رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في ذكرى وفاة زعيم تونس 6 أبريل 2000 وهو الذي عاش القرن العشرين كاملا يحتدم الجدل ككل عام حول الرجل بين طرفين متطرفين الأول يؤله الزعيم والثاني يشيطنه والحقيقة التي عايشتها بحكم قربي من الزعيم منذ السبعينات الى أن بلغ من العمر عتيا وأصيب بعدة أمراض بدنية ونفسية بل وتلاعب به كل من طمع في خلافته في صراع عنيف ومأساوي عاد على شعب تونس بالويلات والأزمات فغاب رحمه الله عن وعيه ولم يعد يفرق بين الواقع وبين تخيلاته في مشاهد حطت من مجده وأضحكت العالم فاستغل أمراضه كل أصحاب المصالح في الداخل والخارج إلى أن توفاه الله يوم السادس من أبريل 2000 وهو في منفاه الذي فرضه عليه زين العابدين بن علي الضابط الطموح المثير للجدل يوم انقلب عليه في السابع من نوفمبر 1987 وأعلن نفسه رئيسا بل دكتاتورا وهو القادم للرئاسة بلا تمرس بها ولا معرفة بآلياتها واكتشفت أنا بحكم معايشتي لأغلب مراحل الدولة أن بورقيبة إنسان لا ملاك ولا شيطان.
* وأهم ما حدث بعد وفاته أن مجلة (ليدرز) التونسية نشرت وثيقة تاريخية ذات أهمية بالغة تتمثل في رسالة شكوى وتظلم كتبها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة إلى وكيل الجمهورية سنة 1990 وهو في معتقله الأخير بمدينة المنستير حيث فرض عليه الرئيس السابق زين العابدين بن علي بعد أن عزله من السلطة، إقامة جبرية قسرية حولت ذلك الأسد المريض إلى سجين وراء قضبان مهينة. ولكن الذي لفت نظري بعد نشر الوثيقة ذلك السيل من التعليقات بأقلام رجال من جيلنا الذي عمل مع بورقيبة ومنهم المتحسر المنافق عما كابده الزعيم بينما هو خلال 13 سنة من محنة بورقيبة لم يحرك ساكنا ولم يقل كلمة حق ولم يصدع برأي وتلك كانت حال الأغلبية من وزرائه السابقين الذين لم ينبسوا ببنت شفة (ماعدا قلة شجاعة ويتيمة) لأن بن علي كان لا يرحم من يقول كلمة حق وكان يغري بالمناصب أو بمجرد السلامة كل من عمل مع الزعيم فانتبذ أغلبهم مكانا قصيا واستمرت مأساة بورقيبة 13 عاما ختمتها مهزلة جنازته التي أخرجها بن علي مثل مسرحية سخيفة خوفا من جثمان الزعيم بعد الخوف من الزعيم حيا.
*والعجيب أن الزعيم ظل الى اليوم سنة 2025 محل استغلال مشين لكل متسلق في السلطة حتى يكتسب مشروعية لا يستحقها فشرع البعض هذه الأيام يمجدون بورقيبة بمناسبة ذكرى وفاته فتباروا في تعداد خصال الزعيم لا من منطلق الحقيقة التاريخية بل من منطلق الانتقام من عهد خلفه زين العابدين ومن عهد خلفاء بن علي. فوظفوا هذه المناسبات بطريقة عقائدية وحزبية لا تليق بتاريخ تونس الذي يجب أن يبقى من مشمولات أنظار المؤرخين لا في أيدي السياسيين. وانقسم المتكلمون إلى مؤله للزعيم بكونه كان ملاكا معصوما وإلى شاتم له بكونه كان شيطانا رجيما! وقرأت العجب العجاب في قلب الحقائق وتدليس التاريخ.
وأغرب ما قرأت هو أن الزعيم ليلة 7 نوفمبر 87 ليلة انقلاب وزيره الأول عليه كان في تمام مداركه العقلية وكان متمتعا بكل طاقاته العقلية وهذا مجرد هراء لا يستقيم لأن الخطأ القاتل لبورقيبة هو تشبثه بأذيال السلطة وهو في أرذل العمر ثم المراهنة على أحد الضباط المهووسين بالسلطة زين العابدين بن علي الذي كلفه الزعيم بمهمة القضاء على من يعتبرهم أعداء نظامه أي الاسلاميين.
