رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ولما أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تمثل وتجسد الاستعمار الجديد، الذي يعمل على فرض أمركة العالم، وتكييف النظام الدولي لمتطلبات العولمة المالية، التي راحت تفرخ استخدام القوة العسكرية المباشرة، كإحدى أدوات السياسة الخارجية الأمريكية من دون تفويض من مجلس الأمن، صممت الولايات المتحدة على تعزيز سيطرتها في القارة الإفريقية. وإزالة أسطورة القوة الاستعمارية الفرنسية. والفرنكوفونية.
أثناء هذا الصراع العالمي بين الإنجلوفونية والفرنكوفونية. استهل الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون جولة تاريخية في إفريقيا، التي كانت تمزقها الحروب الأهلية، والعرقية، والفقر والمجاعة، والفوضى والكوارث الطبيعية وبخاصة التصحر والجفاف والتي أصبحت في نظر واشنطن الآن تعتبر أخر الفضاءات العذراء التي يتوجب على المستثمرين الأمريكيين غزوها تحت مظلة الاندماج في الاقتصاد العالمي.
شملت زيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى القارة الإفريقية ثلاثة بلدان، استهلها يوم 27 يونيو الماضي، بزيارة السنغال التي تنتمي إلى إفريقيا الفرانكوفونية من بين البلدان الثلاثة التي زارها، والسنغال وحدها دون غيرها تعتبر محطة الثقل الفرنسية ولذلك اعتبرت الزيارة رسالة موجهة لفرنسا. في السنغال أشاد الرئيس أوباما بهذا البلد الذي يتمسك بالديمقراطية على رغم انعدام الاستقرار في المنطقة..
أما زيارة جنوب إفريقيا فقد اكتسبت أهمية خاصة بسبب الثقل العالمي للرئيس نيلسون مانديلا كآخر عمالقة هذا القرن، الذي يجسد الشجاعة، وثورة الرجل الأسود المهان ضد العنصرية في نظر الزنوج الأمريكيين، وبسبب أيضاً انتقاداته للسياسة الأمريكية التي تحاول أن تفرض آراءها على الآخرين، ولأن جنوب إفريقيا الدولة المستقرة والمنتصرة على سياسة التفرقة العنصرية والمنتهجة للديمقراطية والتعددية السياسية هي أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة. ففي مؤتمر صحفي مع نظيره الإفريقي الجنوبي جاكوب زوما، قال أوباما إن "شجاعة نلسون مانديلا كانت مصدر إلهام لي شخصياً وللعالم بأسره". وكانت صحة مانديلا فرضت نفسها على جدول أعمال زيارة أوباما لجنوب إفريقيا، وبينها ملفات اقتصادية، ذلك أن 600 شركة أمريكية تتمركز في جنوب إفريقيا وتوظف نحو 150 ألف شخص.
واختتم كلينتون جولته الإفريقية بزيارة تنزانيا، حيث التقى الرئيس جاكايا كيكواتي، وزار محطة أوبونغو الكهربائية، التي تديرها شركة "سيمبيون" التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها. و في تنزانيا دشن الرئيس الأمريكي مشروعاً يسمى "التجارة مع إفريقيا" الذي يركز بداية على تكتل تجاري في شرق القارة الذي يقطنه 130 مليون نسمة، على أن يصار إلى توسيع المشروع لاحقاً. و كان أوباما أعلن في الكاب في جنوب إفريقيا، عن مشروع بقيمة 7 مليارات دولار لتوفير الكهرباء لدول إفريقية جنوب الصحراء، حيث يعيش أكثر من ثلثي سكان جنوب الصحراء من دون كهرباء مثل أكثر من 85 في المئة من سكان المناطق الريفية، استنادا إلى لبيت الأبيض الذي أوضح أن المشروع الذي أطلق عليه اسم "باور أفريكا" سيعتمد على إمكانات الطاقة الهائلة في إفريقيا بما فيها الاحتياط الكبير من النفط والغاز وعلى إمكانات تطوير الطاقة النظيفة: الطاقة الحرارية الأرضية الكهربائية والشمسية وطاقة الرياح.
