أصدرت وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي تعميما بشأن تنظيم اليوم الدراسي خلال فترتي اختبارات منتصف الفصل الدراسي الأول ومنتصف الفصل الدراسي الثاني للعام...
رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
اعتبر سماحة الدكتور محمد كورماز رئيس الشؤون الدينية التركية الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين مظلة للعلم والعلماء في العالم الاسلامى . وقال فضيلته إن الاتحاد وجهة ومرجعية للمسلمين في كل مكان. جاء ذلك خلال زيارته لمقر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في الدوحة حيث استقبله كل من د. يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد ود. علي محي الدين القره داغي الامين العام. وقال سماحته :" نحن في العالم الاسلامى في اشد الحاجة الى علماء أكثر من الطعام والشراب لاسيما في السنوات الأخيرة، حقيقة فالعالم الاسلامى يحتاج الى مظلة للعلم والعلماء، فجاء الاتحاد تلبية لهذه الحاجة". وتابع بقوله :"تأخرت في زيارة هذه المؤسسة العظيمة،ونحن في تركيا نعد انفسنا من خدام هذه المؤسسة العلمية، مشيرا الى تأخر فتح مكتب للاتحاد في إسطنبول، واعدا بان يكون ذلك في القريب العاجل". وفي كلمته الترحيبية برئيس الهيئة التركية اشار د. القرضاوي رئيس الاتحاد الى اهمية تركيا ودورها في العالم الاسلامي ، مشيدا بدور قطر وتركيا في العمل على عودة العرب والاتراك كي تجتمع الامة مرة اخرى. وقال ان قطر تقوم بدور كبير لمصلحة الامة الاسلامية، مشيدا بدور العلماء واتحادهم في حمل رسالة الاسلام الكبرى. واختتم قائلا :"لولا قطر وتركيا لضاع العالم الاسلامي". وأشار الى دور العرب في بداية الاسلام ثم دور الاتراك ابتداء من السلاجقة الذي حفظ الله بهم بلاد المسلمين بعد غزو الصليبيين حيث كاد الاسلام أن يضيع بهجومهم لولا تصدي السلاجقة لهم، مشيرا إلى الدور الشيعي بقوله "الشيعة ساهموا في قتل المسلمين". ونوه إلى اسلام الغزاة خاصة جنكيزخان وجماعته حيث اختاروا الاسلام بارادتهم بعد غزوهم للبلدان الاسلامية. الاتحاد في تركيا من جانبه، قال الامين العام للاتحاد د. القره داغي انه يشرفنا باسم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ان نستقبل سماحة الاستاذ الدكتور محمد كورماز، والوفد المرافق له ، المكون من نائبه ومن اصحاب الفضيلة مفتى اسطنبول ومفتى ديار بكر، وكبار المسئولين فى رئاسة الشؤون الدينية. وأضاف :" نحن نعرف جهودكم الطيبة لخدمة العالم الإسلامي، كما نعرف حبكم وجهدكم لخدمة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ونحن لا نشك كما عهدنا وكما لمسنا وكما احسسنا من فخامة الرئيس حفظه الله الرئيس طيب اردوغان ومن معالى الاخ الحبيب الدكتور محمد كورماز لمسنا واحسسنا احساسا متكاملا بحبهم للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين". وتابع بقوله :"وقد نقل لي الدكتور محمد كورماز ان سعادة الرئيس قال لابد ان نعمل ليكون للاتحاد العالمي ثقله في اسطنبول وفى وتركيا ، هذا ما نعتز به وسنكون عونا لهذه الجهود المباركة العظيمة التي تقومون بها". منظمة شعبية وقال القره داغي ان الاتحاد العالمي منظمة شعبية تقوم بمعظم المجالات الدعوية ولا سيما في المواقف والمرجعيات فهذا الاتحاد برئاسة شيخنا العلامة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله الذى اسسه مع مجموعة من اخوانه هذا الاتحاد عاهد الله سبحانه وتعالى بأن يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم ولذلك رفع هذا الشعار "الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احد الا الله". ولكن هذا البيان يكون بالحكمة والموعظة الحسنة وبالجدال والحوار، بالتي هي احسن وهذا هو اتحادكم ياشيخنا، وهذا الاتحاد حقيقة من اهم اولوياته بالإضافة الى بيان الحق وبيان المواقف المطلوبة على مستوى الامة امامه مجموعه من الاهداف العظيمة.
511
| 19 نوفمبر 2016
الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة المؤلف: د. يوسف القرضاوي الحلقة الــ 22 الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته. وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ" (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(سورة الروم:21). فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه. وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معا، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم وأحفال الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات. ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: "فاظفر بذات الدين تربت يداك". "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض". وهو — إذ يُيَسِّر أسباب الحلال — يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن. وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً"، (البقرة: 19). "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، (البقرة: 228). ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً"، (النساء: 35). بطلان الزواج من البهائية الزواج من امرأة بهائية باطل، وذلك لأن البهائية إما مسلمة في الأصل، تركت دين الله الحنيف إلى هذا الدين المصطنع، فهي في هذه الحال مرتدة بيقين، وقد عرفنا حكم الزواج من المرتدة، وسواء ارتدت بنفسها أم ارتدت تبعًا لأسرتها، أو ورثت هذه الردة عن أبيها أو جدها، فإن حكم الردة لا تفارقها. وإما أن تكون غير مسلمة الأصل، بأن كانت مسيحية أو يهودية أو وثنية أو غيرها، فحكمها حكم المشركة، إذ لا يعترف الإسلام بأصل دينها وسماوية كتابها، إذ من المعلوم بالضرورة أن كل نبوة بعد محمد مرفوضة، وكل كتاب بعد القرآن باطل، وكل من زعم أنه صاحب دين جديد بعد الإسلام، فهو دجال مفترٍ على الله تعالى، فقد ختم الله النبوة، وأكمل الدين، وأتم النعمة: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران:85]. د- مطلقته ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[البقرة:229-230]. فمن طلَّق زوجته ثلاثًا لا يجوز له أن يبني بها من جديد إلا بعد أن تتزوج من آخر زواجًا شرعيًّا، ويطلقها زوجها الثاني، ويشترط في النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثًا للزوج الأول أن يكون صحيحًا ظاهرًا وباطنًا، بأن يكون مستوفيًا لشروطه وأركانه، وأن يكون المقصود منه إقامة البيت، وتحقيق أغراض الزواج في الإسلام، لا التحليل للزوج الأول، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله المحلِّل والمحلَّل له"( ). في حديث آخر أنه سماه "التيس المستعار"، فقال: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل والمحلَّل له". واشترط جمهور الفقهاء الوطء، فلا يكفي مجرد العقد الصحيح، وذلك لحديث عائشة رضي الله عنهم: أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلَّقها، فتزوجت آخر، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له أنه لا يأتيها، وأنه ليس معه إلا مثل هُدْبة الثوب، فقال: "لا حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك". ه- الجمع بين أكثر من أربع نسوة ويحرم على المسلم أن يجمع في عصمته بين أكثر من أربع نسوة، فقد كان الناس قبل الإسلام يتزوَّجون ما شاؤوا من النساء بغير قيد ولا شرط، وكان كثير من الأمم والملل يبيحون التزوج بالجم الغفير من النساء، قد يبلغ العشرات، وقد يصل إلى المائة وأكثر، دون اشتراط لشرط، ولا تقيُّد بقيد. وقد ذكر (العهد القديم) أن داود كان عنده ثلاثمائة امرأة، وأن سليمان كان عنده سبعمائة، ما بين زوجة وسُرِّية. فلما جاء الإسلام وضع لتعدد الزوجات قيدًا وشرطًا. فأما القيد: فجعل أقصى العدد أربعًا لا يُزاد عليهن بحال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}[النساء:3]. وقد أسلم غَيْلان بن سلمة وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر منهن أربعًا وفارق سائرهن". وكذلك مَن أسلم عن ثمان وعن خمس، أمره الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يمسك منهن إلا أربعًا. وأما الشرط الذي اشترطه الإسلام لتعدد الزوجات، فهو ثقة المسلم في نفسه، أن يعدل بين زوجتيه، في المأكل والمشرب والملبس، والمسكن والمبيت والنفقة، فمَن لم يثق من نفسه بالقدرة على هذه الحقوق بالعدل والسويَّة، حَرُم عليه أن يتزوج بأكثر من واحدة، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}[النساء:3]. وقال عليه الصلاة والسلام: "مَن كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجرُّ أحد شقيه ساقطًا" أو: "مائلًا". والميل الذي حذَّر منه هذا الحديث، هو الجَوْر على حقوقها، لا مجرد الميل القلبي، فإن هذا داخل في العدل الذي لا يُستطاع، والذي عفا الله عنه وسامح في شأنه، قال سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}[النساء:129]، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل فيما يقدر عليه، ويقول: "اللَّهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلُمْني فيما تملك ولا أملك". يعني بما لا يملكه أمر القلب والميل العاطفي إلى إحداهن خاصة. تحريم الزواج من الزانيات إذا لم يتبن والمراد بالزانيات هنا البغايا اللاتي يجاهرن بالزنى أو يتكسبن به، وقد ورد أن مَرْثد بن أبي مرثد استأذن النبي أن يتزوج بغيًّا كانت له بها علاقة في الجاهلية- واسمها عَناق- فأعرض النبي عنه، حتى نزل قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[النور:3]. فتـلا النبي عليه الآية وقال لـه: "لا تنكحها". ذلك أن الله تعالى، إنما أباح زواج المحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب، فقال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}[المائدة:5] والمحصنات: هن العفيفات. وكذلك أحل للرجال الزواج بشرط أن يكونوا محصنين غير مسافحين، فقال بعد ذكر المحرمات من النساء: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}[النساء:24]. فمن لم يقبل هذا الحكم من كتاب الله، ولـم يلتزمـه؛ فـهـو مشرك، لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله. ومن أقر بهذا الحكم وقبله والتزمه، ولكنه خالفه ونكح ما حرم عليه من النكاح يكون زانيًا. وهذه الآية ذكرت بعد آية الجلد في سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[النور:2]. فهذه عقوبة بدنية، وتلك عقوبة أدبية، فإن تحريم زواج الزَّاني والزانية يُشبه التجريد من شرف المواطنة، أو إسقاط الجنسية، أو الحرمان من حقوق معينة في العرف الحديث. قال ابن القيم رحمه الله بعد أن بين معنى الآية {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً..}: ((وكما أن هذا الحكم هو موجَب القرآن وصريحه، فهو موجَب الفطرة، ومقتضى العقل، فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قَرنانًا ديوثًا، زوجَ بَغِيٍّ، فإن الله فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه، ولهذا إذا بالغوا في سبِّ الرجل قالوا: زوج قَحْبَة. فحرَّم الله على المسلم أن يكون كذلك.
