رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
اليسار التونسي يحتاج إلى العقلانية السياسية من أجل التحرر من الخطاب الشعبوي، وإقامة علاقات صحيحة وسليمة مع الحركات السياسية الأخرى التي تتبنى منظومات أيديولوجية قومية وإسلامية، ذلك أنه من أسوأ التقاليد التي كرستها الحركات السياسية العربية على اختلاف مرجعياتها الفكرية: الماركسية والقومية والإسلامية، هي انتهاج الخطاب الشعبوي الذي يهيمن عليه الطابع الأيديولوجي، والذي تكمن وظيفته في التسويغ والتبرير وطمس واقع الفروقات والاختلافات واللجوء إلى التوفيق والتلفيق، والذي يفتقر إلى العقلانية، ويقلل من أهمية المسألة الفكرية ويحط من شأنها، ولا ينطلق من حقيقة أن الفكر العقلاني هو الذي يصنع التغيير الجذري وبالتالي يصنع التاريخ، ذلك أنه ليس ثمة من تاريخ ممكن من دون حركة الفكر.
ويظل التنازع بين المسألة السياسية الضاغطة بحجم وجودها، وثقلها في الخطاب السياسوي الشعبوي وبين الفكر العربي المعاصر قائماً، لأن السياسة في طبيعتها الأصلية، وهي تبحث عن التغيير، تخدم المصلحة طبقية كانت أم حزبية، بصرف النظر عن المشروع السياسي المنضوية في سيرورته، قد لا تستمد معاييرها من الحقيقة الموضوعية، في حين أن الفكر باستخدامه العقل العلمي والفلسفي، هو الذي ينتج التصورات الصحيحة والرؤى العلمية عن حقائق التاريخ الاجتماعية وعلاقاتها.
فهيمنة المسألة السياسية على الفكر العربي، بادعائها أنها تحتكر الحقيقة العلمية للتاريخ الاجتماعي، وباستمالتها الفكر واستخدامه وأحياناً في جعله رهن الاعتقال، وتدجينه، وحتى التنكيل به، واختلال العلاقة بين الأيديولوجي والسياسي، يدفع الحوار السياسي بين القوى السياسية ذات التوجه اليساري والحركات الإسلامية على تنوعها إلى سجال أيديولوجي، تسود فيه الرؤية الحصرية. وهي تمثل صياغة جديدة للأحادية والنظرة الإقصائية التي تحل نفسها محل الكل الاجتماعي، وتطرد الآخر من عالمها، ولا تنظر إلى الاختلاف والتعدد إلا على أنه كفر.
وهذه الرؤية الأحادية والحصرية السائدة في صفوف الحركة السياسية العربية على اختلاف مشاربها الفكرية: اليسارية والقومية والإسلامية، ومناهجها وبرامجها، تجعل الفكر العربي متناقضاً لا يسوده الانسجام والوحدة في بناه النظرية والمعرفية، لأن موضوعاته وإشكالياته أتت في ظروف تاريخية، أو تحت وطأة الضغوطات السياسية والأيديولوجية، ويظل عاجزاً عن تحقيق توافق أولي مبدئي على القضايا الأساسية للأمة، ولاسيَّما منها العلاقة بين الديمقراطية والإسلام.
إن الضمانة الجدية للتوافق وديمومته بين القوى اليسارية والإسلام هي انتهاج خط الواقعية والعقلانية، في الإجابة عن أسئلة ومعضلات الواقع. فالعقلانية تقوم على أساس النقد، نقد الذات ونقد الموضوع الذي هو أيضاً ذات وحياة. وهو ما يسميه المفكر الراحل إلياس مرقص «جهاد النفس وجهاد المعرفة». فالنقد هو أبرز خصائص العقل، والعقل واحد، عند الكل، وهو كوني بطبيعته، وليس بخاصية قوميات ضيقة، أو التقسيمات الجغراسياسية التي تقسم العالم إلى مناطق نفوذ وهيمنة.
