رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
من المؤلم أن نرى أبناء خير أمة أخرجت للناس يتسابقون في التفاخر والتباهي بما يملكونه من سيارات ويخوت وساعات وحقائب وذهب وكل ما يشد العين والقلب، وخاصة في سفراتهم وجولاتهم في العديد من العواصم العالمية، ولو كانوا يحتفظون ببذخهم ورفاهيتهم لأنفسهم لاحترمنا عقولهم وإدراكهم ولكن الكثير منهم من المتباهين والمتفاخرين يوثقون سفراتهم على حساباتهم بمواقع التواصل الاجتماعي منذ دخولهم قاعة الدرجة الأولى وهم يرتدون أغلى الملابس والساعات والحقائب من الماركات العالمية، وعند ركوبهم مقصورة الدرجة الأولى أو رجال الأعمال، وصولاً إلى وصولهم إلى وجهتهم التي يحرصون أن تكون في أغلى الوجهات من حيث أسعار الفنادق والمطاعم والسيارات الفارهة، ليبدأ حينها في رفع نسبة التفاخر والتباهي بما يملكه ويغمره شعور عظيم بأنه ليس هناك في الأرض من هو أعظم ولا «أكشخ» منه، فيمشي في الأرض مرحاً ظناً منه أن الإكبار والإعجاب لا يأتي إلا باستعراض المظاهر والهيئة وبهالة من الغرور والتفاخر.
شخّص أحد الاستشاريين النفسيين هذه الحالة بأنه (اضطراب نفسي) يُعرف علمياً باسم هوس المظاهر أو الهوس بالمكانة الاجتماعية (Status Anxiety).
وذلك عبر الاستعراض وهو نمط سلوكي يتسم بانشغال مفرط في عرض مظاهر الرفاهية أو الثراء أو النجاح أمام الآخرين، وذلك غالباً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف الحصول على الإعجاب أو الاعتراف الاجتماعي، حتى لو كان ذلك على حساب الواقع المالي أو النفسي للفرد.
ويوضح هذا الاستشاري بأن الأعراض أو المؤشرات التي قد تظهر على الشخص الذي يعاني من هوس إبراز المكانة الاجتماعية عبر الاستعراض تختلف بحسب شدة الحالة، لكنها غالباً تكون على شكل سلوكيات متكررة على وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال نشر مستمر لصور وفيديوهات تُظهر السفر، الفنادق الفاخرة، المطاعم الراقية، المشتريات الباهظة، والتركيز على إظهار العلامات التجارية الفاخرة أو تفاصيل الدرجة الأولى في السفر، والتقاط الصور بشكل متعمد في أماكن أو أوضاع تدل على الثراء أو المكانة الاجتماعية.
كما أن للدوافع الداخلية للشخص دورا كبيرا في هذه الحالة من خلال الشعور بالرضا أو القيمة الذاتية فقط عند الحصول على إعجاب أو تعليقات إيجابية من الآخرين، وحالة من القلق أو الانزعاج إذا لم تلقَ هذه المنشورات التفاعل المتوقع، والسعي للمقارنة مع الآخرين ومحاولة التفوق عليهم في المظاهر.
ويرى الاستشاري النفسي أن أنماط تفكير هذه النوعية من البشر تتمحور في عدة أمور؛ بدءًا من اعتقادهم وقناعتهم التامة بأن المكانة الاجتماعية تعتمد أساساً على المظاهر المادية، ثم المبالغة في أهمية رأي الآخرين والانشغال الدائم بكيفية نظرتهم إليهم، وقياس النجاح الشخصي بما يمتلكونه أو يعرضونه لا بما يحققونه فعلياً. أما التأثيرات السلبية المحتملة على هذه العينة فقد لخصها في ثلاثة جوانب؛ مالياً من خلال إنفاق مبالغ كبيرة أو فوق القدرة المالية للحفاظ على الصورة التي يريد إظهارها، ونفسياً عندما يشعر دائماً بعدم الاكتفاء أو الخوف من فقدان الانبهار من الآخرين، واجتماعياً من خلال بناء علاقات سطحية قائمة على الانطباع الخارجي بدلاً من الحقيقي.
ومن وجهة نظره العلمية النفسية يرى بأنه لا علاج لهذه العينة إلا من خلال إخضاعهم لبرامج وقائية ونفسية تبدأ من الوعي الذاتي والتثقيف النفسي بمساعدتهم على إدراك أن قيمتهم ليست مرتبطة بالمظاهر أو بآراء الآخرين، وتوعيتهم بمخاطر الإنفاق المفرط لمجاراة صورة اجتماعية معينة، وأيضا العلاج المعرفي السلوكي من خلال تعديل الأفكار المشوهة حول النجاح والمكانة الاجتماعية، وتأتي باستبدال السلوكيات الاستعراضية بسلوكيات مبنية على القيم الحقيقية والإنجازات الواقعية، أو بالعلاج النفسي العميق والذي يُقصد به أنه إذا كان الهوس بالمظاهر مرتبطاً بجروح نفسية قديمة (مثل نقص القبول في الطفولة أو الشعور بالدونية).
ومن ضمن البرامج الوقائية تقليل الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي من خلال وضع أوقات محددة لاستخدام المنصات الاجتماعية، والتوقف المؤقت عن نشر المحتوى الذي يهدف فقط لإبراز المظاهر، واستبدالها بمتابعة حسابات ملهمة تركز على نشر القيم أو الإنجازات الفعلية. عند تحقيق أهداف هذه البرامج الوقائية سيصل الشخص إلى مرحلة إعادة مفهوم النجاح من خلال التركيز على المهارات والعلاقات الحقيقية والإنجازات العملية بدلاً من إبرازه للمظاهر، وتحديد أهداف شخصية ومهنية لا تعتمد على رضا الجمهور، وكل ما سبق من برامج وقائية لا شك بأنها تحتاج إلى دعم اجتماعي من خلال إحاطة النفس بأشخاص يُقدّرون الجوهر ويتجاهلون المظاهر الزائلة، ويترجمونها من خلال المشاركة في الهوايات والأنشطة التي لا يمكن قياسها بالمكانة المادية مثل (التطوع، التعلم، الرياضة). خلاصة هذه الدراسة تتلخص بحقيقة جلية تؤكد بأن هذه العينة التي زادت أعدادها كثيراً في وقتنا الحاضر ليسوا إلا مرضى نفسيين يعانون من (عقدة النقص) يُعظمون أنفسهم وهم في نظر المجتمع ليس لهم أي قيمة.
فاصلة أخيرة
لو كانوا يملكون ذرة من حياء وإحساس لما يحدث لأهلنا غزة من تجويع وقتل وإبادة بدلاً من تباهيهم وتفاخرهم بالمظاهر، لكان حالهم أهون، ولكنهم كما وصفهم الشاعر: طأطأوا الرأس ذلة وانكسارا
وارتدوا الخزي حُلّة والعارا
وتواروا عن شامخات المعاني
وتباروا إلى السفوح انحدارا
بادروا بالهوان غير كرام
إلى الرزايا فما أعز البِدارا
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6294
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3768
| 21 أكتوبر 2025