1586
| 26 يونيو 2016
وجه د. يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين نداء إلى فصائل المقاومة السورية في الغوطة الشرقية،بتوحيد كلمتهم ،وان يتناصروا ويتعاضدوا فيما بينهم سائلا الله تعالى أن يحقن دماءهم، ويشد أزرهم، ويقوي عزائمهم، وأن ينصرهم على الطغاة المتكبرين في الأرض. وقال فضيلته في بيان تلقت "الشرق" نسخة منه:"وقد آلمنا وأحزن كل مسلم صادق غيور ما يجري بين إخواننا من فصائل المقاومة في الغوطة الشرقية من مقتلة عظيمة، راح ضحيتها المئات من أطهر الناس وأصدق الناس، ممن باعوا زهرة الحياة الدنيا بما هو خير وأبقى عند الله تعالى. وكذلك ما حدث من أسر بعضهم لبعض، وحصار بعضهم لبعض". ودعا فضيلته جيش الإسلام وفيلق الرحمن إلى الاندماج ليزدادوا قوة إلى قوتهم، وبأسا إلى بأسهم، وصلابة إلى صلابتهم، فيكونوا قوة عصية على عدوهم، تتقدم إلى الأمام ولا تتقهقر إلى الخلف، يقاتلون عدوهم صفا واحدا. ولفت إلى قاعدة المنار الذهبية: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".
252
| 19 مايو 2016
الكتاب: "في وداع الأعلام" المؤلف: الشيخ د. يوسف القرضاوي الحلقة الـــ21 إن أخطر شيء على حياة الأمة المعنوية، أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين يلبسون لبوس العلماء، ويحملون ألقاب العلماء، وهم لا يستندون إلى علم ولا هدى ولا كتاب منير. فهم إذا أفتوا لا يفتون بعلم، وإذا قضوا لا يقضون بحق، وإذا دعوا لا يدعون على بصيرة، وهو الذي حذر منه الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" متفق عليه. ولعل هذا الشعور هو الذي دفعني في السنوات الأخيرة إلى أن أمسك بالقلم لأودع العلماء الكبار بكلمات رثاء، أبين فيها فضلهم، وأنوّه بمكانتهم، والفجيعة فيهم، حتى يترحم الناس عليهم، ويدعوا لهم، ويجتهدوا أن يهيئوا من الأجيال الصاعدة من يملأ فراغهم، وإلا كانت الكارثة. إن مما يؤسف له حقّاً أن يموت العالم الفقيه، أو العالم الداعية، أو العالم المفكر، فلا يكاد يشعر بموته أحد، على حين تهتز أجهزة الإعلام، وتمتلئ أنهار الصحف، وتهتم الإذاعات والتلفازات بموت ممثل أو ممثلة، أو مطرب أو مطربة أو لاعب كرة أو غير هؤلاء، ممن أمسوا (نجوم المجتمع)!. وأسف آخر أن العلمانيين والماركسيين وأشباههم إذا فقد واحد منهم، أثاروا ضجة بموته، وصنعوا له هالات مزورة، وتفننوا في الحديث عنه، واختراع الأمجاد له، وهكذا نراهم يزين بعضهم بعضاً، ويضخم بعضهم شأن بعض. على حين لا نرى الإسلاميين يفعلون ذلك مع أحيائهم ولا أمواتهم، وهذا ما شكا منه الأدباء والشعراء الأصلاء من قديم. في هذه الحلقة يتحدث الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي عن الشيخ العلامة البهي الخولي رجل العلم والدعوة والتربية (1317 — 1398هـ = 1901 — 1977م). في يوم 27/ 12/ 1977م ودعت مصر في هدوء: الداعية الإسلامي الكبير أستاذنا البهي الخولي رحمه الله وغفر له. كان الأستاذ البهي الخولي زميلا للإمام حسن البنا في دار العلوم، وكان معجبا به كل الإعجاب، فلما قام البنا بدعوته كان البهي من المسارعين للإجابة. وقد تعرفت إلى الأستاذ البهي في المعهد الديني الابتدائي بطنطا، حيث كان مدرسًا للمحفوظات، التي كان المدرسون يحولونها إلى حصة للراحة والقراءة الحرة، ولكن الشيخ حوّل حصتها إلى ثقافة ودعوة، وكان — أيضًا — مدرسًا لمادة الجغرافيا التي كان يتقن رسم خرائطها، وأنا لا أتقنه. وتوثقت صلتي به وأنا في المرحلة الثانوية، فاتصلت به عن قرب، واستفدت من حلقاته ومجالسه، والتقطت من لآلئه وجواهره. ولقد فكر الأستاذ البهي أن يصطفي نخبة من خيرة شباب الإخوان، يدنيهم منه، ويربيهم في مدرسته، ويلقنهم فكره وذوقه، ويأخذهم بعزائم السلوك، فقد أكد رجال التربية الروحية حاجة المريد إلى شيخ يأخذ عنه، ويقتبس من نوره، وأن صحبة الشيخ لا يغني عنها قراءة الكتب، حتى قال بعضهم: من لا شيخ له، فشيخه الشيطان. وقد اختار الشيخ لهذه المجموعة اسم (كتيبة الذبيح). ويراد بالذبيح: سيدنا إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، والذي رفع قواعد البيت مع أبيه إبراهيم الخليل، وقد ذكر لنا القرآن الكريم في سورة الصافات قصته مع أبيه بعد أن بلغ معه السعي، وأضحى يَرْتجِي منه ما يُرتجَى من الشباب في معاونة أبيه. فجاء الامتحان الإلهي البليغ للأب، الذي بلغ به اليقين أن ضحَّى بولده، وفلذة كبده، امتثالًا لإشارة الوحي من ربه، وللابن الذي بلغ به اليقين أن قدَّم عنقه، طاعة لأمر ربه، ولم يتلكأ أو يتردد، بل كان كما قال القرآن (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) الصافات: 102. يقول الشيخ البهي، وهو يشرح لنا القصة في أول جلسة: انظر إلى الابن كيف قال لأبيه، وقد عرض عليه ذبحه: (يا أبت افعل ما تؤمر) ولم يقل: افعل (بي) ما تؤمر، فكأنما غاب عن نفسه، وفني عن ذاته، وقال لأبيه: نفذ ما عندك من أوامر الله، ولن تجد مني إلا الطاعة والصبر على أمر الله. ولم يفعل ذلك ادعاء للشجاعة والبطولة، بل وكَّل الأمر إلى الله يسدِّدُه ويشُدُّ أزره، حين قال: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين). اختار الأستاذ البهي أكثر هذه النخبة من طلاب المعهد الديني، وأقلهم من طلاب المدرسة الثانوية، وأذكر من هذه النخبة: الإخوة: أحمد العسال، ومحمد الصفطاوي، ومحمد الدمرداش مراد، وعبد العظيم الديب، وعبد الوهاب البتانوني، ومحمد وعبد الفتاح الحشاش، من أبناء الأزهر، وعبد المنعم عثمان، وسعيد شنا، وكمال العريان من الثانوية، وآخرين لا أذكرهم الآن. كان موعد اللقاء قبيل فجر الاثنين — على ما أذكر — من كل أسبوع، وفي بيت الأستاذ، نصلي معه الفجر، ثم نجلس في حلقتنا الروحية، التي يحلق بنا فيها إلى أجواء ربانية عالية، فنحس بأننا نشف ونصفو حتى نكاد نطير بلا أجنحة. وظل تتلمذي على الأستاذ البهي ممتدًا إلى فترة الجامعة وما بعد الجامعة، فكثيرا ما كنت أزوره في بيته بالمطرية، قبل أن ينتقل إلى شارع قصر العيني. الكتابة في مفهوم الدعوة وكان الأستاذ البهي ممن تنبهوا مبكرًا للكتابة في مفهوم الدعوة وغاياتها وأساليبها، وما يجب أن يكون عليه الداعية، فكتب كتابه الأول الذي لم يسبق أحد إلى مثله في التأصيل والتفصيل والتدليل. مع عمق الفكرة ووضوحها. كتبه بأسلوب أدبي رائع. ذلكم هو كتابه الشهير (تذكرة الدعاة). الذي كتب له الإمام الشهيد مقدمة موجزة مركزة، قال فيها: (الله أكبر والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، أفضل الداعين إليه على بصيرة، والمجاهدين فيه بإحسان، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين. وبعد: فقد طالعت هذه التوجيهات، بل المحاضرات في أساليب الدعوة وتكوين الدعاة، فأعجبت بها وهششت لها، وشممت فيها بوارق الإخلاص والتوفيق، إن شاء الله، ودعوت الله تبارك وتعالى أن يجعلها نافعة لعباده، موجهة لقلوب الناطقين بكلمته والهاتفين بدعوته. وليس ذلك غريبا على كاتبها وملقيها الأخ الداعية المجاهد الأستاذ البهي الخولي، فهو بحمد الله صافي الذهن، دقيق الفهم، مشرق النفس، قوي الإيمان، عميق اليقين، أحسن الله مثوبته، وأجزل مكافأته، وبوأنا وإياه منازل مَن أحب من عباده، فرضي عنهم ورضوا عنه، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون. آمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا). وهو الكتاب الوحيد — بعد رسائل الإمام الشهيد — الذي تفرد في تلك الفترة بأن يكتب عليه: من رسائل الإخوان المسلمين. أي إن قيادة الحركة تبنته ضمن مناهجها المعتمدة. وكان الأستاذ البهي وثيق الصلة بالقرآن الكريم، له فيه تأملاته وتأويلاته الخاصة، وتفسيراته العميقة، بعضها ضمنه بعض كتبه المنشورة، وبعضها لعله لا يزال في أوراق منثورة في أضابيره، وكان مما أصدره من ذلك: كتابه (آدم عليه السلام). وكان له اهتمام قديم بالجانب الاقتصادي في الإسلام، ونظرة الإسلام المتوازنة إليه، وقد تمثل ذلك في عدة كتب: (الثروة في ظل الإسلام)، و(الإسلام لا شيوعية ولا رأسمالية: العمل والعمال). و(الاشتراكية بين النظرية والتطبيق). وكان له نظرات في الفقه وفي الاقتصاد، تنبئ عن فهم متميز، وأصالة في النظر، وعن شخصية مستقلة لها رؤيتها واجتهادها. وكان له اهتمام بالجانب الرباني أو الجانب الروحي — أو ما سماه في تذكرة الدعاة (الروحانية الاجتماعية) — وله في هذا باع أي باع. وأذكر أنني كنت في الجلسة التي نجلسها معه كنت — على فطرتي وطريقتي — أناقش وأسأل في كل ما لا يقتنع به عقلي، أو يطمئن إليه قلبي، فطرة فطرني الله عليها، وأعتقد أنها نعمة من الله عليّ، بجوار نعمه التي لا تعد ولا تحصى. وقد ظن الشيخ البهي رحمه الله أن لي موقفا مضادا من التصوف وأهله، ثم فوجئ بكتابيّ: (العبادة في الإسلام) و(الإيمان والحياة)، فوجد فيهما نزعة ربانية أصيلة، وقال لي بعد أن أهديتهما له: كيف خبَّأت عنا هذه الروحانية العميقة بمناقشاتك القديمة، التي جعلتنا نفهمك على غير حقيقتك؟ قلت له: يا فضيلة الأستاذ، المناقشة جزء من كياني، وربما يضيق بها الصوفية الذين يقولون: من قال لشيخه: لِم؟ لم يفلح. ويقولون: المريد بين يد الشيخ كالميت بين يد الغاسل. ولكني تلميذك الأمين فيما قررته في كتابك الفريد (تذكرة الدعاة) عن (الروحانية الاجتماعية)، فأنا مع (الربانية) ولست مع (الرهبانية) كما قال الشيخ أبو الحسن الندوي. ومن أجل اهتمامه بهذا الجانب اهتم بسير الصالحين، وكان يحرر في مجلة (المسلمون) — التي أصدرها تلميذه د. سعيد رمضان — باب (مع العارفين). كتب فيه عن (الإمام الممتحن أحمد بن حنبل). كتابة متميزة، وكتب عن (عتبة الغلام)، وعن بعض الشخصيات الأخرى من السلف، ثم توقف واستمر الباب. ولم يكتب اسمه تحت هذا الباب، وقد نُشِر بعض ما كتبه ولم يُنْسَب إليه. أكسب هذا الجانب الشيخ البهي حدسا صادقًا وفراسة قوية، فكان يقول عن أخينا عبد الوهاب البتانوني: كلما رأيت عبد الوهاب لحظت دم الشهادة يترقرق في وجهه. وكان يقول عنه: سيدي عبد الوهاب البتانوني. وقدر الله لعبد الوهاب أن يُرْزَق الشهادة على أرض فلسطين مع اثنين من إخوانه، طاردهم اليهود حتى لجأوا إلى مصنع للسلاح، للاختباء فيه، ويظهر أنهم رأوا أنهم مقتولون لا محالة، وأن أفضل طريقة: أن يفجروا المصنع على من فيه وما فيه، وإن ضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك. وقد أشار إلى ذلك الأستاذ كامل الشريف في كتابه (الإخوان المسلمون في حرب فلسطين)، وقد كان أحد القادة في هذه الحرب. كما فصل ذلك الأخ يحيى عبد الحليم فيما كتبه عن (معركة عصلوج). وتحقق ما قاله الشيخ البهي: كلما رأيت عبد الوهاب، رأيت دم الشهادة يترقرق في وجهه. رحمه الله ورضي عنه، وجعله شفيعا لأهله ولنا معهم. وهكذا كان منهج شيخنا البهي في الدعوة: منهجا متوازنًا، يقوم على القرآن، ولكنه لا يغفل السنة، ويعنى بالجانب الروحي أو الإيماني، ولكنه لا يسرف فيه حتى يصير رهبانية، بل يريدها كما قال الشيخ الندوي: ربانية لا رهبانية. ولا غرو أن انعقدت بينه وبين أبي الحسن الندوي مودة عميقة. ولم يكتف بالعمل العام في الدعوة، حتى كان رئيسًا للمكتب الإداري للإخوان في مديرية (محافظة) الغربية، قبل أن ينقل إلى القاهرة، بل ضمَّ إلى ذلك العمل في (النظام الخاص) — أو ما سموه بعد ذلك (الجهاز السري) — للإخوان، فكان هو المسؤول عن هذا النظام في الغربية: يبايعه من يبايع من أفراد الجماعة — الذين يقبلون الانضمام إلى هذا النظام — على المصحف والمسدس، كما ذكر في التحقيقات بعد ذلك. وإن كانت المحكمة قد حكمت له بالبراءة. ولقد كنا تلاميذه المقربين في طنطا: أنا والعسال والدمرداش والصفطاوي والديب والحشاش وعبد المنعم البدراوي، وغيرهم، ولكنه لم يعرض علينا يومًا الالتحاق بهذا النظام، وكأنه اكتفى بـ(كتيبة الذبيح)، التي نتربى فيها على البذل والتضحية في سبيل الله، ولو قدم المؤمن رقبته طاعة لله، كما فعل الذبيح إسماعيل عليه السلام، حين قال له أبوه (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) الصافات:102. وحين حلت حكومة النقراشي جماعة الإخوان، بدعاوى لا تبلغ أن تكون سببًا لضرب هذه الجماعة وتمزيقها، والحكم عليها بالإعدام. وقد رد الأستاذ البنا بنفسه على دعاوى الحكومة، كما أشرنا إلى ذلك في الجزء الأول من مذكراتنا (ابن القرية والكتاب). وقد تبين أن هذا كان استجابة لطلبات سفراء إنجلترا وأمريكا وفرنسا، الذين اجتمعوا في (فايد) بمنطقة القناة، وقد تسبب هذا في اعتقال أعداد كبيرة من الإخوان تجمعوا في النهاية في معتقل الطور. وامتثالًا للأمر النبوي "إن كنتم ثلاثة في سفر فأمِّروا أحدكم"، واتباعا لمنهج السلف الذين كانوا في أسفارهم يختارون واحدًا منهم أميرا لهم، ويقولون: "هو أميرنا، أمّره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم". اختار الإخوان أميرًا لهم في المعتقل، هو أستاذنا (البهي الخولي) أكبر الدعاة الموجودين في المعتقل، ورفيق الأستاذ البنا، وصاحب (تذكرة الدعاة)، ولكن لم يطُل المقام بالأستاذ البهي، فاستُدعي إلى القاهرة للتحقيق معه في قضية تتعلق بالنظام الخاص، كما استُدعي الأستاذ عمر التلمساني المحامي الشهير إلى القاهرة أيضا، فاختار الإخوان أميرا آخر اجتمعت كلمتهم عليه هو الشيخ محمد الغزالي، الذي كان في بداية السنة الثانية والثلاثين من عمره، وكان يتوقد ذكاء وفتوة وغيرة وعزيمة. موضع ثقة وفي عهد المرشد الثاني الأستاذ حسن الهضيبي، كان موضع ثقته من الناحية العلمية، وكلفه كتابة كتاب عن (المرأة). يبين فيه حقوقها وواجباتها، في ضوء الشريعة الإسلامية، ونهض بذلك، وكتب كتابه الموفق (المرأة بين البيت والمجتمع). الذي عكس نظرة وسطية بين الغلاة والمفرطين في قضية المرأة، ثم طوَّره بعد ذلك إلى كتاب (الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة). وظلت العلاقات بينه وبين الأستاذ الهضيبي طيبة، حتى قامت ثورة يوليو، وكان التعاون بينها وبين الإخوان ملحوظًا، ثم حدث الخلاف، ودخل الباقوري الوزارة مع الثورة، على خلاف رأي الإخوان، فطلبوا إليه أن يستقيل من الجماعة، فاستقال، ليتحمل هو مسؤولية اختياره، واختار فريقًا من الإخوان للعمل معه، كان منهم الأستاذ البهي الخولي، والشيخ الغزالي، والشيخ سيد سابق. رحمهم الله جميعًا. وحين اشتد الخلاف، واحتدم النزاع: اختلف أعضاء الهيئة التأسيسية فيما بينهم، فكان منهم فريق على رأسهم الأستاذ البهي، يرون ضرورة الصلح مع عبد الناصر، وتفادي جر الجماعة إلى معركة غير متكافئة مع الثورة، تُجَرُّ فيها للمهلكة بغير مبرر، وهؤلاء يحسنون الظن بعبد الناصر، ويرون أنهم إذا عقدوا عهدًا معه نفذه. وفريق آخر يمثل قيادة الإخوان، ويمثل الأكثرية منهم — أيضًا — لا يثقون بعبد الناصر، ولا بتعهداته، وأنه لا يضمر خيرًا للجماعة، بل يتربص بها، ويريد أن يتخلص منها؛ ولهذا يريد ضرب بعضها ببعض، فيكون بأسهم بينهم. ومن هنا يجب الوقوف ضد هذه الفتنة، ومساندة القيادة الشرعية فيما تؤمن به، وتحرص عليه. ويبدو أن الأحداث بعد ذلك صدَّقت ما قاله هؤلاء، وأن رؤية الأستاذ الهضيبي كانت أصدق، ولقد وقف الرجل — برغم كبر سنه — راسخ القدم، رافع الرأس، كأنه الطود الأشم. هذه رسالة كتبها لي العلامة المربي الداعية الكبير الأستاذ البهي الخولي نص الرسالة: (بسم الله الرحمن الرحيم.. عزيزي الأخ الكريم الأستاذ: يوسف القرَضاوي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته! تلقيت تهنئتكم بالعيد، فكان لها أكثر من معنى.. الروض الجاف الذي صوَّحت خمائلُه، وسكنت بلابله، وتفرَّقت عنه زهراته الحبيبة، حمل إليه العيد عبيرًا من ألمانيا من عبد المنعم (عثمان). الحبيب، وعبيرًا من قطر من يوسف (القرضاوي). الحبيب.. وجاء مع العبير الذكرى، وامتلأ الرأس بالصور والأطياف، وامتلأ الصدر بالمشاعر، وتندَّى ما بين الجَفْنَين بأثر الحنين والحنان.. ويقف القلم ولا يجد جدوى من الإفاضة إلا الدعاء، فأسال الله لك أن يجيبك في إيمانك، وأن يقيمك في حق مبادئك، وألا يجعل علمك الغزير لك فتنة. تحياتي لأخيك أحمد (العسال)، وتحياتي للأستاذ عبد البديع (صقر)، وسائر إخوانك. أرسل إليك نسختين؛ إحداهما لك، والأخرى لأخيك وأخي أحمد (العسال). رسالة وضعتها وأنا أشعر بحب عاصف عميق لمولاي وسيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت بهذا الحب أسمو حتى أكاد أسمع حفيفَ الملائكة، وكنت قبلها أعيش في صفاء وتأمُّل مع روح أمين أهل الأرض والسماء عبد الرحمن بن عوف، وروح الزاهد الصادق العملاق الذي لم تُقلّ الأرض، ولم تظلّ السماء أصدقَ لهجة منه، وحقَّق في الأرض زهد عيسى بن مريم مع ما ذكر الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام. ولقد كنت في انفعالي العنيف بهما أتساءل: إذا كان هذان العظيمان من تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف كانت عظمته عليه الصلاة والسلام؟!! وأرجو أن تخرج ثمرة هذه الدراسة قريبًا. وقد شاء لهما الله — وله الحمد والمنة — أن تكون مُحرَّرة من كل شائبة يتبرع بها الظانُّون بالناس ظنَّ السَّوء. وسأوافيكم بها إن شاء الله عبر صدورها. وأعتقد أن أهم ما فيها هو صدق الحب لعبد الرحمن وأبي ذر. فإلى اللقاء برسالة أخرى معها الصحابيان الجليلان. وكل عام وأنتم بخير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. البهي 8 شوال 1382هـ).