ليس العقل منهجاً قائماً على الحساب، والمنطق، وأداة تفكير فقط، ينمو إلى تعامل بين مقتضيات الذهن المنطقية والمعطيات الاختبارية الصادرة عن عالم الظواهر. والعقل نظري وعملي، فالعقل النظري أساس العلم والحكمة، يحمل في ذاته الإيمان بالمعرفة والشك فيها في علاقة متبادلة بينهما، لا يني يثبت وينفي إلى ما لانهاية، وهو باحث جيد من أجل الحقيقة، ومنتج لمنظومات متماسكة من الأفكار والنظريات، والأسس المعرفية للعمل البشري والإنتاج الاجتماعي، وساع من أجل وحدة الفكر والواقع وإعادة بناء صورته في الذهن، في ضوء التقدم العلمي الحاصل.
والعقل العملي أساس الاجتماع والحياة السياسية، هو عقل مفتوح يجسد نمطاً من التعامل الوحيد بين العقلاني واللاعقلاني، ويكون بذلك ضرورياً ضرورة مطلقة بالنسبة إلينا للتعامل مع الواقع، بما أنه تجسيد للعقلانية الحقيقية باعتبارها مسعى من أجل مطابقة مفهوم الفرد الاجتماعي ومفهوم المواطن بوصفه عضواً في المجتمع المدني وعضواً في الدولة بالتلازم الضروري. ولهذا تصبح العقلانية ركيزة أساسية للديمقراطية، وبالتالي ركيزة أساسية لمجتمع القانون والحقوق، كما تصبح السياسة بكونها الشأن العام المشترك بين جميع الأفراد في مجتمع الأفراد، في مجتمع معين ودولة معينة، علم الممارسة المعقولة، وهي تهم العمل الكوني الذي وإن كان من خلال أصله العيني عماداً فردياً أو جماعياً، لا يهدف إلى الفرد والجماعة بل يهدف إلى الوصول إلى الجنس البشري.
لذلك كله، فإن العقلانية باعتبارها أخص منجزات الروح البشرية، لاسيَّما حين تنطلق من مفهوم الإنسان وفكرة التاريخ والتقدم، هي كونية بطبيعتها، لأنها قائمة على كونية العقل وإنسانية الفكر. فليس هناك عقل عربي أو إسلامي أو أوروبي وعقل أمريكي وعقل هندي وآخر روسي، مثلما ليست العقلانية من منجزات الغرب ومكتسباته فقط، حتى إن تجذرت في الغرب المسيحي وذهبت إلى أبعد ما تكون وأعمق ما تكون.
العقلانية في الفكر والسياسة، مفهومة فهماً جدلياً سليماً هي تلك التي تنطلق من وحدة المجتمع الديالكتيكية التناقضية ومن وحدة الأمة العربية باعتبارها كينونة اجتماعية في التاريخ وفي العالم ومن الشأن العام والمصلحة القومية المشتركة التي تتقاطع فيها المصالح الخاصة والفردية، وتجد فيها ميدان تحققها الواقعي. فالعام هو الذي يحدد الخاص والفردي، والكل هو الذي يحدد الأجزاء وليس العكس وبالتالي فإن السياسات الفئوية، طبقية كانت أم حزبية، أم عشائرية أم مذهبية التي تحل الخاص محل العام هي سياسات لاعقلانية وإذ تقوم هذه السياسات على المنفعة الخاصة الجزئية، الفئوية، فإنها لا تلغي المصلحة العامة الوطنية القومية فقط، بل تلغي ذاتها أيضاً وهذا أساس لا عقلانيتها، والسياسات اللاعقلانية هذه هي بالضرورة سياسات استبدادية، وأنساق مولدة للعنف. فمن ليس في فكره وفي روحه المطلق يحول نسبيه إلى مطلق وذلك هو الاستبداد.
