رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

فاطمة بنت يوسف الغزال

  [email protected]

مساحة إعلانية

مقالات

489

فاطمة بنت يوسف الغزال

الخبز المحروق

03 سبتمبر 2025 , 01:08ص

في زمن تتكاثر فيه الضغوط وتزداد فيه حدة التوتر في البيوت والعمل، نحتاج جميعاً إلى جرعة من التسامح والتغافل عن الهفوات الصغيرة، ومن أروع ما يمكن أن يُعلِّمنا هذا المعنى قصة إنسانية بسيطة، لكنها عميقة الأثر، وهي قصة الخبز المحروق.

تقول القصة: بعد ﻳﻮﻡ ﻃﻮﻳﻞ ﻭﺷﺎﻕ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻭﺿﻌﺖ ﺃﻣﻲ ﺍﻟﻄﻌﺎﻡ ﺃﻣﺎﻡ ﺃﺑﻲ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻄﺎﻭﻟﺔ ﻭﻛﺎﻥ ﻣﻌﻪ ﺧﺒﺰ ﻣﺤﻤﺺ، ﻟﻜﻦ ﺍﻟﺨﺒﺰ ﻛﺎﻥ ﻣﺤﺮﻭﻗﺎً ﺗﻤﺎﻣﺎً.. ﻓﻤﺪ ﺃﺑﻲ ﻳﺪﻩ ﺇﻟﻰ ﻗﻄﻌﺔ ﺍﻟﺨﺒﺰ ﻭﺍﺑﺘﺴﻢ ﻟﻮﺍﻟﺪﺗﻲ ﻭﺳﺄﻟﻨﻲ ﻛﻴﻒ ﻛﺎﻥ ﻳﻮﻣﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﻪ؟ ﻻ ﺃﺗﺬﻛﺮ ﺑﻤﺎﺫﺍ ﺃﺟﺒﺘﻪ ﻟﻜﻨﻨﻲ ﺃﺗﺬﻛﺮ ﺃﻧﻲ ﺭﺃﻳﺘﻪ ﻳﺪﻫﻦ ﻗﻄﻌﺔ ﺍﻟﺨﺒﺰ ﺑﺎﻟﺰﺑﺪﺓ ﻭﺍﻟﻤﺮﺑﻰ ﻭﻳﺄﻛﻠﻬﺎ ﻛﻠﻬﺎ، ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻬﻀﺖ ﻋﻦ ﻃﺎﻭﻟﺔ ﺍﻟﻄﻌﺎﻡ ﺳﻤﻌﺖ ﺃﻣﻲ ﺗﻌﺘﺬﺭ ﻷﺑﻲ ﻋﻦ ﺣﺮﻗﻬﺎ ﻟﻠﺨﺒﺰ ﻭﻫﻲ ﺗﺤﻤﺼﻪ، ﻭﻟﻦ ﺃﻧﺴﻰ ﺭﺩ ﺃﺑﻲ ﻋﻠﻰ ﺍﻋﺘﺬﺍﺭ ﺃﻣﻲ، ﺣﺒﻴﺒﺘﻲ: ﻻ ﺗﻜﺘﺮﺛﻲ ﺑﺬﻟﻚ، ﺃﻧﺎ ﺃﺣﺐ ﺃﺣﻴﺎﻧﺎ ﺃﻥ ﺁﻛﻞ ﺍﻟﺨﺒﺰ ﻣﺤﻤﺼﺎ ﺯﻳﺎﺩﺓ ﻋﻦ ﺍﻟﻠﺰﻭﻡ، ﻭﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﻪ ﻃﻌﻢ ﺍﻻﺣﺘﺮﺍﻕ، ﻭﻓﻲ ﻭﻗﺖ ﻻﺣﻖ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻠﻴﻠﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺫﻫﺒﺖ ﻷﻗﺒﻞ ﻭﺍﻟﺪﻱ ﻗﺒﻠﺔ ‏(ﺗﺼﺒﺢ ﻋﻠﻰ ﺧﻴﺮ)، ﺳﺄﻟﺘﻪ ﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﺣﻘﺎ ﻳﺤﺐ ﺃﻥ ﻳﺘﻨﺎﻭﻝ ﺍﻟﺨﺒﺰ ﺃﺣﻴﺎﻧﺎ ﻣﺤﻤﺼﺎ ﺇﻟﻰ ﺩﺭﺟﺔ ﺍﻻﺣﺘﺮﺍﻕ؟، ﻓﻀﻤﻨﻲ ﺇﻟﻰ ﺻﺪﺭﻩ ﻭﻗﺎﻝ ﻟﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﺗﺄﻣﻞ: ﻳﺎ ﺑﻨﻲ ﺃﻣﻚ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻛﺎﻥ ﻟﺪﻳﻬﺎ ﻋﻤﻞ ﺷﺎﻕ، ﻭﻗﺪ ﺃﺻﺎﺑﻬﺎ ﺍﻟﺘﻌﺐ ﻭﺍﻹﺭﻫﺎﻕ ﻭشيء ﺁﺧﺮ، ﺃﻥ ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﺒﺰ ﺍﻟﻤﺤﻤﺺ ﺯﻳﺎﺩﺓ ﻋﻦ ﺍﻟﻠﺰﻭﻡ ﺃﻭ ﺣﺘﻰ ﻣﺤﺘﺮﻗﺔ ﻟﻦ ﺗﻀﺮ ﺣﺘﻰ ﺍﻟﻤﻮﺕ، ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻣﻠﻴﺌﺔ ﺑﺎﻷﺷﻴﺎﺀ الناقصة، ﻭﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎﻙ ﺷﺨﺺ ﻛﺎﻣﻞ ﻻ ﻋﻴﺐ ﻓﻴﻪ، ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺃﻥ ﻧﺘﻌﻠﻢ ﻛﻴﻒ ﻧﻘﺒﻞ ﺍﻟﻨﻘﺺ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﺍﻷﻣﻮﺭ، ﻭﺃﻥ ﻧﺘﻘﺒﻞ ﻋﻴﻮﺏ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ، ﻭﻫﺬﺍ ﻣﻦ ﺃﻫﻢ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﻓﻲ ﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ، ﻭﺟﻌﻠﻬﺎ ﻗﻮﻳﺔ مستديمة، ﺧﺒﺰ ﻣﺤﻤﺺ ﻣﺤﺮﻭﻕ ﻗﻠﻴﻼ ﻻ ﻳﺠﺐ ﺃﻥ ﻳﻜﺴﺮ ﻗﻠﺒﺎ ﺟﻤﻴﻼ، ﻓﻠﻴﻌﺬﺭ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﻌﻀﻬﻢ بعضا، ﻭﻟﻴﺘﻐﺎﻓﻞ ﻛﻞ ﻣﻨﺎ ﻣﺎ ﺍﺳﺘﻄﺎﻉ ﻋﻦ ﺍﻵﺧر، هذه اللحظة البسيطة علمت أبناء البيت أن العشرة لا تُبنى على تضخيم الأخطاء، وإنما على التسامح والاحتواء.