1075
| 07 يوليو 2015
إستقبل سماحة الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين بمكتبه اليوم الدكتور سلمان العودة الأمين العام للهيئة العالمية لنصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعضو مجلس الأمناء بالاتحاد العالمي، والذي يزور الدوحة هذه الأيام ليلقي محاضرة الخميس، بالحي الثقافي "كتارا" بعنوان: "شهداء على الناس" ثم يلقي خطبة الجمعة بمسجد محمد بن عبد الوهاب. وقد تحدث فضيلة الشيخ سلمان العودة عن رؤيته للأحداث التي تجري في دول العالم الإسلامي، وأكد عن تفاؤله بمجريات الأحداث الجديدة في المنطقة. فيما أكد فضيلة الشيخ القرضاوي على سعادته برؤية الشيخ سلمان العودة، وأعرب عن حفاوته بهذا اللقاء، وأكد على أن الظلم لن يدوم، وأن الباطل لن يصمد، وأن أهل الإيمان، وأهل الدعوة الصادقة منصورون إن شاء الله. وعلى وعد بتكرار اللقاء، أهدى فضيلة الشيخ سلمان العودة آخر إصداراته لسماحة الشيخ القرضاوي،: (زنزانة .. عادة مدى الحياة - الغرباء ). كما أهداه سماحة الشيخ القرضاوي عددا من آخر كتبه، ومنها: (البدعة – العرف الخاطئ – العلم والعقل في القرآن الكريم- تفسير جزء عم - طبعته الجديدة من كتابه الحلال ).
1289
| 22 أبريل 2015
وصف فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي الحكم الصادر على الرئيس المعزول محمد مرسي بأنه حكم جائر مسيس . وقال ان أحكام القضاء المصري الجائرة مازالت تتسارع وتيرتها، وما زال سيف القضاء مسلطا على شرفاء الأمة وحماة الوطن.. وما زالت الأحكام الموتورة تتصاعد حدتها، وما زال سدنة القضاء الذين تجردوا من نوازع العدل، و صحوة الضمير: في غيهم يعمهون. واضاف القرضاوي انه يحكم على دكتور مرسي الرئيس الشرعي المنتخب بعشرين سنة، في قضية أحداث الاتحادية، التي قتل فيها ثمانية من الإخوان المسلمين، وتخلت الشرطة والشرطة العسكرية فيها عن تأمين قصر الرئاسة، حتى رأينا من المتظاهرين من يهاجم باب القصر بـ(البلدوزر)!! يحاكم لموت اثنين ولا يحاكم السيسي، الذي قتل الآلاف في رابعة والنهضة وغيرهما من ميادين الثورة!! وما زال يقتل ويقتل!! وقال ان مرسي الذي أبى من أول يوم في رئاسته أن يسكن في قصر الرئاسة ، بل بقي كما هو في شقة بالإيجار، والذي رفض أن يقبض في العام الذي حكمه راتبه، يحاكم بينما يحكم لمبارك وابنيه ورئيس وزرائه وزير داخليته ومساعديه وأركان نظامه بالبراءة!! مبارك الذي قتل من قتل، وسجن من سجن، وعذَّب من عذب، وسرق ما سرق، ونهب ما نهب، وأفسد ما أفسد. واضاف : كل يوم تثبت السلطة القضائية في مصر أنها سلطة مسيَّسة، فقدت بأحكامها الجائرة كل مصداقية وكل قيمة لقراراتها وأحكامها، فلم يعد القضاء في مصر سلطة من السلطات الثلاث، بل أصبح البلد بكل سلطاته يدار من العسكر.
281
| 21 أبريل 2015
المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الخامسة والعشرون — الترقِّي في تلاوة القرآن: وهنا درجة ذكرها الغزالي هي الترقِّي يقول: وأعني به أن يترقَّى إلى أن يسمع الكلام من الله عز وجل لا من نفسه. فدرجات القراءة ثلاث: أدناها: أن يقدر العبد كأنه يقرؤه على الله عز وجل واقفًا بين يديه، وهو ناظر إليه ومستمع منه، فيكون حاله عند هذا التقدير السؤالَ والتملُّقَ والتضرُّع والابتهال. الثانية: أن يشهد بقلبه كأن الله عز وجل يراه، ويخاطبه بألطافه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم، والإصغاء والفهم. الثالثة : أن يرى في الكلام المتكلِّمَ، وفي الكلمات الصفات، فلا ينظر إلى نفسه، ولا إلى قراءته، ولا إلى تعلُّق الإنعام به من حيث إنه منعم عليه، بل يكون مقصورَ الهَمِّ على المتكلم، موقوف الفكر عليه، كأنه مستغرِق بمشاهدة المتكلِّم عن غيره. وهذه درجة المقرَّبين، وما قبله درجة أصحاب اليمين، وما خرج عن هذا فهو درجات الغافلين. وعن الدرجة العليا أخبر جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه قال: والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون. وقال أيضًا: وقد سألوه عن حالةٍ لحقته في الصلاة حتى خرَّ مغشيًّا عليه، فلما سُرِّيَ عنه، قيل له في ذلك، فقال: ما زلتُ أردِّد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلِّم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته! ففي مثل هذه الدرجة تعظُمُ الحلاوة ولذة المناجاة. ولذلك قال بعض الحكماء: كنتُ أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة، حتى تلوته كأني أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على أصحابه، ثم رُفِعتُ إلى مقامٍ فوقه؛ كنتُ أتلوه كأني أسمعه من جبريل عليه السلام يلقيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء اللهُ بمنزلة أخرى، فأنا الآن أسمعه من المتكلِّم به، فعندها وجدتُ له لذة ونعيمًا لا أصبر عنه. وقال عثمان وحذيفة رضي الله عنهما: لو طهُرتُ القلوبُ لم تشبع من قراءة القرآن. وإنما قالوا ذلك؛ لأنها بالطهارة تترقَّى إلى مشاهدة المتكلم في الكلام. ولذلك قال ثابتٌ البُنَاني: كابدتُ القرآنَ عشرين سنة، وتنعَّمْتُ به عشرين سنة. قال الغزالي: وبمشاهدة المتكلِّم دون ما سواه، يكون العبد ممتثلًا لقوله عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]. ولقوله: {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الذاريات:51]. فمن لم يره — سبحانه — في كل شيء، فقد رأى غيره، وكل ما التفتَ إليه العبدُ سوى الله تعالى، تضمَّن التفاته شيئًا من الشرك الخفي، بل التوحيد الخالص، أن لا يرى في كل شيء إلا الله عز وجل. — التجاوب مع القرآن: ومن لوازم التدبُّر: أن يتجاوب القارئ مع القرآن الذي يتلوه، ويتفاعل بعقله وقلبه مع التلاوة، بأن يكون في حالة حضور ويقظة واستجابة، لا حالة غيبة وغفلة وإعراض، وصفة ذلك: أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان ممَّا قصَّر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مرَّ بآيةِ رحمةٍ استبشر وسأل، أو آيةِ عذابٍ أشفق وتعوَّذ، أو آية تنزيهٍ نزَّه وعظَّم، أو آية دعاءٍ تضرَّع وطلب. أخرج مسلم عن حذيفة، قال: صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلة، فافتتح البقرة، فقرأها، ثم النساء، فقرأها، ثم آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسِّلًا، إذا مرَّ بآيةٍ فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤالٍ سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذَ. وروى أبو داود والنسائي وغيرهما، عن عوف بن مالك، قال: قمتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمرُّ بآية رحمةٍ إلا وقف وسأل، ولا يمرُّ بآية عذاب إلا وقف وتعوَّذ. وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: سبحان ربي الأعلى. وقال الإمام الزركشي في البرهان: اعلم أنه ينبغى لمحُ موقعِ النِّعَم على من علَّمه الله تعالى القرآن العظيم أو بعضه، بكونه أعظم المعجزات، لبقائه ببقاء دعوة الإسلام، ولكونه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، والحجة بالقرآن العظيم قائمة، على كل عصر وزمان؛ لأنه كلام رب العالمين، وأشرف كتبه جل وعلا، فليرَ مَن عنده القرآن أن الله أنعم عليه نعمة عظيمة، وليستحضر من أفعاله أن يكون القرآن حجة له لا عليه؛ لأن القرآن مشتمِل على طلب أمور، والكفِّ عن أمور، وذكر أخبار قوم قامت عليهم الحجة، فصاروا عبرة للمعتبرين، حين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، وأُهلكوا لما عصوا. وليحذَر من علم حالهم أن يعصي، فيصير مآله مآلهم. فإذا استحضر صاحب القرآن علو شأنه بكونه طريقًا لكتاب الله تعالى، وصدره مصحفًا له، انكفَّتْ نفسُه — عند التوفيق — عن الرذائل، وأقبلت على العمل الصالح الهائل. وأكبر معين على ذلك حسن ترتيله وتلاوته. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4]. وقال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء:106]. وينبغى أن يشتغل قلبه في التفكُّر في معنى ما يلفظ بلسانه، فيعرف من كل آية معناها، ولا يجاوزها إلى غيرها حتى يعرف معناها، فإذا مرَّ به آيةُ رحمةٍ وقف عندها، وفرح بما وعده الله تعالى منها، واستبشر إلى ذلك، وسأل الله برحمته الجنةَ. وإن قرأ آيةَ عذابٍ وقف عندها، وتأمل معناها، فإن كانت في الكافرين اعترف بالإيمان، فقال: آمنا بالله وحده. وعرف موضع التخويف، ثم سأل الله تعالى أن يعيذه من النار. وإن هو مرَّ بآيةٍ فيها نداءٌ للذين آمنوا فقال: {يأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا}. وقف عندها — وقد كان بعضهم يقول: لبيك ربى وسعديك — ويتأمل ما بعدها ممَّا أُمِر به ونُهِيَ عنه، فيعتقد قبول ذلك. فإن كان من الأمر الذى قد قصُر عنه فيما مضى؛ اعتذر عن فعله في ذلك الوقت، واستغفر ربه في تقصيره. وذلك مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8]. إذا قرأ هذه الآية تذكَّر أفعاله في نفسه وذنوبه فيما بينه وبين غيره من الظُّلامات والغِيبة وغيرها، وردَّ ظُلامته، واستغفر من كل ذنب قصَّر في عمله، ونوى أن يقوم بذلك، ويستحلُّ كلَّ من بينه وبينه شيء من هذه الظُّلامات، من كان منهم حاضرًا، وأن يكتب إلى من كان غائبًا، وأن يرد ما كان يأخذه على من أخذه منه، فيعتقد هذا في وقت قراءة القرآن، حتى يعلم الله تعالى منه أنه قد سمع وأطاع. فإذا فعل الإنسان هذا كان قد قام بكمال ترتيل القرآن، فإذا وقف على آية لم يعرف معناها، يحفظها حتى يسأل عنها من يعرف معناها، ليكون متعلِّمًا لذلك طالبًا للعمل به، وإن كانت الآية قد اختُلِف فيها اعتقد من قولهم أقل ما يكون، وإن احتاط على نفسه بأن يعتقد أوكد ما في ذلك كان أفضل له، وأحوط لأمر دينه. وإن كان ما يقرؤه من الآي فيما قصص الله على الناس من خبر من مضى من الأمم فلينظر في ذلك، وإلى ما صرف الله عن هذه الأمة منه، فيجدِّد لله على ذلك شكرًا. وإن كان ما يقرؤه من الآي ممَّا أمر الله به أو نهى عنه أضمر قبول الأمر والائتمار، والانتهاء عن المنهيِّ، والاجتناب له. وإن كان ما يقرؤه من ذلك وعيدًا وعد الله به المؤمنين؛ فلينظر إلى قلبه، فإن جنح إلى الرجاء فزعه بالخوف، وإن جنح إلى الخوف فَسَح له في الرجاء، حتى يكون خوفه ورجاؤه معتدِلَيْن، فإن ذلك كمال الإيمان. وإن كان ما يقرؤه من الآي من المتشابه الذى تفرَّد الله بتأويله، فليعتقد الإيمان به كما أمر الله تعالى فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]. يعني: عاقبةَ الأمر منه. ثم قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]. وإن كان موعظة اتعظ بها؛ فإنه إذا فعل هذا فقد نال كمال الترتيل. — في كم نختم تلاوة القرآن؟: قال الحافظ السيوطي: يستحبُّ الإكثار من قراءة القرآن وتلاوته. قال تعالى مثنيًا على من كان ذلك دأبه: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113]. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار...". وقد كان للسلف في قدر القراءة عادات، فأكثر ما ورد في كثرة القراءة: من كان يختم في اليوم والليلة ثمانى ختمات: أربعًا في الليل، وأربعًا في النهار. قلتُ معقِبًّا على ما نقله السيوطي: وهل هذا معقول أو متصوَّر؟ إذا كان القرآن، قُسِّم إلى ثلاثين جزءا، والجزء إلى ثمانية أرباع، فأقل ما تستغرقه قراءة الربع بالسرعة والعجلة دقيقتان فيكون المجموع: 30×8×2=480 دقيقة للختمة الواحدة. فإذا ضربناها في ثمانية تكون النتيجة: 480×8=3840 دقيقة. فإذا حسبناها بالساعة تكون النتيجة: 384÷60=64 ساعة أي ما يقارب ثلاثة أيام وثلاث ليال معًا!! وهذا لو افترضنا أنه لا يشتغل بشيء آخر، فكيف والإنسان بطبيعته يلزمه أكل وشرب ونوم وقضاء حاجة، إلى غير ذلك مما تفرضه الحياة البشرية؟ فلا أحسب هذا النقل صحيحًا، ولو صحَّ فهو غير مقبول؛ لأنها قراءة لا تتيح لقارئها فرصة تدبُّر ولا تأمل، ورضي الله عن عائشة فقد أنكرت ذلك . وبعد أن ذكر السيوطي ذلك قال: ويليه: من كان يختم في اليوم والليلة أربعًا، ويليه ثلاثًا، ويليه ختمتَيْن، ويليه ختمة. قال: وقد ذمَّت عائشة ذلك. فأخرج ابن أبي داود عن مسلم بن مخراق، قال: قلتُ لعائشة: إن رجالًا يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثًا. فقالت: قرءوا ولم يقرءوا! كنتُ أقوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ التِّمَام، فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء، فلا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا ورغِب، ولا بآية فيها تجويف إلا دعا وأستعاذ. ويلي ذلك من كان يختم في ليلتين، ويليه من كان يختم في كل ثلاث، وهو حسن. وكره جماعات الختمَ في أقل من ذلك، لما روى أبو داود والترمذيُّ وصحَّحه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث". وأخرج ابن أبي داود وسعيد بن منصور، عن ابن مسعود موقوفًا، قال: لا تقرءوا القرآن في أقلَّ من ثلاث. وأخرج أبو عبيدٍ عن معاذ بن جبل: أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. وأخرج أحمد وأبو عبيد عن سعيد بن المنذر — وليس له غيره — قال: قلتُ يا رسول الله، اقرأُ القرآن في ثلاث؟ قال: "نعم إن استطعت". ويليه من ختم في أربع، ثم في خمس، ثم في ستٍّ، ثم في سبع، وهذا أوسط الأمور وأحسنها، وهو فعل الكثيرين من الصحابة وغيرهم. أخرج الشيخان عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْرأ القرآن في شهر". قلتُ: إني أجد قوة. قال: "اقرأه في عشر". قلتُ: إني أجد قوة. قال: "اقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك". ويلي ذلك: من ختم في ثمان، ثم في عشر، ثم في شهر، ثم في شهرين. أخرج ابن أبي داود عن مكحول، قال: كان أقوياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرءون القرآن في سبع، وبعضهم في شهر، وبعضهم في شهرين، وبعضهم في أكثر من ذلك. وقال أبو الليث في البستان: ينبغي للقارئ أن يختم في السَّنَة مرتين، إن لم يقدر على الزيادة. آداب الختم وما يتعلق به: قال الإمام النووي في التبيان: يستحب صيام يوم الختم إلا أن يصادف يومًا نهى الشرع عن صيامه. وقد روى ابن أبي داود باسناده الصحيح: أن طلحة بن مُطرِّف، وحبيب بن أبي ثابت، والمسيَّب بن رافع، التابعيِّين الكوفيِّين رضي الله عنهم أجمعين، كانوا يصبحون في اليوم الذي يختمون فيه القرآن صِيَامًا. ويستحب حضور مجلس ختم القرآن استحبابا متأكدًا، فقد ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الحيض بالخروج يوم العيد، ليشهدن الخير ودعوة المسلمين. يستحب الدعاء عَقِيب الختم استحبابًا متأكَّدًا، وروى الدارمي بإسناده عن حميد الأعرج قال: من قرأ القرآن ثم دعا أمَّن على دعائه أربعة آلافِ مَلَك. وينبغي أن يُلح في الدعاء، وأن يدعو بالأمور المهمة، وأن يُكثر في ذلك في صلاح المسلمين، وصلاح سلطانهم، وصلاح ولاة أمورهم. وقد روى الحاكم أبو عبد الله النيسابوري بإسناده: أن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه، كان إذا ختم القرآن كان أكثر دعائه للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات.