وجاءت زيارة أوباما لدار السلام بعد ثلاثة أشهر من زيارة قام بها الرئيس الصيني تشي جينبينغ للبلاد بعد توليه السلطة.و يرى كثير من الأفارقة في جولة الرئيس الأمريكي في إفريقيا التي شملت ثلاث دول محاولة لمواكبة تحركات الصين.و أنشأت الصين طرقاً ومطارات وغيرها من مشاريع البنية التحتية في إفريقيا، ولكن عليها أن تتجنب بعض الانتقادات في شأن تجفيف القارة من ثرواتها المعدنية لتشغيل قاعدتها الصناعية الضخمة.و تجري تنزانيا محادثات مع الصين في شأن خطط لإنشاء ميناء جديد.
في ظل انتشار العولمة الليبرالية، ومع ازدياد سرعة النقل والمواصلات واتساع الأسواق، وإزالة الحواجز أمام انتقال السلع والخدمات والأشخاص والمعلومات والأفكار، أصبحت عدة قوى إفريقية صاعدة ذات علاقات وثيقة بواشنطن، تعتبر النموذج الأميركي مثالاً يحتذى به، خصوصاً مع التقلص المستمر والمتسارع للفضاء الاقتصادي والثقافي ومن ثم السياسي للفرانكوفونية في القارة الإفريقية لمصلحة المجال الأنجلوفوني الذي ترعاه الولايات المتحدة.ان الدخول الأميركي في بقية إفريقيا"المفيدة " يثير العجب عندما ننظر من خلال الخارطة إلى حجمه، ففي الواقع كل هذه الدول من زائير سابقا إلى جمهورية الكونغو وغينيا والغابون والكاميرو والسنغال وإفريقيا الوسطى وأوغندا، وجنوب إفريقيا وتنزانيا...الخ تمثل مصالح اقتصادية وإستراتيجية عظمى..و بمعنى آخر تحولت المنطقة السابقة لنفوذ الفرنك كي تصبح منطقة للدولار.
ودخلت السياسة الخارجية الأمريكية في مرحلة جديدة من العلاقات مع القارة الإفريقية، بعد أن ابتعدت أكثرية الدول الإفريقية عن الاقتصاد الموجه شيئا فشيئا، حين كانت الدولة المركزية تتدخل في كل صغيرة وكبيرة، في الاقتصاد والمجتمع، وتعلن عن الخطط الخمسية الطموحة للتنمية، وهي في كثير من الأحيان تتبنى الاشتراكية ذات الخصوصية الوطنية. ويركز الخطاب الأمريكي الحالي على فشل العقود الأربعة الماضية التي تلت سنوات الاستقلال للبلدان الإفريقية، وعلى فشل مختلف " نماذج" التنمية فيها من الاشتراكية الشخصانية التي طبقها كل من جوليوس نيريري في تنزانيا وكينيث كواندا في زامبيا، التي اتسمت بهيمنة الحزب الواحد، إلى الماركسية اللينينية التي طبقت بشكل مأساوي في إثيوبيا وأنغولا وبينين، وأخيراُ ديمقراطية الحزب الواحد الشمولي في (زائير وكينيا) والرئاسة مدى الحياة في كل من (إفريقيا الوسطى وملاوي).
ومن وجهة نظر واشنطن أعطى انهيار النموذج الاشتراكي في أوروبا الشرقية دفعة قوية للإصلاحات السياسية في إفريقيا منذ بداية عقد التسعينات، حيث تبنت عدة أنظمة إفريقية نموذج التعددية السياسية، الذي يندرج ضمن سياق إعادة تأهيل النظم القائمة، لا ضمن آفاق التحرر من نظام الحزب الواحد وبناء ديمقراطية فعلية. ففي عدة بلدان إفريقية جنوبي الصحراء تم تنصيب فئة: "الذئاب الشابة " ممثلة الطبقة السياسية الجديدة الحريصة جداً على الاغتناء بسرعة قبل إقالتها أو الإطاحة بها، والمتلهفة أيضاً " للسلطة من أجل السلطة " أكثر من أسلافها. وبشكل عام، فإن اللعبة السياسية في تلك البلدان ظلت محكومة بأساليب الأنظمة القديمة التي عرفت كيف تجتاز الأزمات السياسية منذ الاستقلال، ولم تعد ترى ضيراً من أن تعلن نفسها ديمقراطية لكي يتطابق خطابها مع الخطاب السياسي الجديد السائد عالمياً ومفرداته حول حقوق الإنسان والديمقراطية.
