رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تسببت أضرار الجفاف الواسع النطاق بالولايات المتحدة، وهي الدولة التي تعد أكبر منتج بالعالم في الذرة وفول الصويا والقمح وتنتج ثلث الحبوب المتداولة عالميا، في تحرك أسعار الحبوب خلال الأسابيع الماضية، الأمر الذي انعكس على ارتفاع مؤشر أسعار الغذاء الخاص بمنظمة الأغذية والزراعة بنسبة 6 % خلال شهر يوليو الماضي.
وكانت الحرارة الشديدة قد دمرت مناطق شاسعة في الوسط الغربي وجنوب الولايات المتحدة، في واحدة من أسوأ موجات الجفاف التي شهدتها البلاد منذ عام 1934، مما دعا وزارة الزراعة الأمريكية إلى خفض توقعاتها لإنتاج الذرة وفول الصويا أكثر من مرة.
وواكب ذلك أن شبح الجفاف أيضا قد خيم على حزام الحبوب في جنوب روسيا، والتي تعد ثالث أكبر مصدر للقمح بالعالم، مما دفع وزير الزراعة الروسي إلى توقع انخفاض إنتاج روسيا من القمح بنسبة 22 % سنويا خلال السنوات القليلة القادمة.
وانعكس ذلك على ارتفع أسعار الحبوب عالميا خلال الأسابيع الأخيرة، حيث زاد متوسط سعر طن الذرة من 249 دولارا للطن بالأسبوع الأخير من شهر مايو الماضي، إلى 345 دولارا خلال الأسبوع الأخير من يوليو، وهكذا زاد متوسط سعر طن الذرة إلى 333 دولارا خلال شهر يوليو الماضي مقابل 267 دولارا لمتوسط السعر خلال شهر يونيو الماضي.
وتكرر الأمر نفسه لأسعار فول الصويا التي زادت من 509 دولارات للطن بالأسبوع الأول من يونيو، إلى 633 دولارا بالأسبوع الأخير من شهر يوليو، وواكب ذلك زيادة أسعار القمح من 264 دولارا للطن بالأسبوع الثاني من يونيو إلى 358 دولارا بالأسبوع الأخير من يوليو.
ومع قيام المستهلكين بإحلال بعض نوعيات الحبوب مكان الأخرى التي يرتفع سعرها، فقد أدى ذلك وفي ضوء زيادة الطلب على الحبوب الأخرى إلى زيادة أسعار الشعير، بينما تسببت وفرة إنتاج الأزر إلى انخفاض أسعاره في يوليو إلى 578 دولارا مقابل 606 دولارات في يونيو، وإن كانت الأسعار أعلى عما كان عليه متوسط سعر الأزر خلال العام الماضي حين بلغ 552 دولارا للطن.
ونظرا لكون محاصيل الذرة وفول الصويا تدخل كمكون رئيسي في علف الحيوان وزيوت الطبخ والعديد من المنتجات الأخرى، فقد انعكست ارتفاعات أسعارها على ارتفاع أسعار الزيوت وأعلاف الحيوان وغيرها من نوعيات الغذاء مثل مصنعات اللحوم.
ومن هنا فقد زادت أسعار زيت فول الصويا من 1098 دولارا للطن في يونيو الماضي إلى 1175 دولارا في يوليو الماضي، وواكب ذلك ارتفاع سعر طن زيت عباد الشمس ما بين الشهرين من 928 دولارا إلى 953 دولارا، وارتفع طن زيت عباد الشمس من 1441 دولارا إلى 1506 دولارات، بينما انفرد سعر زيت الزيتون بالانخفاض من 2781 دولارا إلى 2747 دولارا للطن.
وانعكس ارتفاع أسعار مكونات الأعلاف على ارتفاع أسعار اللحوم والدواجن ومنتجات الألبان خلال شهر يوليو بالمقارنة لأسعارها خلال شهر يونيو. والأمر نفسه لزيادة أسعار البرتقال والموز والصوف.
وقد تدفع زيادة أسعار الأعلاف بعض المزارعين للإقلال من الإنتاج الحيواني مما ينعكس على قلة العرض وبالتالي زيادة السعر. خاصة مع استمرار ارتفاع أسعار الوقود حيث زاد متوسط سعر خام برنت إلى 103 دولارات للبرميل خلال شهر يوليو، مقابل 96 دولارا للبرميل خلال شهر يونيو الماضي.