التغاضي عن الأخطاء الصغيرة ثقافة قرآنية؛ فقد قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، وهذا توجيه إلهي إلى أن الحياة لا تسير بالكمال، بل بالصبر على النقائص وغض الطرف عن الزلات، كما قال النبي ﷺ: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر» [رواه مسلم]، ومعنى الحديث أي «لا يفرك»: أي لا يبغض ولا يكره، «مؤمن مؤمنة»: أي لا ينبغي للمؤمن أن يكره زوجته، «إن كره منها خلقاً»: أي إن وجد في زوجته خصلة أو صفة لا تعجبه، «رضي منها آخر فليتذكر ما فيها من الصفات الحسنة التي ترضيه أي لا يبغضها لكثرة العيوب، فالكمال لله وحده، هذا الحديث يعلمنا التسامح والتوازن في الحكم على الآخرين، خاصة في العلاقات القريبة كعلاقة الزوج بزوجته، ويؤسس لمبدأ الرحمة والمودة في الحياة الزوجية.

الحياة ليست كاملة، ولا يوجد إنسان يخلو من العيوب، لكن قبول هذه الحقيقة هو أول خطوة في بناء أسرة متماسكة ومجتمع متآلف، النقد المستمر يضعف الروابط ويهدم القلوب، بينما الكلمة الطيبة والستر على العثرات يزرعان المحبة، وقد قال ﷺ: «ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار؟ على كل قريب هين لين سهل» [رواه الترمذي]. أي أن اللين وحسن الخلق طريق النجاة في الدنيا والآخرة.

* الخبز المحروق رسالة لكل بيت*

قطعة خبز محروقة لم تفسد عشاء الأسرة، لكنها لو استُغِلَّت في اللوم والجدال لربما كسرت قلباً وأشعلت خصاماً. فالقصة تحمل رسالة بليغة: لا تسمحوا لصغائر الأمور أن تسرق جمال العلاقات، التسامح ليس ضعفاً، بل هو قوة تُعلي قدر الإنسان عند ربه وعباده. قال تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [النور: 22].

كسرة أخيرة

في زمن تتساقط فيه الأرواح بلا إنذار، ويطوي الموت قلوباً كنا نحبها، لنتعلم أن نغفر سريعاً، ونعذر كثيراً، ونمدح أكثر مما نلوم، فالحياة قصيرة، والدنيا فانية، ولا يبقى للإنسان إلا ذكر طيب وعشرة حسنة، التربية ليست تعليماً للمناهج وحفظاً للقوانين فحسب، بل هي مهارة بناء إنسان قادر على التعايش بمرونة وصبر، ولعل من أبلغ الدروس أن نتغافل عن «خبز محروق» في حياتنا اليومية، لنحفظ قلوب أحبّتنا ونزرع في نفوس أبنائنا قيمة عظيمة، أن التسامح أساس التربية الناجحة.

فلنكن جميعاً كالأب الذي ابتسم وهو يأكل “الخبز المحروق”، ولنجعل من بيوتنا وصداقاتنا وبيئاتنا واحات تسامح ورحمة.

مساحة إعلانية