رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
جاءت ثورة السودان في سياق آخر التغييرات الدراماتيكية التي ضربت المنطقة بقوة، وضمن ما عرف بـ" الربيع العربي" الذي تحول بعد عقد من الزمان إلى صيف شديد القسوة. اليوم حال الأوضاع السياسية في بلدان الصيف العربي لا يسر صديقاً ولا عدواً؛ فوضى ضربت بأطنابها تلك البلاد وسكنت في أطرفها وجنباتها وتركتها قاحلة يبابا قاعا صفصفا.
سرقة الثورات أو وأدها أو تغيير مساراتها أمر واقع ومحتمل بل بدا حتميا في كثير من الأحايين. السرقة قد تكون داخلية كما يمكن أن تكون خارجية أو الاثنين معا كما في حالة السودان كشكل شاخص من أشكال الانتهازية السياسية.
إن كثيرا من التطوارات والاحداث قد جعلت الشكوك تحوم حول من يحركها ويستفيد منها من القوى الدولية صاحبة نظرية الفوضى الخلاقة، فقد تحولت بعض الثورات إلى حالة فوضوية دائمة، لا الثوار يبلغون أهدافهم أو يكونون على علم بها ولا الأحوال القديمة تنـزوي وتزول بل تغدو أكثر سوءا.
في السودان مكّن التحالف الهش بين الشارع والجيش من إسقاط نظام الرئيس عمر البشير في ابريل 2019، بيد أن التحول من مرحلة الانتقال المؤقتة إلى وضع دائم، ركائزه السلام والحرية والتنمية والتبادل السلمي للسلطة، أضحى معضلة وجعل المرحلة الانتقالية مرحلة أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية متفاقمة جعلت المواطنين يحنون إلى شر هو أهون من شر ماثل.
قوى سياسية محدودة العدد قليلة الخبرة تصدرت المشهد السياسي مدعومة خارجيا ومستغلة غياب القوى السياسية التقليدية التي كانت بصورة أو أخرى جزءًا من المشهد السابق الذي ذهب مع عاصفة التغيير. بينما كان في المقابل الجيش الذي استجاب لطوفان الثورة وقد ظل الجيش منذ استقلال البلاد في 1956 جزءًا من الفعل السياسي، ولم تكن هذه المرة الأولى التي يُدعى فيها لاستلام السلطة بطلب من الشارع، فقد سبق لأحزاب سياسية وفي اطار الكيد لبعضها البعض أن سلمت السلطة التي كانت بيدها طواعية للجيش.
الإشكالية الماثلة اليوم أن تظاهرات أحزاب القِلة المدعومة خارجيا، ظلت تدعو الجيش لتسليم السلطة للمدنيين سواء كان ذلك ما قبل استقالة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الأسبوع الماضي أو ما بعدها. ولعل المقصود بالمدنيين هنا تلك الأحزاب التي اختطفت الثورة وجيّرتها لحسابها، ولم تستطع أن تحكم برشد عندما تسلمت السلطة التنفيذية مع تعيين حمدوك رئيسا للوزراء بل أضحت وبالا عليه وأقعدته فلم تسعفه خبرته السياسية المتواضعة لخوض الغمار ووقف أحزاب القلة عند حدها.
الجيش بكل تأكيد كيان وطني مستقل وليس واقعا تحت إمرة المدنيين ومستجيبا لأهوائهم وأطماعهم وخضوع بعض للخارج المتربص، ليستدعوه متى ما شاؤوا ويركلوه متى ما شاؤوا. فالجيش له مسؤولية محددة كان يجب أن يتعاون معه فيها المدنيون وهي الاعداد للانتخابات ومن ثمّ تسليم السلطة كاملة للمنتخبين لا أن تسلم اليوم اعتباطا لأحزاب معدومة الوزن منبتة الأصل، الأمر الذي يدخل البلاد في صراعات دموية إذ لن تستكين القوى السياسية الأخرى صاحبة الوزن الشعبي فسرعان ما تستفيق من حالة الصدمة إثر التغيير الدراماتيكي الذي أطاح بحكم البشير.
ولعل من أراد تفكيك البلاد يدرك أن ذلك لا يتم إلا بضرب الجيش وتشويه صورته، وأحزاب القلة المختطفة تضع الجيش أمام خيارين عبر هذه التظاهرات؛ فإما يسلمها السلطة أو أن تشعل ضده خطاب كراهية وتحقير. والجيش السوداني ليس الجنرال عبد الفتاح ورفاقه الذين يمثلون قيادته الظرفية، الذين عليهم أن يكونوا على مستوى تحدي المرحلة والعبور بمؤسسة الجيش والبلاد إلى بر الأمان. خارجيا وبتزامن مقصود مع الخاطفين بالداخل حذرت دول الترويكا التي تضم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إضافة إلى بريطانيا والنرويج، قادة الجيش السوداني من مغبة تعيين أحادي الجانب لرئيس وزراء جديد بعد استقالة حمدوك، بمعنى الرجوع لذات القوى المُختطفة ومن ثم إعادة انتاج الأزمة. في ذات الوقت لا تخاطب هذه الدول المفاخرة بأنظمتها الديمقراطية أحزاب الداخل وتحثهم على التحضير للانتخابات باعتبارها سبيلا وحيدا وديمقراطيا للحكم. كما لم تدع يوما إلى ضرورة التظاهر السلمي وعدم تخريب الممتلكات العامة والتعدي على حرية الحركة وإغلاق الشوارع.
وفيما يدعو الجيش للانتخابات صراحة وقد حدد لها تاريخا بالفعل، تعتبره الترويكا معوقا للعملية الديمقراطية ووجهت له تهديدا مبطنا وقالت في بيانها: "في غياب تقدّم، سننظر في تسريع الجهود لمحاسبة أولئك الذين يعرقلون العملية الديمقراطية". المدهش أن كبير الجمهوريين في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ السيناتور الأمريكي جيم ريش، دعا الأسبوع الماضي في بيان له المجلس العسكري في السودان الى تسليم السلطة الى "الزعماء المدنيين المنتخبين"؟!. ومعلوم أنه لم تعقد انتخابات بعد حتى تسلم السلطة إلى زعماء مدنيين منتخبين؟!.
إن البحث في العوامل والخلفيات التي استهدفت دولا عربية دون غيرها في النسق الإقليمي والدولي، نجدها دولا مهمة في نظر القوى الكبرى، التي بدت عازمة على تفكيك بنيتها السياسية والإخلال بوظيفة دولها في استتباب أمنها، والنيل من مؤسساتها الأمنية لا سيما جيوشها. ولعل هدف تقويض الدولة بمؤسساتها ينفُذ من خلال تشجيع ما يسمونه بالإرادة الشعبية، وهو حق يراد به باطل. وتحرك هذه "الارادة لشعبية" بوقود قيم خارجية معنية بالمشروع التفكيكي والتفتيتي، عبر تعبئة مزيفة للجماهير وتحويرات فيروسية للرأي العام تعادي في الحقيقة الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي.
"الإرادة الشعبية" المفترى عليها ليست اليوم سوى رد فعل مضاد، شكلتها استزراعات المختبرات الخارجية، التي صاغت شعارات حتمية التغيير باستخدام خيار "الثورة". كل ذلك يبدو تعبيرا عن حالة مأزومة في الدول المستهدفة استثمرتها الأجندات الخارجية، عوضا عن أن تحتويها الأنظمة الوطنية المستبدة وتعدل من سلوكها وتراجع سياساتها وأخطاءها التي استقرت في العقل الجمعي الشعبي.
yasir_mahgoub@
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6312
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3801
| 21 أكتوبر 2025