رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في الوقت الذي يواصل فيه الاحتلال الإسرائيلي قصفه الوحشي على غزة، مستندًا إلى غطاءٍ سياسيّ دوليّ، جاءت عملية بيت حانون المركبة الأخيرة لتضرب في عمق الصورة التي حاولت حكومة نتنياهو رسمها عن نفسها، ولتُعيد صياغة المعادلة الميدانية والسياسية دفعةً واحدة. فالعملية لم تكن مجرّد ردّ فعل ميداني على العدو، بل كانت صفعة استراتيجية أوقعت قتلى في صفوف جيش الاحتلال، وأحرجت القيادة الإسرائيلية على أعلى مستوى، وفي لحظة كانت تحاول فيها استعراض القوة من على منصة البيت الأبيض.
فقد نفّذت المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها كتائب القسام، مساء الأول من أمس، عمليةً محكمةً في بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، أسفرت عن مقتل خمسة جنود إسرائيليين وإصابة أربعة عشر آخرين بجراح متفاوتة، بعضهم في حالة حرجة. تمّ الهجوم من خلال كمينٍ مركّب وتفجير عبواتٍ ناسفةٍ متسلسلة، بالتزامن مع اشتباكات مباشرة مع قوات الاحتلال التي كانت تحاول التقدّم في المنطقة.
الكمين لم يكن عبثيًا، بل جاء جزءًا من تصعيد محسوب من جانب المقاومة، ردًّا على عملية “عربات جدعون” التي أطلقها جيش الاحتلال في شمال القطاع. وهذه العملية الميدانية – التي تأتي ضمن موجة ثالثة من المواجهات في بيت حانون – كشفت حجم الانكشاف العسكري الإسرائيلي، على الرغم من مزاعم المؤسسة الأمنية بالسيطرة والتفوق التقني.
ما يجعل هذه العملية استثنائية ليس فقط حجم الخسائر التي أوقعتها الفصائل الفلسطينية في صفوف جيش الاحتلال، وإنما توقيتها السياسي الدقيق. ففي اليوم ذاته، كان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يقف في العاصمة الأمريكية واشنطن، في زيارة رسمية يرافقه فيها وفد أمني، وعلى جدول أعماله “الاحتفال” بانتصار مزعوم ضد إيران، وتسويق التقدم العسكري في غزة كمنجز استراتيجي أمام إدارة ترامب.
الزيارة كانت تحمل طابعًا احتفاليًا بامتياز، عنوانها الضمني: “شرب نخب النصر” بعد الضربات الجوية المتبادلة بين تل أبيب وطهران قبل أسابيع. لكن المقاومة اختارت أن تفسد هذا المشهد الهزلي. فخلال ساعاتٍ فقط من لقاء نتنياهو مع دونالد ترامب ومسؤولي البيت الأبيض، جاءت أنباء مقتل خمسة من جنود الاحتلال في بيت حانون، لتقلب الشارع الإسرائيلي رأسًا على عقب، وتحرج المؤسسة العسكرية في تل أبيب.
الإعلام العبري لم يتأخر في التقاط التناقض: كيف يحتفل نتنياهو في واشنطن بـ”نصر تاريخي” في إيران، بينما جنوده يُسحبون قتلى ومصابين من شوارع بيت حانون؟ هذه المفارقة لم تمرّ مرور الكرام، بل اعتُبرت في أوساط إسرائيلية يومًا أسود من أيام حكومة نتنياهو – يوم انكشفت فيه الأزمة، واتّضح أن الحديث عن نهاية الحرب لا يعني شيئًا في مواجهة الواقع الميداني على الأرض.
العملية في بيت حانون لم تُربك فقط حسابات القيادة العسكرية، بل أحرجت الحكومة الإسرائيلية بأكملها، والتي كانت تأمل أن تثبت، عبر زيارة واشنطن، أن مشروعها العسكري في غزة يؤتي ثماره، وأنَّ المهلة التي منحتها الإدارة الأمريكية لاستئناف الحرب على غزة من أجل تحقيق نصرٍ، ولو شكليًّا، قد آتت أُكلها. إلا أن هذه العملية جاءت كضربة مضادة، كسرت الصورة، ومزّقت الخطاب، وكشفت الهشاشة التي تنهش جيش الاحتلال، الذي لا تقوى آلته العسكرية إلا على المدنيين العزّل. لقد عرّى الميدان هشاشتهم، وأظهر ضعفهم وقلة حيلتهم في مواجهة أسلحة يدوية الصنع، صُنعت بأيدي رجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
وقد يكون الأهم من الخسائر البشرية والمادية، هو ما تعكسه هذه العملية من دلالات استراتيجية. فالمقاومة لا تزال تحتفظ بقدرتها على التخطيط والتنفيذ، وتختار التوقيت والمكان المناسبين، وتُباغت الجيش في أرتاله وتحركاته، وهو ما ترجمه الناطق العسكري باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، حين قال: “سندكّ هيبة جيشكم”.
ورغم القصف المتواصل والحصار الخانق، كشفت تقارير وتحليلات عسكرية أن نحو ٧٥٪ من إصابات جنود الاحتلال خلال الأسابيع الأخيرة كانت نتيجة كمائن العبوات الناسفة، وهو ما يؤكّد أن رجال المقاومة لا يزالون يملكون اليد العليا ميدانيًّا، وأنهم وحدهم القادرون على قراءة جغرافيا أرضهم، واستثمارها في قتالٍ غير تقليدي ينهك جيشًا يوصف بأنه الأقوى في الشرق الأوسط.
لقد كانت بيت حانون وما تزال نقطة نزف مفتوحة لجيش الاحتلال، ولا تزال المقاومة تمارس فيها أعلى درجات الانضباط القتالي، والتنسيق الميداني، والقدرة على المبادرة. هذا يؤكد أن ما يجري ليس مجرّد معركة دفاع، بل معركة تحطيم هيبة وردع. جاءت عملية بيت حانون لتثبت أن الميدان هو الذي يقرّر مصير السياسة، لا العكس، وأن العمل العسكري الميداني هو وحده القادر على فرض شروط المفاوضات، وتحديد خطوطها الحمراء، ورسم نهايات الحروب.
ختاما
فشل جيش الاحتلال في تحقيق أي هدف استراتيجي حقيقي: لم يسقط مشروع المقاومة، لم يُنهِ وجود حركة “حماس”، ولم يتمكّن من حماية جنوده من القنص والكمائن. بل على العكس، كل يوم يمر على جنوده في غزة، هو فرصة إضافية للمقاومة لإلحاق المزيد من الخسائر، ليس فقط المادية، بل المعنوية والنفسية العميقة.
هذه الخسائر تضرب في عمق المعنويات. كل جندي يسقط، كل دورية تنفجر، كل دبابة تُحرق، تُقطّع أوصال الثقة بين القيادة والجنود، وتزرع الهلع في صفوفهم. هذا ليس مجرّد عدد في تقرير عسكري، بل انهيار في صورة الجيش الإسرائيلي، وتحطيم متواصل لهيبته التي لطالما راكمها فوق أجساد المدنيين.
وقد يكون الإصرار على مواصلة الحرب على غزة بتوجيهات «النتن ياهو»، ضرباً من المكابرة السياسية، وهو يعلم في قرارة نفسه، أن كل خسارة يحصدها جيشه، ليست مجرد رقم في سجل العمليات، بل مسمارٌ يُدق في نعش حكومته البائسة.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
صحفية فلسطينية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6336
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5091
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3825
| 21 أكتوبر 2025