رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

دين ودنيا

4047

د. القرضاوى يتحدث عن رحلة الشيخ عبد المعز إلى قطر

03 يوليو 2015 , 12:21م
alsharq

الكتاب: "في وداع الأعلام"

المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاوي

الحلقة : السابعة عشر

إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (متفق عليه).

ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة.

إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!.

وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم... وفي حلقة اليوم نكمل الحديث عن الشيخ عبد المعز عبد الستار

الشيخ عبد المعز عبد الستار

لسان الدعوة والحركة والأمة

(ت: 1432هـ = 2011م) ( 2-2 )

رحلة الشيخ عبد المعز إلى قطر

ثم جاء الشيخ عبد المعز إلى قطر عامَ جِئت، ليعمل في التوجيه والتأليف والإشراف على مناهج العلوم الشرعية، مع العالم القطري الشهير: عبد الله بن تركي، الذي كان هو المفتش الوحيد للعلوم الشرعية، وانتهى عمله الوظيفي رئيسًا لتوجيه العلوم الشرعية، ولقي من تقدير الدولة وشيوخها ووجهائها وأمرائها وشعبها كل التقدير والإكرام.

وكانت كلمات الشيخ في خطبه ومواعظه، كأنها حبات عقد من الدر أو اللؤلؤ، تصدر من فمه كأنها زخات مطر نازل من السماء، وأحيانًا كأنها شعل تلتهب، تثير العزائم، وتحفز الهمم، وتطهر القلوب، وتحيي الأرواح إذا أصابها الجمود.

كان وجود الشيخ معنا في قطر كأنما هو ظلة نستظلُّ بها، وواحة نلجأ إليها عند وعثاء السفر، لنستريح فيها، يؤوي إليه من كان ذا حاجة، ويسأله من كان له طلب، وحتى حين وهن عظمه واشتعل رأسه شيبًا، كان لا يبخل عن إجابة من يطلبه، أو إغاثة من يستغيثه.

الإخوة الهنود ولجؤوهم إلى الشيخ:

وكم لجأ إليه إخواننا الهنود في ولاية (كيرلا) الهندية، التي يعيش فيها آلاف من المسلمين في دولة قطر، وكانت لهم مشروعات علمية وتربوية وإغاثية، كبيرة ومتوسطة وصغيرة، وكم استُقْبِلنا من أبناء كيرلا، وناصرناهم، وكان الشيخ مِن أهم مَن ناصرهم، وعاونه الشيوخ والحكام وبعض رجال المال الذين لم يستعبدهم المال، وإنما جعلوه لله تعالى، ولدينه ولخلقه، وتحقيق عبادته.

وكم كان بيت الشيخ دائمًا يلتقي بهؤلاء الضيوف، كلما جاءوا سارع الشيخ إلى استضافتهم، ودعانا ودعا عددًا من إخواننا لمشاركتهم. وكان الثريد واللحم والخضراوات هي المائدة المفضلة لدى الشيخ وزوَّاره.

اجتماعنا كل عيد في منزل الشيخ:

وكنا في العيد كثيرًا ما نصلي في المصلى الذي بجوار بيته، ثم نخرج من صلاة العيد ووجهتنا منزل الشيخ، وقد أعدوا لنا: وجبة الإفطار في العيد: التمر والجبن والبيض والحلاوة والفول المدمس، وكل ما لذ وطاب، حتى إذا أكل منا من أكل، وشرب منا من شرب، ذهبنا لندرك السلام على أمير البلاد في قطر.

وكان وجودنا في قطر معا منذ سنة 1381هـ الموافق 1961م، حيث جئنا من القاهرة في طائرة واحدة، إلى وزارة معارف قطر، الشيخ عبد المعز جاء ليعمل مساعدًا للشيخ عبد الله بن تركي المفتش الوحيد للعلوم الشرعية في قطر، وأنا جئْت لأُعيَّن مديرًا للمعهد الديني الثانوي الذي ابتدأ منذ سنة بصفين كانا فيه قديمًا، ويحتاج إلى صف جديد، وكنت أشكو من عدم وجود طلاب يرغبون في المعهد الديني.

تعاون بيني وبين الشيخ طوال مدة الإقامة في قطر:

كان العمل في قطر فرصة للتعارف والتعاون أكثر بيني وبين الشيخ عبد المعز، وبيننا وبين الإخوة مدرسي العلوم الشرعية، وكلهم من الأزهر، وكان الشيخ ابن تركي يفخر أنه أوَّل من أدخل الأزهريين إلى قطر.

