رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

إحسان الفقيه

إحسان الفقيه

مساحة إعلانية

مقالات

516

إحسان الفقيه

ارتباك النجاة.. حرب ما بعد الحرب في غزة

16 نوفمبر 2025 , 06:59ص

بعد توقف الحرب الغاشمة الشاملة التي شنها الاحتلال الصهيوني على قطاع غزة، شرع العالم يلتقط أنفاسه المتهدجة، بعد عامين من نزف الإنسانية على مذبحة العصر، وبدأت الأنظار تتجه لرايات السلام التي يؤمل لها أن ترفرف فوق غزة.

ولئن توقفت الحرب الشاملة وعاد الاحتلال إلى ما كان عليه قبل الحرب من عمليات عدائية محدودة من حين لآخر، إلا أن توقف أصوات القصف لا يعني أن الحرب توقفت، بل بدأت حرب أخرى صامتة لا ترصدها الكاميرات، ولا تتناولها وسائل الإعلام، على الرغم من أنها أشد ضراوة.

إنها حرب ما بعد الحرب، تلك التي يخوضها الإنسان في غزة داخل نفسه التي اهتزت، وفي أعماقه التي تهشمت، حرب استعادة الروح وإعادة ترتيب النفس والبحث عن ملامح الذات التي بدلتها ضغوط الحرب وترقب الموت في كل لحظة وفقد الأحبة وانعدام سبل الحياة. أهل غزة إبان الحرب، عاشوا سكرة الرغبة في النجاة، كل مشاعرهم وحواسهم التفت حول أمنية أن تنتهي الحرب ليبدأوا الحياة، ولكن ما إن توقفت الحرب حتى أفاقوا على حياة أخرى وواقع مختلف، لم يعد المرء منهم يتذكر نفسه السابقة، ولم يعد يعرف إلى أي وجهة يسير، الوجوه قد أنكرت الوجوه، والقلوب قد أنكرت القلوب، وربما يكون أدق توصيف لما عليه الحال في غزة هو «ارتباك النجاة».

إنها حرب لا تُرى، فكما خلّفت الحرب أطلالا من الطوب والحجر، خلّفت كذلك أطلالًا من البشر، بقايا من البشر، أطفال قد نُزعت منهم طفولتهم، وشباب قد شابوا قبل الأوان، ونساء ثكالى أنهكتهن المفاضلة بين الخيارات المستحيلة، وقلوب تعلمت أن تتوقع الأسوأ دائمًا. اختلطت مشاعر النجاة لدى أهل غزة بما يعرف في علم النفس بـ «ذنب الناجين»، فما من بيت إلا وقد ذاق مرارة رحيل الأحبة، قد ذرفوا الدموع حينها وتشققت قلوبهم على من فقدوا، لكن ما إن انتهت الحرب حتى بدأت مظاهر هذه الفوضى النفسية، وكأنهم أذنبوا بالنجاة من الموت بينما لم يفلت منه أحبتهم، هذا الشعور الجاثم يضرب جذور الوعي للناجي، ويحول النجاة التي فرح بها فور توقف الحرب إلى عبء ثقيل. الخوف في غزة أصبح حالة مستقرة مستمرة، فالرجل الذي اعتاد الخوف على أسرته وفشل في حمايتهم من القصف والدمار، أصبح أسيرًا للخوف من فقدان القدرة على حمايتهم مجددًا، والمرأة التي كانت تستيقظ على صوت القصف غدت تستيقظ على أسوأ الكوابيس، والطفل الذي كان يصرخ كلما سمع دوي الانفجارات، غدا يخاف من هدوء الليل. أحد جوانب معاناة حرب ما بعد الحرب، أن سكان غزة صاروا بمواجهة أسئلة لم تكن تداهمهم بهذه القوة إبان الحرب، فكيف يعيشون بعد كل هذا الموت، وكيف سيعيشون في حياة فقدت معاييرها، وكيف سيعود كل شيء إلى سابق عهده؟

هناك جيلٌ تشكل وعيه وامتلأت ذاكرته البيضاء بمشاهد الموت والدمار طيلة عامين، هي أول ما وعى وأول ما اكتنزته الذاكرة والوجدان، كيف سيعيش هذا الجيل؟ وكيف سيكون مستقبله؟ التفكير في هذه المسألة حقًا يدمي القلب

نعم أهل غزة أهل صلابة قد ألفوا المحن، لكنهم في النهاية بشر، ولا يمكن أن يخوضوا هذه المعركة وحدهم، لذلك ينبغي أن يكون هناك موقف عربي إسلامي داعم يتجاوز المواقف الرمزية.

وكما أن هناك تفكيرًا في خطط لإعادة الإعمار، يتعين أن تكون هناك أيضا خطط لاستعادة إنسان غزة.

ينبغي تأسيس برنامج عربي إسلامي موحد لدعم الصحة النفسية لأهل القطاع، بإرسال فرق من الأطباء النفسيين وأخصائيي الإرشاد النفسي، وإنشاء مراكز علاج متخصصة للصدمات النفسية، وتأمين منح تدريبية لأخصائيين من أهل غزة في مراكز عربية متقدمة ليعودوا بخبراتهم إلى مجتمعهم للإفادة في هذا الجانب، كما يمكن تأسيس صندوق مستقل للإنفاق على برامج الدعم والتأهيل النفسي لسكان القطاع.

تبعات الحرب بشعة وآثارها النفسية الصامتة لا تقل عن نتائجها المرئية، تحتاج إلى وقفة عربية وإسلامية جادة وقوية، ووعي يتخطى المنظور بالعين المجردة وينفذ إلى تلك المعاناة الصامتة ويسلط الضوء عليها ويتعاطى معها.

مساحة إعلانية