلاقية تجاه أكبر جريمة إنسانية
الغرب ارتكب مجزرة «الحقيقة» في التعامل مع غزة
إذا كان الكيان الإسرائيلي يمارس المجازر الوحشية الجماعية وبشكل ممنهج، بحق الشعب الفلسطيني في غزة، ولم ينجُ منه الحجر والشجر والبشر، على مرأى ومسمع من العالم أجمع طوال 16 يوماً، فإن الغرب وأمريكا عدا عن قيامهم بتقديم كل الدعم والمساندة العسكرية واللوجستية للكيان الإسرائيلي، فإنهم مارسوا بشاعة أكبر، ومجازر أخرى لا تقل عن المجازر الصهيونية، تمثلت في محاولة وأد الحقيقة، وطمس حرية التعبير، وتقديم الرواية الإسرائيلية على أنها ـ بكل فضائحها وفبركتها وكذبها ـ هي الحقيقة.
الغرب وأمريكا الذين طالما تفننوا في تقديم المحاضرات للعالم العربي والإسلامي، والعالم الآخر غير الغربي، عن حقوق الإنسان، والحريات، ومارسوا ضغوطا على الدول العربية من منطلق هذه الشعارات، هم اليوم في حرب غزة، الأكثر قمعاً لكل ما ينقل الواقع الحقيقي للجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني.
حقوق الإنسان وحريات التعبير التي لطالما صدعونا بها، ومارسوا الابتزاز بحق أنظمة وشعوب مختلفة، ولا يكاد مسؤول غربي أو أمريكي يزور المنطقة إلا و»يحاضر» عن القيم الغربية في الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، هم اليوم داسوها بأقدامهم، وبصورة متعمدة، إكمالاً للجريمة الإسرائيلية في غزة.
بدءا من الإدارة الأمريكية برئيسها ومسؤوليها الذين اعتمدوا الرواية الإسرائيلية بكل ادعاءاتها الكاذبة، مروراً ببريطانيا وفرنسا وألمانيا وبقية التابعين، ولم يقتصر الأمر على اعتماد الرواية الإسرائيلية رغم افتضاح كذبها، بل فرضوا عقوبات على كل من يحاول سرد الحقيقة، وصلت في دول أوروبية إلى معاقبة المخالفين بأحكام سجن تتراوح بين 5 إلى 7 سنوات، هذه هي الحريات الأمريكية والغربية التي صَدَّعونا بها.
والأمر تجاوز ذلك، بالسقوط السيئ لوسائل إعلام غربية وأمريكية وإعلاميين بارزين، الذين أصروا على تبني الرواية الإسرائيلية، والدفاع عنها، دون حتى الالتفات إلى الطرف الضحية، رغم كل الوحشية والجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة، بما فيها ما هو محرم ارتكابه في القوانين الغربية كما هو العدوان على المستشفيات والمدارس وسيارات نقل المرضى والكنائس.
حرية التعبير وحقوق الإنسان التي يتحدث الغرب عنها، وتحمل الولايات المتحدة الأمريكية لواءها، ما هي إلا شعارات ترفع وقتما أرادوا ذلك، وحسب التوظيف المطلوب.
ليس هناك قيم غربية يؤمن بها الغرب إيماناً كاملاً، ويمكن أن ينتصر لها، ويدافع عنها، حتى وإن كانت مع خصمه.
مؤسسات إعلامية غربية وأمريكية لعبت لعقود دور «الحامي» و»المدافع» عن حقوق الإنسان وحرية التعبير، سقطت في اختبار غزة سقوطاً مريعاً، وكل ما كانت تنادي به من أخلاقيات ومهنية ومواثيق شرف، تبخرت في العدوان الغاشم على غزة العزة.
لقد شكَّلَت غزة امتحاناً لتمحيص الكثير من الوجوه، سياسيين ومفكرين ومثقفين وإعلاميين ومؤسسات فكرية وثقافية وإعلامية، وسقطت أقنعة عن وجوه كالحة، ظننا لعقود أنها تناصر العدالة، وأن دفاعها عن حقوق الإنسان والحريات، دفاع قائم على المبادئ والقيم، وأن الأمر غير مرتبط بجنس أو ثقافة أو حتى شعب من الشعوب، وأن انتصار أولئك لما ينادون له، ويشنون من أجله حروباً ـ عسكرية وإعلامية ـ وحصاراً على الآخرين نابع من قناعات حقيقية، ويحرصون على مناصرة حقوق الإنسان ـ أي إنسان ـ أينما كان.