وكانت علاقتنا جيدة برجال العلم الشرعي في قطر، مثل الشيخ ابن تركي، والشيخ عبد الله الأنصاري، والقاضي الشرعي الوحيد في البلد، وهو العلامة الشيخ عبد الله بن زيد ال محمود، وبعض المشايخ الذين لم تكن لهم مناصب، وبعضهم أصلًا من الإمارات المجاورة، مثل الشيخ مبارك بن سيف الناخي والشيخ ابن غُبَاش.

وبعد فترة وجيزة، انضم قاضٍ جديد مع ابن محمود، وهو الشيخ أحمد بن حجر البنعلي، وقوي اتصالنا به، وما زال القضاء يتوسع ويتوسع حتى أصبح له عدة محاكم، وعدد من القضاة، وصار هناك القضاء الابتدائي والاستئناف والتمييز، وأصبح ابن محمود هو الرئيس لهؤلاء القضاة جميعًا.

العلاقة بالشيخ قاسم بن حمد وزير المعارف:

وكذلك تطور التعليم ووزارة المعارف، التي كان وزيرها معالي الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني، شقيق ولي العهد وقتها، وهي أكبر الوزارات وأعلاها وأقدرها في البلاد، وقد وطَّدنا علاقتنا بشيوخ البلاد الحاكمين، وكنا نتحرك معًا: الشيخ عبد المعز، وأنا معه، ومعي أخي وزميلي أحمد العسال، وبعض المشايخ أحيانًا، مثل الشيخ عبد الرحمن المراغي، والشيخ عليوة مصطفى، والشيخ عبد اللطيف زايد، والشيخ علي جمَّاز.

العلاقة بالشيخ أحمد بن علي حاكم قطر:

وقد سبقنا إلى الدوحة الشيخ عبد البديع صقر، الذي كان أول مدير للمعارف، ثم حدث تغيير، بعد أن أصبح سمو الشيخ أحمد بن علي بن عبد الله آل ثاني حاكم البلاد، حين تنازل أبوه عن الإمارة، وأصبح الشيخ عبد البديع من جلساء الأمير والمقرَّبِين إليه، وأصبح مديرًا لمكتبات الحاكم، وكان أمينُها أخانا الشيخ محمد مصطفى الأعظمي، عالم الحديث الهندي المعروف.

ودعانا الحاكم إلى العشاء معه مرة، فرحَّبْنا، وحضرنا نحن والمشايخ المعروفون، وتحدثنا حديثًا حول الربا والفوائد والبنوك، وتحدث سمو الشيخ الحاكم عن الربا، وعن تشدد بعض العلماء فيه، واضطررت أن أرد عليه، وأبين له أن تحريم الربا أمر قطعي، وأن الفوائد هي الربا، وأن الله تعالى لا يحرم على الناس إلا ما يضرهم، وأن الواجب على المسلمين: أن يحرموا ما حرم الله ورسله، وانتقدت الأوضاع السائدة، وقد ظنَّ الجميع أني أغضبت الحاكم وجماعته، وانتقدوني في ذلك، ولكنه بعد ذلك أبدى لهم سروره وإعجابه بما قلت، وانبساطه مني، والحمد لله.

ودعانا الشيخ قاسم بن حمد وزير المعارف إلى عشاء عنده في الزُّبارة، ولبينا الدعوة وتوثقت الصلات.

وكان لنا كل سنة لقاء بالطلاب والطالبات في حفظ القرآن، وللطلاب في المدارس في أجزاء معينة، وفي القرآن كله، من أبناء قطر، من قَطَريِّين وغير قطريين، وكان هؤلاء كلهم من الباكستانيين والهنود والبنغاليين والأفغانيين وأمثال هؤلاء، وما زالوا يزيدون كل سنة عما قبلها.

الشيخ خطيب المؤتمر السنوي لحُفَّاظ القرآن:

وكان الشيخ عبد المعز هو الذي يُلقي كلمة الاحتفال السنوي بالناجحين، وتوزيع المكافآت عليهم، وكانت كلمته كالعهد به، تحيا بها القلوب، وتستنير بها العقول، وتطمئن بها الضمائر.

