رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

خولة البوعينين


[email protected]
@Khawlalbu3inain

مساحة إعلانية

مقالات

270

خولة البوعينين

السلام الأصيل

05 أغسطس 2025 , 12:44ص

من الجليل أن يُحتفى بالهدوء كقيمة مُثمنة، وقيمة مضافة لا أن يُدرك كغيابٍ عن الدنيا، وجميلٌ أن تُكرّم اللحظات الساكنة كرجوع للداخل، وغوص إلى أعمق ما في الحياة، لا كانعزال عنها. ذلك لأن الصمت بات خياراً راقياً في زمنٍ تتزاحم فيه الأصوات والمطالب، وصارت الطمأنينة مساحة يُعاد فيها ترتيب الداخل بهدوء صامت ويُصغى للسكينة كأنها لحنٌ عتيق يُربّت على القلب، ويعلّمه كيف يسكن دون أن يخبو، و كيف يهدأ دون تلاشٍ أو زوال ! 

ولعله من المفارقات أن يدرك المرء أن السكينة ليست احتمالاً قد يحل بالمصادفة، أو هبة تتنزل على القلب دون مقدمات، بل إنها انتقاء مقصود، تُختار كما يُختار نسق الحياة، وتُقدّر كما يُقدّر الفنّ. 

فالنفس حين تَصفو يتبين لها ملاحظة ما كان غائبًا في زحمة الانتباه: نقاء نور الصباح، تماوج غيم الرباب، خفّة رقصات النسمات، دقة صوت المياه، ورقة جناحات الفراش.. يصبح الحُسن باختصار مرئيًا، ليس لأنه طارئ فجأة، فهو موجود حتى وإن لم تدركه الحواس، ولكن لأنه أصبح في مرمى مزاجٍ رائق، تعلّم كيف يلحظه دون أن يُغيّب عنه بضمان حضوره، فيراه ويُثمنّه.

ومن هنا تكمن بدايات المحبة، حيث تنشأ علاقة جديدة مع اللحظة، ليس الوقت فيها هدف للملاحقة، وإنما فرصة سانحة للمرافقة، و ليس الزمن فيها غاية للمطاردة، بل لحظة مواتية للمصاحبة، فيُصبح الوقت ممدودًا في فنجان قهوة، أو في طرف حديثٍ هامس، وربما في خلوةٍ تُضاء بشمعة، وتأملات للمرء مع ذاته وما حوله بصمتٍ متفكر لا يداني صوته أحد !

فالأرواح الرائقة، تتآلف مع نفوسٍ باذخة، كريمة أصيلة، 

 لا تركض خلف المتع، ولا تتسابق نحو اللذات، بل تخلقها من التفاصيل الصغيرة، وتعرف كيف تُقيم شعائر الامتنان في أبسط المشاهد.

وهذا المزاج، بهذا النسق، لا يزدهر إلا حين يُقدّر اللطف، ويُثمن الرفق، وحين تُنطق الكلمات وكأنها تختال بدلالٍ على أطراف الأسماع، فيُصبح الحضور هادئًا ساكناً دون أن يبهت، عميقًا دون أن يُثقِل، فاللطف في هذا السياق ليس ضعفاً ولا وهناً بقدر ما يُحال إلى لغة راقية تتقنها الأرواح التي عرفت خشوع الصمت، وجمال التأنّي، وسحر الاختصار.

ويُصبح الرقي حينئذٍ نمط حياة، وأسلوب عيش، ومنظار وعي، لا مجرد زينة تُضاف ! يمتد من طريقة الجلوس، إلى شكل الابتسامة، إلى اختيار الأنغام، إلى انتقاء اللحظة واللفتة، فالرقي مقيم لا يغادر تفاصيل من يُجيدون رؤيته، لأنه ببساطة أصبح جزءاً أصيلاً من معدنهم.

وفي خضم هذا الاتساق، يُدرك المرء أن علاقته بذاته تُعاد صياغتها من جديد، فتصبح خلوته عودة لنفسه لا هروباً منها، ويُعاد فيها ترتيب الشعور على أرفف الفؤاد لتُملأ حُجراته بما يليق به دون تضخيمٍ أو استهانة، وتُلمّلم الفوضى بصمت، حتى يُعاد تعريف كل شيء لذاته وكأنها طفل أبصر النور للتوّ ! 

حينها تُزهر الروح فتتنعم بالدلال الهادئ، وبالدفء الحاضن، لا بالاهتمام ساطع، والرعاية المتكلفة، تُدلل ربما بكلمةٍ تُقال من القلب، أو بلحظة يُشير فيها البنان إلى شيء لم يلحظه أحد، في تلك الرعاية الخفيفة، وفي ذلك الانتباه البسيط، تُوقن الأرواح الرائقة أنها فعلاً بخير، وفي كنف نورٍ يتلقفها بالعناية والرعاية، وهذا كنز غالٍ لمن أدرك قيمته. 

لحظة إدراك: 

لعل من ألطفِ اللطف، أن يستيقن المرء بأن ذاك النسق من المزاج ليس مُقنَّعًا ولا زائفًا، بل هو طبعٌ أصيل فيمن اختار السلام الداخلي زينة، وآمن أن البهاء الحقيقي يبدأ حين تُحبّ النفس سكونها، وتثمّن لحظات وصلها. فيغدو خفّ الروح، ينساب أثره على ما حوله، كأنه يُشرق بضوئه الساكن، فيجعل كل ما يلامسه أكثر إشراقًا، وأتمّ نورًا.

مساحة إعلانية