وإذا كان الخطاب الأمريكي يطنب في الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أن الولايات المتحدة دعمت طول سنوات الأنظمة الديكتاتورية التي كانت سائدة في القارة الإفريقية، والتي اتسم عهدها بانتشار الفساد في معظم الحكومات، وبغياب القانون، وبتغلب مصالح النخب على مصالح الشعوب. والإدارة الأميركية تغمض عينيها عن أماكن كثيرة تمارس القمع والإكراه، ولكنها معمدة بالمياه الأمريكية، ومحمية بروح البيت الأبيض المقدس، مثل نظام موسوفيني الذي له مفهومه الخاص للديمقراطية، يقوم على تفضيل الحزب الواحد، ويعتبر حزبه هو الحزب الشرعي الوحيد، لأن ما يهمها بالدرجة الأولى هو التجارة، واندماج إفريقيا في دواليب الاقتصاد العالمي.
والرئيس أوباما زار إفريقيا متسلحاً بمضاعفة النمو والفرص فيها، بالقانون التجاري الأمريكي الذي أقر في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، والذي يندرج ضمن سياسة الولايات المتحدة الجديدة في إفريقيا والتي تعتمد على المشاركة لا على المساعدة (Trade- -Notaid) وعلى إزالة الحواجز. الجمركية الأمريكية عن صادرات 48 دولة إفريقية تقع في المنطقة ما دون الصحراوية التي زارها أكثر من رئيس أميركي، كما يفتح القارة الإفريقية للاستثمارات الأميركية في الدول التي تتبع الليبرالية الاقتصادية وتخضع لقوانين صندوق النقد الدولي، وذلك بدلاً من سياسة المعونات.
لالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، تشكل إفريقيا سوقا غير مستغلة، قوامها 600 إلى 700 مليون مستهلك، لا يصلهم سوى (7%) من صادرات الولايات المتحدة التي لا تتعدى حصة إفريقيا من استيرادها سوى (1%) رغم أن حصة إفريقيا من فرص العمل التي أوجدتها التجارة الخارجية 2 مليون وظيفة لا تتعدى 100 ألف..
كما يؤكد كبار الساسة الأمريكيين أن الموجة الجديدة من الديمقراطية، والدفاع عن حقوق الإنسان، واقتصاد السوق يجب أن توضع موضع التنفيذ، وعلى الولايات المتحدة أن تلعب دوراً رئيساً في تغيير إفريقيا على الصعد السياسية والاقتصادية والتجارية، باعتبار أن هذا الدور ضروري لتسريع عملية اندماج إفريقيا في الاقتصاد العالمي، ولخدمة مصالح الولايات المتحدة. وهذه السياسة تقوم على تفكيك الدول الإفريقية نفسها، وتسليم مهامها ووظائفها لتتولاها الشركات العملاقة متعدية الجنسيات، أو المؤسسات المالية الدولية التي تتكلم باسم هذه الشركات العملاقة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
وفي عصر العولمة الرأسمالية الجديدة، يتحدد نجاح أو تهميش الاقتصادات الإفريقية، بالعلاقة التي توجد ما بين التجارة الخارجية والناتج الوطني الخام، وبحجم المنتجات الصناعية من مجموع الصادرات، وبحجم الاستثمارات الأجنبية، والقدرة على وفاء الديون.والحال هذه، فإن » المساعدات « تشكل المقوم الثاني في تشكيل الناتج الوطني الخام في إفريقيا، باستثناء جنوب إفريقيا. وهذه المساعدات تشكل 11%، مقارنة مع 1.2% في منطقة الشرق الأدنى وشمال إفريقيا، و0.7% في أسيا، و0.4% في أميركا اللاتينية. وهذه المساعدات التي تمنحها الولايات المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي تمثل في حد ذاتها صناعة استثمارية. لأن المستدينين مطالبون بفتح اعتمادات، يستخدمونها لاستيراد الخيرات الاستهلاكية والخدمات من الدول الرأسمالية الغربية، ومن أجل تنفيذ مشاريع لا تلبي حاجيات التطور المحلية للدول الإفريقية.
العديد من القادة الأفارقة تحفظ على سياسة واشنطن التجارية تجاه إفريقيا لأنها لن تحقق ما يقوله الأميركيون من أنها تقوم على أساس المشاركة الفعّالة (Partner not Patron)، في محاولة لإقناع الرئيس الأميركي بأن مبدأ الشراكة التجارية لا ينبغي أن يلغي المعونات أو يكون بديلا لها، إنما مبدأ الشراكة المعزز بالمعونات هو الأساس القديم لتحقيق مبدأ الشراكة.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6294
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3768
| 21 أكتوبر 2025