تأليف كتب لوزارة المعارف في العلوم الشرعية:

وقد شكونا إلى إدارة المعارف وتفتيش العلوم الشرعية ما يشتكيه الطلاب من صعوبة الكتب المقررة عليهم، وهي كتب في غاية التعقيد، كما في كتب الفقه، الذي كان يدرس من كتاب (أخصر المختصرات) في الفقه الحنبلي، وهو في الواقع أعقد المعقَّدات!

وقلنا: لا بد من كتب جديدة، وأمر الوزير مديرَ المعارف الأستاذ كمال ناجي: أن يبدأ بالمطلوب، فشكَّل لجنة برئاسة الشيخ عبد المعز، وفي عضويتها أنا وإخواني: أحمد العسال، وعليوة مصطفى، وعبد الرحمن الجبالي.

ثم قُدِّر للشيخ أن يسافر إلى القاهرة، وأن نبقى نحن الأربعة نكمل الموضوع، وكلفتُ أنا بإدارة اللجنة، وخصوصًا أن الشيخ لم يحضر السنة المُقبلة، وقدمنا الكتب، فحازت القبول، واستمر عليها الطلب عدة سنوات.

ولما عاد الشيخ عبد المعز، استمرت اللجنة ووُسِّعت مطالبها، وخَطَّطت لتنفيذ كتب المدارس الابتدائية في سنواتها الست، والإعدادية في سنواتها الثلاث، والثانوية في سنواتها الثلاث.

وألَّفنا كتبًا خاصة للمعهد الديني، شاركت في بعضها أنا والشيخ عليوة والشيخ علي الجماز في كتب التوحيد للمرحلة الثانوية، وصنفنا كتابَيْن أنا والأخ الأستاذ سليمان السِّتَّاوي للمعهد، هما كتاب (المجتمع الإسلامي) وكتاب (الإلزام الخلقي).

هذا مع مجموعة الكتب التي امتلأت بها كل مدارس وزارة معارف قطر، التي سبقت مدارس الجيران في الخليج، بما وضعت من مبادئ، وما عزَّزت من وصايا، وما أصدرت من توجيهات وتعليمات، وكانت هناك الكتب التي انفرد الشيخ بالكتابة فيها مثل كتاب (الثالث الثانوي) في (السياسة والحكم الإسلامي)، ومثل كتاب (القدر) وما يدور حوله من بحوث في العقيدة.

حضور مهرجان ندوة العلماء بالهند:

وممَّا اشتركنا فيه مع شيخنا عبد المعز الرحلة إلى الهند، لحضور مهرجان ندوة العلماء السنوي سنة 1975م، وإن لم يبلغ المائة سنة ولكن قرب، وأراد العلامة الشيخ أبو الحسن الندوي الهندي أن يُحيِي مؤسسته الكبيرة بزيارة العلماء العرب والمسلمين من أنحاء العالم. وخصوصًا علماء العرب، مثل الشيخ أحمد عبد العزيز المبارك، رئيس قضاة الإمارات، وشيخ سورية عبد الفتاح أبو غدة.

وكان من المدعوين الشيخ عبد المعز، وأنا، وكان شيخنا الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر مدعوًّا لهذا الاحتفال، وكذلك الشيخ محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف المصرية، وعدد كبير من علماء مصر والمغرب الكبير والسودان وسورية والعراق، ومن كل بلاد العرب والمسلمين، مدعوِّين على مائدة الإمام أبي الحسن الندوي.

وقد بقينا أيامًا في ضيافة النَّدْوِيِّين، وأتيح لبعضنا أن تكون له جولات لزيارة بعض المناطق السياحية في الهند، مثل دلهي وبومباي، وذهبنا إلى (تاج محل)، هذا الأثر الإسلامي الذي خلَّد الجمال الإسلامي، فهو تحفة هندسية معمارية فنية لا نظير لها، وهو يُعَدُّ من عجائب الدنيا السبع، وقد أعده شاه جهان الإمبراطور المغولي المسلم، ليكون قبرًا لزوجته ممتاز محل التي يحبها.

ومن المهم أن نعلم أن كل المعالم السياحية التي تتباهي بها الهند وتفخر: هي معالم إسلامية، فلم نكد نجد شيئًا له قيمة يمكن أن يزار غير ما خلَّفه المسلمون.