غزة هي الكاشفة والفاضحة لهؤلاء الذين صَدَّعُونا بالحديث عن احترام حقوق الإنسان وحريات التعبير والرأي الآخر، وإذا بهم في حرب غزة يتساقطون، وينحازون للمجرم على حساب الضحية.
هذا هو الوجه الحقيقي للغرب، بعيداً عن المكياج الذي يضعه إذا ما أراد أن يقابلنا به في مناسبات هو يختارها لأغراض هو يريدها منا، بما فيها حالات ابتزاز كثيرة لدول وأنظمة ومؤسسات في العالم العربي والإسلامي.
تخيلوا أن من يحمل علماً لفلسطين في دول غربية يعاقَب بالسجن، ومن يدافع عن المظلومين في غزة، يعرض نفسه للمساءلة والعقاب، وغير مستغرب أن تتم محاكمة الأفراد على نواياهم.
هذه هي عدالة الغرب ومؤسساته الإعلامية، مؤسسات إعلامية يفترض أن لها تاريخاً طويلاً من المهنية والمصداقية والدفاع عن الحريات.. هكذا كانوا يرددون علينا في كل مناسبة، وأنهم منحازون للحقيقة، الحقيقة فقط، وأنهم يقفون على مسافة واحدة في تغطياتهم ومناقشاتهم وحواراتهم.. وإذا بالوضع في العدوان الإسرائيلي على غزة مختلف تماماً، خاصة في هذا العدوان الغاشم هذه المرة، والذي لم يرَ العالم الحديث مثيلاً له في الإجرام والقتل والمجازر الوحشية.
أمريكا والعالم الغربي المتواطئ ـ أقصد سياسييه والعديد من كبريات مؤسساته الإعلامية ـ يشاهد هذه الجرائم في غزة ويصمت عنها، بل ينفيها، وينحاز إلى القاتل وسرديته، ويتهم الضحية بأن دمها لوّث رصاص قاتلها.
نحن أمام انهيار المنظومة الأخلاقية الغربية في تعاملها مع الآخر، وفي تعاملها حسب مصالحها، ليس هناك أخلاق أو قيم أو مبادئ لدى كثير من الأطراف في الغرب، سياسيين وإعلاميين ومؤسسات.
غزة كشفت عورات الغرب، وأسقطت أقنعة يرتديها سياسيون وإعلاميون ومثقفون ومفكرون.. كثر، بما فيهم بالمناسبة في عالمنا العربي، الذين لم يختلفوا كثيراً عما شاهدناه في الغرب.
صمود غزة لم يسقط أسطورة الجيش الذي لا يقهر كما أرادوا أن يفهمونا عن الكيان الإسرائيلي، بل أسقط صورة الغرب، الذي لطالما أراد تصديرها بأنها المدافع عن حقوق الإنسان، وضرورة احترامها، والإيمان بالحريات العامة وحرية التعبير.. وإذا بكل ذلك يسقط في التعامل مع غزة، الصغيرة بجغرافيتها، الكبيرة ببطولاتها، العظيمة بتضحياتها..
الدجاجة التي أسعدت أطفال غزة
دخل على أولاده بدجاجة فهللوا وسجدوا لله شاكرين! هذا كان حال عائلة غزاوية من قطاع غزة حينما أقدم... اقرأ المزيد
48
| 28 أكتوبر 2025
كم تبلغ ثروتك؟
أصبحنا نعيش في عالم تملأه الماديات، نظرة بسيطة على مواقع التواصل الاجتماعي تجعلنا نرى أثر الحياة السريعة المادية... اقرأ المزيد
45
| 28 أكتوبر 2025
التواصل الذي يفرقنا
جلست بالسيارةِ وحتى البحر عبرتُ وخلال مجلسي في الاستراحةِ نظرتُ لكل من يجلس حولي حتى ذلك الطفل الصغير... اقرأ المزيد
33
| 28 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6441
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6390
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3840
| 21 أكتوبر 2025