رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. أحمد المحمدي

مساحة إعلانية

مقالات

741

د. أحمد المحمدي

الفجوة الجيلية (جيل التراث وجيل الترند)

22 يونيو 2025 , 02:00ص

ليست الفجوة الجيلية فرقًا في الأعمار، ولا مجرد تباعد في الأذواق، بل هي شرخ داخلي في المعنى، وثغرة في جدار القيم، وهوّة تفصل بين جيلين لم تعُد اللغة بينهما واحدة، ولا الرؤية، ولا حتى مفهوم الإنسان.

جيلٌ وُلِد في حضن الكفاف، نشأ على صوت المؤذن لا على صوت الإعلانات، وتفتّحت روحه على مفردات مثل: الطاعة، والحياء، والبر، والرضا.

وجيلٌ انفتح على شاشة تسبق الفطرة، وتُغني عن المعلم، وتُشكّك في كل مسلَّم!

جيلٌ استُبدلت فيه المرجعية الدينية بـ «المؤثّر»، والموعظة بـ «المحتوى»، والقدوة بـ «الترند»!

ليست الفجوة هنا مجرد مشهد في بيت، ولا خصومة بين جيل الآباء والأبناء، بل هي أزمة وجود؛ حين يُعاد تعريف «الحق»، و»الهوية»، و»القيمة» بمعايير لا صلة لها بالوحي، ولا بالوجدان.

والخطر الأكبر ليس في سوء العلاقة، بل في سقوط المرجعية. حين لا يعود الشابُّ يثق أن في قول أبيه حكمة، ولا يرى في أمّه نورًا يُضيء، ولا يشعر أنّ للبيت قدسيّة، فذلك إعلانٌ صامت بأنّ الجيل القادم سيتّخذ من ذاته قبلة، ومن شهوته إمامًا، ومن الهوى دينًا.

لا يُعالج الشقّ بطلاءٍ لفظي، ولا تُرمَّم الفجوات التربوية بخطب المناسبات، بل تُعاد صياغة البناء من الأساس، وتُؤسّس كل لبنة فيه على الصدق، والوعي، والتواضع في التوجيه.

علاج الفجوة الجيلية يتطلب:

1. الاعتراف لا الإنكار: أن نُقِرّ، بلا مكابرة، أننا أخطأنا حين أنزلنا جيلًا جديدًا في نهرٍ جارف، ثم طلبنا منه أن يسبح بأساليبنا القديمة.

وأخطأنا حين ظننا أن تربية الأبناء تعني نسخًا مكررة منّا، لا كائنات لها زمانها، وأسئلتها، وملامحها المستقلة.

2. العودة إلى القدوة الصامتة: فالعين تلتقط ما لا تلتقطه الأذن، والطفل يقتدي بالفعل لا بالبيان، وجيل اليوم لا يسمع النصيحة، بل يراها.

إن رأى والده يعتذر حين يخطئ، تعلّم الشجاعة.

وإن رأى والدته تُصلّي بخشوع، تعلّم الإيمان بلا خطبة.

وإن رأى في بيته صدقًا، ووفاءً، واحترامًا، تعلّم القيم من غير تلقين.

3. تجديد العلاقة على أساس الحوار: ليس كلّ سكوت هيبة، ولا كلّ صراخ تربية!

الحوار مفتاح القلوب، والسكون الذي ينصت أبلغ من ضجيج التوبيخ. فمن لم يصغِ لأنين السؤال، أخطأ في جواب المآل!

4. زرع اليقين قبل المهارة: أن نعلّم أبناءنا من يكونون، قبل أن نُعلّمهم ماذا يفعلون.

أن نُعلّمهم لماذا خُلقوا، قبل أن نوجّههم إلى أي وظيفة يسعون، فما نفع المهارة بلا رسالة؟!

وما قيمة التفوّق بلا وجهة؟!

من لم يعرف غايته، تاه في كلّ خطوة، وإن بلغ القمم.

5. تربية الرؤية لا السلوك فقط: لا يكفي أن نُصلح السلوك، بل لا بد أن نرسخ الرؤية التي معيارها نور الآيات، لا عدد (اللايكات)! فمن اتّخذ الجمهور إمامه، أضله الهوى وإن كثر المصفقون.

6. الرحمة لا القسوة: ما دخل الرِّفقُ في تربية إلا زيّنها، وما نُزع منها إلا شَوَّهها، والقلوب تُفتح بالمودّة لا بالمدية، والتوجيه الذي يُطابق القلب يثمر، ولو تأخر

7. الحضور لا الغياب: ليس الحضور أن تكون في البيت، بل أن تكون في القلب! أن تشاركهم السؤال، وتسمع منهم قبل أن تُملي عليهم الجواب.

فالغياب العاطفي هو الغربة التي لا تُرى، ولكن يُربّى فيها الضياع!

8. الصبر لا الاستعجال: التربية ليست معركة كسب سريع، بل بناء على مهل، الزرع لا ينبت بالغضب، ولا تُسقى النفوس بالمواعظ الغليظة، بل بالرفق، والتكرار، وانتظار الثمر بعد جهدٍ ودمع!

9. بناء الجسر لا حفر الخندق: بيننا وبين أبنائنا مسافة، لا خصومة، والمطلوب أن نبني جسرًا من الفهم لا خندقًا من الاتهام، فمن رآهم خصومًا خسرهم، ومن رآهم أمانةً أدرك أنهم امتداد لا اعتراض!

بين التيه والوعي؛ تُرسم ملامح الجيل

إنّ هذه الفجوة التي تنخر في أوصال بيوتنا، ليست قدرًا، ولكنها نذير، نذير بأنّ الجيل القادم سيكتب تاريخه بأدوات غير أدواتنا، وسيُقيّمنا لا بما قلناه، بل بما سكتنا عنه، ولا بما علّمناه، بل بما أهملناه.

فإما أن نبني الجسر اليوم، وقلوبنا منفتحة، وأذهاننا متواضعة، أو نُسلّم أبناءنا – صامتين – إلى أسواق مفتوحة، يعرض فيها الهوى فتاواه، والجهل أفكاره، والفراغ هويّته.

ذلك الجسر لا يُبنى من الماضي، بل من وعيٍ يحمل الماضي معه إلى المستقبل.

وإن لم ننتصر للحقّ في هذه المعركة الصامتة، التي تُخاض كل يوم في داخل البيوت، فسنُسلّم جيلًا لا يعرف من نحن، بل ولا يهمّه أن يعرف!

مساحة إعلانية