رحلة مع الشيخ إلى تركيا:

وكان من الرحلات التي اشتركنا فيها مع شيخنا عبد المعز: رحلتنا إلى تركيا، فقد كنتُ في لبنان، وكان الشيخ عبد المعز في الدوحة، ومرَّ بسمو الشيخ خليفة بن حمد ولي العهد وقتَها، وقال له: إنه يريد أن يسافر إلى تركيا، فطلب إليه أن يكون سفره على حساب قطر، وأن يأخذني معه، لنسافر إلى كل الأماكن التي نحبُّ زيارتها في تركيا، ومرَّ الشيخ عليَّ في لبنان، بعد أن عُدت من سورية، بعد أن زرتها أنا وصهري الأستاذ سامي عبد الجواد، وأعددنا العدة للسفر، وكانت الرحلة غاية من الجمال والروعة، والشيخ عبد المعز رجل حلو المعشر، عذب الحديث، جوادٌ كريم، لا يضيق به صاحبه، بل يستمع بما عنده من حكايات وقَصَص بعضه موروث، وبعضه من الحياة، فهو محدِّث مؤنِس ومُعاشِر محبَّب.

سافرنا معا إلى إستانبول، ولي خبرة بها وبمساجدها الكبرى، ومتاحفها، ومواقعها المهمة، ليست عند الشيخ رحمه الله، فكنت كثيرًا ما أنبِّه الشيخ ومن معه إلى المواضع التي ينبغي أن يزوروها، وربما لا أكون معهم فيها؛ لأني زرتها أكثر من مرة.

وبعد أن زرنا أكثر ما يمكن أن يزار في إستانبول، وزرنا الجزر الكبرى، عن طريق الباخرة، ثم صمَّمنا أن نزور يومًا (بورصة)، وهي التي وقعت بها معركة عمورية، التي قال فيها أبو تمام:

السيف أصدق إنباء من الكتبِ في حدِّه الحد بين الجِدِّ واللعبِ

بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والرِّيَب

ذهبنا إلى مدينة بورصة، وصمَّمنا على أن نبيت في أحد فنادقها، ونذهب في الصباح لنركب (التليفريك) ونصعد الجبل من (التليفريك) حتى ننتهي إلى القمة التي يتجمع فيها الناس، ونشتري اللحم، ويوقد الفحم، ونشوي اللحوم، ونشقُّ البِطِّيخ، وتكون أكلة من الأكلات الشهية في ذلك الجو البارد، الذي تسطع فيه الشمس، وقد تغيب أحيانًا، ويقضي الناس نهارًا طيبًا، وكثيرًا ما يركبون فيها (تليفريكًا) مصغَّرًا، حول هذه المنطقة التي يفرش فيها الناس خيامهم وأغطيتهم، ويعودوا في آخر النهار إلى عرباتهم أو إلى فنادقهم.

وأذكر أننا بتنا هذه الليلة في بورصة، ثم بدأنا في الصباح نركب الباص إلى مدينة (يالُوَا) على بحر مَرْمَرة، لنعود كما جئنا إلى إستانبول.

وكان الجو غائمًا بعض الشيء، فكان الجو يمطر مطرًا خفيفًا، وأحيانًا تطلع الشمس، وأحيانًا يشتد المطر، والطريق ينزل من أعلى إلى أسفل، وحواليه مهوًى جانبي سحيق، وزاد المطر واشتدَّ، وبدأ الباص يتحرك حركة تُخيف الرُّكَّاب، وامتدت الأصوات، وارتفعت إلى السماء داعية: يا رب، يا رب، يا رب. وكاد الباص يترنَّح بمن فيه، وبدأت تقع منه بعض الأشياء التي كان يحملها الركاب من البطيخ والشمَّام والخوخ أو الدُّرَّاق أو (الشَّفْتَلِي) كما يطلق عليه، وبدأت تتساقط من السيارة، ولا يكاد أحد يهتمُّ بها، المهم هو حياة الناس، وبقاء الإنسان.

وبينما الدعوات تتصاعد، والأنفاس تتلاحق، والمخاوف تتزايد، والقلوب تخفق، والأكف ترفع إلى السماء، أن يكشف الله الضرَّ، ويزيل البأس، وينقذ الباص، وينزل السكينة، وإذا الباص يتجه إلى جهة الشِّمال ويقف، ولو حدث العكس واتجه إلى اليمين، لكانت الكارثة، ولسقط الباص في المهوى العميق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ما أقرب الموت، وما أسرعه!! وما أضعف الإنسان، وما أضيعه!! يدَّعِي القوة وهو أضعف ما يكون، ويدَّعي القدرة وهو أعجز ما يكون، ويدَّعي الغِنَى وهو أفقر ما يكون، ويدَّعي العلم، وهو أجهل ما يكون.