العقلانية في الوضع العربي الراهن، صفة السياسة القومية الراديكالية المؤمنة حقاً بالمشروع القومي الديمقراطي النهضوي، التي تضع حداً للأيديولوجية وتقيم حداً على الشعارات والشعاراتية في الحوار بين الأطياف السياسية من أجل إعادة بناء وعي جديد مطابق لبناء دولة القانون، وتحقيق وفاق تاريخي حقيقي بين الحركة الإسلامية والقوى اليسارية، على أهداف إستراتيجية محددة لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية، حيث إن بناء هذا الوعي الجديد وهذا الاتفاق التاريخي لا يكونان بالتسويات الأيديولوجية، ولا برفض الأيديولوجيات ذاتها والاستسلام لتأثيراتها موضوعياً، بل ينطلقان من العقلانية والمنطق في سبيل تقديم الحلول والأجوبة لإشكالية ثنائية العلمانية والإسلام وتساؤلها وإخراجها من المحنة التي شكلها استمرار المعارضة بينهما.
إن الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة، ولا نبالغ إذا قلنا أكثريتها، إنما تقف من مبدأ العلمانية والتعددية، سواء في الرؤى الفكرية أو السياسية، موقف الرفض العدائي أو الريبة الشديدة أو الشك في شرعيتها أو في ضرورتها وجدواها، في حين أن أمام الإسلاميين واليساريين، واللاهوتيين والعلمانيين مسؤوليتين أولاهما معرفة الواقع بأبعاده العالمية أو الكونية، والتاريخية والعقلانية بشكل مطابق وصحيح، حيث إن معرفة هذا الواقع تقتضي منهجاً عقلانياً لفهم الصراعات والتناقضات التي تولد حركة تطوره، والقوى التي تؤثر فيه، لاسيَّما أن العالم اليوم يتوحد بوتائر سريعة.
فلم تعد ثمة مشكلات أو قضايا أساسية محلية خالصة خارج سياق العولمة الرأسمالية الجديدة، أو الهيمنة الإمبريالية الأمريكية. والثانية، نقد العقل السياسي العربي، ليشمل ظاهرة الإسلام السياسي المعاصر، والخطاب الأيديولوجي الإسلامي المتطرف الدوغمائي من جهة، والفكري المرن النقدي المنفتح من جهة أخرى، الذي مازال يرفض تجسيد القطيعة المعرفية والمنهجية مع الأرثوذكسية الإخوانية الإسلامية التي تأتي في سياق العملية التاريخية، وكنتيجة حتمية للتطور التاريخي العام في المجتمع العربي، باعتبارها هي وحدها التي تؤهلها (هذه العملية) لبناء مشروع ثقافي إسلامي تنويري يصير تكويناً وليس تكراراً، علماً بأن هذه القطيعة متى حصلت تمثل تاريخ التحولات الجذرية في نظرة العقل الإسلامي نفسه إلى المعرفة، وطرق إدراكه للواقع العربي والاشتباك مع معضلاته الأساسية، وتعبيره المعرفي والسياسي عن تأويلاته لهذا الواقع.
وهكذا يصبح الإسلام والعلمانية فاعلية فكرية اجتماعية كفاحية من أجل التحرر المعرفي الحقيقي للتراث من الميراث الذي أضحى يشكل عقبة معرفية في الخطاب الأيديولوجي للحركات الإسلامية المعاصرة، يرميان من خلال هذا الجهد الإنساني إلى الاندماج بالعالم الواقعي، ونشر ما يعتقد الإسلاميون والعلمانيون أنه التنوير الحقيقي في الفضاء الاجتماعي على قدم المساواة، حيث إن التنوير لم يكن حكراً على التجربة التاريخية الغربية المحددة بعصر صعود البرجوازية والرأسمالية منذ القرن السادس عشر، بل إن الحضارة العربية الإسلامية امتلكت تراثاً تنويرياً مع ابن رشد في القرون الوسطى، سبق التنوير الغربي في العصر الحديث.