3544
| 22 يوليو 2014
المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الثامنة فضيلة التعليم يقول الله عز وجل: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. والمراد هو التعليم والإرشاد. وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] وهو إيجاب للتعليم. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159]. وقوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]. وهو تحريم للكتمان، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. وقال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]. ويقول صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل لا ينتزع العلم انتزاعًا من الناس بعد أن يؤتيهم إياه، ولكن يذهب بذهاب العلماء، فكلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا، فسُئلوا، فأفتَوْا بغير علم، فضَلُّوا وأضلُّوا"( ). وقال صلى الله عليه وسلم: "من علم علمًا فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار". وقال صلى الله عليه وسلم: "الدنيا ملعونة( )، ملعون ما فيها إلا ذكر الله سبحانه وما والاه، أو معلمًا أو متعلمًا"( ). وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله سبحانه وملائكته وأهل سماواته وأرضه، حتى النملة في جُحرها، حتى الحوت في البحر؛ ليصلُّون على معلِّمِ الناس الخير"( ). وقال صلى الله عليه وسلم: "مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضًا، فكانت منها بُقعة قبِلَتِ الماء، فأنبتَتِ الكلأَ والعشبَ الكثير، وكانت منها بقعة أمسكتِ الماءَ، فنفع الله عز وجل بها الناسَ، فشربوا منها، وسقوا، وزرعوا، وكانت منها طائفة قِيعانٌ، لا تمسك ماء، ولا تنبتُ كلأً"( ). فالأول ذكره مثلًا للمنتفع بعلمه، والثاني ذكره مثلًا للنافع، والثالث للمحروم منهما. وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله عز وجل حكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالًا فسَلَّطه على هلكته في الخير"( ). فضل التعليم عند الصحابة ومن بعدهم: قال عمر رضي الله عنه: من حدَّث حديثًا فعُمِل به، فله مثل أجر من عمل ذلك العمل. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معلِّم الناس الخير يستغفرُ له كل شيء حتى الحوت في البحر( ). وقال بعض العلماء: العالم يدخل فيما بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل. ورُوي أن سفيان الثوري رحمه الله، قَدِم عسقلان، فمكث لا يسأله إنسان، فقال: اكْرُوا لي لأخرج من هذا البلد، هذا بلد يموت فيه العلم( ). وإنما قال ذلك حرصًا على فضيلة التعليم، واستبقاء العلم به. وقال عطاء رضي الله عنه: دخلتُ على سعيد بن المسيب وهو يبكي، فقلتُ: ما يبكيكَ؟ قال: ليس أحد يسألني عن شيء. وقال الحسن رحمه الله: لولا العلماء لصار الناس مثلَ البهائم: أي أنهم بالتعليم يُخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية. وقال عكرمة: إن لهذا العلم ثمنًا. قيل: وما هو؟ قال: أن تضعه فيمن يحسن حمله ولا يضيِّعُه( ). وقال يحيى بن معاذ: العلماء أرحم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، وهم يحفظونهم من نار الآخرة. وقيل: أول العلم الصمتُ، ثم الاستماعُ، ثم الحفظُ، ثم العملُ، ثم نشرُه. وقيل: علِّمْ علمَك من يجهل، وتعلم ممن يُعلِّم ما تجهل؛ فإنك إذا فعلت ذلك علمتَ ما جهلتَ، وحفظت ما علمتَ. العلم دليل الإيمان: والعلم في نظر الإسلام ليس مقابلًا للإيمان، فضلًا عن أن يكون معاديًا له، كما شاعت هذه الفكرة في أوربا في القرون الوسطى، حين وقفت الكنيسة في تلك العصور تؤيد الخرافة، وتحارب العلم، وتناصر الجمود والتقليد، وتقاوم التفكير الحر، والابتكار المبدع، وتدافع عن القُوى المتسلِّطة من حكَّام وإقطاعيِّين، وتقف في وجه الشعوب والفئات المسحوقة. الإسلام لم يعرف هذا الصراع بين العلم والإيمان في تاريخه؛ لأن هذه الفكرة لا مجال لها في تعاليمه، لا نصًّا ولا روحًا. أما النصرانية، فتقوم أساسًا على أن الإيمان قضية لا علاقة لها بالفكر، بل هي ضدُّه، فهي لا تدخل في دائرة العقل والعلم، بل في نطاق الوجدان والقلب، وليس من شرط العقائد- في النصرانية- أن تكون مقبولة عقلًا، بل يحسن بها أن تكون شيئًا فوق العقل، ولهذا كان من الشعارات المرفوعة عند النصارى (آمن ثم اعلم). أو (اعتقد وأنت أعمى)! وآخر يقول على لسان القسيس: (أغمِضْ عينيك ثم اتْبَعني)! وذلك؛ لأن العقيدة النصرانية مؤسسة على قضايا يرفضها العقل المجرد، مثل التثليث، والتخليص، والفداء، وما يتفرع عنها، وما يلحق بها، حتى قال بعض فلاسفة النصارى في بعض معتقداتهم (غير المعقولة)- وهو القديس (أوجستين)-: أومن بهذا، لأنه محال! وهذا على عكس الإسلام الذي يرفض في بناء العقيدة (التقليد) و(التبعية)؛ كقول من قالوا: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة:104]. أو: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب:67] أو (أنا مع الناس). ويرفض أيضا الظن، حيث لا يغني في شأن العقائد إلا العلم واليقين، ولهذا أنكر على النصارى عقيدتهم في الصلب بقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:157]. وقال في شأن المشركين وآلهتهم المزعومة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23]. ثم قال: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:28]. ويأبى القرآن إلا أن تبنى العقائد على أساس البرهان القائم على النظر العميق، والتفكير الهادئ، ولأجل هذا صاح القرآن في أصحاب العقائد الباطلة: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]. ولا عجب أن تكرَّرت في القرآن هذه العبارات المُوقِظة للفكر من غفلته، والمحرِّرة للإنسان من رِبقَة تقليده وجموده، مثل (أفلا تعقلون). (أفلا تتفكرون). (أفلا ينظرون). (أو لم ينظروا). (أو لم يتفكروا). (لقوم يعقلون). (لقوم يعلمون). (لقوم يتفكرون). وحسبُك أن تقرأ هذه الدعوة القوية الصريحة إلى التفكير: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46]. وهذا ما دعا الأستاذَ عباس العقاد– رحمه الله- أن يخرج كتابًا عنوانه: (التفكير فريضة إسلامية). وهذا تعبير صحيح، فالإسلام كما فرض على الناس أن يتعبدوا، فرض عليهم أن يتفكروا. فالعقيدة في الإسلام تقوم على العلم، لا على التسليم الأعمى، يقول القرآن: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]. {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98]. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة:235]. لم يخشَ القرآن عواقب الدعوة إلى النظر والتفكر والعلم أن تأتي بنتائج تناقض حقائق الدين ومسلماته؛ لأن فكرة الإسلام: أن الحقيقة الدينية لا يمكن أن تناقض الحقيقة العقلية، فالحقُّ لا يناقض الحق، واليقينُ لا يعارض اليقين، إنما يعارضُ اليقينُ الظنَّ، وتنافي الحقيقةُ الشكَّ أو الوهمَ أو الافتراض. فليست كل أفهام أهل الدين دينًا؛ كما أنه ليست كل نظريات أهل العلم علمًا. إن القرآن يعتبر العلم الحق داعية إلى الإيمان، ودليلًا إليه. قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54]. فهذه المعاني الثلاثة (العلم والإيمان والإخبات) مترتِّبٌ بعضها على بعض: كما يدل عليه العطف بحرف (الفاء) التي تفيد الترتيب والتعقيب بلا مهلة صلة. فالعلم يتبعه الإيمان تبعية ترتيب بلا إمهال ليعلموا فيؤمنوا. والإيمان تتبعه حركة القلوب من الإخبات والخشوع لله تعالى، وهكذا يثمر العلم الإيمان، ويثمر الإيمان الإخبات والتواضع لله رب العالمين. وفي آية أخرى يذكر العلم والإيمان متعاطفَيْن جنبًا إلى جنب؛ كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم:56]. فالعلم والإيمان في الآية الكريمة مقترنان متعاطفان، وليسا من الأضداد التي إذا ثبت أحدهما، انتفى الآخر. وإذا أردنا بالعلم: العلم بمفهومه الشائع اليوم، وهو المادي القائم على المشاهدة الحسية والتجربة؛ فلا ننكر أيضا قيمة هذا العلم، وحاجة الناس إليه؛ لأن العلم المادي مطلوب للإنسان، بلا شك، ولكنه مطلوبٌ طلبَ الوسائلِ لا طلبَ الغايات. وهو يعين الإنسان على الحياة، وييسر له سبلها، ويختصر له الزمان، ويطوي له المكان: فيقرب البعيد، ويُلِين الحديد، ولكنه وحده لا يستطيع إسعاد البشر، كما لا يمكنه وحده أن يضبط سير البشر، ويقاوم أنانية الإنسان، ونزعات نفسه الأمَّارة بالسوء. ولهذا كان الإنسان في حاجة ماسة إلى (العلم الديني) الذي يُنَمِّي الإيمان، ويُحيي الضمائر، ويغرسُ الفضائل، ويقي الإنسان شُحَّ نفسه، وطغيان غرائزه على عقله، وهواه على ضميره، وهذا هو الذي يعصم (العلمَ الماديَّ) من الانحراف، ويحول دون استخدامه في التدمير والعدوان. وقد ضرب لنا القرآن مثلًا بسليمان عليه السلام – الذي آتاه الله ملكا لم يُؤته أحدًا من بعده. فقد أُحضر إليه عرشُ بلقيسَ من سبأٍ باليمن إلى مقرِّه بالشام، قبل أن يرتد إليه طرفُه، بفضل ذلك الذي وصفه القرآن بأنه (عنده علم الكتاب)، وهنا تجلَّى الإيمان حين أرجع سليمان الفضل إلى الله لا إلى نفسه، فلم يركبْه الغرورُ، أو يستبد به الطغيان: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]. وكذلك كان موقف ذي القرنين الذي فتح الفتوح غربًا وشرقًا، وتوَّج حكمَه بإقامة سدِّه العظيم، مستخدمًا ما يَسَّرَهُ له علمُ عصره من وسائل وأدوات، فلما