وأنا بفضل علاقاتي الوثيقة مع رجلين عاشا في قلب المرحلة القاسية والتراجيدية من حياة بورقيبة وهما رئيس حكومته محمد مزالي وسكرتيره الخاص محمود بلحسين أعرف أسرار وخفايا تلك المرحلة المبكية المضحكة من «غرق» بورقيبة في لجة العمر وغرق تونس في لجة الاستبداد. وهي أسرار أحتفظ بها اليوم لنفسي حتى تهدأ عواصف الأحقاد والمزايدات وأنشرها على جيل المؤرخين النزهاء لكتابة تاريخ أمين لتونس.
*يشهد الله أنني شخصيا بحكم منصبي في مطلع الثمانينات كنت قريبا من الزعيم أجلس كما قال لي هو عديد المرات على نفس كرسيه الذي بدأ منه الكفاح وهو كرسي مدير صحيفة العمل لسان الحزب التي أسسها هو وأدارها منذ سنة 1932 لكن علاقاتي القديمة قبل المسؤوليات مع الزعيم وحزبه لم تكن بلا مغامرات لأني كنت إلى جانب الحق في مناسبات وطنية عديدة منها قضية المظلمة المسلطة على المناضل النقابي والدستوري أحمد بن صالح فزج بنا نظام بورقيبة في السجن و ساعتها كنت أنا والصديقان أحمد الهرقام وعامر سحنون في الإيقاف يوم 4 سبتمبر 1969 واستنطقنا محافظ الشرطة حسونة العوادي وصودرت جوازات سفرنا وحرمنا من السفر لمواصلة الدراسة كما كنت إلى جانب الصديق محمد مزالي حين عزله بورقيبة من وزارة التربية بتهمة تعريب برامج التعليم وأسلمتها وقاومنا عقلية التغريب القهرية لتونس على أيدي المنبتين ومرة أخرى اضطهدنا البوليس السياسي واستنطقني مفتش أمن الدولة محمد كدوس وحجزوا جواز سفري في بداية السبعينات ثم شاءت أقدار تاريخية أن يعين الزعيم بورقيبة نفس محمد مزالي رئيسا للحكومة سنة 1980 فواصلنا كفاحنا الصامد من أجل التعريب وتأصيل التعليم وضخ المزيد و(الممكن المتاح) من الديمقراطية في مؤسسات الدولة وربط بلادنا بمحيطها الحضاري العربي والإسلامي والإفريقي بعد طول جفاء ووشح بورقيبة صدري بوسامي الاستقلال والجمهورية ولكن الدسائس لم تهدأ ضد تيارنا المتمسك بالهوية وتنويع التعاون مع الصين وتركيا والخليج وافريقيا داخل الحزب الدستوري وبتخطيط قديم من زين العابدين نفسه والذين تجندوا لخدمته وبأيد خارجية إلى أن تم نفينا ومصادرة بيوتنا وتشتيت أولادنا وحتى اغتيال مناصرينا ..
* واليوم نرى المتاجرين بتاريخ بورقيبة إما بالتمجيد المطلق وإما بالشيطنة المطلقة بينما الحقيقة هي أن بورقيبة إنسان لا هو بالملاك ولا بالشيطان أنجز أعمالا كبيرة ولكنه ارتكب أخطاء كبيرة أيضا ولم تكن حادثة الإطاحة به خارجة عن سياق مسيرته هو ذاته لأنه هو الذي أرسى تقاليد اضطهاد أسلافه والتنكيل بمعارضيه ومنافسيه. وقال لي محمد مزالي صباح يوم 7 نوفمبر 1987 «الجنرال بن علي انقلب على سعيدة ساسي وليس على بورقيبة». وقال لي أحمد بن صالح في نفس اليوم: «إن السلطة كانت ملقاة على قارعة الطريق فجاء بن علي والتقطها دون عناء» النتيجة هي أن تسلط الزعيم هو الذي صنع تلك الآلة الجهنمية (مفترسة الرجال) وزيتها وأعدها للاستعمال حتى أكلته نفس الآلة بدون رحمة وبلا أي نصير. وللتاريخ فهذا لا يمنع من إعادة الاعتبار لأحد قادة تحرير تونس ومؤسس دولتها الحديثة ومعمم التعليم والصحة والرجل النظيف الذي لم يملك حجرة ولا شجرة. أروع وأبلغ ما نفهم به تناقضات الإنسان نجده في الآية الكريمة: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها). صدق الله العظيم