تتقدّم الأوطان حين تضع الإنسان أوّلا: تعليمًا وتربية وكرامة وعملا. في قطر، أنصفت الرؤية وتمكينُها المرأةَ وفتحت أمامها... اقرأ المزيد
15
| 09 أكتوبر 2025
كم يبدو موجزا عنوان المؤهل الأكاديمي! وكم هو واسع ما يمكن أن ينضوي تحته من مهن ووظائف! فكل... اقرأ المزيد
36
| 09 أكتوبر 2025
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ فلا تقنعْ بمـا دون النجومِ — المتنبي حين يعانق هدير الموج همس الرمال،... اقرأ المزيد
12
| 09 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كثير من المراكز التدريبية اليوم وجدت سلعة سهلة الترويج، برنامج إعداد المدربين، يطرحونه كأنه عصا سحرية، يَعِدون المشترك بأنه بعد خمسة أيام أو أسبوع من «الدروس» سيخرج مدربًا متمكنًا، يقف على المنصة، ويُدير القاعة، ويعالج كل التحديات، كأن التدريب مجرد شهادة تُعلق على الجدار، أو بطاقة مرور سريعة إلى عالم لم يعرفه الطالب بعد. المشكلة ليست في البرنامج بحد ذاته، بل في الوهم المعبأ معه. يتم تسويقه للمشتركين على أنه بوابة النجومية في التدريب، بينما في الواقع هو مجرد خطوة أولى في طريق طويل. ليس أكثر من مدخل نظري يضع أساسيات عامة: كيف تُصمم عرضًا؟ كيف ترتب محتوى؟ كيف تُعرّف التدريب؟. لكنه لا يمنح المتدرب أدوات مواجهة التحديات المعقدة في القاعة، ولا يصنع له كاريزما، ولا يضع بين يديه لغة جسد قوية، ولا يمنحه مهارة السيطرة على المواقف. ومع ذلك، يتم بيعه تحت ستار «إعداد المدربين» وكأن من أنهى البرنامج صار فجأة خبيرًا يقود الحشود. تجارب دولية متعمقة في دول نجحت في بناء مدربين حقيقيين، نرى الصورة مختلفة تمامًا: • بريطانيا: لدى «معهد التعلم والأداء» (CIPD) برامج طويلة المدى، لا تُمنح فيها شهادة «مدرب محترف» إلا بعد إنجاز مشاريع تدريبية عملية وتقييم صارم من لجنة مختصة. • الولايات المتحدة: تقدم «جمعية تطوير المواهب – ATD» مسارات متعددة، تبدأ بالمعارف، ثم ورش تطبيقية، تليها اختبارات عملية، ولا يُعتمد المدرب إلا بعد أن يُثبت قدرته في جلسات تدريب واقعية. • فنلندا: يمر المدرب ببرنامج يمتد لأشهر، يتضمن محاكاة واقعية، مراقبة في الصفوف، ثم تقييما شاملا لمهارات العرض، إدارة النقاش، والقدرة على حل المشكلات. هذه التجارب تثبت أن إعداد المدرب يتم عبر برامج متعمقة، اجتيازات، وتدرّج عملي. المجتمع يجب أن يعي الحقيقة: الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع أن TOT ليس نقطة الانطلاق، بل الخطوة المعرفية الأولى فقط. المدرب الحقيقي لا يُصنع في أسبوع، بل يُبنى عبر برامج تخصصية أعمق مثل «اختصاصي تدريب»، التي تغوص في تفاصيل لغة الجسد، السيطرة على الحضور، مواجهة المواقف الحرجة، وبناء الكاريزما. هذه هي المراحل التي تُشكل شخصية المدرب، لا مجرد ورقة مكتوب عليها «مدرب معتمد». لكي نحمي المجتمع من أوهام «الشهادات الورقية»، يجب أن يُعتمد مبدأ الاختبار قبل الدخول، بحيث لا يُقبل أي شخص في برنامج إعداد مدربين إلا بعد اجتياز اختبار قبلي يقيس مهاراته الأساسية في التواصل والعرض. ثم، بعد انتهاء البرنامج، يجب أن يخضع المتدرب لاختبار عملي أمام لجنة تقييم مستقلة، ليُثبت أنه قادر على التدريب لا على الحفظ. الشهادة يجب أن تكون شهادة اجتياز، لا مجرد «شهادة حضور». هل يُعقل أن يتحول من حضر خمسة أيام إلى «قائد قاعة»؟ هل يكفي أن تحفظ شرائح عرض لتصير مدربًا؟ أين الارتباك والتجربة والخطأ؟ أين الكاريزما التي تُبنى عبر سنوات؟ أم أن المسألة مجرد صور على إنستغرام تُوهم الناس بأنهم أصبحوا «مدربين عالميين» في أسبوع؟ TOT مجرد مدخل بسيط للتدريب، فالتدريب مهنة جادة وليس عرضا استهلاكيا. المطلوب وعي مجتمعي ورقابة مؤسسية وآليات صارمة للاجتياز، فمن دون ذلك سيبقى سوق التدريب ساحة لبيع الوهم تحت عناوين براقة.
5370
| 06 أكتوبر 2025
في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة يمكن وصفها بـ «استيراد المعلّب»، حيث يتم استقدام برامج أو قوالب تدريبية جاهزة من بعض الدول الخليجية المجاورة لعرضها على وزارات أو مؤسسات في قطر، رغم وجود كفاءات محلية وجهات تدريبية قادرة على تقديم محتوى أكثر أصالة وفاعلية. الفكرة بحد ذاتها ليست إشكالية، فالتبادل المعرفي مطلوب، والتعاون الخليجي قيمة مضافة. لكن الإشكال يكمن في الاختزال: أن يكون الخيار الأول هو الحل المستورد، بينما تبقى القدرات المحلية في موقع المتفرج. أين الخلل؟ حين تأتي وفود خارجية وتعرض برامج جاهزة، غالبًا ما يتم التعامل معها باندفاع هذا المشهد قد يعطي انطباعًا مضللًا بأن ما تم تقديمه هو «ابتكار خارجي» لا يمكننا بلوغه داخليًا، بينما الحقيقة أن في قطر كفاءات بشرية ومؤسسات تدريبية تمتلك القدرة على الإبداع والتطوير. والمفارقة أن لدينا في قطر جهات رسمية مسؤولة عن التدريب وتحت مظلتها عشرات المراكز المحلية، لكن السؤال: لماذا لا تقوم هذه المظلات بدورها في حماية القطاع؟ لماذا تُترك الوزارات لتتسابق نحو البرامج المستوردة من الخارج، بل إن بعضها يُستورد دون أي اعتماد دولي حقيقي، غياب هذا الدور الرقابي والحامي يفتح الباب واسعًا أمام تهميش الكفاءات الوطنية. وتزداد الصورة حدة حين نرى المراكز التدريبية الخارجية تتسابق في نشر صورها مع المسؤولين عبر المنصات الاجتماعية، معلنةً أنها وقّعت اتفاقيات مع الوزارة الفلانية لتقديم برنامج تدريبي أو تربوي، وكأن الساحة القطرية تخلو من المفكرين التربويين أو من الكفاءات الوطنية في مجال التدريب. هذا المشهد لا يسيء فقط إلى مكانة المراكز المحلية، بل يضعف ثقة المجتمع بقدراته الذاتية. منطق الأولويات الأصل أن يكون هناك تسلسل منطقي: 1. أولًا: البحث عن الإمكانات المحلية، وإعطاء الفرصة للكوادر القطرية لتقديم حلولهم وبرامجهم. 