ولم يقتصر أثر الجفاف في الولايات المتحدة على نقص إنتاج الذرة وفول الصويا وارتفاع أسعارها، وإنما تسبب الجفاف أيضا في انخفاض مستويات المياه الجوفية في خزانات المدن وفي المجاري المائية الكبيرة مثل نهر المسيسبي وأوهايو، مما جعل القائمين على تشغيل السفن يقومون بتقليل أحجام حمولاتهم بسبب انخفاض مستويات المياه، مما يتطلب القيام بالمزيد من الرحلات لنقل نفس الكمية من المحاصيل الأمر الذي يزيد من تكلفة الشحن وينعكس على سعر الحبوب.
وهكذا تزيد فاتورة الاستيراد للدول المستوردة للحبوب والغذاء بشكل عام، خاصة مع تحذير منظمة الفاو من احتمالات المزيد من الارتفاعات السعرية لأسعار الغذاء، واحتمالات حدوث أزمة غذاء مشابهة لما حدث عامي 2007 و2008.
ولكون المنطقة العربية مستوردة صافية للغذاء فإن الحاجة ملحة لتنفيذ مقررات القمة الاقتصادية العربية التي عقدت بالكويت في يناير 2009، والخاصة بمساهمة صندوق النقد العربي والبنك الإسلامي للتنمية والصندوق الكويتي للتنمية لتمويل برنامج الأمن الغذائي العربي، خاصة في ضوء تدني نسب الاكتفاء العربية من الغذاء، والتي وصلت إلى 26 % في السكر و31 % بزيوت الطعام، و49 % بالقمح و58 % بالبقوليات و74 % بالألبان و78 % باللحوم، خاصة مع وجود 197 مليون هكتار أراضي صالحة للزراعة عربيا بينما لا تبلغ المساحة المنزرعة منها سوى 69 مليون هكتار فقط.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
5913
| 26 سبتمبر 2025
في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله مشهدا سياسيا قلب المعادلات، الكلمة التي ألقاها سموه لم تكن خطابًا بروتوكوليًا يضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة المكدّس، بل كانت كمن يفتح نافذة في قاعة خانقة. قطر لم تطرح نفسها كقوة تبحث عن مكان على الخريطة؛ بل كصوت يذكّر العالم أن الصِغَر في المساحة لا يعني الصِغَر في التأثير. في لحظة، تحوّل المنبر الأممي من مجرد منصة للوعود المكررة والخطابات المعلبة إلى ساحة مواجهة ناعمة: كلمات صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وضعتهم في قفص الاتهام دون أن تمنحهم شرف ذكر أسمائهم. يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودًا ويخططون لاغتيال أعضائها.. اللغة العربية تعرف قوة الضمير، خصوصًا الضمير المستتر الذي لا يُذكر لفظًا لكنه يُفهم معنى. في خطاب الأمير الضمير هنا مستتر كالذي يختبئ خلف الأحداث، يحرّكها في الخفاء، لكنه لا يجرؤ على الظهور علنًا. استخدام هذا الأسلوب لم يكن محض صدفة لغوية، بل ذكاء سياسي وبلاغي رفيع ؛ إذ جعل كل مستمع يربط الجملة مباشرة بالفاعل الحقيقي في ذهنه من دون أن يحتاج إلى تسميته. ذكاء سياسي ولغوي في آن واحد».... هذا الاستخدام ليس صدفة لغوية، بل استراتيجية بلاغية. في الخطاب السياسي، التسمية المباشرة قد تفتح باب الردّ والجدل، بينما ضمير الغائب يُربك الخصم أكثر لأنه يجعله يتساءل: هل يقصدني وحدي؟ أم يقصد غيري معي؟ إنّه كالسهم الذي ينطلق في القاعة فيصيب أكثر من صدر. محكمة علنية بلا أسماء: لقد حول الأمير خطابًا قصيرًا إلى محكمة علنية بلا أسماء، لكنها محكمة يعرف الجميع من هم المتهمون فيها. وهنا تتجلى العبارة الأبلغ، أن الضمير المستتر في النص كان أبلغ حضورًا من أي تصريح مباشر. العالم في مرآة قطر: في النهاية، لم يكن ضمير المستتر في خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله - مجرد أداة لغوية؛ بل كان سلاحًا سياسيًا صامتًا، أشد وقعًا من الضجيج. لقد أجبر العالم على أن يرى نفسه في مرآة قطر. وما بين الغياب والحضور، تجلت الحقيقة أن القيمة تُقاس بجرأة الموقف لا باتساع الأرض، وأن الكلمة حين تُصاغ بذكاء قادرة على أن تهز أركان السياسات الدولية كما تعجز عنها جيوش كاملة. فالمخاطَب يكتشف أن المرآة وُضعت أمامه من دون أن يُذكر اسمه. تلك هي براعة السياسة: أن تُدين خصمك من دون أن تمنحه شرف الذكر.
5595
| 25 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4470
| 29 سبتمبر 2025