الدوحة مركز عالمي لدعم جهود مكافحة الفساد
جاءت استضافة الدوحة لأعمال مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، في دورته الحادية عشرة، بحضور... اقرأ المزيد
93
| 16 ديسمبر 2025
القوة الناعمة للصين.. التطور والتحديات
مع بداية الصحوة القوية لما يسمى (الصعود الصيني) في أوائل الألفينات، بدأت الصين في إيلاء مزيد من الاهتمام... اقرأ المزيد
168
| 16 ديسمبر 2025
الفجوة الصامتة بين التعليم والمستقبل
لا يزال التعليم في كثير من مدارسنا وجامعاتنا قائمًا على نموذج قديم، جوهره الحفظ واسترجاع المعلومة، لا فهمها... اقرأ المزيد
282
| 16 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب مجرد خيبة رياضية عابرة، بل كانت صدمة حقيقية لجماهير كانت تنتظر ظهوراً مشرفاً يليق ببطل آسيا وبمنتخب يلعب على أرضه وبين جماهيره. ولكن ما حدث في دور المجموعات كان مؤشراً واضحاً على أزمة فنية حقيقية، أزمة بدأت مع اختيارات المدرب لوبيتيغي قبل أن تبدأ البطولة أصلاً، وتفاقمت مع كل دقيقة لعبها المنتخب بلا هوية وبلا روح وبلا حلول! من غير المفهوم إطلاقاً كيف يتجاهل مدرب العنابي أسماء خبرة صنعت حضور المنتخب في أكبر المناسبات! أين خوخي بوعلام و بيدرو؟ أين كريم بوضياف وحسن الهيدوس؟ أين بسام الراوي وأحمد سهيل؟ كيف يمكن الاستغناء عن أكثر اللاعبين قدرة على ضبط إيقاع الفريق وقراءة المباريات؟ هل يعقل أن تُستبعد هذه الركائز دفعة واحدة دون أي تفسير منطقي؟! الأغرب أن المنتخب لعب البطولة وكأنه فريق يُجرَّب لأول مرة، لا يعرف كيف يبني الهجمة، ولا يعرف كيف يدافع، ولا يعرف كيف يخرج بالكرة من مناطقه. ثلاث مباريات فقط كانت كفيلة بكشف حجم الفوضى: خمسة أهداف استقبلتها الشباك مقابل هدف يتيم سجله العنابي! هل هذا أداء منتخب يلعب على أرضه في بطولة يُفترض أن تكون مناسبة لتعزيز الثقة وإعادة بناء الهيبة؟! المؤلم أن المشكلة لم تكن في اللاعبين الشباب أنفسهم، بل في كيفية إدارتهم داخل الملعب. لوبيتيغي ظهر وكأنه غير قادر على استثمار طاقات عناصره، ولا يعرف متى يغيّر، وكيف يقرأ المباراة، ومتى يضغط، ومتى يدافع. أين أفكاره؟ أين أسلوبه؟ أين بصمته التي قيل إنها ستقود المنتخب إلى مرحلة جديدة؟! لم نرَ سوى ارتباك مستمر، وخيارات غريبة، وتبديلات بلا معنى، وخطوط مفككة لا يجمعها أي رابط فني. المنتخب بدا بلا تنظيم دفاعي على الإطلاق. تمريرات سهلة تخترق العمق، وأطراف تُترك بلا رقابة، وتمركز غائب عند كل هجمة. أما الهجوم، فقد كان حاضراً بالاسم فقط؛ لا حلول، لا جرأة، لا انتقال سريع، ولا لاعب قادر على صناعة الفارق. كيف يمكن لفريق بهذا الأداء أن ينافس؟ وكيف يمكن لجماهيره أن تثق بأنه يسير في الطريق الصحيح؟! الخروج من دور المجموعات ليس مجرد نتيجة سيئة، بل مؤشر مخيف! فهل يدرك الجهاز الفني حجم ما حدث؟ هل يستوعب لوبيتيغي أنه أضاع هوية منتخب بطل آسيا؟ وهل يتعلم من أخطاء اختياراته وإدارته؟ أم أننا سننتظر صدمة جديدة في استحقاقات أكبر؟! كلمة أخيرة: الأسئلة كثيرة، والإجابات حتى الآن غائبة، لكن من المؤكّد أن العنابي بحاجة إلى مراجعة عاجلة وحقيقية قبل أن تتكرر الخيبة مرة أخرى.