2. ثانيًا: إن لم تتوفر الخبرة محليًا، يتم النظر إلى الاستعانة بالخبرة الخليجية أو الدولية كخيار داعم لا كبديل دائم. بهذا الترتيب نحافظ على مكانة الكفاءات الوطنية، ونعزز من ثقة المؤسسات بقدراتها، ونوجه السوق نحو الإبداع المحلي. انعكاسات «استيراد المعلّب: - اقتصادياً: الاعتماد المفرط على الخارج يستنزف الموارد المالية ويضعف من استدامة السوق المحلي للتدريب. - مهنياً: يحبط الكفاءات المحلية التي ترى نفسها مهمشة رغم جاهزيتها. - اجتماعياً: يرسخ فكرة أن النجاح لا يأتي إلا من الخارج، في حين أن بناء الثقة بالمؤسسات الوطنية هو أحد ركائز الاستقلال المجتمعي. ما الحل؟ الحل ليس في الانغلاق، بل في إعادة ضبط البوصلة: وضع آلية واضحة في الوزارات والمؤسسات تقضي بطرح أي مشروع تدريبي أولًا على المراكز المحلية. - تمكين المظلات المسؤولة عن التدريب من ممارسة دورها في حماية المراكز ومنع تجاوزها. - جعل الاستعانة بالبرامج المستوردة خيارًا تكميليًا عند الحاجة، لا قرارًا تلقائيًا. الخلاصة: «استيراد المعلّب» قد يكون مريحًا على المدى القصير، لكنه على المدى البعيد يضعف مناعة المؤسسات ويعطل القدرات الوطنية. إننا بحاجة إلى عقلية ترى في الكفاءة القطرية الخيار الأول، لا الأخير. فالطموح الحقيقي ليس في أن نستحسن ما يأتي من الخارج ونستعجل نشر صورته، بل في أن نُصدر نحن للعالم نموذجًا فريدًا ينبع من بيئتنا، ويعكس قدرتنا على بناء المستقبل بأيدينا.
4872
| 02 أكتوبر 2025
تجاذبت أطراف الحديث مؤخرًا مع أحد المستثمرين في قطر، وهو رجل أعمال من المقيمين في قطر كان قد جدد لتوّه إقامته، ولكنه لم يحصل إلا على تأشيرة سارية لمدة عام واحد فقط، بحجة أنه تجاوز الستين من عمره. وبالنظر إلى أنه قد يعيش عقدين آخرين أو أكثر، وإلى أن حجم استثماره ضخم، فضلاً عن أن الاستثمار في الكفاءات الوافدة واستقطابها يُعدّان من الأولويات للدولة، فإن تمديد الإقامة لمدة عام واحد يبدو قصيرًا للغاية. وتُسلط هذه الحادثة الضوء على مسألة حساسة تتمثل في كيفية تشجيع الإقامات الطويلة بدولة قطر، في إطار الالتزام الإستراتيجي بزيادة عدد السكان، وهي قضية تواجهها جميع دول الخليج. ويُعد النمو السكاني أحد أكثر أسباب النمو الاقتصادي، إلا أن بعض أشكال النمو السكاني المعزز تعود بفوائد اقتصادية أكبر من غيرها، حيث إن المهنيين ورواد الأعمال الشباب هم الأكثر طلبًا في الدول التي تسعى لاستقطاب الوافدين. ولا تمنح دول الخليج في العادة الجنسية الكاملة للمقيمين الأجانب. ويُعد الحصول على تأشيرة إقامة طويلة الأمد السبيل الرئيسي للبقاء في البلاد لفترات طويلة. ولا يقل الاحتفاظ بالمتخصصين والمستثمرين الأجانب ذوي الكفاءة العالية أهميةً عن استقطابهم، بل قد يكون أكثر أهمية. فكلما طالت فترة إقامتهم في البلاد، ازدادت المنافع، حيث يكون المقيمون لفترات طويلة أكثر ميلاً للاستثمار في الاقتصاد المحلي، وتقل احتمالات تحويل مدخراتهم إلى الخارج. ويمكن تحسين سياسة قطر لتصبح أكثر جاذبية ووضوحًا، عبر توفير شروط وإجراءات الإقامة الدائمة بوضوح وسهولة عبر منصات