يا الله، لحظة واحدة كانت ستتغير أشياء كثيرة، خصوصًا نحن السائحين الغرباء، الذين تركنا جوازات سفرنا وليست معنا، فلا يوجد ما يدل علينا، وليس معنا أحد يعرف من نحن، ولا من أي البلاد جئنا، ولا إلى أي البلاد نذهب.

يا ربنا لك الحمد، كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، وأفاق الشيخ من هذه الصدمة الكبيرة مشرق الوجه، ناصع الجبين، قوي اليقين، حامدًا لله رب العالمين.

كلمات الشيخ في المناسبات:

ظللنا سنين في أرض قطر، سماحة الشيخ عبد المعز وأنا نعمل معًا، كل منا فيما هو مشغول به، ومستغرق فيه، وفي الأعياد نزور إخواننا الأزهريين في أماكنهم، ونأكل معهم الترمس والحلبة والكعك والبسكويت، ونزور الأمراء، وكبار الشيوخ، ونزور شيوخ العلم والقضاء، كالشيخ ابن محمود، والشيوخ الأنصاري، وابن حجر، وعبد القادر العماري، وعبد العزيز الخليفي، ووجهاء البلد الدرويش وعبد الغني والمانع والمناعي والخليفي والمِرِّي والهواجر والكوارة، وغيرهم.

وكنت أتمنى أن يكون للشيخ عبد المعز في كل حين جمعة يخطب فيها الناس، يسمعهم من مواعظه ما يحلو قلوبهم، وكنت في المعهد الديني أحب أن يزورنا في المعهد ويلقي إلينا بعض خُطبه، وفي رمضان حين كنتُ ألقي دروس العشاء في مسجد الشيوخ، كنت أدعو الشيخ أن يزورنا كل سنة مرة أو مرتين؛ ليُتحف الناس بتجلياته الربانية.

قلم الشيخ:

كنت أحس إحساسًا قويًّا، مستند إلى الأدلة والبراهين: أن الشيخ عبد المعز لديه القدرة على الكتابة، ولديه الثروة اللغوية من قراءاته الكثيرة، المبدوءة بالقرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والحكم المنثورة من قرون الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، وممَّا يحفظه من شعر الشعراء، وقراءة الكُتَّاب والأدب السابقين واللاحقين والمعاصرين.

وكنت حين أسمع خطبه الحماسية، أراها قطعًا أدبية جديرة أن يُعنى بها وتُدرس. وكم كنت أتمنى أن يفرِّغ الشيخ عبد المعز نفسه ساعات للكتابة كل يوم، ليكتب ما ينبغي أن يكتب، وما يُطلب منه أن يُكتب، وما تلهم به الأحداث والأيام أن يكتب.

وقد جرَّبنا ذلك منه في بعض الأحيان، حين طلبت منه أن يكتب شيئًا بمناسبة شهر رمضان، فكتب كتابًا في التربية، بيَّن فيه صلاحية الإسلام لتربية الأفراد والأمم والمجتمعات. وأحيانًا طُلب منه أن يكتب بعض مواضيع فُرضت عليه حين طلب منا أن نكتب للوزارة، وأحيانًا كتب هو أشياء، يتطلب الموقف أن يدلي برأيه، مثل كتاباته عن اليهود والصهاينة، وما يريدون لبيت المقدس.

لقد بدأ الشيخ يبحث عن ذلك من زمن بعيد، وكتب فيه أخيرًا كتابات قيمة؛ أهمها: كتابان نشرهما الشيخ فيما نشره: أولهما: (اقترب الوعد الحق يا إسرائيل). وثانيهما: (الشعب المختار في الميزان)، وقد ناقش الشيخ في الكتابين قضايا مهمة، استطاع فيهما أن يُلقم اليهود والصهاينة الحجر، وأن يسكتهم، وأن يمد المجادلين لهم بأدلة قوية من كتبهم نفسها، ومن مصادرهم ذاتها.