2328
| 10 ديسمبر 2025
عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا لا يعني بالضرورة أنه الأفضل والأذكى والأكثر كفاءة، بل قد تكون الظروف والفرص قد أسهمت في وصوله. وهذه ليست انتقاصًا منه، بل فرصة يجب أن تُستثمر بحكمة. ومن الطبيعي أن يواجه القائد الشاب تحفظات أو مقاومة ضمنية من أصحاب الخبرة والكفاءات. وهنا يظهر أول اختبار له: هل يستفيد من هذه الخبرات أم يتجاهلها ؟ وكلما استطاع القائد الشاب احتواء الخبرات والاستفادة منها، ازداد نضجه القيادي، وتراجع أثر الفجوة العمرية، وتحوّل الفريق إلى قوة مشتركة بدل أن يكون ساحة تنافس خفي. ومن الضروري أن يدرك القائد الشاب أن أي مؤسسة يتسلّمها تمتلك تاريخًا مؤسسيًا وإرثًا طويلًا، وأن ما هو قائم اليوم هو حصيلة جهود وسياسات وقرارات صاغتها أجيال متعاقبة عملت تحت ظروف وتحديات قد لا يدرك تفاصيلها. لذلك، لا ينبغي أن يبدأ بهدم ما مضى أو السعي لإلغائه؛ فالتطوير والبناء على ما تحقق سابقًا هو النهج الأكثر نضجًا واستقرارًا وأقل كلفة. وهو وحده ما يضمن استمرارية العمل ويُجنّب المؤسسة خسائر الهدم وإعادة البناء. وإذا أراد القائد الشاب أن يرد الجميل لمن منحه الثقة، فعليه أن يعي أن خبرته العملية لا يمكن أن تضاهي خبرات من سبقه، وهذا ليس نقصًا بل فرصة للتعلّم وتجنّب الوقوع في وهم الغرور أو الاكتفاء بالذات. ومن هنا تأتي أهمية إحاطة نفسه بدائرة من أصحاب الخبرة والكفاءة والمشورة الصادقة، والابتعاد عن المتسلقين والمجاملين. فهؤلاء الخبراء هم البوصلة التي تمنعه من اتخاذ قرارات متسرّعة قد تكلّف المؤسسة الكثير، وهم في الوقت ذاته إحدى ركائز نجاحه الحقيقي ونضجه القيادي. وأي خطأ إداري ناتج عن حماس أو عناد قد يربك المسار الاستراتيجي للمؤسسة. لذلك، ينبغي أن يوازن بين الحماس ورشادة القرار، وأن يتجنب الارتجال والتسرع. ومن واجبات القائد اختيار فريقه من أصحاب الكفاءة (Competency) والخبرة (Experience)، فنجاحه لا يتحقق دون فريق قوي ومتجانس من حوله. أما الاجتماعات والسفرات، فالأصل أن تُعقَد معظم الاجتماعات داخل المؤسسة (On-Site Meetings) ليبقى القائد قريبًا من فريقه وواقع عمله. كما يجب الحدّ من رحلات العمل (Business Travel) إلا للضرورة؛ لأن التواجد المستمر يعزّز الانضباط، ويمنح القائد فهمًا أعمق للتحديات اليومية، ويُشعر الفريق بأن قائده معهم وليس منعزلًا عن بيئة عملهم. ويمكن للقائد الشاب قياس نجاحه من خلال مؤشرات أداء (KPIs) أهمها هل بدأت الكفاءات تفكر في المغادرة؟ هل ارتفع معدل دوران الموظفين (Turnover Rate)؟ تُمثل خسارة الكفاءات أخطر تهديد لاستمرارية المؤسسة، فهي أشد وطأة من خسارة المناقصات أو المشاريع أو أي فرصة تجارية عابرة. وكتطبيق عملي لتعزيز التناغم ونقل المعرفة بين الأجيال، يُعدّ تشكيل لجنة استشارية مشتركة بين أصحاب الخبرة الراسخة والقيادات الصاعدة آلية ذات جدوى مضاعفة. فإلى جانب ضمانها اتخاذ قرارات متوازنة ومدروسة ومنع الاندفاع أو التفرد بالرأي، فإن وجود هذه اللجنة يُغني المؤسسة عن اللجوء المتكرر للاستشارات العالمية المكلفة في كثير من الخطط والأهداف التي يمكن بلورتها داخليًا بفضل الخبرات المتراكمة. وفي النهاية، تبقى القيادة الشابة مسؤولية قبل أن تكون امتيازًا، واختبارًا قبل أن تكون لقبًا. فالنجاح لا يأتي لأن الظروف منحت القائد منصبًا مبكرًا، بل لأنه عرف كيف يحوّل تلك الظروف والفرص إلى قيمة مضافة، وكيف يبني على خبرات من سبقه، ويستثمر طاقات من حوله.