أتمَّ البناء، قال في تواضع المؤمنين: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]. ألا إن العلم الحق هو الذي يهدي إلى الإيمان، والإيمان الحق هو الذي يُفسح مجالًا للعلم، فهما- إذن- شريكان متفاهمان، بل أخوان متعاونان. وهذا هو العلم الذي يريده الإسلام أيًّا كان موضوعه، ومجال بحثه، يريده علمًا في ظل الإيمان، وفي خدمة مُثُله العليا، وإلى ذلك أشار القرآن حين قال في أول آية نزلت: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]. والقراءة عنوان العلم ومِفتاحه ومصباحه، فإذا كان أول أمر إلهي نزل به القرآن: (القراءة)، كان ذلك أوضح دليل على مكانة العلم في الإسلام. ولكن القرآن لم يطلب (مطلق قراءة)، وإنما طلب قراءة مقيَّدة بقيد خاص، وهو أن تكون (باسم الله)، أو كما قال القرآن: {بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. وإذا كانت القراءة باسم الله، فقد وُجِّهت إلى الحق والخير والهداية؛ لأن الله تعالى هو مصدر هذا كله. ولا غرو أن نشأ العلمُ في الإسلام في أحضان الدين، وأن نشأت المدارس في صحون المساجد، وبدأت الجامعات الإسلامية العريقة تحت سقوف الجوامع، بل سُمِّي كل منها جامعًا: جامع الأزهر، جامع القرويين، جامع الزيتونة... وهكذا. وكانت هذه الجوامع أو الجامعات تدرس علوم الدين، وعلوم الدنيا معًا، وكان كثير من العلماء التجريبيِّين هم في الوقت نفسه علماء دين، مثل القاضي ابن رشيد الحفيد مؤلف (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في الفقه المقارن، ومؤلف (الكليات) في الطب. ومثل الخوارزمي الذي ألف كتابه الفريد، الذي أسس به علم الجبر، ليحل به مشكلات في الوصايا والمواريث من أبواب الفقه!. العلم دليل العمل: والعلم في نظر الإسلام دليل للعمل أيضًا، كما هو دليل للإيمان. ترجم الإمام البخاري في جامعه الصحيح: (باب العلم قبل القول والعمل)، وقال ابن المنير: (أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدِّم عليهما، مصحِّح للنية المصحِّحة للعمل، فنبَّه المصنِّف (يعني البخاري) على ذلك، حتى لا يسبق إلى الذهن، من قولهم: إن العلم لا ينفع إلا بالعمل. تهوينُ أمرِ العلم، والتساهل في طلبه)( ). واستدل البخاري لما ذكره بجملة من الآيات والأحاديث منها: قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]. فبدأ بالعلم، وثنَّى بالعمل، ورأسُ العلم معرفةُ الله تعالى وتوحيده، والخطاب، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، هو متناول لأمته. وقال جل ذكره: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. أي: إنما يخاف الله عز وجل ويقدُره حقَّ قدره، من عرفه، وعلم عظيمَ قُدرته، وسلطانه على خلقه، نتيجة التأمل في أسرار كونه وشرعه، وهم العلماء. وهذه الخشية هي التي تحفِّز على عمل الصالحات، واجتناب السيئات. القرضاوي : تاريخ الإسلام لم يعرف الصراع بين العلم والإيمان المؤلف : الشيخ يوسف القرضاوي الكتاب: أدب المسلم مع الله والناس والحياة الحلقة الثامنة فضيلة التعليم يقول الله عز وجل: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. والمراد هو التعليم والإرشاد. وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] وهو إيجاب للتعليم. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159]. وقوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]. وهو تحريم للكتمان، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. وقال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]. ويقول صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل لا ينتزع العلم انتزاعًا من الناس بعد أن يؤتيهم إياه، ولكن يذهب بذهاب العلماء، فكلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا، فسُئلوا، فأفتَوْا بغير علم، فضَلُّوا وأضلُّوا"( ). وقال صلى الله عليه وسلم: "من علم علمًا فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار". وقال صلى الله عليه وسلم: "الدنيا ملعونة( )، ملعون ما فيها إلا ذكر الله سبحانه وما والاه، أو معلمًا أو متعلمًا"( ). وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله سبحانه وملائكته وأهل سماواته وأرضه، حتى النملة في جُحرها، حتى الحوت في البحر؛ ليصلُّون على معلِّمِ الناس الخير"( ). وقال صلى الله عليه وسلم: "مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضًا، فكانت منها بُقعة قبِلَتِ الماء، فأنبتَتِ الكلأَ والعشبَ الكثير، وكانت منها بقعة أمسكتِ الماءَ، فنفع الله عز وجل بها الناسَ، فشربوا منها، وسقوا، وزرعوا، وكانت منها طائفة قِيعانٌ، لا تمسك ماء، ولا تنبتُ كلأً"( ). فالأول ذكره مثلًا للمنتفع بعلمه، والثاني ذكره مثلًا للنافع، والثالث للمحروم منهما. وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله عز وجل حكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالًا فسَلَّطه على هلكته في الخير"( ). فضل التعليم عند الصحابة ومن بعدهم: قال عمر رضي الله عنه: من حدَّث حديثًا فعُمِل به، فله مثل أجر من عمل ذلك العمل. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معلِّم الناس الخير يستغفرُ له كل شيء حتى الحوت في البحر( ). وقال بعض العلماء: العالم يدخل فيما بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل. ورُوي أن سفيان الثوري رحمه الله، قَدِم عسقلان، فمكث لا يسأله إنسان، فقال: اكْرُوا لي لأخرج من هذا البلد، هذا بلد يموت فيه العلم( ). وإنما قال ذلك حرصًا على فضيلة التعليم، واستبقاء العلم به. وقال عطاء رضي الله عنه: دخلتُ على سعيد بن المسيب وهو يبكي، فقلتُ: ما يبكيكَ؟ قال: ليس أحد يسألني عن شيء. وقال الحسن رحمه الله: لولا العلماء لصار الناس مثلَ البهائم: أي أنهم بالتعليم يُخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية. وقال عكرمة: إن لهذا العلم ثمنًا. قيل: وما هو؟ قال: أن تضعه فيمن يحسن حمله ولا يضيِّعُه( ). وقال يحيى بن معاذ: العلماء أرحم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، وهم يحفظونهم من نار الآخرة. وقيل: أول العلم الصمتُ، ثم الاستماعُ، ثم الحفظُ، ثم العملُ، ثم نشرُه. وقيل: علِّمْ علمَك من يجهل، وتعلم ممن يُعلِّم ما تجهل؛ فإنك إذا فعلت ذلك علمتَ ما جهلتَ، وحفظت ما علمتَ. العلم دليل الإيمان: والعلم في نظر الإسلام ليس مقابلًا للإيمان، فضلًا عن أن يكون معاديًا له، كما شاعت هذه الفكرة في أوربا في القرون الوسطى، حين وقفت الكنيسة في تلك العصور تؤيد الخرافة، وتحارب العلم، وتناصر الجمود والتقليد، وتقاوم التفكير الحر، والابتكار المبدع، وتدافع عن القُوى المتسلِّطة من حكَّام وإقطاعيِّين، وتقف في وجه الشعوب والفئات المسحوقة. الإسلام لم يعرف هذا الصراع بين العلم والإيمان في تاريخه؛ لأن هذه الفكرة لا مجال لها في تعاليمه، لا نصًّا ولا روحًا. أما النصرانية، فتقوم أساسًا على أن الإيمان قضية لا علاقة لها بالفكر، بل هي ضدُّه، فهي لا تدخل في دائرة العقل والعلم، بل في نطاق الوجدان والقلب، وليس من شرط العقائد- في النصرانية- أن تكون مقبولة عقلًا، بل يحسن بها أن تكون شيئًا فوق العقل، ولهذا كان من الشعارات المرفوعة عند النصارى (آمن ثم اعلم). أو (اعتقد وأنت أعمى)! وآخر يقول على لسان القسيس: (أغمِضْ عينيك ثم اتْبَعني)! وذلك؛ لأن العقيدة النصرانية مؤسسة على قضايا يرفضها العقل المجرد، مثل التثليث، والتخليص، والفداء، وما يتفرع عنها، وما يلحق بها، حتى قال بعض فلاسفة النصارى في بعض معتقداتهم (غير المعقولة)- وهو القديس (أوجستين)-: أومن بهذا، لأنه محال! وهذا على عكس الإسلام الذي يرفض في بناء العقيدة (التقليد) و(التبعية)؛ كقول من قالوا: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة:104]. أو: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب:67] أو (أنا مع الناس). ويرفض أيضا الظن، حيث لا يغني في شأن العقائد إلا العلم واليقين، ولهذا أنكر على النصارى عقيدتهم في الصلب بقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:157]. وقال في شأن المشركين وآلهتهم المزعومة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23]. ثم قال: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:28]. ويأبى القرآن إلا أن تبنى العقائد على أساس البرهان القائم على النظر العميق، والتفكير الهادئ، ولأجل هذا صاح القرآن في أصحاب العقائد الباطلة: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]. ولا عجب أن تكرَّرت في القرآن هذه العبارات المُوقِظة للفكر من غفلته، والمحرِّرة للإنسان من رِبقَة تقليده وجموده، مثل (أفلا تعقلون). (أفلا تتفكرون). (أفلا ينظرون). (أو لم ينظروا). (أو لم يتفكروا). (لقوم يعقلون). (لقوم يعلمون). (لقوم يتفكرون). وحسبُك أن تقرأ هذه الدعوة القوية الصريحة إلى التفكير: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46]. وهذا ما دعا الأستاذَ عباس العقاد– رحمه الله- أن يخرج كتابًا عنوانه: (التفكير فريضة إسلامية). وهذا تعبير صحيح، فالإسلام كما فرض على الناس أن يتعبدوا، فرض عليهم أن يتفكروا. فالعقيدة في الإسلام تقوم على العلم، لا على التسليم الأعمى، يقول القرآن: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]. {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98]. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة:235]. لم يخشَ القرآن عواقب الدعوة إلى النظر والتفكر والعلم أن تأتي بنتائج تناقض حقائق الدين ومسلماته؛ لأن فكرة الإسلام: أن الحقيقة الدينية لا يمكن أن تناقض الحقيقة العقلية، فالحقُّ لا يناقض الحق، واليقينُ لا يعارض اليقين، إنما يعارضُ اليقينُ الظنَّ، وتنافي الحقيقةُ الشكَّ أو الوهمَ أو الافتراض. فليست كل أفهام أهل الدين دينًا؛ كما أنه ليست كل نظريات أهل العلم علمًا. إن القرآن يعتبر العلم الحق داعية إلى الإيمان، ودليلًا إليه. قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54]. فهذه المعاني الثلاثة (العلم والإيمان والإخبات) مترتِّبٌ بعضها على بعض: كما يدل عليه العطف بحرف (الفاء) التي تفيد الترتيب والتعقيب بلا مهلة صلة. فالعلم يتبعه الإيمان تبعية ترتيب بلا إمهال ليعلموا فيؤمنوا. والإيمان تتبعه حركة القلوب من الإخبات والخشوع لله تعالى، وهكذا يثمر العلم الإيمان، ويثمر الإيمان الإخبات والتواضع لله رب العالمين. وفي آية أخرى يذكر العلم والإيمان متعاطفَيْن جنبًا إلى جنب؛ كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم:56]. فالعلم والإيمان في الآية الكريمة مقترنان متعاطفان، وليسا من الأضداد التي إذا ثبت أحدهما، انتفى الآخر. وإذا أردنا بالعلم: العلم بمفهومه الشائع اليوم، وهو المادي القائم على المشاهدة الحسية والتجربة؛ فلا ننكر أيضا قيمة هذا العلم، وحاجة الناس إليه؛ لأن العلم المادي مطلوب للإنسان، بلا شك، ولكنه مطلوبٌ طلبَ الوسائلِ لا طلبَ الغايات. وهو يعين الإنسان على الحياة، وييسر له سبلها، ويختصر له الزمان، ويطوي له المكان: فيقرب البعيد، ويُلِين الحديد، ولكنه وحده لا يستطيع إسعاد البشر، كما لا يمكنه وحده أن يضبط سير البشر، ويقاوم أنانية الإنسان، ونزعات نفسه الأمَّارة بالسوء. ولهذا كان الإنسان في حاجة ماسة إلى (العلم الديني) الذي يُنَمِّي الإيمان، ويُحيي الضمائر، ويغرسُ الفضائل، ويقي الإنسان شُحَّ نفسه، وطغيان غرائزه على عقله، وهواه على ضميره، وهذا هو الذي يعصم (العلمَ الماديَّ) من الانحراف، ويحول دون استخدامه في التدمير والعدوان. وقد ضرب لنا القرآن مثلًا بسليمان عليه السلام – الذي آتاه الله ملكا لم يُؤته أحدًا من بعده. فقد أُحضر إليه عرشُ بلقيسَ من سبأٍ باليمن إلى مقرِّه بالشام، قبل أن يرتد إليه طرفُه، بفضل ذلك الذي وصفه القرآن بأنه (عنده علم الكتاب)، وهنا تجلَّى الإيمان حين أرجع سليمان الفضل إلى الله لا إلى نفسه، فلم يركبْه الغرورُ، أو يستبد به الطغيان: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]. وكذلك كان موقف ذي القرنين الذي فتح الفتوح غربًا وشرقًا، وتوَّج حكمَه بإقامة سدِّه العظيم، مستخدمًا ما يَسَّرَهُ له علمُ عصره من وسائل وأدوات، فلما أتمَّ البناء، قال في تواضع المؤمنين: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]. ألا إن العلم الحق هو الذي يهدي إلى الإيمان، والإيمان الحق هو الذي يُفسح مجالًا للعلم، فهما- إذن- شريكان متفاهمان، بل أخوان متعاونان. وهذا هو العلم الذي يريده الإسلام أيًّا كان موضوعه، ومجال بحثه، يريده علمًا في ظل الإيمان، وفي خدمة مُثُله العليا، وإلى ذلك أشار القرآن حين قال في أول آية نزلت: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]. والقراءة عنوان العلم ومِفتاحه ومصباحه، فإذا كان أول أمر إلهي نزل به القرآن: (القراءة)، كان ذلك أوضح دليل على مكانة العلم في الإسلام. ولكن القرآن لم يطلب (مطلق قراءة)، وإنما طلب قراءة مقيَّدة بقيد خاص، وهو أن تكون (باسم الله)، أو كما قال القرآن: {بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. وإذا كانت القراءة باسم الله، فقد وُجِّهت إلى الحق والخير والهداية؛ لأن الله تعالى هو مصدر هذا كله. ولا غرو أن نشأ العلمُ في الإسلام في أحضان الدين، وأن نشأت المدارس في صحون المساجد، وبدأت الجامعات الإسلامية العريقة تحت سقوف الجوامع، بل سُمِّي كل منها جامعًا: جامع الأزهر، جامع القرويين، جامع الزيتونة... وهكذا. وكانت هذه الجوامع أو الجامعات تدرس علوم الدين، وعلوم الدنيا معًا، وكان كثير من العلماء التجريبيِّين هم في الوقت نفسه علماء دين، مثل القاضي ابن رشيد الحفيد مؤلف (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في الفقه المقارن، ومؤلف (الكليات) في الطب. ومثل الخوارزمي الذي ألف كتابه الفريد، الذي أسس به علم الجبر، ليحل به مشكلات في الوصايا والمواريث من أبواب الفقه!. العلم دليل العمل: والعلم في نظر الإسلام دليل للعمل أيضًا، كما هو دليل للإيمان. ترجم الإمام البخاري في جامعه الصحيح: (باب العلم قبل القول والعمل)، وقال ابن المنير: (أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدِّم عليهما، مصحِّح للنية المصحِّحة للعمل، فنبَّه المصنِّف (يعني البخاري) على ذلك، حتى لا يسبق إلى الذهن، من قولهم: إن العلم لا ينفع إلا بالعمل. تهوينُ أمرِ العلم، والتساهل في طلبه)( ). واستدل البخاري لما ذكره بجملة من الآيات والأحاديث منها: قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]. فبدأ بالعلم، وثنَّى بالعمل، ورأسُ العلم معرفةُ الله تعالى وتوحيده، والخطاب، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، هو متناول لأمته. وقال جل ذكره: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. أي: إنما يخاف الله عز وجل ويقدُره حقَّ قدره، من عرفه، وعلم عظيمَ قُدرته، وسلطانه على خلقه، نتيجة التأمل في أسرار كونه وشرعه، وهم العلماء. وهذه الخشية هي التي تحفِّز على عمل الصالحات، واجتناب السيئات. %MCEPASTEBIN%%MCEPASTEBIN%
2629
| 05 يوليو 2014
أكد العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين انه لن يترك قطر كما أن قطر لن تتركه. وأضاف على هامش مشاركته في مؤتمر الوحدة والوطنية والتعايش: أنا قطري وقد صار لي فيها 54 عاما حيث جئتها وعمري 35 عاما وعمري الآن 88 عاما أي أن معظم عمري قضيته فيها كما أن جميع أبنائها رجالا ونساء، كبارا وصغارا يحبونني وأنا أحبهم. وتسأل.. من قال اننى سوف اترك قطر؟ أنا جزء من قطر وقطر جزء منى لكن البعض قد لا يفهمون هذا. وقال: أنا لا اكره أحدا بل أريد الناس جميعا أن يكونوا أخوة وان يتعاملوا بمحبة ويسمع بعضهم بعضا ويفهم بعضهم بعضا بدلا من أن يعملوا ضد بعضهم البعض. وبشأن قرار المملكة العربية السعودية سحب سفيرها من قطر قال: سوف يتاح حل هذه الأمور إن شاء الله. وبشأن غيابه عن الخطابة في مسجد عمر بن الخطاب منذ عدة أسابيع أكد القرضاوي انه متوقف لأسباب شخصية وليس لشئ آخر مشيرا إلى انه سوف يستأنف الخطابة الجمعة بعد القادمة. وحول الاسباب التى تحول دون وصول توافق بين الفرقاء فى مصر على غرار ما حدث فى تونس قال العلامة القرضاوي: هناك أناس لا يريدون التوافق بل قاموا ضد الأمة واظهروا أنهم متفقون مع الأمة لكن مع الأسف كان هذا الأمر غير صحيح. وأشار إلى أن المصريين شعب واحد ويجب الا يفرقهم شئ . متمنيا ان يحدث توافق بين الجميع وان تقتفى مصر آثر تونس معربا عن أسفه لأن البعض تركوا الاتفاق واختاروا الاختلاف مشددا على أن هذا الأمر لا يمكن أن يبنى وطنا أو أمة لأن الأمة لا تبنى باختلاق الصراع. وجدد تأكيده على ان الاتفاق ممكن إذا توافرت أرضية مشتركة للبناء عليها محذرا من انه اذا كان البعض يريد للصراع ان يستمر فانه سوف يستمر ولن يستطيعوا بناء شيء مشيرا إلى أن المصريين يخسرون كل يوم والوضع الاقتصادي يزداد سوءا.
905
| 02 أبريل 2014
مساحة إعلانية
أصدرت وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي تعميما بشأن تنظيم اليوم الدراسي خلال فترتي اختبارات منتصف الفصل الدراسي الأول ومنتصف الفصل الدراسي الثاني للعام...
28548
| 08 أكتوبر 2025
أقر مجلس الوزراء تعديلات جديدة على ضوابط صرف بدل طبيعة العمل في الجهات الحكومية، حيث شملت التحديثات رفع بعض النسب الحالية ومنح بدلات...
8592
| 09 أكتوبر 2025
أصدرت المحكمة المدنية حكماً بإلزام مؤسسة طبية بأن تؤدي لمقيمة مبلغ (2,000,000) مليوني ريال تعويضاً لخطأ طبى فى التشخيص. وتفيد وقائع الدعوى أن...
7902
| 08 أكتوبر 2025
أكد ديوان الخدمة المدنية والتطوير الحكومي أنه تماشيًا مع تطوّرات سوق العمل ودعم الكفاءات الوطنية، أدخلت تعديلات قانون الموارد البشرية المدنية ولائحته التنفيذية...
7710
| 10 أكتوبر 2025
تابع الأخبار المحلية والعالمية من خلال تطبيقات الجوال المتاحة على متجر جوجل ومتجر آبل
نبّهت الخطوط الجوية القطرية المسافرين المتجهين إلى دول الاتحاد الأوروبي أنه اعتباراً من 12 أكتوبر 2025، سيتم اعتماد نظاماً جديداً للدخول/ الخروج (EES)...
6374
| 10 أكتوبر 2025
ترأس معالي الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن جاسم آل ثاني، رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية، الاجتماع العادي الذي عقده المجلس صباح اليوم بمقره...
6332
| 08 أكتوبر 2025
أصدر حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، اليوم، القرار الأميري رقم 42 لسنة 2025 بتعيين أعضاء مجلس...
5318
| 09 أكتوبر 2025