وقد حضرت مع الشيخ بعض مؤتمرات الأزهر التي دعا إليها شيخه في ذلك الوقت الشيخ طنطاوي، وحين عَرض الشيخ عبد المعز هذه الصفحات وهذه الأدلة، لم يجد المشايخ بُدًّا من أن يصفقوا للشيخ ويثنوا عليه.

كثيرا ما كنت أحب أن أمرَّ بالشيخ عبد المعز في بيته، زائرًا أو سائلًا، لأطمئن على صحته، وعلى ما عنده من طمأنينة أو رؤى. وكثيرًا ما كنت أجد عنده السكينة التي حُرمها كثيرٌ من الناس، وكثيرا ما كان يقول: وراء الساعات الحالكة الشديدة الظلام في آخر الليل: نور الفجر الذي يوشك أن يشرق، وينشر الأضواء في الآفاق.

وكثيرًا ما كان يخصُّني بالدعاء أن يحفظني الله تعالى ويكلؤني برعايته، ويمدني بروح من عنده، ويقول لي بكل ثقة: إنك تقوم بدلًا عني وعن كثير من أمثالي ومن هو أسبق مني من علماء المسلمين ودعاتهم، وهم لا يستطيعون أن يقدموا لدينهم شيئًا، يقوِّم من عوج المسلمين، ويصلح من فسادهم، ويقويهم من ضعف، ويعزهم من ذل، ويجمعهم من تفرق، والله إني لأدعو الله تبارك وتعالى لك في الأسحار، وفي الأوقات التي يستجاب فيها الدعاء، أن يشدَّ أزرك، ويحمي ظهرك، وييسر أمرك. ويكثر من هذا الدعاء الذي أسأل الله تعالى أن يجعلني أهلًا له، وأن يستجيبه للشيخ، وأن يزيدني إقبالًا على الخيرات التي ينشدها، وعلى الآمال التي يريد تحقيقها، وأن تبلغ الأمة أمانيها التي ترجوها، حتى يقوم عمودها، ويضيء نورها، ويستقيم أمرها.

كنت في مقدمة المشيعين للشيخ في جنازته، وقد أكرمني الله تعالى بالصلاة على جثمانه، حيث دُفن بمقبرة أبو هامور بالدوحة، وشارك في تشييعه لفيف من الدعاة والعلماء، وأبناء الفقيد، وتلاميذه، ومحبوه من أبناء قطر وسكانها، يبكون عليه، ويدعون له.

ولم يُقَدَّر لي أن أخطب الجمعة في جامع عمر بن الخطاب، الذي أخطب فيه، لمرض ألمَّ بي بعد موت الشيخ، ومنعني من الخطابة لعدة أسابيع، وكان من المقرر أن نقيم مهرجانًا خطابيًّا وشعريًّا لبيان منزلة ومكانة الفقيد وجهوده في خدمة الإسلام والمسلمين، طوال ثلاثة أرباع قرن.

رحم الله الشيخ عبد المعز، وجزاه خيرًا على ما قدم لدينه وأمته من علم وعمل، وخدمات دعوية وفكرية وخيرية، أسأل الله تعالى أن يتقبلها منه، ويجعلها خالصة لوجهه، وأن يغفر له ولإخوانه ما قد كان منهم، إن كان منهم اجتهاد لم يصب موضعه، وندعوه تعالى أن يرزقهم به أجرًا واحدًا، ولا يحرمهم من المثوبة أبدًا.

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].

اقرأ المزيد

alsharq "كيف أصبحت" يناقش أثر الإحسان على الإنسان

استضافت حلقة اليوم من برنامج كيف أصبحت، الذي يبث عبر أثير إذاعة القرآن الكريم فضيلة الشيخ د. كمال... اقرأ المزيد

5347

| 25 أبريل 2019

alsharq وزارة الأوقاف: "إسلام ويب" ينتج عروضاً مرئية بلغات متعددة

قام موقع إسلام ويب بإدارة الدعوة والإرشاد الديني بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بإنتاج أكثر من 6500 من العروض... اقرأ المزيد

4408

| 25 مارس 2019

alsharq عبدالله النعمة: القرآن الكريم يقوي الإيمان ويحصن العقيدة ويوطد الصلة بالخالق

أكد فضيلة الداعية عبدالله بن محمد النعمة أن كل مسلم مهما كان مقامُهُ وعلا شأنُهُ إلا وهو محتاجٌ... اقرأ المزيد

3034

| 01 ديسمبر 2018

مساحة إعلانية