1245
| 09 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل بالتحزّبات والصراعات والاصطفافات، اختارت قطر أن تقدّم درسًا غير معلن للعالم: أن الرياضة يمكن أن تكون مرآة السياسة حين تكون السياسة نظيفة، عادلة، ومحلّ قبول الجميع واحترام عند الجميع. نجاح قطر في استضافة كأس العرب لم يكن مجرد تنظيم لبطولة رياضية، بل كان حدثًا فلسفيًا عميقًا، ونقلاً حياً ومباشراً عن واقعنا الراهن، وإعلانًا جديدًا عن شكلٍ مختلف من القوة. قوة لا تفرض نفسها بالصوت العالي، ولا تتفاخر بالانحياز، ولا تقتات على تفتيت الشعوب، بل على القبول وقبول الأطراف كلها بكل تناقضاتها، هكذا تكون عندما تصبح مساحة آمنة، وسطٌ حضاري، لا يميل، لا يخاصم، ولا يساوم على الحق. لطالما وُصفت الدوحة بأنها (وسيط سياسي ناجح ) بينما الحقيقة أكبر من ذلك بكثير. الوسيط يمكن أن يُستَخدم، يُستدعى، أو يُستغنى عنه. أما المركز فيصنع الثقل، ويعيد التوازن، ويصبح مرجعًا لا يمكن تجاوزه. ما فعلته قطر في كأس العرب كان إثباتاً لهذه الحقيقة: أن الدولة الصغيرة جغرافيًا، الكبيرة حضاريًا، تستطيع أن تجمع حولها من لا يجتمع. ولم يكن ذلك بسبب المال، ولا بسبب البنية التحتية الضخمة، بل بسبب رأس مال سياسي أخلاقي حضاري راكمته قطر عبر سنوات، رأس مال نادر في منطقتنا. لأن البطولة لم تكن مجرد ملاعب، فالملاعب يمكن لأي دولة أن تبنيها. فالروح التي ظهرت في كأس العرب روح الضيافة، الوحدة، الحياد، والانتماء لكل القضايا العادلة هي ما لا يمكن فعله وتقليده. قطر لم تنحز يومًا ضد شعب. لم تتخلّ عن قضية عادلة خوفًا أو طمعًا. لم تسمح للإعلام أو السياسة بأن يُقسّما ضميرها، لم تتورّط في الظلم لتكسب قوة، ولم تسكت عن الظلم لتكسب رضا أحد. لذلك حين قالت للعرب: حيهم إلى كأس العرب، جاؤوا لأنهم يأمنون، لأنهم يثقون، لأنهم يعلمون أن قطر لا تحمل أجندة خفية ضد أحد. في المدرجات، اختلطت اللهجات كما لم تختلط من قبل، بلا حدود عسكرية وبلا قيود أمنية، أصبح الشقيق مع الشقيق لأننا في الأصل والحقيقة أشقاء فرقتنا خيوط العنكبوت المرسومة بيننا، في الشوارع شعر العربي بأنه في بلده، فلا يخاف من رفع علم ولا راية أو شعار. نجحت قطر مرة أخرى ولكن ليس كوسيط سياسي، نجحت بأنها أعادت تعريف معنى «العروبة» و»الروح المشتركة» بطريقة لم تستطع أي دولة أخرى فعلها. لقد أثبتت أن الحياد العادل قوة. وأن القبول العام سياسة. وأن الاحترام المتبادل أكبر من أي خطاب صاخب. الرسالة كانت واضحة: الدول لا تُقاس بمساحتها، بل بقدرتها على جمع المختلفين. أن النفوذ الحقيقي لا يُشترى، بل يُبنى على ثقة الشعوب. أن الانحياز للحق لا يخلق أعداء، بل يصنع احترامًا. قطر لم تنظّم بطولة فقط، قطر قدّمت للعالم نموذج دولة تستطيع أن تكون جسرًا لا خندقًا، ومساحة لقاء لا ساحة صراع، وصوتًا جامعًا لا صوتًا تابعًا.
801
| 10 ديسمبر 2025