إلكترونية، بما في ذلك إمكانية العمل في مختلف القطاعات وإنشاء المشاريع التجارية بدون نقل الكفالة. وفي الوقت الحالي، تتوفر المعلومات من مصادر متعددة، ولكنها ليست دقيقة أو متسقة في جميع الأحيان، ولا يوجد وضوح بخصوص إمكانية العمل أو الوقت المطلوب لإنهاء إجراءات الإقامة الدائمة. وقد أصبحت شروط إصدار «تأشيرات الإقامة الذهبية»، التي تمنحها العديد من الدول، أكثر تطورًا وسهولة. فهناك توجه للابتعاد عن ربطها بالثروة الصافية أو تملك العقارات فقط، وتقديمها لأصحاب المهارات والتخصصات المطلوبة في الدولة. وفي سلطنة عمان، يُمثل برنامج الإقامة الذهبية الجديد الذي يمتد لعشر سنوات توسعًا في البرامج القائمة. ويشمل هذا النظام الجديد شريحة أوسع من المتقدمين، ويُسهّل إجراءات التقديم إلكترونيًا، كما يتيح إمكانية ضم أفراد الأسرة من الدرجة الأولى. وتتوفر المعلومات اللازمة حول الشروط وإجراءات التقديم بسهولة. أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فهناك أيضًا مجموعة واضحة من المتطلبات لبرنامج التأشيرة الذهبية، حيث تمنح الإقامة لمدة تتراوح بين خمس و10 سنوات، وتُمنح للمستثمرين ورواد الأعمال وفئات متنوعة من المهنيين، مع إمكانية ضم أفراد الأسرة. ويتم منح الإقامة الذهبية خلال 48 ساعة فقط. وقد شهدت قطر نموًا سكانيًا سريعًا خلال أول عقدين من القرن الحالي، ثم تباطأ هذا النمو لاحقًا. فقد ارتفع عدد السكان من 1.7 مليون نسمة وفقًا لتعداد عام 2010 إلى 2.4 مليون نسمة في عام 2015، أي بزيادة قدرها 41.5 %. وبلغ العدد 2.8 مليون نسمة في تعداد عام 2020، ويُقدَّر حاليًا بحوالي 3.1 مليون نسمة. ومن المشاكل التي تواجه القطاع العقاري عدم تناسب وتيرة النمو السكاني مع توسع هذا القطاع. فخلال فترة انخفاض أسعار الفائدة والاستعداد لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، شهد قطاع البناء انتعاشًا كبيرًا. ومع ذلك، لا يُشكل هذا الفائض من العقارات المعروضة مشكلة كبيرة، بل يمكن تحويله إلى ميزة. فمثلاً، يُمكن للمقيمين الأجانب ذوي الدخل المرتفع الاستفادة وشراء المساكن الحديثة بأسعار معقولة. إن تطوير سياسات الإقامة في قطر ليكون التقديم عليها سهلًا وواضحًا عبر المنصات الإلكترونية سيجعلها أكثر جاذبية للكفاءات التي تبحث عن بيئة مستقرة وواضحة المعالم. فكلما كانت الإجراءات أسرع والمتطلبات أقل تعقيدًا، كلما شعر المستثمر والمهني أن وقته مُقدَّر وأن استقراره مضمون. كما أن السماح للمقيمين بالعمل مباشرة تحت مظلة الإقامة الدائمة، من دون الحاجة لنقل الكفالة أو الارتباط بصاحب عمل محدد، سيعزز حرية الحركة الاقتصادية ويفتح المجال لابتكار المشاريع وتأسيس الأعمال الجديدة. وهذا بدوره ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني عبر زيادة الإنفاق والاستثمار المحلي، وتقليل تحويلات الأموال إلى الخارج، وتحقيق استقرار سكاني طويل الأمد.
4254
| 05 أكتوبر 2025